ناجي العلي.. “حنظلة” الذي لا يكبر ما زال يدير ظهره للعالم

ناجي العلي.. “حنظلة” الذي لا يكبر ما زال يدير ظهره للعالم

كان القاتل ينتظره.

في الثاني والعشرين من تموز/ تموز 1987، كان القاتل الذي يعرف هدفه جيدًا ينتظر رسام الكاريكاتور الفلسطيني الشهير ناجي العلي، غير بعيد عن مقر صحيفة القبس الكويتية في شارع آيفيز في منطقة نايتسبريدج التي يسكنها الأثرياء في لندن.

يترجل العلي، الذي يغطي شعره الأشيب رأسه كغيمة بيضاء، من سيارته التي أوقفها في شارع إيكسوورث بلايس، ثم يتوجه مشيًا إلى شارع آيفيز حيث مقر الصحيفة.

في هذه الأثناء، كان القاتل، الذي يرتدي سترة جينز وسروالًا داكن اللون، بشعر أسود كثيف متموّج، ينتظر. وما إن اقترب العلي من مخزن “بيتر جونز”، حتى لحق به القاتل وسار خلفه ثم بمحاذاته لنحو أربعين ثانية، قبل أن يُخرج مسدسه ويطلق رصاصاته باتجاه رأس العلي مباشرة.

يسقط العلي على الأرض مضرّجًا بدمائه، بينما يفر القاتل الذي وصفه شهود عيان بأنه ذو ملامح شرق أوسطية ويبلغ من العمر نحو 25 عامًا.

جنازة ناجي العلي الذي اغتيل في لندن عام 1987-فيسبوك

جنازة ناجي العلي الذي اغتيل في لندن عام 1987-فيسبوك

من قتل ناجي العلي؟

وفق الشهود، فقد شوهد القاتل يفر من شارع آيفيز إلى شارع إيكسوورث بلايس. وبحسب تحقيقات الشرطة البريطانية، أفاد شاهد عيان آخر برؤية رجل بعد دقائق قليلة من الحادث، كان يعبر شارع فولهام إلى لوكان بلايس ليستقل سيارة مرسيدس فضية اللون.

ويُعتقد أن القاتل التقى بالرجل الآخر مباشرة بعد الاغتيال من أجل إخفاء السلاح والتخلص منه. ووُصف الرجل الآخر بأنه ذو مظهر شرق أوسطي، في الخمسينيات من عمره، متوسط الطول، عريض المنكبين، وجهه يميل إلى الامتلاء، أنيق المظهر ويرتدي بزة رمادية. ورغم أن الشرطة البريطانية تمكنت من تحديد ملامح الرجلين بدقة، إلا أنها لم تعثر على أي منهما يومًا.

وخلال التحقيقات، اعتقلت السلطات طالبًا فلسطينيًا في مدينة “هال” وسجنته لاحقًا، لكن بتهمة حيازة أسلحة ومتفجرات. وادّعى الطالب أثناء التحقيق أنه كان يعمل لصالح كل من منظمة التحرير الفلسطينية والمخابرات الإسرائيلية (الموساد)، لكن لم يثبت تورطه في اغتيال العلي.

ولد "حنظلة العلي" عام 1969 في جريدة السياسة الكويتية-فيسبوك

ولد “حنظلة العلي” عام 1969 في جريدة السياسة الكويتية-فيسبوك

وفي آب/آب 2017، أعادت قيادة مكافحة الإرهاب في الشرطة البريطانية فتح التحقيق بعد ثلاثين عامًا من الجريمة، وطلبت من أي شخص لديه معلومات عن القاتل المجهول أو الرجل الذي يُعتقد أنه ساعده على الهروب، أن يتقدم بها. لكن دون الوصول إلى نتائج تُذكر يمكن أن تقود إلى فك مغاليق اغتيال واحد من أشهر رسامي الكاريكاتور في المنطقة والعالم.

فباستثناء العثور على المسدس الذي استُخدم في الجريمة، وهو من طراز “توكاريف” عيار 7,62، في أرض خلاء في لندن عام 1989، وتأكيد الفحوص تطابق الطلقات مع الرصاص الذي أصاب العلي، لم يُعثر على أي خيط آخر يقود إلى الحقيقة.

توفي ناجي العلي في 29 آب/ آب 1987، بعد غيبوبة دامت أكثر من شهر، عن 51 عامًا أنتج خلالها ما يزيد على 14 ألف رسم كاريكاتوري. ودُفن في مقبرة بروك وود الإسلامية في لندن، وليس في مخيم عين الحلوة كما كان يرغب.

العلي وميلاد حنظلة 

وُلد ناجي العلي (1937-1987) في قرية الشجرة التابعة لقضاء طبريا شمال شرق فلسطين، واضطر مع عائلته للجوء إلى لبنان بعد نكبة عام 1948، حيث أقاموا في مخيم عين الحلوة القريب من مدينة صيدا.

اكتشف الروائي غسان كنفاني موهبة ناجي العلي في مخيم عين الحلوة-فيسبوك

اكتشف الروائي غسان كنفاني موهبة ناجي العلي (الصورة) في مخيم عين الحلوة-فيسبوك

أما “حنظلة“ن الذي أصبح توقيعه الشخصي على رسومه الكاريكاتورية، ورمزًا فلسطينيًا وعالميًا للحرية والمقاومة، فقد وُلد عام 1969 على صفحات صحيفة السياسة الكويتية التي شهدت أول ظهور له.

يمثل حنظلة في رسوم العلي طفلًا لا يكبر، يقارب عمره عمر العلي عندما هُجّر من بلاده. طفل غاضب، حافي القدمين، بملابس مرقعة.

ورغم أنه لم يتقدّم في السن، إلا أن شخصيته شهدت تحولات مهمة. فبعد حرب تشرين الأول/ تشرين الأول 1973، أدار ظهره للعالم رفضًا للمشروع الأميركي لاحتواء مصر بعد الحرب.

وخلال اجتياح إسرائيل لبيروت عام 1982، ظهر وهو يقدّم وردة إلى بيروت التي جسّدها العلي فتاة حزينة تطل من بين الركام.

اتسمت رسوم العلي الكاريكاتورية بالنقد اللاذع للانظمة العربية -فيسبوك

اتسمت رسوم العلي الكاريكاتورية بالنقد اللاذع للأنظمة العربية – فيسبوك

وفي عام 1987، عام اغتيال العلي، ظهر حنظلة في أحد رسومه وهو يرمي الحجارة، قبل شهور قليلة من اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى  (انتفاضة الحجارة) في كانون الأول/ كانون الأول 1987. 

ويُعتقد أن “حنظلة” مأخوذ من نبات الحنظل المنتشر في فلسطين ودول أخرى، والذي يتميّز بأوراقه الخشنة ومرارته الشديدة، ما يجعله معادلًا موضوعيًا لحياة اللاجئين الفلسطينيين.  

في أول تقديم له عام 1969 كتب العلي على لسان حنظلة:

“عزيزي القارئ، اسمح لي أن أقدم لك نفسي. اسمي حنظلة. اسم أبي مش ضروري. أمي اسمها نكبة. نمرة رجلي ما بعرف لأني دائمًا حافي. ولدت في 5 حزيران 1967.

جنسيتي: أنا مش فلسطيني، مش أردني، مش كويتي، مش لبناني، مش مصري، مش حدا. باختصار معيش هوية ولا ناوي أتجنّس. محسوبك عربي وبس”.

وفي حوار نادر أجرتْه معه الروائية والناقدة المصرية رضوى عاشور عام 1985، ونشر في مجلة المواجهة التي كانت تصدرها لجنة الدفاع عن الثقافة القومية في مصر، يبدو حنظلة تميمة العلي وقرينه وضميره في آن.

في الحوار يتحدث العلي عن علاقته بحنظلة الذي يصفه ببوصلته التي لا تشير إلا إلى فلسطين:  

شخصية هذا الطفل الصغير الحافي هي رمز لطفولتي. تركتُ فلسطين في هذه السن وما زلت فيه، رغم أن ذلك حدث منذ 35 عامًا.

إن شخصية حنظلة كانت بمثابة أيقونة حفظت روحي من السقوط.

إنه كالبوصلة بالنسبة لي، وهذه البوصلة تُشير دائمًا إلى فلسطين. وليس فقط إلى فلسطين بالمعنى الجغرافي، ولكن بالمعنى الإنساني والرمزي، أي القضية العادلة أينما كانت.  

كانت حياة ناجي العلي شبيهة بالحنظل، مليئة بالمرارة كحياة بقية اللاجئين الفلسطينيين الذين قطعت نكبة 1948 مسار حياتهم وألجأتهم إلى الغربة، وربما شكّلت موهبته الفنية الفذة دافعًا له لتغيير هذا الواقع المرير بتشييد عوالم حُلمية تمنحه العزاء عما فقده من بلاد، لكن بؤس المآل دفعه إلى الكاريكاتور باعتباره سلاحًا لا عزاءً.  

من الميكانيك إلى الكاريكاتور

خلال طفولته وصباه، عمل العلي في مهن شاقة منها قطاف الحمضيات والزيتون في قرى جنوب لبنان، ليساعد أسرته المقيمة في مخيم عين الحلوة. ثم انتقل إلى طرابلس شمال لبنان، حيث التحق بمعهد مهني حصل منه على دبلوم في ميكانيك السيارات.

عمل بعد ذلك في ورش عدة ببيروت قبل أن يسافر إلى السعودية عام 1957 ليعمل ميكانيكيًا للسيارات لعامين. وبعد عودته، التحق عام 1959 بـ”الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة” لفترة قصيرة، وتعرّض خلال تلك المرحلة للاعتقال مرارًا لانتمائه إلى “حركة القوميين العرب”. كما عمل معلمًا للرسم للأطفال في إحدى مدارس مدينة صور.

عمل العلي في الصحافتين الكويتية واللبنانية وقتل خلال عمله في القبس الكويتية-فيسبوك

عمل العلي في الصحافتين الكويتية واللبنانية وقتل خلال عمله في القبس الكويتية-فيسبوك

اكتشفه الروائي الفلسطيني الكبير غسان كنفاني ونشر له عدة رسوم في مجلة الحرية التي كان يحرّرها.

يقول العلي في حواره مع رضوى عاشور:

كان أول من شجعني هو المرحوم غسّان كنفاني الذي مرَّ على المخيم (عين الحلوة) للمشاركة في إحدى الندوات. وكان لدينا ناد بسيط أقمناه من الزنك، والتفتَ غسّان إلى الرسوم الكاريكاتيرية التي كانت على الحائط وتعرَّف عليّ، وأخذ مني رسمتين أو ثلاثًا ونشرها في “الحرية”، مجلة التقدميين العرب، التي كان يعمل فيها في ذلك الوقت.

رشحه كنفاني لاحقًا للعمل في مجلة الطليعة الكويتية، حيث بدأ العمل فيها عام 1963، ومنذ ذلك الوقت بدأ يتنقل بين الكويت ولبنان، حيث عمل في صحف عدة منها السياسة والقبس الكويتيتان والسفير اللبنانية. وفي 1985، أبعدته السلطات الكويتية عن أراضيها، فانتقل إلى لندن حيث اغتيل.

كثيرا ما انتقد ناجي العلي في رسومه الخيارات السياسية للقيادة الفلسطينية-فيسبوك

كثيرا ما انتقد ناجي العلي في رسومه الخيارات السياسية للقيادة الفلسطينية-فيسبوك

كثيرًا ما انتقد ناجي العلي في رسومه خيارات القيادة الفلسطينية وزعماءها. ورغم نفي منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات أي علاقة باغتياله، إلا أن خصومها سارعوا إلى اتهامها بالتورط، خاصة أن العلي لم يوفرها من نقده اللاذع، بل إن بعض هؤلاء لم يتورع عن الغمز من قناة الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش في هذا السياق. 

العلي: درويش خيبتنا الأخيرة

في 16 حزيران/ حزيران 1987، أي قبل شهر من اغتياله، نشر العلي رسمًا كاريكاتوريًا وصف فيه درويش بأنه “خيبتنا الأخيرة”، لموافقته على عقد لقاء بين كتاب فلسطينيين وإسرائيليين.

وبعد اغتياله، كتب درويش مقالًا في مجلة اليوم السابع التي كانت تصدر في باريس (أيلول/ أيلول 1987) بعنوان كان يرسم وكنت أكتب. في المقال روى آخر مكالمة بينهما، قال فيها:

عندما استبدل عبارتي بيروت خيمتنا الأخيرة بعبارته اللاذعة “محمود خيبتنا الأخيرة” كلّمته معاتبًا، فقال لى: لقد فعلت ذلك لأنى أحبك، ولأني حريص عليك من مغبة ما أنت مقدم عليه. ماذا جرى؟ هل تحاور اليهود؟ اخرج مما أنت فيه لأرسمك على الجدران. 

ويضيف درويش: “لم يكن سهلًا أن أشرح له أن تدخلنا في أزمة الوعي الإسرائيلي ليس تخليًا عن شيء مقدس، وبأن استعدادنا لمحاورة الكتاب الإسرائيليين الذين يعترفون بحقنا فى إنشاء دولتنا الوطنية المقدسة، على ترابنا الوطني، ليس تنازلًا منا، بل هو محاولة اختراق لجبهة الأعداء”.

ويقول إنه “لم يكن سهلاً أن تناقش ناجي العلي الذي يقول: لا أفهم هذه المناورات. لا افهم السياسة، لفلسطين طريق واحد وحيد هو البندقية”.

من رسوم العلي النادرة التي هاجم فيها محمود درويش-فيسبوك

من رسوم العلي النادرة التي هاجم فيها محمود درويش – فيسبوك

ويوضح درويش أن ناجي العلي “كان غاضبًا على كل شيء”، وأنه قال له: “مهما جرحتني فلن أجرحك بكلمة، لأنك قيمة فنية نادرة، ولكن، بعدما صرت ”خيبتك الأخيرة” لم يعد من الضروري أن نكتب وأن نرسم معًا، وافترقنا، كما التقينا، على الهواء”.

وشدّد درويش في مقالته على أنه استحضر تلك المكالة لأن “صناعة الشائعات السامة قد طوّرتها من عتاب إلى تهديد، طوّرتها ونشرتها إلى حد ألزمني الصمت، فلقد ذهب الشاهد الوحيد دون إن يشهد أحد أنه قال ذلك”.

وأوضح درويش أن إحدى المجلات العربية نشرت على لسان العلي أنه عاتب درويش، وأنه أبلغ رئيس تحرير ”القبس” أنه ينوي كتابة رسالة مفتوحة إلى درويش يشرح فيها عواطفه الايجابية، وعلى الرغم من كل ذلك، قال درويش إن “صناعة الشائعات ما زالت تعيد إنتاج الفرية”.

انتج العلي نحو 14 الف رسم كاريكاتوري-فيسبوك

انتج العلي نحو 14 الف رسم كاريكاتوري-فيسبوك
رحل ناجي العلي (1937-1987)، كما رحل غسان كنفاني (1936-1972) ومحمود درويش (1941-2008). ثلاثتهم كانوا من كبار المبدعين الفلسطينيين والعرب الذين عبّروا عن مأساة شعبهم جماليًا، وأنتجوا صورة الفلسطيني عن نفسه وأمام العالم: ضحيةً مقتلعة لا تكف عن محاولة استعادة وطنها.
ذكرى ناجي العلي: البلاد في خطوط اسمها حنظلة

ذكرى ناجي العلي: البلاد في خطوط اسمها حنظلة

منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/ تشرين الأول 2023، عادت بعض الرموز الفلسطينية إلى الواجهة من خلال اللافتات في المسيرات المؤيدة لفلسطين والأزياء ومنشورات المستخدمين لمواقع التواصل الاجتماعي وغيرها. واليوم نستعيد أحد أبرز هذه الرموز: حنظلة، الطفل الفلسطيني ذو العشرة أعوام الذي هجّره الاحتلال الإسرائيلي من أرضه فأدار ظهره للعالم في دلالة على رفضه للسياسات العالمية والإقليمية تجاه فلسطين، وفي دلالة على الأمل بعودته إلى وطنه يومًا ما. نعيد تفكيك علاقة الفلسطينيين بشخصية حنظلة في الذكرى 38 على اغتيال مبتكرها رسام الكاريكاتير ناجي العلي في لندن، بعد سنوات من الهجرة واللجوء، ما بين مسقط رأسه قرية الشجرة في شمال فلسطين المحتلة، ولبنان والكويت. كما نرصد تأثر الفنانين الفلسطينيين بمدرسة ناجي العلي التي تقدّم بساطة في التقديم وتكثيفاً في المعنى.

ناجي العلي نموذج للصدق والجرأة

في حديثها لـ”العربي الجديد”، تخبرنا الفنّانة الفلسطينية المقيمة في قطاع غزة، صفاء عودة، عن مدى تأثرها بفنّ ناجي العلي، خاصة خلال الحرب الحالية: “الكثير من أعماله تركت أثرًا عميقًا في داخلي، تحدث ناجي العلي عن كل أوجاعنا التي نعيشها اليوم، وجسّدها من خلال شخصية حنظلة الذي ظل رمزًا لرفض الاستسلام. لقد امتلك رؤية مستقبلية، وكأنه كان يدرك تمامًا ما سيحدث. فرسوماته التي أنجزها قبل عقود ما زالت تصف واقعنا اليوم بدقة مؤلمة”. تؤكد عودة أن العلي بالنسبة للفنان الفلسطيني أيقونة ونموذجاً للصدق والجرأة والشفافية: “من خلال رسوماته تعلّمت أن الفن رسالة ذات موقف ومعنى، وليس مجرد خربشات للتسلية. لقد تأثرت به كثيرًا”، تضيف عودة.

وإلى جانب حنظلة، تشير عودة لشخصية “فاطمة” في لوحات ناجي العلي، مؤكدة أنّ المرأة في لوحاته ظهرت دائمًا قوية وصابرة وحاضرة بما هي رمز للأرض والأم والوطن. “لم تكن المرأة عند العلي مجرد عنصر ثانوي، بل منحها دور البطولة في مواجهة القهر والتمسك بالأمل. وهذا ما جعلني أكثر إصرارًا على أن أرسم المرأة بصورتها الحقيقية: صامدة ومناضلة وحاملة للأمل حتى في أصعب الظروف” تقول عودة.

الناظر إلى لوحات عودة يرى ذات البساطة في التقديم والتكثيف في المعنى الذي اتبعه العلي، رسومات باللون الأسود بشكل أساسي، مع التقاطات لمشاهد مكثفة من واقع النزوح الذي تعيشه الفنانة حالياً في رفح. ترسم عودة لوحاتها وتشاركها على مواقع التواصل الاجتماعي آملة أن تكون “صدى لصوت الناس” في غزة وأن تنقل معاناتهم. “لا أريد أن تكون مجرد صور تُشاهد ثم تُنسى، بل أسعى أن تحرك مشاعر ووعي المتلقي، وتدفعه للتفكير وربما للفعل. هدفي أن يكون لفني أثر إنساني، فخلف كل عمل أقدمه هناك أرواح تحلم بالحرية”.

عودة حنظلة

أما الفنان الفلسطيني مروان نصار، صاحب لوحة “عودة حنظلة”، فيشير إلى أنه أنتج هذا العمل الفني في غزة قبل الحرب بعدة أشهر آملًا بعودة روح التضامن العربي إلى عمق القضية الفلسطينية. فبالنسبة لنصار يشكّل حنظلة “صورة للانتظار وحالة الترحال المتمثلة بالتنقل والقلق والمعاناة، واليوم يتجسّد هذا المعنى بعمق في سياق الحرب على غزة. الإنسان هنا (في غّزة) عالق في حالة انتظار لا تنتهي. طابور الماء، وطابور الخبز، وطابور يلحقه طابور…” يضيف نصار. يصف نصار أعمال ناجي العلي بأكثر من مجرد كاريكاتير سياسي، فهي برأيه “خطوط تنبض بصرخات الناس البسطاء، وتحوّل الرسم الساخر إلى أداة نضال ووسيلة لحفظ الذاكرة”. يضيف نصار: “لقد امتلك العلي قدرة فريدة على التقطير البصري، إذ كان يختصر تعقيدات القضايا الكبرى بخطوط قليلة وصور مباشرة، لكنها غنية بالمعنى. ومن خلال ذلك تعلّمت أن الفن ليس في الزخرفة أو المظهر الخارجي، بل في الموقف، والجرأة، والصدق”. يؤكد نصار أن فنّ العلي زاد من إيمانه أن الفنان لا يقف على الحياد، وأن عمله يمكن أن يكون سلاحًا للوعي بقدر ما هو أداة للجمال.

كما أن البساطة المكثّفة في لوحات العلي ألهمته لصنع أثرٍ عميق عبر خطوط قليلة تظل حاضرة في الذاكرة الجمعية، تمامًا كشخصية حنظلة التي تحولت من لوحة كاريكاتير إلى أيقونة من أيقونات الهوية الفلسطينية الجمعية. “الحرب على غزة شكّلت بالنسبة إلينا لحظة فاصلة وفرصة تاريخية كي نكون نحن الشهود، نحمل فكرة النهوض ونُعيد إحياء التراث الفكري والأدبي والفني الفلسطيني. ومن هنا، بات كل واحدٍ منّا يجسّد حالة “حنظلة” بعد طول الانتظار والتأمل، في انتظار عودة ذلك الوجه الملتفت إلينا، علّه يبشّر بميلاد حنظلة جديد يحمل صوته ووجهه نحو المستقبل”، يضيف نصار.

رأى ناجي العلي في حنظلة وفاطمة وغيرهما من شخصيات لوحاته شهودًا على حال الفلسطينيين، كما انحاز للشعوب والفئات الأقل حظاً دون مهادنة، فحققت رسوماته مساعيه هذه من خلال الأثر الذي ما زالت تتركه على الفلسطينيين حتى بعد عقود على اغتياله.