أين اختفى صوت المغرب الرسمي؟

أين اختفى صوت المغرب الرسمي؟

هل يعيش المسؤولون المغاربة في العالم نفسه الذي نعيش فيه، أم أنهم عبروا إلى كوكبٍ آخر لا تصل إليه صور غزّة وهي تحترق، ولا تصل إليه صرخات الضحايا الذين يتساقطون يومياً تحت آلة الإبادة الجهنمية؟ ألم يروا المجازر البشعة في بث مباشر، ويسمعوا الصرخات المرتجفة من تحت الركام، ألم يصل إليهم صدى التهديدات النازية الصادرة عن “مجانين تل أبيب” وهم يتوعّدون بحرق الفلسطينيين وطرد من بقي منهم إلى ما وراء الشمس؟

حتى البيانات الخجولة والمرتبكة التي كانت تساوي بين الجلاد والضحية غابت عن قصاصات وكالة الأنباء الرسمية المغربية، وكأن الخارجية المغربية لم يعد لديها قاموس، أو أن قاموسها الدبلوماسي جرت مصادرته يوم التطبيع، ولم يبقَ سوى فراغ مربك وصمت مثقل بالعار. ألم تقولوا حين وقّعتم “اتفاقات أبراهام” المشؤومة إن التطبيع لن يكون على حساب فلسطين؟ ألم تُقسموا أن القضية ستبقى مقدّسة لا تقبل المساومة؟ فأين ذهبت القداسة؟ أين قسمُكم ووعودكم وتعهداتكم؟ وأين المبادئ التي رفعتموها شعاراً؟ كيف تمدّون أيديكم إلى قتلة الأطفال ولا تبصرون الدم يقطر من أصابعهم؟ أهو الخوف؟ أم التواطؤ؟ أم المصالح التي أعمت بصيرتكم حتى لم تعودوا تفرّقون بين الضحية والجلاد؟ أنسيتم صرخة الشاعر في وجه أميره عندما أراد العدو تتويجه بتاج الإمارة: “كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ..؟ أقلب الغريب كقلب أخيك؟! أعيناه عينا أخيك؟!”.

أيُّ معنىً لمساعدات إنسانية تُحسب لكم رمزياً إذا كانت سفن الأسلحة تمرّ من موانئكم نحو القاتل نفسه الذي يَقتل من تمدّون إليهم يد المساعدة؟ أي منطق عبثي يقبل هذه الازدواجية الفاضحة التي تجعل من علبة السردين أو كرتون الحليب أمام الكاميرات بديلاً عن موقف سياسي أخلاقي يليق بتاريخ بلد مثل المغرب وشعبه؟ مساعداتكم، على نبلها، صارت صورة تلفزيونية أكثر منها موقفاً، كراتين الحليب والسردين وعلب الزيت والسكّر تستعرضها كاميرات التلفزيون الرسمي كفتح عظيم، بينما الآلة العسكرية التي يدعمها تطبيعكُم تسحق الجياع تحت الركام، وفوق ذلك تنتظرون من الجائع، الذي ينتظر موته، أن يشكركم لأنه تلقّى علبة طعام قبل أن تعٌدمه آلة القتل التي تطبّعون معها؟ كيف تستطيعون أن تنظروا في عيني امرأة تطعم طفلها بحليبكم المجفّف، وأنتم تعلمون أن قاتلها، صديقكم الجديد سيذبحهما معاً، هي وطفلها بعد قليل؟ هل يكفي أن تلتقطوا صورة مع جائع قبل إعدامه، وهو يبتسم شكراً وامتنانا لنبلكم وكرمكم وإنسانيتكم لتغسلوا بها وجه بلدٍ بأكمله لطّختموه بعار تطبيعكم وخزي صمتكم؟

حتى البيانات الخجولة والمرتبكة التي كانت تساوي بين الجلاد والضحية غابت عن قصاصات وكالة الأنباء الرسمية المغربية

اجتمع في القاهرة وزراء الخارجية العرب قبل أيام، دان كلهم حرب الإبادة، وحده وزير خارجية المغرب ابتلع لسانه ولم ينبس بكلمة أمام محرقة القرن، وهو نفسُه الذي كان يتباهى بأن دبلوماسياً مغربياً في زمن ما من التطبيع “السّري” مع إسرائيل استعاد “بسطة” بائع متجوّل فلسطيني صادرها منه جنود الاحتلال، واعتبر الموقف إنجازاً عظيماً! اليوم، وقد ذُبح وأحرق وأعدم آلاف الأطفال والنساء والرجال، وأحرقت غزّة كلها، ودُمرت كل مدن القطاع وأحيائه ومخيّماته، وهدمت البيوت وصودرت الأراضي وجرفت الحقول في الضفة الغربية، ودنست الأماكن المقدسة في القدس والخليل، ماذا فعلت سفارة المغرب في تل أبيب؟ بل ماذا فعلتم للدفاع عن سفيركم في تل أبيب عندما طرده جنود الاحتلال من الضفة الغربية ورشقوه بالرصاص الحي؟ بقي صمتكم الدبلوماسي مرعباً، حتى كلمة “قلق”، أو”غضب”، أو مجرّد “تأفف” لم تصدر عنكم لتُنقذ ما تبقى من ماء وجهكم؟ بينما دول أوروبية، تعرّض ممثلوها للموقف نفسه، دانت وشجبت وأرغت وأزبدت، ومنها من سحبت سفراءها أو استدعت سفراء إسرائيل لديها، لتبلغهم أن السيل بلغ الزبى، فمتى تتحرّرون من خوفكم وتفطمون مع صمتكم الثقيل، وتعلنون أن صبركم قد نفد، وأن زُبْيَتكم قد غمرها سيل جرائم أصدقائكم؟!

استفيقوا من سباتكم، أو من تواطؤكم، قبل أن تُغلق صفحات التاريخ، وتكتب أسماؤكم في سجل العار الأبدي

حتى الدول الغربية، التي دعمت حرب الإبادة في بدايتها، بدأت تراجع مواقفها، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي هرول إلى تل أبيب عشية “طوفان الأقصى”، يقترح تحالفاً حربياً دولياً ضد المقاومة الفلسطينية، صار اليوم يحشُد لأكبر اعتراف دولي بدولة فلسطين. إسبانيا، جارتكم الشمالية، اتّخذت خطواتٍ جريئةً ومنعت تصدير الأسلحة وأغلقت سماءها وبرّها وبحرها في وجه كل رصاصةٍ قد تعبُر إلى يد القتلة في إسرائيل، واستدعت سفيرتها من تل أبيب وواجهت الفاشيين بشجاعة وصراحة في وضح النهار. حتى الإمارات، عرابة التطبيع التي جرتكم إليه، وجدت “الجرأة” لتهاجم الاحتلال ببيانات تدينهم وتهدّدهم، وحده المغرب دفن رأسه في صمته الاستراتيجي، كأن لا صوت ولا تاريخ ولا ذاكرة له، بل وكأن لا شعب له ينزل إلى الشوارع والساحات كل جمعة يهتف باسم فلسطين.

ليس المغرب دولة هامشية، تاريخه عريق، وعاهله يحمل أمانة رئاسة “لجنة القدس”، ونضال شعبه مشهود، ويكفيه أنه الوحيد بين الشعوب العربية الذي يعتبر فلسطين قضيته الوطنية، يخرج، منذ سنتين، أسبوعيا في مسيراتٍ ووقفات للتضامن مع الفلسطينيين في كل المدن والقرى، بما فيها تلك المهمّشة والمنسية، وبدون إذن رسمي، فالناس تعرف طريقها إلى ساحات النضال، لأن القضية محفورة في ذاكرتهم الجماعية. تعلموا من شعبكم، فهو خطّ دفاعكم الأخير، وصوته هو ما تبقى من شرفٍ تحفظون به تاريخ مواقف بلدكم. الإصرار على التطبيع مع عدوٍّ فاشيٍّ دمويٍّ لم يكن في أي يوم سياسة أو استراتيجية، بل هو إهانة لذاكرة وطنٍ صنع مواقفه وتاريخه وهو يردّد في وجه الزمن أن فلسطين مرآته. أنصتوا إلى رئيس وزراء إسبانيا، بيدرو سانشيز، حين قال إنه يريد لبلاده أن تكون في “الجانب الصحيح من التاريخ”، فلا تدفعوا ببلادكم نحو الجانب الأسود منه، مع حفنة من المجرمين النازيين والفاشيين الجدد. التاريخ لا يرحم، والشعوب لا تنسى، والضحايا لا تسامح، وشعبكم لن يغفر لكم. استفيقوا من سباتكم، أو من تواطؤكم، قبل أن تُغلق صفحات التاريخ، وتكتب أسماؤكم في سجل العار الأبدي.

انهيار الحكومة الفرنسية بعد تصويت النواب على إقالة رئيس الوزراء

انهيار الحكومة الفرنسية بعد تصويت النواب على إقالة رئيس الوزراء

حجب النواب الفرنسيون الاثنين الثقة عن حكومة فرنسوا بايرو بعد أقل من تسعة أشهر من توليه منصبه، ما يهدد بدخول البلاد مجدداً في أزمة سياسية حادة.

وجاءت هذه الخطوة بعد خطة اقترحها بايرو لخفض الإنفاق العام بهدف معالجة الدين العام، لكنه لم يحظَ بدعم كافٍ، إذ صوّت النواب ضده بأغلبية تقارب اثنين إلى واحد.

وصوّت 364 نائباً لصالح حجب الثقة، بينما أبدى 194 فقط تأييدهم لبايرو الذي أعلن أن حكومته تتحمل مسؤولية مشروع موازنة للعام 2026 ينص على اقتطاعات بقيمة 44 مليار يورو.

وفي وقت لاحق، أعلنت الرئاسة الفرنسية أن ماكرون “سيلتقي رئيس الوزراء فرنسوا بايرو الثلاثاء لقبول استقالة حكومته، ثمّ سيُكلّف رئيساً جديداً للوزراء في الأيام المقبلة”، مع أنه ليس من الواضح ما إذا كان سيتمكن من الحصول على أغلبية في البرلمان.

وبهذا، يخسر ماكرون ثاني رئيس وزراء يسمّيه منذ قراره المفاجئ عام 2024 حل الجمعية الوطنية [جزء من البرلمان] بعد فوز اليمين المتطرف بالأغلبية في انتخابات البرلمان الأوروبي، ما أغرق البلاد في أزمة سياسية ومالية كبيرة، إذ لم يمنحه ذلك أي غالبية في الجمعية الجديدة.

“اختبار حقيقي”

منظر عام للجمعية الوطنية الفرنسية خلال جلسة برلمانية استثنائية قبل التصويت على منح الثقة لميزانية التقشف الحكومية في باريس، فرنسا، في 8 أيلول/أيلول 2025.
خلال جلسة برلمانية استثنائية قبل التصويت على منح الثقة لميزانية التقشف الحكومية في باريس. 8 أيلول/أيلول 2025.

قبل عملية التصويت، قال بايرو أمام الجمعية الوطنية إن “هذا اختبار حقيقي كرئيس للحكومة (…) واخترت ذلك” مؤكداً أن “مستقبل البلاد على المحك” بسبب “ديونها المفرطة”.

وقال: “بلادنا تعمل وتظن أنها تزداد ثراءً، لكنها في الواقع تزداد فقراً كل عام، إنه نزيف صامت وغير مرئي، ولا يحتمل”، وأضاف مخاطباً النواب: “لديكم القدرة على الإطاحة بالحكومة، لكنكم لا تملكون القدرة على محو الواقع”.

ويدفع حزب التجمع الوطني (يمين متطرف) نحو تنظيم انتخابات تشريعية مبكرة، وفق ما نقلت فرانس برس.

واعتبرت زعيمة الحزب مارين لوبن الاثنين أن حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة “ليسا خياراً بل أمراً واجباً” على ماكرون.

ويستبعد الرئيس الذي تنتهي ولايته في العام 2027، خيار حل الجمعية الوطنية مجدداً في الوقت الراهن.

وكشف استطلاع للرأي نشرت نتائجه الأحد أن حزب لوبن سيتصدر مع حلفائه نتائج الدورة الأولى للانتخابات – في حال جرت – بـ33 في المئة من الأصوات، متقدماً بفارق كبير على اليسار والمعسكر الرئاسي.

وبدأت المشاورات في الوقت الراهن مع تموضع الحزب الاشتراكي في وسط اللعبة، مبدياً استعداده لتولي السلطة ولكن في إطار حكومة يسارية بدون “الماكرونيين”.

ويجد ماكرون نفسه محاصراً بين يمين متطرف يتصاعد نفوذه على مر السنوات والانتخابات، ويسار راديكالي (ممثلاً بحزب فرنسا الأبية) يزداد تشدداً ومناهضة له، ما يحتم عليه السعي لتوسيع كتلته الوسطية والبحث عن شخصية يمينية أو من الوسط يقبل بها الاشتراكيون.

وتنقل فرانس برس عن أحد المقربين من الرئيس قوله: “ثمة حاجة إلى الاستقرار. والأكثر استقراراً هو القاعدة المشتركة التي تتحاور مع الاشتراكيين”.

لكن المهمة تبدو صعبة إزاء تمسك الأحزاب بمواقفها.

ورأى ماتيو غالار من معهد إيبسوس لاستطلاعات الرأي أن “المشكلة الحالية في فرنسا هي إن كل (حزب) لديه خطوط حمر، وأن هذه الخطوط الحمر تجعل من المستحيل تماماً تشكيل ائتلاف. لا ائتلاف يملك الغالبية، ولا ائتلاف يمكنه الصمود بصورة دائمة”.

ويجري تداول أسماء من بينها وزير الجيوش سيباستيان لوكورنو ووزير العدل جيرالد دارمانان ووزير الاقتصاد إريك لومبار.

رغم أن نتيجة تصويت اليوم كانت متوقعة، إلا أنها تُجدد الضغوط على إيمانويل ماكرون، كما تقول مراسلة بي بي سي لورا غوزي.

وتفيد بأن كثيرين يشعرون بأن ماكرون يتحمل مسؤولية الجمود السياسي الحالي، الذي أشعله قراره بإجراء انتخابات مبكرة في حزيران/حزيران 2024، وأسفر عن برلمان “معلّق”.

ماكرون ذو البشرة البيضاء والشعر الأشقر الموشح بالأبيض وعينان بلون أزرق، يرتدي بدلة رسمية كحلية اللون وقميصاً أبيض وربطة عنق كحلية. ليس واضحاً ما هو خلفه.
يواجه ماكرون تحدياً بعد انهيار الحكومة الفرنسية.
  • ماكرون ليس الوحيد…أبرز المواقف المحرجة التي تعرض لها زعماء وسياسيون حول العالم
  • الحكومة الفرنسية الجديدة في مرمى نيران الانتقادات
  • فرنسا تعلن أنها ستعترف بفلسطين كدولة، وإسرائيل تصف الخطوة بأنها “مكافأة للإرهاب”

“لنعرقل كل شيء”

وتزداد خطورة التحدي أمام ماكرون وسط مشاعر الريبة القوية تجاهه وتراجع شعبيته إلى أدنى مستوياتها منذ وصوله إلى السلطة عام 2017، إذ يبدي 77 في المئة من الفرنسيين استياءهم حيال إدارته للبلاد.

وبالإضافة إلى أزمة الميزانية والمأزق السياسي، تستعد فرنسا لمرحلة من الاضطرابات الاجتماعية.

ودعت حركة مدنية نشأت خلال الصيف على مواقع التواصل الاجتماعي تحت شعار “لنعرقل كل شيء” وتدعمها بعض النقابات واليسار الراديكالي، إلى إضراب الأربعاء، غير أن مدى التعبئة الفعلي إلى الآن مازال غير معروف.

كما دعت النقابات إلى يوم إضراب وتظاهرات في 18 أيلول/أيلول تنديداً بسياسة الحكومة وبمشروع الموازنة الذي طرحه بايرو.

التقشف يحدد مصير بايرو… 8 حكومات فرنسية سقطت بسبب الاقتصاد

التقشف يحدد مصير بايرو… 8 حكومات فرنسية سقطت بسبب الاقتصاد

تترقب فرنسا اليوم الاثنين 8 أيلول/أيلول 2025 تصويت الجمعية الوطنية على الثقة بحكومة رئيس الوزراء فرنسوا بايرو، في لحظة حاسمة قد تحدد ليس مصير الحكومة فقط، بل مستقبل ولاية الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه. ويأتي هذا الاستحقاق في ظل أزمة ديون غير مسبوقة، إذ بلغ الدَّين العام منتصف حزيران/حزيران 2025 نحو 3.345 تريليونات يورو (113.9% من الناتج المحلي الإجمالي)، بزيادة 185 مليار يورو خلال عام واحد فقط، فيما يصر بايرو على تمرير خطة تقشفية ضخمة بقيمة 44 مليار يورو رغم المعارضة الواسعة من اليمين واليسار والنقابات العمالية. وكشفت “نيويورك تايمز”، أنه في حال رفض البرلمان هذه الخطة خلال التصويت المرتقب، فإن بايرو سيضطر إلى الاستقالة؛ ما يجعل ماكرون في موقف صعب لتعيين رئيس وزراء جديد قادر على معالجة العجز المالي. وواجه ماكرون أزمة حادة، بعد إعلان بايرو وضع خطة لإصلاح الميزانية تشمل خفض الإنفاق العام بـ44 مليار يورو وزيادة الضرائب. 

وبموازاة الاضطرابات الاقتصادية والسياسية تستعد فرنسا لموجة احتجاجات ومظاهرات وإضرابات ومقاطعة واسعة مع إعلان حركة “لنغلق كل شيء” الدعوة إلى شل البلاد في الـ10 من أيلول الحالي احتجاجاً على مشروع الميزانية المقترح من رئيس الوزراء فرانسوا بايرو، الذي يواجه تهديداً بسقوط حكومته. فالنقابات، وعلى رأسها الكونفدرالية الفرنسية الديمقراطية للشغل (CFDT)، أعلنت تنظيم يوم تعبئة وطني بعد غدا الأربعاء تحت شعار “لنشل كل شيء”، معتبرة أن الخطة تضرب المتقاعدين والقطاع الصحي.  ويعيد التحرك إلى الأذهان مظاهرات “السترات الصفراء” التي انطلقت في فرنسا عام 2018 ضد زيادة أسعار الوقود التي استقطبت عشرات الآلاف من المحتجين الذين انتابهم شعور بغياب العدالة الاقتصادية. وفي البرلمان، أعلنت كتل يسارية ويمينية رفضها منح الثقة، ما يجعل حكومة بايرو أمام تحد شبه مستحيل. ويبدو أن مشروع الموازنة الذي قدمه بايرو أيقظ شعوراً بالظلم والغبن الاجتماعي لدى فئة من الفرنسيين الذين يعانون منذ سنوات من تضخم مرتفع للأسعار وتراجع القدرة الشرائية.

من جانبه، حاول وزير المالية إريك لومبارد تهدئة المخاوف عبر مقابلة مع صحيفة فايننشال تايمز في 3 أيلول الحالي، مؤكداً أن سقوط حكومة بايرو سيجعل خطة خفض العجز أقل طموحاً، لكنه شدد على إمكانية تمرير ميزانية قبل نهاية العام، سواء بقي بايرو أو جاء خلفه. وقال الخبير المالي الفرنسي ألان أتاسي، مدير بنك الاستثمار (N.M Capital & Co) في باريس لـ”العربي الجديد”: “في عهد بايرو، جاءت خطة تقشفية بـ44 مليار يورو عبر إلغاء عطلات ورفع ضرائب، لكن غياب الحوار الاجتماعي واستهداف الفئات الوسطى والفقيرة فجّرا رفضاً شعبياً واسعاً”.

سقوط بايرو شعبياً

وعلى المستوى العام، أظهر استطلاع لمعهد إيفوب لصالح صحيفة جورنال دو ديمانش أن رضا الفرنسيين عن ماكرون لا يتجاوز 19%، بينما بلغت نسبة عدم الرضا عن بايرو 82%، وهو مستوى قياسي تاريخي لا يضاهيه إلا ما حققته رئيسة الحكومة إديث كريسون عام 1991 في عهد ميتران، واستطلاع آخر لمعهد أودوكسا كشف أن 51% من الفرنسيين يطالبون باستقالة ماكرون نفسه.
وفي هذا السياق، قال الخبير الاقتصادي، وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة السوربون، كميل الساري لـ”العربي الجديد”: “كان من الممكن تمرير ميزانيات إصلاحية رغم ما تحمله من تضحيات، شرط أن ترفق بخطة واضحة للحد من المديونية. لكن في ظل غياب أغلبية واضحة، أصبح تمرير أي ميزانية أمراً صعباً”. أما الخبير الاقتصادي الفرنسي باسكال داليما، كبير المحللين في شركة بزنيس نوليدج مانجمنت كونسلتينغ للاستشارات، فقال لـ”العربي الجديد”: “الاقتصاد بات الحكم الأول والأخير في مصير الحكومات الفرنسية”.

بارنييه… الميزانية التي أطاحت الحكومة

في 5 أيلول 2024 لجأ ماكرون إلى شخصية أوروبية وازنة، فعين ميشيل بارنييه رئيساً للحكومة، معولاً على خبرته الطويلة في بروكسل ومكانته مفاوضاً رئيسياً للاتحاد الأوروبي في ملف بريكست. غير أن هذه الخبرة لم تحم حكومته من امتحان قاتل: “مشروع قانون المالية لعام 2025”. وفي 27 أيلول 2024، قدمت الحكومة مشروع الميزانية للبرلمان ليكشف عن عجز يتجاوز 5.8% من الناتج المحلي الإجمالي. وأكد تقرير ديوان المحاسبة في تشرين الأول/تشرين الأول الماضي أن الحسابات العامة تفتقر إلى مسار قابل للتصحيح، فيما حذرت وكالة فيتش في 20 تشرين الأول الماضي من أن فشل تمرير الميزانية سيقوض مصداقية فرنسا مالياً. وبدورها لوحت وكالة موديز بمراجعة سلبية قد تضعف مكانة فرنسا في الأسواق. إزاء ذلك، لجأ بارنييه إلى المادة 49.3 من الدستور لتمرير الميزانية دون تصويت، لكن النتيجة كانت مواجهة سياسية مفتوحة. وفي 4 كانون الأول/كانون الأول 2024، صوت البرلمان على مذكرة حجب ثقة بـ331 صوتاً، ما أدى إلى انهيار الحكومة. وفي اليوم التالي قدم بارنييه استقالته بعد أقل من مئة يوم، لتسجل حكومته كأقصر حكومات الجمهورية الخامسة عمراً.

أتال… أصغر رئيس وزراء يسقط بالأرقام

في 11 كانون الثاني/كانون الثاني 2024، عين ماكرون أصغر رئيس وزراء في تاريخ الجمهورية الخامسة، غابرييل أتال، لكنه سرعان ما وجد نفسه رهينة الأرقام. ففي آذار/آذار 2024 أكد المعهد الفرنسي للإحصاء أن الدين العام ارتفع إلى 112.5% من الناتج المحلي، فيما استقر العجز عند 5.5%. وفي تموز/تموز 2024، شددت المفوضية الأوروبية على ضرورة خفض النفقات بما لا يقل عن 20 مليار يورو. وحذر باتريك أرتوس، كبير المحللين في بنك ناتيكسيس، في مقابلة مع صحيفة ليزيكو من أن “الأسواق لم تعد تثق بقدرة فرنسا على إصلاح ماليتها، أي رئيس حكومة سيصبح رهينة لهذه الأرقام”. لم تفلح صورة أتال الشابة في مواجهة هذه الضغوط. فاستطلاع إيفوب لصالح باريس ماتش في أيلول 2024 أظهر أن شعبيته لم تتجاوز 22%، وهو أدنى مستوى لرئيس وزراء في عهد ماكرون. وبعد ثمانية أشهر فقط، قدم استقالته عقب الانتخابات المبكرة التي تلت حل البرلمان في حزيران/حزيران 2024. وقال الخبير باسكال داليما لـ”العربي الجديد”، معلقاً على تلك الأرقام: “الدين والعجز ليسا مجرد أرقام، بل قيود تستنزف النمو وتقلص هوامش المناورة، خصوصاً في الاستثمارات المستقبلية”.

بورن… ضريبة التقاعد التي أشعلت الشارع

بعد فوز ماكرون بولاية ثانية في إبريل/نيسان 2022، أحدث قطيعة رمزية بتعيين إليزابيث بورن في 16 أيار/أيار 2022 لتكون ثاني امرأة تتولى رئاسة الحكومة، لكنها وجدت نفسها سريعاً في مواجهة ملف إصلاح التقاعد. وفي كانون الثاني 2023 أعلنت الحكومة رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً. فجرت الخطوة احتجاجات واسعة، إذ شارك 1.12 مليون متظاهر في 19 كانون الثاني، وبلغت التعبئة ذروتها في 7 آذار 2023 مع 1.28 مليون متظاهر وفق الداخلية (3.5 ملايين وفق النقابات). لكن الإصلاح سقط سياسياً قبل دخوله حيز التنفيذ. ففي كانون الأول 2023، كشف استطلاع لمعهد إيفوب لصالح “لوفيغارو” أن 67% من الفرنسيين يرفضون الإصلاح و54% يطالبون باستقالة الحكومة. وتحت ضغط الشارع، استقالت بورن في 8 كانون الثاني 2024 بعد 20 شهراً فقط. وقال الخبير كميل الساري لـ”العربي الجديد”: “فشل إصلاح التقاعد كان دليلاً على أن أي إصلاح مالي في فرنسا محكوم عليه بالاصطدام بالشارع، في ظاهرة تعود إلى إرث الثورة الفرنسية”.

كاستكس… سياسة “مهما كلف الأمر”

مع اجتياح جائحة كوفيد-19، تبنت حكومة جان كاستكس سياسة “مهما كلف الأمر”، حيث التزمت الدولة توظيف كل الوسائل المالية لحماية المواطنين. النتيجة كانت قفزة الدَّين العام من 99.1% في 2019 إلى 111.1% في 2020، ثم 115.2% في 2021. وقال الخبير الاقتصادي كميل الساري لـ”العربي الجديد”: “المساعدات التي قدمتها الحكومة خلال الجائحة كانت استثنائية وفاقت ما منحته باقي الدول، إلى حد أن أرباب العمل عبروا عن رضاهم الكبير”، لكنه أضاف: “الأخطاء اللاحقة مثل دعم أسعار الوقود بعد حرب أوكرانيا، وانحرافات نظام المساعدات الضريبية التي استفاد منها الأثرياء والشركات وحتى بعض العاطلين، زادت من شعور بعدم العدالة وأضعفت فعالية السياسات”. وفي كانون الثاني 2022، نبه صندوق النقد الدولي في تقريره إلى أن الاعتماد المفرط على التمويل سيقيد الحكومات المقبلة. ورغم بقاء حكومة كاستكس حتى نهاية الولاية الأولى، فإنها خلفت اقتصاداً مثقلاً بالديون شكل قاعدة سقوط خلفائها.

فيليب… بداية الغضب مع “السترات الصفراء”

مع بداية عهد ماكرون، عين إدوار فيليب في أيار 2017 رئيساً لأول حكومة، مهمتها تنفيذ إصلاحات ليبرالية شملت تحرير سوق العمل وخفض ضرائب رؤوس الأموال وفرض ضريبة بيئية على الوقود، لكن تقرير ديوان المحاسبة في حزيران 2018 حذر من أن هذه الإصلاحات “غير كافية للسيطرة على العجز الهيكلي”. وفي تشرين الثاني/تشرين الثاني 2018 انفجرت أزمة “السترات الصفراء” إثر إعلان زيادة ضريبة الوقود. وربط تقرير المفوضية الأوروبية عن فرنسا (شباط/شباط 2019) هذه الاحتجاجات بمخاوف أوسع حول القدرة الشرائية والعدالة الاجتماعية، معتبراً أنها لم تكن رفضاً لزيادة ضريبية فحسب، بل تجسيداً لإحباط اجتماعي عميق.

ورغم تراجع الحكومة جزئياً عن بعض الإجراءات، ارتفع العجز إلى 3.1% عام 2019 (كان 2.6% في 2017)، ما دفع المفوضية الأوروبية إلى إعادة فرنسا تحت مراقبة “العجز المفرط”، محذرة من أنها “تخاطر بعدم التزام القواعد الأوروبية”. ومع تفاقم الغضب الشعبي وتآكل الثقة، قدم فيليب استقالته في 3 تموز 2020. ومنذ 2017، شهدت فرنسا تعاقب ثماني حكومات بمعدل لم يتجاوز 400 يوم لكل منها، جميعها سقطت أمام جدار الدَّين والعجز وضعف النمو. وماكرون الذي قدم نفسه رئيساً إصلاحياً قادماً من عالم المال، وجد أن الاقتصاد لا يرحم، وأن الأسواق والأرقام أقوى من أي خطاب سياسي. وما يجري في فرنسا لم يعد أزمة داخلية فقط، بل إنذاراً أوروبياً وعالمياً بأن الديمقراطيات الحديثة باتت رهينة الأرقام والمعايير المالية أكثر من أي وقت مضى.

فرنسا على مفترق طرق ومخاوف من انزلاق نحو الفوضى

فرنسا على مفترق طرق ومخاوف من انزلاق نحو الفوضى

باتت فرنسا على مفترق طرق وعلى موعد مع أزمات جديدة، وتقف على حافة هاوية اقتصادية وسياسية، وهناك مخاوف متزايدة من انزلاق البلاد نحو الفوضى والغموض، وأجواء تظاهرات “السترات الصفراء” تطل برأسها مجدداً، وصبر الفرنسيين نفد أو كاد ينفد، ليس من الحكومة الحالية بل من الوضع المعيشي برمته، ومن أداء الحكومات المتعاقبة وبالأخص حكومات الرئيس إيمانويل ماكرون، وحالة اللايقين تهدد استقرار الشارع والمشهد السياسي والاقتصادي معاً، وسيطرة الحكومة وقدرتها على منع تلك الفوضى تراجعت بشدة، في ظل تنامي سيناريوهات سقوطها اليوم، وشبح الانتخابات المبكرة وحل البرلمان يعود ليتصدر المشهد، وهناك حالة احتقان وغضب شعبي تتزايد يوماً بعد يوم، وتتنامى معها دعوات للإضراب العام.

غداً، 8 أيلول/أيلول، تدخل فرنسا مرحلة جديدة من الانقسام السياسي والمجتمعي والاضطرابات المالية والاقتصادية، ومعها تتفاقم الأزمات المعيشية للمواطن الذي يئن بشدة من الغلاء والبطالة والفقر الذي وصل لمستويات مرعبة، وكذا من ضعف القدرة الشرائية، والشعور بالظلم والغبن الاجتماعي، وغياب العدالة الاقتصادية، وتطارده كذلك خطط وإجراءات تقشفية لا تنتهي تبدأ بزيادة الضرائب وفواتير الكهرباء، وخفض الإنفاق العام بـ44 مليار يورو، وتخفيضات في الإنفاق الاجتماعي وإلغاء عطلات، ولا تنتهي عند زيادة الأسعار وثبات الأجور.

تدخل فرنسا غداً مرحلة جديدة من الانقسام السياسي والمجتمعي والاضطرابات المالية والاقتصادية، ومعها تتفاقم الأزمات المعيشية للمواطن الذي يئن بشدة من الغلاء والبطالة والفقر الذي وصل لمستويات مرعبة،

يحدث كل ذلك تحت عنوان عريض وبراق هو “خطة إصلاح الميزانية” التي تعاني بالفعل من عجز مالي غير مسبوق، وزيادة في الدين العام والذي بلغ مستوى تاريخياً عند 3.346 تريليونات يورو (3.9 تريليونات دولار) في الربع الأول من العام الجاري 2025، أي ما يعادل نحو 114% من الناتج المحلي الإجمالي.

غدا الاثنين، تترقب فرنسا تصويت الجمعية الوطنية على الثقة بحكومة فرنسوا بايرو، في لحظة حاسمة من تاريخ الدولة، صاحبة ثاني أقوى اقتصاد داخل الاتحاد الأوروبي، تصويت لن يحدد مصير الحكومة الحالية فقط، بل المستقبل السياسي لإيمانويل ماكرون نفسه، وربما يحدد مستقبل الخريطة السياسية في الفترة المقبلة.

وبغض النظر عن نتيجة التصويت على حكومة بايرو، والتي من المتوقع سقوطها على نطاق واسع، فإن فرنسا تستعيد هذه الأيام أجواء العام 2018 حيث اندلاع مظاهرات “السترات الصفراء” ضد زيادات الأسعار ومنها الوقود. وحتى لو افلتت الحكومة من خطر السقوط المدوي، وهو أمر ضعيف، فإن الشارع الفرنسي تنتظره موجة قلاقل واحتجاجات وإضرابات واسعة مع إعلان حركة “لنغلق كل شيء” إلى شل البلاد يوم الأربعاء المقبل، احتجاجاً على مشروع ميزانية الحكومة المهددة بالسقوط.

لا تتوقف أزمة فرنسا عند هذه الحدود، بل تتعداه لما هو أوسع، حيث تصل تداعياتها الخطيرة إلى الاقتصاد الأوروبي الذي يخوض معارك شرسة، أخطرها التدهور الاقتصادي المتزايد في القارة العجوز، والحرب التجارية التي يخوضها دونالد ترامب ضد دول الاتحاد، وكلفة حرب أوكرانيا الضخمة، والعجز المالي وزيادة الدين العام والإفراط في الاستدانة، وتقلص عدد السكان في العديد من البلدان، والبطء في التحول إلى الاقتصاد الرقمي.

وبالطبع فإن زيادة المخاطر الجيوسياسية والاجتماعية والاقتصادية داخل فرنسا ومنطقة اليورو ستفاقم تلك الأزمات، وستدفع المستثمرين والأموال نحو الهروب من الأسواق الأوروبية، خاصة من أسواق الدين مثل السندات وأذون الخزانة، وهو ما يشكل ضغطاً إضافياً على الوضع المالي لدول الاتحاد وزيادة أعباء الدين والاقتراض والحصول على أموال بتكلفة عالية، وهو ما يجعل حكومات تلك الدول في صدام متواصل مع المواطن.