كيف نشفى من حب تونس

كيف نشفى من حب تونس

“ليس سوى متسلق” هكذا وصف معلّق، في إحدى الحلقات الحوارية الفرنسية، ما قام به النائب بالبرلمان الفرنسي سيبستيان ديلوغو، المنتمي لحركة فرنسا الأبية، وأحد الوجوه السياسية الشابة المساندة للقضية الفلسطينية اليوم في فرنسا. 

هذا اللقاء، الذي تم قبل أيام قليلة، لم يكن سوى حلقة أخرى من حلقات التفاعل المستمر مع ما نشره النائب على حساباته في مواقع التواصل، يوم 16 آب/آب الماضي، عندما نشَر صورة وشم، اختاره في آخر أيام رحلته لتونس، ليضعه على ربلة ساقه: خريطة تونس وخريطة فلسطين التاريخية وسطهما بيت شعر للفلسطيني محمود درويش هو “كيف نشفى من حب تونس”. لم يكن ديلوغو، آخر من يتكئ على هذا البيت للتعبير عن خليط من المشاعر والصلات بين فلسطين وتونس، إذ أمسى هذا المقطع عنواناً لثلاثين عاماً من العلاقات التونسية مع الهياكل الفلسطينية، وشعاراً وربما سقفاً للتضامن الرسمي مع هذه القضية.

ألقى درويش القصيدة الكاملة الحاملة للاسم نفسه في اجتماع واسع بالمسرح البلدي بالعاصمة التونسية في أيار/أيار 1994. عشية عودة كوادر ومثقفي منظمة التحرير إلى غزة، من أجل إقامة الدولة الفلسطينية، عقب اتفاقية أوسلو، بعد مرور اثنتي عشرة سنة، أمضتها المنظمة في مقرها التونسي، منذ خروجها من بيروت المحاصرة سنة 1982 أثناء الحرب الأهلية. عايش درويش الخُروجَيْن، ومع كل خروج تفاقم حزنه. في بيروت عاين درويش، خروج الفلسطينيين اضطراراً، من أرض تلوح في أفقها فلسطين، إلى أرض بعيدة، وراء البحار ومعها يصبح الحلم الفلسطيني أبعد. هذه المشاعر خلّدها درويش في أول نصوصه المخصصة لهذه المرحلة عندما كتب في قصيدته نزل على البحر: “لم نأتِ كي نأتي… رمانا البحرُ في قرطاجَ أصدافاً ونجمة”.

عادت القصيدة في زخم هذه الأحداث لتعبر عن رفض الإبادة

غير أن قرار العودة في النهاية، أعاد لدرويش نفس المشاعر، ولكن مع اختلاف في الطريقة هذه المرة. وعن ذلك كتب الكاتب أحمد نظيف “كان وداعه لتونس مغموساً في مرارة مصير الثورة الفلسطينية”، إذ لم يكن درويش مقتنعاً بالنتائج التي آل إليها مسار المفاوضات في أوسلو، وفي زيارة لتونس، قبل إلقاء القصيدة بفترة قصيرة، قدّم استقالته من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. ومع ذلك، فقد كتم ذلك دون التصريح به علناً، على الأقل في علاقته مع التونسيين. بل على العكس من ذلك قدّم قصيدته، هدية للبلد الذي غادره الفلسطينيون طوعاً، عبر المطارات، لا تحت نيران المدافع أو الحصار: “لقد رأينا في تونس من الألفة والحنان والسند السمح ما لم نر في أي مكان آخر/ لذلك نخرج منها كما لم نخرج من أي مكان آخر/ نقفز من حضنها إلى موطئ القدم الأول/ في ساحة الوطن الخلفية”.

وسط حماس الجماهير، قطع درويش القصيدة باكياً. وما إن أنهى الإلقاء، حتى أمست القصيدة رمزاً للوداع، لفكّ الارتباط الفلسطيني الرسمي مع مرحلة تونس. وتلخيصاً للدور التونسي في إيصال الفلسطينيين لحلمهم في تأسيس دولتهم، كما كشفت ذلك شهادات الفاعلين التونسيين في تلك المرحلة، على غرار القيادي الأمني النوري بوشعالة في مذكّراته “قبس من الذاكرة”. كتَب درويش، قصيدته للتونسيين عامة، نيابة عن الفلسطينيين عامة. لتتلقفها السلطة بالأساس شعاراً للمرحلة، الفلسطينيون اختاروها لتنقش على رخام أضرحة شهداء المجرزة الإسرائيلية في مدينة حمّام الشط سنة 1985. أما تونسياً، أمست جزءاً من بروباغندا نظام بن علي في مساندة القضية الفلسطينية.

وبرغم المرارة أمست القصيدة رسالة أمل، بثّها في نهايتها “سنلتقي غداً على أرض أختك فلسطين”. لم تحقق أوسلو النبوءة كاملة، أو ربما فرض مسار الأحداث المأساوي الأخير، مراجعة كلّية لشروط تحققها، بل ربما مسار أوسلو جملة واحدة، كما تشكك حوله درويش منذ البداية. ولكن القصيدة مع ذلك، عادت في زخم هذه الأحداث، لتكون شعار موجة تضامن جماهيري صادق هذه المرة. من قافلة الصمود الشعبية التي انطلقت من تونس في محاولة لكسر الحصار، وصولاً للنوّاب اليساريين الخارجين عن السرب مثل ديلوغو، الذي استغل زيارته للانضمام لجماهير الناشطين المتظاهرين في تونس أمام السفارة الأميركية، من أجل رفع الحصار، قبل أن يتحول نحو مبنى السفارة الفلسطينية وينشر صورة للقصيدة المنقوشة على الرخام بألوان بهتت مع الأيام. لولا مأساوية الأحداث، التي أعادتها للواجهة من جديد.

بنصف الفم الملآن

بنصف الفم الملآن

لعلها إحدى قصص وليام سارويان تلك التي تتحدّث عن ولد صغير ينشغل بسنّه المكسورة، فيقوده ذلك إلى مغادرته طفولته والعزلة والتأمّل في الحياة. … ثمّة عيبٌ صغيرٌ في الجسد، لا يلحظه الآخرون، يصرف الكائن الإنساني عما هو عادي في حياة الناس، وربما يقوده إلى مجاهل الإبداع المُغوية.

هنري تولوز لوتريك، أحد أبرز رموز ما بعد الانطباعية، كان قصير القامة فرسم النساء من زاوية مختلفة، أرستقراطياً فرسم فتيات الليل في باريس من أدنى إلى أعلى أحياناً، ما يفسّر ضخامة أجساد النساء في بعض لوحاته أو تركيزه على سيقانهن. يفعل ذلك على طريقته الكاتب الشاب الأردني – فلسطيني نادر رنتيسي في كتابه الفاتن “بنصف الفم الملآن” (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2022)، الذي يسرد فيه سيرة الطفل الذي كانه، الذي ولد بشفة عليا أرنبيّة، ما جعله يعاني من النطق السليم فترة طويلة من عمره، أو الابتسام كبقية أقرانه، فهو لا يستطيع أن يقف في الصف المدرسي ليقرأ بصوتٍ عالٍ من دون أن يضحك عليه الآخرون. لا يستطيع أن يقرأ قصائد محمود درويش بصوتٍ عالٍ إلا في غرفته الصغيرة.

لم يكفه هذا العيب الصغير، فثمّة أذنٌ لا يسمع بها، وثمّة رحلاته التي لا تنتهي مع والدته إلى مستشفيات الكويت قبل غزوها، وربما كان لطف الممرّضات الآسيويات معه ما منحه العزاء.

كيف تكبر بشفةٍ أرنبيّة، في عائلة فقيرة، لأب شيوعي في الكويت؟ كيف تكون أردنياً في الكويت وكويتياً في الأردن، وتفشل أن تكون فلسطينياً في رام الله وجوارها؟ وكيف تكون مثل بقية الناس؟ تفرح وتحزن، تصرُخ، تحِب وتُحَب، تكره وتهرب، تعود وتنسى وأنت بشفة أرنبيّة؟ كانت الكتابة هي الخلاص والعزاء، بعد عودة إلى الأردن فقد خلالها ذلك الاطمئنان الغامض لمسقط الرأس، لعائلةٍ تكوّنت هناك، وشوارع مشى عليها هناك.

يقدّم رنتيسي في كتابه رصداً حزيناً ومؤسياً لطفولة صاحب الشفة الأرنبية، لانكساراته الصغيرة، ولسيرة أب شيوعي من الطبقة العاملة لا يكفّ عن الغرم بالنساء، والقضايا الخاسرة. أب يعارض غزو الكويت، ويكتب شعارات المقاومة الكويتية على جدران غرفته، ولأم “تُشحَن” إلى الكويت لتتزوّج وتحمل عائلتها على ظهرها في هذه الحياة.

يقود العيب الصغير، بالغ الإحراج لأي طفل، كاتبَ “بنصف الفم الملآن” إلى الكتابة، إلى التأمّل في حياته، ثم سردها، وهذه جرأة كبيرة يُغبط عليها، إذ بفضلها حوّل ما يفترض أن يواجَه بالإنكار إلى ما يستحقّ الإشهار، كأنما يتأمّل صورته في مراياه المتكسّرة، ليرى احتمالاته المتخيّلة تبادله النظر، فالاحتضان والبكاء الصموت قبل الخروج إلى شوارع الناس بوسامة لا يروْنها.

عدم القدرة على النطق السليم جعله ينطق بالكتابة، وتحويل تلك الطاقة المكتومة إلى مجرىً آخر، وذلك ما دفعه إلى اختيار الطريق الوعر: دراسة الصحافة والإعلام، فكيف سيقابل الناس ويسألهم؟ ليس هذا سؤاله بل كيف يعبّر هو عن نفسه، وأن ينطق من دون أن يُنظَر إلى شفته المشقوقة.

يفعل ذلك في كتابةٍ بلغةٍ رفيعة، لغته هو، الصادرة عن آلامه هو، وعالمه هو. عالم الإنسان الصغير في خضم الأزمات الكبرى (السياسية) التي واجهها بأقلّ قدر من الصراخ، لأن نطقه غير سليم، وبأكبر قدر من البلاغة في التوصيف، لأن ثمّة تأملاً ونظراً متكرّراً في كل تفاصيل الحياة، التي هي حياته لا حياة الآخرين، كما هي شفته هو لا شفاه الآخرين، ومكابدته الفقر في العاصمة الأردنية، لا ليكون ويبقى فقط بل ليصبح أباً لمن تبقّوا من عائلته بعد رحيل الأب بالسرطان.

سيعرف في رحلته الصعبة في الحياة وبالغة الإيلام في الداخل أن ليس للفلسطيني وطن، بل “عناوين للنوم”، ما دام يعيش خارجه، وأن آلام الطفل الصغير التي لا يُلتَفت إليها غالباً ستصنع اختلافه، وأن من ينكسر من الداخل ويسمع صوت شظايا كسورِه سيرقّ كالقصائد، كالحب، وسيبدو مقذوفاً خارج التصنيف، وسيسعى إلى عدم التعلّق بشيء بل بفكرة.

يكتب عن مصادفته طفلاً آخر بشفة أرنبية في مدرسته، فيُصاب بالفزع، فيبتعد عنه، ويقف تحت سارية العلم الكويتي ليبكي بدون صوت.

ثمة آلام كبيرة، وحزنٌ يقاوِم طوال الكتاب ألا يتحوّل إلى حزن أسود. ثمّة حبٌّ هنا يحتضن الولد الذي كانه نادر رنتيسي.