جدد الرئيس الفلسطيني محمود عباس -اليوم الجمعة- التأكيد على أهمية مبدأ حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية على كامل أراضيها، في وقت تسلم فيه الجيش اللبناني دفعة جديدة من سلاح المخيمات الفلسطينية في العاصمة بيروت.
جاء ذلك خلال اتصال هاتفي بين عباس ورئيس الوزراء اللبناني نواف سلام بعد ساعات من إعلان الرئاسة الفلسطينية على لسان متحدثها نبيل أبو ردينة، تسليم الجيش اللبناني الدفعة الثالثة من سلاح المخيمات الفلسطينية في بيروت.
ووفق وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية (وفا)، عبّر الرئيس الفلسطيني عن “احترام دولة فلسطين، لوحدة لبنان وسلامة أراضيه”، وأن “الشعب الفلسطيني في لبنان هو ضيف مؤقت إلى حين عودته إلى وطنه”.
وأكد على “أهمية ما جاء بالبيان الرئاسي الصادر في 21 أيار/أيار الماضي، وبمبدأ حصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية على كامل أراضيها، وإنهاء أي مظاهر مخالفة لذلك، وأهمية احترام سيادة لبنان واستقلاله ووحدة أراضيه”.
وفي 21 آب/آب الجاري، تسلم الجيش اللبناني السلاح الفلسطيني بمخيم برج البراجنة بالضاحية الجنوبية لبيروت، في أول مرحلة، قبل أن يتسلم -الخميس- السلاح من مخيمات الرشيدية والبص والبرج الشمالي بمدينة صور (جنوب)، وفق وكالة الأنباء اللبنانية.
وفي الخامس من الشهر الجاري، أقر مجلس الوزراء اللبناني حصر السلاح، بما فيه سلاح حزب الله، بيد الدولة، وكلف الجيش بوضع خطة لهذا الغرض قبل نهاية الشهر الحالي وتنفيذها قبل نهاية 2025.
لن يسلم سلاحه
في المقابل، أكد الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم في اليوم نفسه، أن الحزب لن يسلم سلاحه إلا في حال انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية، وإيقاف عدوانها على البلاد، والإفراج عن الأسرى، وبدء إعادة الإعمار.
ويتجاوز عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان 493 ألف شخص، يعيشون ظروفا صعبة داخل مخيمات تُدار أمنيا من جانب الفصائل الفلسطينية، بموجب تفاهمات غير رسمية تعود إلى “اتفاق القاهرة ” لعام 1969.
إعلان
ويقيم أكثر من نصفهم في 12 مخيما تعترف بها وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، ولا يدخل الجيش ولا القوى الأمنية اللبنانية إلى المخيمات، إنما يفرض الجيش إجراءات مشددة حولها.
وخلال الحرب الأخيرة مع إسرائيل التي استمرت أكثر من عام، شاركت فصائل فلسطينية بينها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بإطلاق صواريخ من جنوب لبنان باتجاه إسرائيل. واستهدفت إسرائيل مرارا عناصر في تلك الفصائل بضربات شنتها على مناطق عدة في لبنان.
ويأتي استكمال عملية تسليم سلاح المخيمات الفلسطينية بعد تكليف الحكومة اللبنانية في الخامس من الشهر الجاري، الجيش بوضع خطة لنزع سلاح حزب الله، على أن يتم تطبيقها قبل نهاية العام.
تنتظر لبنان أيام مفصلية قبيل جلسة مجلس الوزراء المقرّرة في الثاني من أيلول/ أيلول المقبل، حيث تتسع رقعة الخلافات الداخلية بشأن قرار الحكومة حصر السلاح، وترتفع دعوات حزب الله وحركة أمل بضرورة العودة عنه، مقابل إصرار الجهات المعارضة للثنائي على المضي قدماً بتنفيذها، وذلك في وقتٍ تتزايد الضغوط الأميركية على المسؤولين اللبنانيين، وقد وصلت إلى حدّ التهديد بنزع سلاح حزب الله بالقوة العسكرية.
وبعد تصعيده في القصر الجمهوري خلال جولة الوفد الأميركي في بيروت، رفع السيناتور الأميركي ليندسي غراهام، من تل أبيب، أمس الخميس، حدّة خطابه بوجه حزب الله، مؤكداً أنه حان وقت إنهائه، وفي حال لم يُنزَع سلاحه بشكل سلميّ، فيجب النظر في الخطة “ب” أي نزع السلاح بالقوة العسكرية. وتزامن تصريح غراهام أولاً مع إعلان الجيش اللبناني استشهاد ضابط وعسكري وجرح عنصرين آخرين نتيجة انفجار مسيّرة إسرائيلية سقطت في منطقة رأس الناقورة في القطاع الغربي من جنوب لبنان، وذلك خلال الكشف عليها، وكذلك مع تصعيد إسرائيل الغارات جنوباً، وتمسّكها بمواصلة الاعتداءات واحتلال النقاط الخمس لحين نزع سلاح حزب الله، في شروط تبنّتها الولايات المتحدة الأميركية بعد تنصّلها من تعهّداتها تجاه لبنان.
وتشهد الساحة اللبنانية اليوم حراكاً داخلياً واتصالات مفتوحة بين القوى السياسية للبحث عن حلول تجنّب البلاد أي انفجار داخلي، وكذلك تصعيداً إسرائيلياً عسكرياً، خصوصاً أنّ نتائج جولة الموفد الأميركي الأخيرة شكّلت صدمة للمسؤولين اللبنانيين الذين كانوا ينتظرون، وربطاً بوعود السفير توماس برّاك، خطوة إسرائيلية بعد المقرّرات التي اتخذتها الحكومة على صعيد إقرار أهداف الورقة الأميركية الـ11، وتكليف الجيش اللبناني وضع خطة تطبيقية لحصر السلاح قبل نهاية العام الجاري.
في المقابل، خرق الأجواء السوداوية، أمس الخميس، قرار مجلس الأمن تمديد ولاية قوة الأمم المتحدة المؤقتة العاملة في جنوب لبنان (يونيفيل) حتى 31 كانون الأول/ كانون الأول 2026، من دون أن يتضمّن أي تعديل على مهامها، بما يتماشى مع مطالب لبنان، وبدعم فرنسي، في حين جدّد المجلس دعوة إسرائيل إلى سحب قواتها من المواقع الخمسة التي لا تزال تحتلها، وأكد ضرورة بسط سلطة الدولة على كامل أراضيها. في هذا الإطار، تقول مصادر وزارية لـ”العربي الجديد” إنّ “جلسة الحكومة لا تزال قائمة حتى الساعة، لكن التعقيدات إلى تزايد، وكل شيء وارد حصوله، بما في ذلك التأجيل، إذ إنّ هناك انقسامات داخل مجلس الوزراء، ومطالبات بضرورة عدم السير بالمقررات التي اتُخذت في جلستي 5 و7 آب/ آب الحالي، خصوصاً بعد عودة أميركا عن تعهداتها، وعدم تقديم إسرائيل رداً على الورقة، وعدم تقديم أي ضمانات بوقف الاعتداءات والانسحاب، وبالتالي فإنّ عدم التزام إسرائيل يدفع لبنان بدوره إلى عدم الالتزام أيضاً”.
وتشير المصادر إلى أن “هذه المواقف عبّر عنها وزراء حزب الله وحركة أمل الممثلين في الحكومة، الذين يصرّون على ضرورة عدم السير بالمقررات ما دامت إسرائيل لم تلتزم بشيء، وعلى الرغم من تمسّك الحكومة بموقفها لناحية حصرية السلاح، لكنها باتت الآن في وضع صعب بعد نتائج جولة الموفد الأميركي الأخيرة، وهي تدرس كل الخيارات أمامها، بما يضمن مصلحة لبنان، ويؤكد البيان الوزاري وقسم الرئيس جوزاف عون”.
وتشدد المصادر على أن “لبنان فعل كل شيء، وبدأ بشكل جدي مسار حصر السلاح بيد الدولة، سواء السلاح المرتبط بحزب الله في جنوب نهر الليطاني، والعمليات المشتركة التي تحصل بين الجيش اللبناني ويونيفيل في هذا الإطار، وكذلك على صعيد السلاح الفلسطيني داخل المخيمات، ورأينا أمس واحدة من أكبر عمليات سحب السلاح، وستُستكمل في المرحلة المقبلة، في حين أن إسرائيل لم تفعل شيئاً، لا بل تواصل اعتداءاتها وخروقاتها اليومية للاتفاق”.
وتلفت المصادر إلى أن “هناك اتصالات تحصل مع الجانبين الأميركي والفرنسي للضغط على إسرائيل لتنفيذ التزاماتها، وتقديم ضمانات للبنان، إذ لا يمكن الاستمرار بمطالبة لبنان بالقيام بخطوات من دون إلزام إسرائيل بشيء، وهي التي تواصل خرقها اتفاق وقف إطلاق النار منذ 27 تشرين الثاني/ تشرين الثاني الماضي، بلا أي تحرك أو ردّ فعل دولي”، مشيرة إلى أن “هناك مساعي داخلية أيضاً لإجراء حوار بين الأفرقاء، وفق رغبة رئيس البرلمان نبيه بري، بما يضمن مصلحة لبنان، ويحمي الساحة الداخلية، وكذلك الجيش اللبناني”.
كذلك، تشير المصادر إلى أن “المؤسسة العسكرية صامدة، ومتماسكة، ولا استقالة لقائد الجيش، لكن هناك إصراراً من قبل الجيش اللبناني على وضع خطة غير صدامية تحمي الاستقرار والسلم الأهلي”. وأوضحت قيادة الجيش في بيان، اليوم الجمعة، ما تناولته وسائل إعلام من معلومات حول موقف القيادة من المهام التي تتولاها المؤسسة العسكرية في المرحلة الحالية، بحيث أكدت أنها “تنفذ مهامها بأعلى درجات المسؤولية والمهنية، والحرص على أمن الوطن واستقراره الداخلي، وفق قرار السلطة السياسية، والتزاماً بأداء الواجب مهما بلغت الصعوبات”.
وقالت إن “الواجب الوطني الذي يتشرف الجيش بأدائه هو التزام ثابت لا تراجع عنه، وقد بذل العسكريون من مختلف الرتب تضحيات كبيرة في هذا السياق خلال مختلف المراحل، بخاصة مع استمرار العدو الإسرائيلي في اعتداءاته على وطننا”.
إلى ذلك، قال مصدر عسكري لـ”العربي الجديد” إن الجيش اللبناني يستكمل اليوم تسلم السلاح الفلسطيني من حركة فتح في مخيم برج البراجنة في بيروت. ووسط هذه التطورات، تتجه الأنظار إلى الكلمة التي سيلقيها رئيس البرلمان نبيه بري يوم الأحد في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر ورفيقيه، والتي من المتوقع أن تكون حاسمة قبيل الجلسة المرتقبة لمجلس الوزراء، وتحدّد الخطوات أو الطروحات التي من الممكن السير بها، وسط تمسك بري المستمرّ بالتوافق والحوار مدخلاً أساسياً لأي أزمة.
ماكرون: انسحاب إسرائيل ووضع حد للانتهاكات شرطان لتنفيذ خطة لبنان
على صعيدٍ ثانٍ، قال الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إنه “تحدث مع الرئيس جوزاف عون ورئيس الوزراء نواف سلام، وقد جرى تجديد ولاية يونيفيل، التي تشارك فيها فرنسا بشكل فاعل، بالإجماع، وهذه رسالة مهمة وقد رحبنا بها”. وأضاف: “أشَدتُ بالقرارات الشجاعة التي اتخذتها السلطة التنفيذية اللبنانية من أجل استعادة حصر استخدام القوة بيد الدولة، وأشجّع الحكومة اللبنانية على اعتماد الخطة التي ستُعرض على مجلس الوزراء لهذا الغرض، وسيتوجّه مبعوثي الشخصي جان إيف لو دريان إلى لبنان للعمل يداً بيد مع السلطات على أولوياتنا فور اعتماد هذه الخطة”.
وأكد أن “الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من جنوب لبنان ووضع حد لجميع الانتهاكات للسيادة اللبنانية يُشكّلان شرطين أساسيين لتنفيذ هذه الخطة، وقد أكّدت فرنسا دائماً استعدادها للاضطلاع بدور في تسليم النقاط التي ما زالت تحت الاحتلال الإسرائيلي”، مشدداً على أنه “يجب أن يكون أمن لبنان وسيادته في أيدي السلطات اللبنانية وحدها”. وتابع ماكرون: “جدّدتُ للرئيس عون ورئيس الوزراء تأكيد عزمنا على تنظيم مؤتمرين بحلول نهاية هذا العام، الأول لدعم القوات المسلحة اللبنانية، الركيزة الأساسية لسيادة البلاد، والثاني من أجل نهوض لبنان وإعادة إعماره”. وختم: “أمنٌ مُستعاد، سيادةٌ مُعزَّزة، وازدهارٌ مستدام: هذا هو المستقبل الذي نريده للبنان، على صورة قوة أرزه الراسخة أبداً”.
وقفة احتجاجية رفضاً لإخلاء سبيل متهم بالعمالة
على مقلبٍ آخر، يزيد امتعاض حزب الله ومناصريه من الحكومة، ليس فقط بمقرراتها الأخيرة، إنما بخطوات تحصل في عهدها، يعتبرونها إرضاءً للإملاءات الأميركية، أبرزها إطلاق سراح أسير إسرائيلي من دون أي مبادلة قبل أسبوع، واليوم، إخلاء سبيل محيي الدين حسنة، بعد 22 شهراً على توقيفه، بقرار محكمة التمييز العسكرية برئاسة القاضي منير سليمان، لعدم كفاية الدليل، وعدم التمكّن من إثبات ضلوعه في التعامل مع إسرائيل، علماً أنه كان اتهم من قبل المحكمة العسكرية بالعمالة، وارتبط اسمه بمجزرتي “البيجرز” اللتين وقعتا في أيلول/ أيلول الماضي، وأدين بالسجن 15 عاماً.
ونُفذت صباح اليوم الجمعة وقفة احتجاجية أمام المحكمة العسكرية في بيروت “رفضاً لإخلاء سبيل عملاء للعدو”. واعتبرت هيئة ممثلي الأسرى والمحررين اللبنانيين أن قرار المحكمة فضيحة وطنية، مشيرة إلى أن “محيي الدين حسنة اعترف بقيامه بمسح إلكتروني شامل للضاحية الجنوبية وبيروت، وجمعه بيانات فنية حساسة عن شبكات الإنترنت لصالح العدو”، مستغربة توقيت إطلاق سراحه الذي جاء بعد زيارة الوفد الأميركي إلى لبنان والتصعيد ضد المقاومة.
زعم متحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، اليوم الجمعة، أن خللا فنيا خلال غارة في جنوب لبنان أسفر عن إصابة جنود لبنانيين، في وقت أعلن فيه أمس الخميس عن وقوع شهيدين من الجيش اللبناني نتيجة انفجار مسيّرة إسرائيلية سقطت في منطقة رأس الناقورة. وذكر الجيش اللبناني، أمس الخميس، أن جنديين قتلا وأصيب آخران إثر سقوط طائرة مسيرة إسرائيلية وانفجارها في منطقة رأس الناقورة، جنوب لبنان، وقال في بيان إنه في “أثناء كشف عناصر من الجيش على مسيّرة تابعة للعدو الإسرائيلي بعد سقوطها في منطقة الناقورة، انفجرت ما أدى إلى استشهاد ضابط وعسكري وجرح عنصرين آخرين”.
وذكر الجيش الإسرائيلي في بيان، اليوم الجمعة، أنه هاجم أمس “آلية هندسية في منطقة الناقورة في جنوب لبنان كانت تهم بإعادة إعمار بنى تحتية عسكرية لحزب الله في المنطقة. وقع خلال الغارة خلل فني أسفر عن عدم انفجار الذخيرة وسقوطها على الأرض حيث وردت في ما بعد تقارير عن إصابة عدد من عناصر الجيش اللبناني”. وأضاف “يبدي الجيش الإسرائيلي أسفه لإصابة جنود الجيش اللبناني وسيتم التحقيق في الحادث”. وقال الرئيس اللبناني جوزاف عون إنّ “الجيش يدفع مرة أخرى بالدم ثمن المحافظة على الاستقرار في الجنوب”، مشيرًا إلى أنّ “هذا الحادث هو الرابع الذي يستشهد فيه عسكريون منذ بدء انتشار الجيش في منطقة جنوب الليطاني.
وتزامنت الحادثة مع تصويت مجلس الأمن بالإجماع على تمديد مهمة بعثة حفظ السلام في جنوب لبنان حتى نهاية عام 2026، بعد نحو خمسة عقود من عملها هناك. وبموجب القرار الأممي، تنتهي عمليات بعثة “اليونيفيل” في جنوب لبنان بنهاية عام 2026، وتبدأ عملية سحب قواتها، البالغ قوامها 10.800 فرد عسكري ومدني إلى جانب المعدات، فوراً بالتشاور مع الحكومة اللبنانية، على أن تكتمل العملية في غضون عام.
أعاد قرار الحكومة اللبنانية بتكليف الجيش إعداد خطة لحصر السلاح بيد الدولة فتح أحد أعقد الملفات التي تراكمت منذ انتهاء الحرب الأهلية، وهو سلاح حزب الله. فهذا السلاح، الذي وُلد في رحم الاحتلال الإسرائيلي للجنوب في ثمانينيات القرن الماضي، وتحوّل لاحقا إلى قوة إقليمية تتجاوز حدود لبنان، يجد نفسه اليوم أمام امتحان غير مسبوق. فالقرار الحكومي جاء في سياق ضغوط أميركية متصاعدة، وحسابات إسرائيلية ترى اللحظة مناسبة للتخلص من خطر الحزب، ومواقف إيرانية تعتبر أن أي نقاش حول نزع السلاح هو استهداف مباشر لمعادلة الردع التي بنَتها طهران على مدى عقود.
وفي الداخل اللبناني، ينقسم المشهد بين رئاسة وحكومة تتذرعان بتعزيز صورة الدولة وسيادتها، وقوى سياسية ترى في القرار فرصة لإعادة التوازن، في مقابل حزب يعتبر السلاح ضمانة وجودية لا يمكن التنازل عنها. وبين هذه الأطراف، يقف لبنان على مفترق طرق خطير: إما أن يمضي في مسار نزع سلاح حزب الله بما يحمله من مخاطر احتراب أهلي، وإما أن يُبقي عليه رغم ما يجرّه من عزلة وضغوط خارجية.
الضغط الأميركي: بين العصا والجزرة
يبرز الموقف الأميركي بوصفه محرّكا أساسيا لملف نزع سلاح حزب الله، إذ ترى واشنطن أن اللحظة الراهنة، بعد تصفية أغلب قيادة الحزب وقصف المنشآت النووية الإيرانية، تُمثِّل نافذة ذهبية ينبغي استغلالها لإعادة صياغة المشهد في لبنان، وتهميش حزب الله. وفي هذا السياق برز اسم توم باراك، المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا ولبنان، الذي برز منذ صيف 2025 بصفته مهندس الخطة الأميركية الجديدة تجاه لبنان بعد أن تولى الإشراف على الملف بدلا من مورغان أورتاغوس، نائبة المبعوث الخاص للولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط.
حمل توم باراك إلى بيروت ثلاث وثائق ومذكرات شكّلت أساس إستراتيجية واشنطن الجديدة تجاه لبنان، وتمحورت حول نزع سلاح حزب الله وفق جدول زمني واضح ومُلزِم، وتفكيك مؤسسة “القرض الحسن” الذراع المالية للحزب، والبدء الفوري بنزع سلاح المخيمات الفلسطينية، تحت لافتة حصر السلاح بيد الدولة.
إعلان
عُرفت الوثيقة الأهم التي قدمها باراك في حزيران/حزيران 2025 للحكومة اللبنانية باسم “الورقة الأميركية لضمان ديمومة وقف الأعمال العدائية”، التي ناقشها اجتماع لمجلس الوزراء اللبناني في 5 آب/آب، ثم أقرّها المجلس في جلسة أخرى بعد يومين. واستندت هذه الوثيقة إلى اتفاق الطائف وقرارَيْ مجلس الأمن 1559 و1701 اللذين أكَّدا حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية.
تضمنت الوثيقة خطة من مراحل متدرجة تنتهي بنهاية كانون الأول/كانون الأول 2025 لنزع سلاح حزب الله بشكل كامل، وتلزم الحكومة اللبنانية بصياغة جدول زمني لنزع سلاح الحزب، بحيث يبدأ خلال فترة تتراوح من 15 إلى 60 يوما بمصادرة الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة وصواريخ أرض جو، ثم يتدرج نحو السلاح المتوسط بما يشمل مدافع الهاون والقنابل اليدوية والمتفجرات. وفي المقابل، نصت الوثيقة على بعض الخطوات التي يُفترض أن تلتزم بها إسرائيل، مثل أن يبدأ جيش الاحتلال في اليوم 45 بالانسحاب التدريجي من النقاط الخمسة التي يحتلها في جنوب لبنان، ووقف الغارات الجوية.
ربط باراك هذه المطالب بسلسلة من الضغوط، فقد لوّح علنًا بأن أي تباطؤ حكومي لبناني في التنفيذ سيؤدي إلى تعليق الدعم الدولي، وحرمان لبنان من مساعدات إعادة الإعمار، وأشار إلى فتح المجال لإسرائيل كي تتصرف بحرية كاملة في الساحة اللبنانية، وأكد أن المفاوضات الأميركية – الإسرائيلية بشأن ترتيبات وقف إطلاق النار ستتوقف تماما ما لم تُظهر بيروت تقدما ملموسا. وبذلك، تحوّلت وثائق باراك إلى ما يشبه الإنذار النهائي، إما السير في طريق نزع سلاح حزب الله، وإما مواجهة عزلة دولية وضغوط إسرائيلية متصاعدة. وقد فهمت بيروت الرسالة بوضوح، وهي ضرورة ترجمة القرارات الحكومية إلى خطوات عملية.
حمل توم باراك إلى بيروت ثلاث وثائق ومذكرات شكّلت أساس إستراتيجية واشنطن الجديدة تجاه لبنان (غيتي)
التحفز الإسرائيلي
من زاوية تل أبيب، يُمثِّل الوضع الراهن لحظة مثالية للتخلص من حزب الله. فالحزب تعرض لضربات قاسية، من أبرزها تصفية أغلب قياداته، وتدمير بنيته التحتية، وفقدانه خط إمداده مع سقوط نظام الأسد في سوريا. وقد اعتبرت إسرائيل أن عدم تدخل الحزب خلال حرب “الأيام الـ12” مع إيران دليل على تآكل قدرات الحزب.
وانطلاقا من ذلك، طرحت إسرائيل شروطا قصوى لنزع السلاح، فرضت مبدأ “خطوة مقابل خطوة”، وشددت على تفكيك ترسانة الحزب بالكامل قبل أي انسحاب لجيشها من الأراضي اللبنانية المحتلة أو وقف للغارات الجوية، كما تتحفظ على عودة سكان قرى الحد الأمامي في الجنوب اللبناني إلى أراضيهم، وطلبت إخلاء عدد من القرى اللبنانية على الحدود لتصبح منطقة عازلة بين البلدين.
إن هذه المقاربة الإسرائيلية تحمل مخاطر متنوعة، فالإصرار على شروط قصوى سيدفع حزب الله إلى التصلب، وربما التصعيد إذا شعر أن وجوده مهدد بالكامل. كما أن تجاهل هشاشة التوازن اللبناني الداخلي قد يؤدي إلى فوضى ستعود بالضرر على إسرائيل نفسها.
حزب الله يعتبر السلاح ضمانة وجودية لا يمكن التنازل عنها (مواقع التواصل الإجتماعي)
الحكومة اللبنانية ومفترق الطرق
تقف الحكومة اللبنانية، بتركيبتها التكنوقراطية برئاسة نواف سلام، وقيادة الرئيس جوزيف عون، أمام منعطف جوهري: إما الامتثال للمطالب الأميركية والإقليمية شرطا لوقف اعتداءات إسرائيل والحصول على دعم من صندوق النقد والبنك الدولي ومن أطراف عربية، أو المخاطرة بالبقاء في عزلة مالية ودبلوماسية قد تعجّل بانهيار ما تبقى من مؤسسات الدولة. وبجوار تلك الثنائية تبرز حسابات سياسية داخلية لا تقل أهمية، فالنخبة السياسية التي تتصدر المشهد الحكومي أرادت أن ترسل رسالة إلى الشارع اللبناني الغاضب من تردي الأوضاع بأنها تسعى لفرض هيبة الدولة، ورسالة ثانية إلى القوى المسيحية والسنية المناهضة لحزب الله بأنها غير خاضعة لفيتو الثنائي الشيعي حزب الله وحركة أمل.
إعلان
ولذلك حرص نواف سلام على استخدام خطاب سيادي مرتفع السقف خلال لقائه مع علي لاريجاني، أمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني، سعيا لتأكيد أن القرار اللبناني بات خارج دائرة الوصاية الإيرانية. لكن الحكومة تدرك في الوقت ذاته أن أي محاولة لفرض نزع سلاح الحزب بالقوة قد يقود إلى حرب أهلية. ومن هنا جاء تكليفها للجيش بصياغة خطة نزع السلاح، بما يفتح الباب للتفاوض مع الحزب وحركة أمل على الجدول الزمني والآليات.
حزب الله: رفض القرار والتهديد بالحرب الأهلية
منذ اللحظة الأولى لصدور قرار مجلس الوزراء بحصر السلاح بيد الدولة، سارع حزب الله إلى إعلان رفضه القاطع له، واعتبر أن القرار “غير ميثاقي” لأنه اتُّخذ دون توافق وطني، فيما انسحب وزراء حزب الله وحركة أمل من الجلسة الحكومية التي ناقشت نزع السلاح. وبهذا المعنى، رفض الحزب الاعتراف بشرعية القرار من أساسه، وصرح في بيان رسمي بأنه سيتعامل معه كأنه غير موجود. وساق على لسان أمينه العام نعيم قاسم عدة دوافع لرفض القرار، وهي تدور حول أربعة محاور رئيسية:
المحور الوطني الأمني: أصر الحزب على أن سلاحه هو الذي دفع إسرائيل للانسحاب من جنوب لبنان في عام 2000، ومنع جيش الاحتلال في عام 2024 من احتلال الجنوب بالكامل فضلا عن الوصول إلى بيروت. وشدد على أن إسرائيل لم تنسحب بعد وقف إطلاق النار الأخير بالكامل من الأراضي اللبنانية، فما زالت تحتل خمس تلال حاكمة بالجنوب، فيما غاراتها الجوية مستمرة، وبالتالي فإن الحديث عن تسليم السلاح في ظل هذا الواقع يُعدّ استسلاما مجانيا لإسرائيل.
المحور الطائفي الهوياتي: يعكس خطاب قادة الحزب -من نعيم قاسم إلى نواب كتلة “الوفاء”- قناعة متجذرة بأن السلاح يُمثِّل ضمانة وجودية للطائفة الشيعية. وفي هذا السياق، تتكرّر في أحاديثهم عبارة “التسليم يعني الانتحار” أو “تسليم الشرف”، لتقديم السلاح بوصفه حدّا فاصلا بين حياة الطائفة وموتها. مع استدلالهم بما حدث للعلويين في منطقة الساحل بسوريا، وللدروز في السويداء. ومن خلال هذا الخطاب، يحاول الحزب تحويل النقاش من كونه ملفا سياسيا عسكريا إلى كونه مسألة وجود وبقاء للطائفة الشيعية.
المحور الإقليمي الإستراتيجي: يشدد الحزب على أن الأوضاع في سوريا غير مستقرة، وأن المنطقة قد تدخل في فوضى لا تُبقي ولا تذر، كما يتخوف من إشارات المبعوث توم باراك بإلحاق لبنان بسوريا الجديدة. كذلك يدرك الحزب أن أي تفكيك لترسانته سيُضعف إيران في معادلة الردع الإقليمي، ويعتبر أن الضغط يندرج ضمن توجه عام بنزع سلاح الجماعات والمكونات المحسوبة على طهران، فالحشد الشعبي يتعرض لضغوط لإعادة هيكلته ودمجه داخل بنية القوات المسلحة العراقية، فيما تعمل إسرائيل على قضم مساحات واسعة من الجنوب السوري، وفرض معادلة إخلاء المنطقة الممتدة من جنوب دمشق إلى الجولان من أي سلاح ثقيل.
محور التشكيك في الضمانات الأميركية: يعتبر حزب الله أن أي تعويل على واشنطن هو وهم، لذا يقول نعيم قاسم: “مَن يراهن على الضمانات الأميركية واهم، فهذه الضمانات لا تُعطي أمانا للبنان ولا تحميه من العدوان، بل تُقدَّم فقط لحماية إسرائيل ومصالحها. نحن لا نثق بوعود أميركا، ولا نقبل أن نرهن مستقبل لبنان بضمانات أثبتت الوقائع أنها مجرّد حبر على ورق”. وأشار قاسم إلى اقتصار تعهد باراك في مواجهة أي خروقات إسرائيلية بالحصول على إدانة من مجلس الأمن. وبهذا التشكيك يسعى الحزب إلى تعزيز شرعية رفضه للقرار الحكومي وتبرير تمسّكه بالسلاح باعتباره الضمانة الوحيدة لأمن لبنان، وخارجيا، توجيه رسالة بأن الضغوط الأميركية تستدرج لبنان لتسليم أوراق قوته بما يمهد لإضعافه في مواجهة الطموحات التوسعية الإسرائيلية.
وفي مواجهة تلك الضغوط، أطلق الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم سلسلة من التصريحات التي شدد فيها على “أن كل مَن يطالب بتسليم السلاح، داخليا أو خارجيا أو عربيا أو دوليا، يخدم المشروع الإسرائيلي، مهما كان اسمه، ومهما كانت صفته… الحكومة اللبنانية تنفذ الأمر الأميركي الإسرائيلي بإنهاء المقاومة، ولو أدى ذلك إلى حرب أهلية وفتنة داخلية، وتتحمل مسؤولية أي انفجار داخلي، وأي خراب للبنان”. وبهذا الخطاب، رفع قاسم السقف إلى حدّ إشهار شبح الحرب الأهلية بوصفها أداة ردع في وجه الحكومة والضغوط الأميركية.
أعلن إيرج مسجدي، مسؤول التنسيق بفيلق القدس بالحرس الثوري، أن خطة نزع سلاح حزب الله هي خطة أميركية صهيونية (الفرنسية)
الموقف الإيراني الداعم
رفضت إيران بشكل قاطع نزع سلاح حزب الله، فأعلن إيرج مسجدي، مسؤول التنسيق بفيلق القدس بالحرس الثوري، أن خطة نزع سلاح حزب الله هي خطة أميركية صهيونية، فيما وصف أكبر ولايتي، مستشار المرشد للشؤون الدولية، سلاح الحزب بأنه “رأس مال للبنان”. وشكَّلت زيارة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني إلى بيروت في آب/آب 2025 تتويجا لهذا الموقف. فخلال اجتماعاته مع الرئيس عون ورئيس الوزراء سلام، حاول لاريجاني تثبيت موقف يعتبر أن المقاومة خيار إستراتيجي للبنان، فيما أبلغ الرئيس عون ورئيس الحكومة ضيفهما بأن “قرار نزع السلاح شأن لبناني سيادي”.
إعلان
وفي العمق، تنظر طهران إلى سلاح الحزب من زاوية تتجاوز لبنان، حيث تعتبره ركيزة في معادلة الردع الإقليمي، إذ يظل الحزب قادرا على فتح جبهة الشمال ضد إسرائيل إذا اندلعت مواجهة كبرى. ومن هنا، تُقرأ في طهران أي محاولة لتفكيك ترسانة الحزب بوصفها جزءا من مشروع يستهدف حصارها، ومن ثم تشدد على مواصلة دعمها للحزب وتتعهد بمساعدته على ترميم ما لحق به من خسائر.
خيارات حزب الله
منذ بدء تطبيق وقف إطلاق النار في تشرين الثاني/تشرين الثاني 2024، تجاوب حزب الله مع نزع سلاحه في جنوب نهر الليطاني سعيا لامتصاص الضغط الدولي والحصول على استراحة للتعافي وإعادة ترتيب أوراقه، فيما كرر مقولته التي تربط مسألة السلاح بالحوار الوطني حول “الإستراتيجية الدفاعية للبنان”.
يدرك الحزب أن الدخول في مواجهة مباشرة مع الدولة اللبنانية، في ظل التوازنات الحالية، قد يؤدي إلى حرب أهلية مفتوحة تضره وتضر لبنان. ولذلك يُفضِّل إبقاء الباب مفتوحا للحوار، مع التلويح بالتصعيد دون الذهاب إليه، على أمل تغير المعطيات الإقليمية من قبيل اتضاح أبعاد ونتائج ملف المفاوضات الإيرانية الأوروبية والأميركية، وتبلور توجهات الإدارة الجديدة في سوريا.
ولكن مع صدور قرار الحكومة بنزع سلاحه، لجأ الحزب إلى التحرك الميداني المحسوب، فحرّك أنصاره في مسيرات ليلية بالدراجات النارية في الضاحية الجنوبية وبعض أحياء بيروت، في استعراض للقوة الشعبية، دون أن يذهب إلى حدّ التصعيد الواسع الذي يجرّ البلاد إلى صدام مباشر مع الجيش.
وسعى الحزب عبر هذه التحركات لتوجيه رسالة بأنه لا يزال قادرا على تحريك الشارع عند الحاجة، وأن أي محاولة جدية للمُضي في تنفيذ القرار الحكومي ستُواجَه بتوترات يصعب احتواؤها، فيما هدد أمينه العام بتوجيه المظاهرات مستقبلا نحو السفارة الأميركية. وقد ربط الحزب الحوار حول نزع سلاحه بانسحاب إسرائيل أولا من الجنوب ووقف اعتداءاتها على لبنان، وهو ما ترفضه واشنطن التي تشدد على نزع سلاح الحزب أولا قبل انسحاب إسرائيل.
المستقبل الغامض
في نهاية المطاف، تكشف أزمة نزع سلاح حزب الله عن مأزق لبناني يتجاوز ثنائية الدولة والمقاومة. فبينما يرى كثيرون في قرار حصر السلاح بيد الدولة خطوة نحو استعادة السيادة وبناء مؤسسات قادرة، يراه آخرون قفزا نحو المجهول قد يفتح الباب أمام صدام داخلي ويكشف لبنان أمام أخطار إقليمية وجودية.
فالحكومة اللبنانية تتحرك في ظل ضغوط اقتصادية خانقة، واشتراطات دولية صارمة، وتحاول إعادة ترميم صورة الدولة المنهكة، لكنها تدرك أن التنفيذ الكامل لأي خطة نزع للسلاح أمامه عقبات وتحديات داخل المجتمع نفسه، وربما في الجيش. أما حزب الله، فيتحرك تحت وطأة حسابات حساسة، فلديه بقايا ترسانة عسكرية بنى عليها معادلة الردع مع إسرائيل، وقاعدة مجتمعية تعتبر السلاح ضمانة وجود، وارتباط إستراتيجي بمحور إقليمي يرى في السلاح ورقة نفوذ لا يمكن التفريط بها مجانا.
من هنا، يبدو أن الطرفين، أي الحكومة وحزب الله، يشتركان في إدراك أن الاصطدام المباشر ليس خيارا واقعيا في اللحظة الراهنة. فالحكومة، رغم تشدد خطابها، لا تبدو مستعدة لدفع البلاد إلى مواجهة مفتوحة، والحزب، رغم رفضه القاطع، لا يسعى إلى تفجير الوضع من الداخل.
وهكذا، يجد لبنان نفسه مجددا أمام معضلة لا يمكن حسمها بقرار محلي صرف، ولا بفرض إرادة خارجية. وكما ارتبطت نشأة حزب الله وصعوده بتحولات كبرى في لبنان وإيران وفلسطين وسوريا، فمستقبل سلاحه يظل رهينة للتوازنات الإقليمية والدولية، أكثر من كونه نتاجا للتوازنات الداخلية. وفي ظل غياب تسوية شاملة تعالج جذور الأزمة، قد يبقى ملف حزب الله معلَّقا على حبال انتظار تحولات تُرسم خطوطها العريضة في عواصم الإقليم ومراكز القرار الدولي، لا داخل لبنان فقط.
مفكر وسياسي وكاتب لبناني بارز وُلد عام 1917، دخل معترك الحياة السياسية في سن الـ25، وتمكّن من الفوز بمقعد في مجلس النواب اللبناني، عُرف بفكره الإصلاحي وجهوده في إرساء مبادئ العدالة الاجتماعية وتعزيز التنمية في لبنان بعد الاستقلال، وفي عام 1946 تولى في وقت واحد 3 حقائب وزارية هي: الاقتصاد الوطني، والزراعة، والشؤون الاجتماعية، لكن مسيرته انقطعت باغتياله في 16 آذار/آذار 1977 إثر عملية مسلحة وقعت في بلدة دير دوريت بوسط لبنان.
المولد والنشأة
وُلد كمال جنبلاط يوم 6 كانون الأول/كانون الأول 1917 في بلدة مختارة بجبل لبنان، وسط عائلة درزية عريقة ذات مكانة سياسية واجتماعية بارزة، فقد والده فؤاد جنبلاط إثر عملية اغتيال، فتولت والدته نظيرة جنبلاط رعايته وتعليمه، وكان لها أثر عميق في تكوين شخصيته ومساره.
نشأ في كنف عائلة صغيرة، كان له شقيقتان: ليلى التي رحلت مبكرا في سن الرابعة بسبب الحمى، وليندا التي تزوجت من حكمت جنبلاط قبل أن تُغتال في منزلها بالعاصمة اللبنانية بيروت يوم 27 أيار/أيار 1976.
عام 1948 تزوج كمال جنبلاط من مي أرسلان ابنة الأمير شكيب أرسلان، والتي عُرفت بثقافتها الواسعة، ورُزقا بعد عام بابنهما الوحيد وليد.
الدراسة والتكوين
تلقى تعليمه على يد المربية الخاصة ماري غريب، وهي خريجة مدرسة كاثوليكية من بلدة الدامور، ثم التحق بمدرسة عينطورة في كسروان، والتي درس فيها طلاب من مختلف المناطق والطوائف، وهناك لمع نبوغه فاشتهر بتفوقه الأكاديمي وحبه للمطالعة، ووفقا لشهادات زملائه وأساتذته فقد كان يواصل القراءة على ضوء الشموع بعد انطفاء المصابيح.
كانت عائلته ميسورة، وعُرف بسخائه وحسه الاجتماعي، إذ كان يخصص -سرا- جزءا من مصروفه لمساعدة زملائه الفقراء في تغطية نفقات دراستهم، وظنت والدته أنه كان ينفق المال على رفاهيته، لكنها سرعان ما اكتشفت مبادرته الإنسانية، فزاد اعتزازها به.
وإلى جانب دراسته اهتم منذ صغره بالقضايا القومية، ففي عام 1936 تقدم إلى إدارة المدرسة مطالبا باعتبار يوم استقلال مصر عطلة رسمية تكريما لأول دولة عربية تتحرر من الاستعمار البريطاني، وقوبل طلبه حينها بالموافقة.
تميز جنبلاط بقدرات لغوية لافتة، فقد أتقن اللغات العربية والفرنسية والإنجليزية، كما كان ملما باللغات الهندية واللاتينية والإسبانية والإيطالية.
بعد إنهائه الدراسة الثانوية كان كمال جنبلاط ميالا إلى دراسة الهندسة لانسجامها مع اهتماماته العلمية، لكن والدته رغبت في أن يسلك طريق القانون، ليواصل نهج العائلة السياسي العريق المرتبط بزعامة الطائفة الدرزية.
إعلان
استجاب لرغبتها فسافر إلى العاصمة الفرنسية باريس، حيث التحق بجامعة السوربون لدراسة الحقوق، وفي الوقت نفسه تابع مقررات في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع، مما أسهم في بلورة رؤيته الفكرية المتنوعة.
وليد جنبلاط الابن الوحيد لكمال جنبلاط (الفرنسية)
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية اضطر للعودة إلى لبنان واستكمل دراسته في الجامعة اليسوعية ببيروت، انعكست ظروف الحرب على الحياة المعيشية في البلاد، إذ عانى اللبنانيون من نقص حاد في المواد الغذائية وارتفاع كبير في الأسعار، الأمر الذي دفعه إلى التحرك من أجل مواجهة هذا الوضع.
أسس كمال جنبلاط مع مجموعة من زملائه جمعية تعاونية استهلاكية عملت على استيراد القمح من منطقة حوران السورية وتوزيعه على القرى اللبنانية بسعر التكلفة، وهي مبادرة حظيت بترحيب واسع بين الأهالي.
التجربة السياسية
كان جنبلاط في الـ25 من عمره حين خاض انتخابات مجلس النواب اللبناني عام 1943 وفاز بمقعده البرلماني، معلنا دخوله الرسمي إلى الساحة السياسية.
وفي خطابه الأول تحت قبة البرلمان أكد دعمه المطلق لاستقلال لبنان كله، داعيا إلى وحدة الجهود بين الشعب والحكومة لتحقيقه.
وعقب استقلال لبنان عن الانتداب الفرنسي في العام نفسه بدأ جنبلاط يتابع أداء الحكومات الجديدة، مركزا على قضايا التنمية والإصلاح الاجتماعي، لكن ضعف الإدارة وغياب التوجهات الشعبية الداعمة للتغيير سرعان ما دفعاه إلى الانتقال من موقع الموالاة إلى صفوف المعارضة، متخذا مواقف ناقدة للسلطة.
وفي عام 1946 شارك كمال جنبلاط مع عدد من الشخصيات السياسية البارزة في توقيع عريضة وُجهت إلى رئيس الجمهورية بشارة الخوري دعت فيها إلى تشكيل حكومة من شخصيات مشهود لها بالنزاهة والكفاءة، لحماية استقلال البلاد الذي اعتبرته مهددا بالضياع.
ومع نهاية العام شُكّلت حكومة جديدة أسندت إليه فيها 3 حقائب وزارية دفعة واحدة: الاقتصاد الوطني والزراعة والشؤون الاجتماعية في أول تجربة وزارية له.
كمال جنبلاط (وسط) أثناء مشاوراته مع مقاتليه في منطقة الشوف الجبلية إثر الاضطرابات الداخلية في لبنان (الفرنسية)
في الفترة التي تولى فيها تلك المناصب خاض معركة شرسة ضد الفساد الإداري، ووصل به الأمر إلى التنكر لزيارة المرافق الحكومية والجمارك بنفسه لكشف التجاوزات، لكن تجربته أظهرت له أن الفساد عميق ومتجذر، وأن معالجته تحتاج إلى إصلاحات جذرية لا تقتصر على ملاحقة فردية، مما دفعه إلى تقديم استقالته.
أحدثت تلك الاستقالة توترا حادا في علاقته بالرئيس بشارة الخوري، وبلغ الخلاف بينهما ذروته في مهرجان دير القمر التاريخي الذي مثّل محطة حاسمة أسهمت في نهاية عهد الخوري وسقوطه عام 1952.
الحزب التقدمي الاشتراكي
بين عامي 1947 و1949 عمل كمال جنبلاط مع نخبة من المفكرين والسياسيين اللبنانيين -من بينهم فؤاد رزق وعبد الله الحاج وسعيد فريحة وأنور الفطايري- على صياغة الأسس الفكرية والبرنامج السياسي لمشروع جديد تمخض عن تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي الذي وضع جنبلاط بنفسه مبادئه ورؤيته.
وفي الأول من أيار/أيار 1949 أعلن رسميا عن تأسيس الحزب، وألقى جنبلاط خطابا أمام العمال والفلاحين وأصحاب الحرف قال فيه “في يوم العمال، بين الفلاحين والصناع وأرباب الحرف القابضين بأيديهم على القوى الكامنة في الشعب نعلن عن ولادة الحزب التقدمي الاشتراكي، نعم سيكون لنا أعداء، لكنهم أيضا أعداء التقدم والتطور والحياة الإنسانية الشريفة”.
كمال جنبلاط (يمين) أثناء لقائه الرئيس المصري أنور السادات عام 1976 (الفرنسية)
لكن انطلاقة الحزب واجهت منذ بداياتها تحديات صعبة فرضها الواقع اللبناني القائم على التنوع الطائفي وضعف الانتماء الوطني والقومي، ولمواجهة ذلك بادر جنبلاط عام 1951 إلى تأسيس الجبهة الاشتراكية التي جمعت قوى اليسار والقوميين والتقدميين في إطار واحد.
إعلان
ومع وصول الرئيس كميل شمعون إلى الحكم اتخذ جنبلاط موقع المعارضة، معتبرا سياساته رجعية ومعادية للعروبة، خصوصا مع سعي شمعون إلى ربط لبنان بالولايات المتحدة والغرب وحتى إسرائيل، في مواجهة مشروع القومية العربية بقيادة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.
وتصاعد الخلاف إلى ذروته في “أزمة 1958” حين اندلعت مواجهة مسلحة محدودة بين أنصار شمعون ومعارضيه، وقف جنبلاط في صف التيار القومي، وكان له دور أساسي في تقويض سياسات شمعون والمساهمة في سقوطه، ليُنتخب فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية في العام نفسه.
الدور الإصلاحي
تولى كمال جنبلاط وزارة التربية الوطنية في عهد الرئيس فؤاد شهاب، وعمل في تلك الفترة على إنشاء مدارس ثانوية في المناطق المهمشة، من ضمنها منطقة البقاع والجنوب والشمال اللبناني.
ولاحقا، تولى وزارة الداخلية في عهد الرئيس شارل الحلو، وسعى إلى تعزيز علاقة لبنان بمنظمة التحرير الفلسطينية، وحماية اللاجئين الفلسطينيين من أي اعتداء.
وبرز موقفه الإنساني والسياسي اللافت بعد نكبة 1948، إذ وزع مساحات واسعة من أراضيه الخاصة -بما فيها منطقة تل الزعتر- على اللاجئين الفلسطينيين، كما حدد أهدافه الإصلاحية أثناء توليه الحقائب الوزارية في ما يلي:
فصل القوى العسكرية عن الأجهزة الأمنية.
ضمان حرية التظاهر وتشكيل الأحزاب.
دعم المقاومة الفلسطينية بمختلف فصائلها.
إطلاق سراح المعتقلين السياسيين.
رفع الرقابة الأمنية ومنح حرية السفر.
ومع انتخاب سليمان فرنجية رئيسا للجمهورية عام 1971 أبدى جنبلاط في البداية دعمه للعهد الجديد، خصوصا فيما يتعلق بالحريات العامة والإصلاحات الاجتماعية، مثل تحسين الضمان الصحي وتخفيف الرقابة الأمنية.
لكنه اعترض بشدة على محاولات فرنجية إلغاء أو تفكيك المؤسسات التي أُنشئت في عهد فؤاد شهاب، والتي كان هدفها تحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد.
تفاقمت الخلافات بينهما بعد صدامات عام 1973 بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية إثر عملية اغتيال إسرائيلية على الشواطئ اللبنانية استهدفت قيادات بارزة، منها كمال ناصر وكمال عدوانوأبو يوسف النجار.
رفض كمال جنبلاط حينها استخدام الجيش ضد المقاومة الفلسطينية، مؤكدا حقها في الوجود والعمل داخل لبنان.
كمال جنبلاط (وسط) دعم فصائل المقاومة الفلسطينية ودافع عن حقها في العمل من لبنان (غيتي)
ومع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 عقب حادثة عين الرمانة برز جنبلاط زعيما للحركة الوطنية اللبنانية، وطرح برنامجا سياسيا إصلاحيا، داعيا إلى وقف إطلاق النار.
المؤلفات
أصدر جنبلاط عددا من الكتب التي تناولت قضايا سياسية واجتماعية وإنسانية عدة، أبرزها:
حقيقة الثورة اللبنانية.
في مجرى السياسة اللبنانية عام 1958.
لبنان وحرب التسوية.
ثورة في عالم الإنسانية.
أدب الحياة.
هذه وصيتي.
حقيقة الفكرة القومية السورية.
ربع قرن من النضال.
التوحيد في ضوء البحث والتنقيب.
الإنسان والحضارة.
رسالتي العدالة الإنسانية.
كمال جنبلاط اغتيل يوم 16 آذار/آذار 1977 بعد تعرضه لكمين مسلح في منطقة دير دوريت بجبل لبنان (غيتي)
الاغتيال
صباح يوم 16 آذار/آذار 1977 تعرّض كمال جنبلاط لكمين مسلح في منطقة دير دوريت بجبل لبنان أثناء توجهه من بلدة بعقلين إلى كفرحيم.
حينها أُطلق عليه وابل من الرصاص أرداه قتيلا فورا عن عمر ناهز 59 عاما، كما قُتل سائقه وأحد مرافقيه، وشكّل اغتياله صدمة كبيرة على المستويات المحلية والعربية والدولية.
واعتُبرت عملية الاغتيال محطة مفصلية في مسار الحرب الأهلية اللبنانية وفي توازن القوى في البلاد، وفورا أعلنت القوات السورية والعربية العاملة ضمن قوات الردع العربي حالة استنفار تحسبا لأي تطورات أمنية.
وفي العاصمة المصرية القاهرة وصف رئيس منظمة التحرير الفلسطينية يومها ياسر عرفات اغتيال جنبلاط بـ”المأساة”، مشيدا بدوره السياسي والعسكري الكبير، قائلا إنه كان بمثابة “جيش يقاتل إلى جانب المقاومة”.