يطلّ لبنان على أسبوع حافل بالمشاورات السياسية والاتصالات الداخلية والخارجية المكثفة، قبيل انعقاد جلسة مجلس الوزراء، يوم الجمعة، لمناقشة الخطة التطبيقية لحصر السلاح، وسط ترقّب لردات الفعل على مبادرة الحوار التي أطلقها رئيس البرلمان نبيه بري أمس الأحد. وشنّ بري أمس هجوماً على الورقة الأميركية، رافضاً السير بها، من دون أن يقفل الباب في المقابل على ملف حصر السلاح بيد الدولة، معرباً عن الانفتاح على مناقشة مصيره في إطار خريطة طريق تقوم على حوار هادئ توافقي، تحت سقف الدستور وخطاب القسم والبيان الوزاري والقوانين والمواثيق الدولية، بما يفضي إلى صياغة استراتيجية للأمن الوطني تحمي لبنان، وتحرّر أرضه، وتصون حدوده المعترف بها دولياً.
وتأتي مبادرة بري قبل أيام من الجلسة المنتظرة لمجلس الوزراء يوم الجمعة المقبل، بعدما كانت مقرّرة غداً الثلاثاء، إفساحاً في المجال أمام التوافق على حلّ يجنّب لبنان أي سيناريو صدامي، ولا سيما مع الجيش اللبناني، علماً أنّ الأنظار تبقى أيضاً على التهديد الإسرائيلي، الذي ترتفع وتيرته ويُترجم ميدانياً بتكثيف الغارات، للضغط على لبنان بغية التسريع في عملية نزع سلاح حزب الله، وكذلك أميركياً، في ظل التلويح بإمكان نزع السلاح بالقوة العسكرية.
وتتمسّك القوى المعارضة لحزب الله وحركة أمل بضرورة سير الحكومة بخطة سحب السلاح وعدم التراجع عن ذلك، معتبرة أن الفرصة اليوم متاحة لإنهاء هذا الملف، خصوصاً أن كل محاولات الحوار السابقة قد فشلت، ملوّحة بأن أي تأخير أو مماطلة أو خطوات رمادية من شأنها أن تزيد المخاطر على لبنان. وبحسب معلومات “العربي الجديد”، فإن “مبادرة بري قيد الدرس من قبل الرئيسين جوزاف عون ونواف سلام، وهما حريصان على السير بأي خطوة من شأنها أن تجنّب البلاد أي صدام، لكن في الوقت نفسه متمسّكان بالمضي قدماً بحصر السلاح بيد الدولة، وكذلك بانعقاد جلسة مجلس الوزراء يوم الجمعة، وضرورة مشاركة الجميع فيها لمناقشة الخطة التي كُلّف الجيش بوضعها، فهذه أيضاً بالنسبة إلى الرئيسين فرصة للنقاش وتبادل الآراء، وضمن مؤسسات الدولة، علماً أن القرار بشأن الخطة قد لا يتخذ في الجلسة نفسها”.
وتبعاً للمعلومات، فإنّ “الرئيس عون يجري اتصالات خارجية، ولا سيما مع فرنسا وأميركا، من أجل الضغط على إسرائيل لتنفيذ تعهداتها، والإشارة إلى الخطوات التي قام بها لبنان حتى اليوم، والتي تظهر مدى جديته في تطبيق قراراته، لكن في الوقت نفسه يجب أن يُلاقى بخطوات مقابلة وضمانات من شأنها أن تزيل الهواجس اللبنانية”. وفي هذا الإطار، يقول مصدر مقرّب من بري لـ”العربي الجديد”، إنّ “رئيس البرلمان قدّم أمس مبادرته، ودعا إلى الحوار، كما يدعو إليه دائماً، فلا يمكن حلّ أي أزمة في لبنان إلّا بالتوافق والالتقاء، ولا يمكن القبول بالضغط على لبنان بهذا الشكل وتهديده”.
ويلفت إلى أن “بري لم ينع الورقة الأميركية، بل على العكس، فلبنان ليس الطرف الذي يخرق الاتفاقات، والدليل أنه منذ إقرار أهدافها، زادت الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، كما أن الموفد توماس برّاك لم يأتِ بأي جواب إسرائيلي، لا بل على العكس تراجع عن كلامه، وبالتالي، لا يمكن تحميل لبنان اللوم”. ويشدد المصدر على أن “فرصة لبنان الوحيدة تبقى في الحوار الداخلي، وعلى جميع الأفرقاء الالتقاء ووضع الخلافات والحسابات السياسية الخاصة جانباً، ونحن سننتظر ردات الفعل”، لافتاً إلى أن “حزب الله وحركة أمل يدرسان خطواتهما، وكل الاحتمالات مفتوحة حتى جلسة الجمعة، وفيها، ولن نفعل إلا ما هو في مصلحة لبنان والحفاظ على مؤسسته العسكرية”.
على خطّ آخر، تتجه الأنظار إلى الخطة التي أعدّها الجيش اللبناني لحصر السلاح، والتي يجب أيضاً أن تلقى الضوء الأخضر من الولايات المتحدة التي طلبت الاطلاع عليها. ويؤكد مصدر عسكري لـ”العربي الجديد”، أنّ “الجيش، ومن خلال لجنة عسكرية موسّعة، أعدّ خطة تطبّق على مراحل، سواء على صعيد نوعية السلاح، أو تقسيم المناطق، وعمل عليها بهدوء ودقة، لأن هدفه الأساسي حماية السلم الأهلي والاستقرار”. ويشير المصدر إلى أن “الخطة تشمل أولاً كيفية سحب السلاح وإنهاء كافة العمليات في جنوب الليطاني التي سبق أن بدأت، علماً أن ما يعيق استكمال الجيش انتشاره هو استمرار الاحتلال والاعتداءات، ومن ثم شمال الليطاني والمناطق الأخرى، كما تُركّز على التحديات التي يواجهها الجيش والحاجات اللازمة للقيام بمهامه، ومن هنا تتضمن بالتالي المطالبة بتعزيز قدراته وتقديم الدعم المطلوب له”.
في مثل هذا اليوم من كلّ عام، تُنكأ جراح كثيرين، إذ يستذكرون أحبّاء يُطلق عليهم “مفقودون” أو “مخفيون قسراً“. ويعاني لبنان خصوصاً في هذا المجال.
في عام 2010، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة 30 آب/ آب من كلّ عام يوماً عالمياً لضحايا الإخفاء القسري من أجل تذكير العالم بالمصير المجهول لآلاف الأشخاص المغيَّبين قسراً، وبما تعانيه عائلاتهم العالقة في الانتظار. وفي لبنان، يحلّ هذا اليوم في هذا العام مع رمزية خاصة؛ في الذكرى الخمسين للحرب اللبنانية (1975) وما تلاها لم تجفّ دموع الأمهات اللواتي ما زلنَ يرفعنَ صور أبنائهنّ بحثاً عن حقيقة غائبة.
وكان قانون المفقودين والمخفيين قسراً قد أُقرّ في عام 2018 في لبنان قبل أن تُشكَّل في عام 2020 هيئة وطنية مستقلة لتولّي هذا الملف. لكنّ الأهالي، حتى اليوم، لم يتلقّوا خبراً واحداً عن أحبّتهم المفقودين، في حين لا قبور يزورونها، ولا شهادات وفاة، ولا أدلّة علمية لإثبات أيّ شيء… فراغ فقط يبتلع الأمل ويُطيل زمن الانتظار. وعلى مدى عقود، تنقّل هؤلاء بين المسؤولين، وطرقوا أبواب الوزارات والمحاكم، ونظّموا مسيرات، ورفعوا صور أبنائهم، ووقّعوا عرائض وطنية، متشبّثين بحقّهم في معرفة الحقيقة.
تقدّر المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي في لبنان عدد المفقودين بالبلاد بنحو 17 ألف شخص، لكن لا إحصاءات رسمية تحدّد العدد بدقّة. أمّا سجلات الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً فتضمّ أسماء أكثر من ألفَي مفقود، 94% منهم من الرجال و6% من النساء، علماً أنّ 79% من بينهم لبنانيون و15% فلسطينيون و2% سوريون و4% من جنسيات أخرى. وكان عام 1976، العام الثاني من الحرب اللبنانية، قد سجّل 468 مفقوداً، تلاه عام 1982 مع 452 مفقوداً.
تقول رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين، وداد حلواني، لـ”العربي الجديد” إنّ “اللجنة لم تتواصل مع 17 ألف عائلة مفقود، فهذه مهمّة الدولة”. تضيف: “نحن بادرنا، منذ تشكيل اللجنة في عام 1982، والحرب كانت لا تزال مشتعلة، إلى دعوة كلّ من فقد فرداً من أسرته إلى إدراجه في سجلاتنا. وتضمّ لوائح اللجنة ما بين 2500 و2600 مفقود”.
وتشدّد حلواني على أنّ “القضية لم تعد تحتمل الانتظار. هذه ليست قضية تحتاج إلى تدخّل أميركي أو إيراني، إنّها قضية داخلية ويجب أن تُحلّ. لا أحد يريد محاسبة المرتكبين على الماضي، لكنّ من يحرم الأهالي اليوم من حقّهم في معرفة مصير أحبّتهم هو المسؤول أمامنا وأمام التاريخ”.
وأدرج رئيس الحكومة اللبناني نواف سلام قضية المفقودين والمخفيين قسراً في البيان الوزاري الأخير، متعهّداً بأنّ حكومته سوف تعمل لتطبيق القانون ودعم الهيئة الوطنية. أمّا على الأرض، فلم يلمس الأهالي أي تقدّم في هذا الشأن. وتؤكد حلواني: “لم نلمس سوى اهتمام شفهي. تأمّلنا بالعهد الجديد، لكنّ شيئاً لم يتحقّق”، مضيفة أنّ الأمر يقتصر على “الكلام فقط”.
ووافق مجلس الوزراء، في حزيران/ حزيران الماضي، على مشروع مرسوم لتعيين عشرة أعضاء جدد للهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً بعد انتهاء ولاية الأعضاء الأوائل في تموز/ تموز الماضي الذي تبعه، لكنّ أيّ مرسوم لم يُصدر حتى الآن، ولم يقسم الأعضاء الجدد اليمين.
من معرض صور مفقودين في خلال الحرب اللبنانية، بيروت، 13 إبريل 2010 (أنور عمرو/ فرانس برس)
ويوضح المحامي زياد عاشور، رئيس الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً بالإنابة، أنّ “تأخّر المرسوم يعود إلى اعتذار أحد القضاة عن قبول المهمّة، الأمر الذي أوقف صدوره إلى حين تسمية بديل”. ويكمل: “لكنّ هذا غير مبرّر. ففي عام 2020، اعتذر أحد القضاة كذلك، ولم يؤخّر ذلك صدور المرسوم وأدّينا اليمين أمام رئيس الجمهورية”. ويلفت إلى أنّ “التأخير يبيّن أنّ القضية ليست من ضمن الأولويات”.
وإلى جانب العقبات الإدارية، يواجه ملف المفقودين في لبنان صعوبات تقنية كبيرة. في عام 2012، أطلقت اللجنة الدولية للصليب الأحمر مشروع جمع “معلومات ما قبل الإخفاء”، بما يشمل بيانات المفقودين وأخذ عيّنات حمض نووي من ذويهم، خصوصاً كبار السنّ منهم، استعداداً لأيّ كشف مستقبلي عن مقابر جماعية على سبيل المثال. وقد جُمعت نحو ألفَي عيّنة، لكنّها لم تُسلَّم بعد إلى الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً.
ويعيد عاشور السبب إلى أنّ “الهيئة تفتقر إلى البنية التحتية المؤهّلة لحفظ البيانات والعينات بطريقة آمنة، لذا بقيت لدى اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وقد نُقلت إلى خارج لبنان أخيراً بسبب الحرب (الإسرائيلية الأخيرة)، من أجل الحفاظ عليها”.
وفي عام 2023، ظهرت في مدوخا بقضاء البقاع الغربي (شرق) مقبرة جماعية يُرجَّح أنّها تضم رفات مقاتلين فلسطينيين تعود إلى زمن الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982. قبل ذلك، في عام 2005، كُشف عن مقبرة بالقرب من وزارة الدفاع الوطني في اليرزة بقضاء بعبدا (وسط). وفي مواقع أخرى، عُثر على رفات بلا هوية، كأنّما الماضي ينبش نفسه من تحت التراب ولا يجد من يجيبه. ويبدو أنّ التكنولوجيا وحدها لا تكفي، فالإمكانيات شحيحة، والبحث عن الحقيقة يصطدم دائماً بجدار الدولة العاجزة أو المتواطئة.
وفي كلّ مرّة يُكشَف عن رفات، تُنبش كذلك ذاكرة الأهالي الذين لم يهدؤوا يوماً. بعد 50 عاماً من اندلاع الحرب اللبنانية (1975 – 1990)، ما زالوا يرفعون صور أبنائهم في الساحات ويروون الحكايات في المعارض والندوات، فيحوّلون الغياب إلى حضور عنيد والوجع الفردي إلى قضية وطنية.
وداد حلواني ورفاقها لم يتعبوا، ولم يساوموا، ولم يهادنوا. هم يعرفون أنّ معركتهم ليست لتحديد مصير المفقودين فقط، بل هي من أجل الحقّ والاعتراف والذاكرة، للإثبات أنّ هؤلاء لم يتعرّضوا للإخفاء عبثاً، وأنّ وجودهم ليس قابلاً للمحو، حتى لو كان الاعتراف الأخير ورقة رسمية بعنوان “شهادة وفاة”.
“أين هم؟” سؤال ما زال يُطرَح منذ نصف قرن. كثيرات هنّ الأمهات اللواتي لم يتوقّفنَ عن التشبّث بصور أبنائهنّ، لم يتوقّفنَ عن انتظار المستحيل. بالنسبة إليهنّ، كلّ يوم يمرّ يعني تلاشي احتمال اللقاء. لكن ثمّة أمهات سلّمنَ الشعلة إلى أفراد آخرين من العائلة. وتقول وفاء حوحو، شقيقة المفقود اللبناني جمال، الذي خُطف في عام 1978 وهو في الثامنة عشرة من عمره، لـ”العربي الجديد إنّ “في البداية، كنّا نتلقّى أخباراً عنه. لكن بعد الحرب في سورية، انقطعت كلّ الأخبار. ما زلنا نعيش على الأمل. لا أستطيع أن أقطع الأمل لأنّني لم أرَ بعيني أيّ شيء”. بدورها، تقول فاطمة كبارة، شقيقة المفقود اللبناني محمد لـ”العربي الجديد”: “لو كانوا ميتين نعرف أنّهم ميتون، لكن هكذا لا نعرف عنهم أيّ شيء”، مؤكدةً أنّ “الأمر صعب جداً”.
بيروت – لا يقتصر حضور حزب الله في لبنان على أدواره العسكرية والسياسية، بل يتجاوزهما إلى شبكة واسعة من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية التي ترسخت داخل بيئته، وجعلت منه ركيزة أساسية في التخفيف من أعباء الدولة اللبنانية المتراجعة عن تلبية حاجات مواطنيها.
فمنذ عقود، عمل الحزب على بناء منظومة متكاملة من المؤسسات الخدمية والصحية والتعليمية والإغاثية، حيث تحولت هذه الشبكة مع مرور الوقت إلى ما يشبه “دولة ظل” موازية، تقدم خدمات يومية لعشرات آلاف العائلات.
وتشير أوساط سياسية مطلعة للجزيرة نت إلى أن الهيئة الصحية الإسلامية وحدها تدير نحو 8 مستشفيات وأكثر من 90 مركزا طبيا، موزعة بين الضاحية الجنوبية لبيروت ومناطق الجنوب والبقاع.
هذه المراكز لا تقتصر خدماتها على الإسعاف والخدمات الأولية، بل تمتد لتشمل برامج دفاع مدني متكاملة تضم الإنقاذ والإخلاء والإغاثة، ما يعكس مدى اتساع الدور الاجتماعي لهذه المؤسسات.
وفي المجال الإنمائي، برزت مؤسسة “جهاد البناء” التي تأسست في ثمانينيات القرن الماضي لتسد فراغ الوزارات الخدماتية، وقد لعبت منذ نشأتها دورا مركزيا في إعادة إعمار ما دمرته الاعتداءات الإسرائيلية، من منازل وبنى تحتية، مرورا بشق شبكات المياه والصرف الصحي، وتأهيل المدارس، وصولا إلى توسيع نشاطها نحو مشاريع التنمية الزراعية والبيئية والخدمات الاجتماعية.
وتشمل هذه المشاريع برامج للتدريب المهني والحرفي، وتمكين التعاونيات، وتنشيط المشاريع الصغيرة، وتنظيم معارض لتسويق الإنتاج المحلي، كما أطلقت المؤسسة مبادرات لترشيد استهلاك المياه والطاقة، وتشجيع الزراعات ذات القيمة المضافة مثل الفطر والزعفران، ما يعكس توجها نحو تعزيز الاكتفاء الذاتي وتقوية الاقتصاد المحلي.
وفي الضاحية الجنوبية لبيروت، يتولى مشروع “العباس لمياه الشفة”، التابع للمؤسسة، مهمة تزويد مئات الخزانات يوميا بمياه صالحة للشرب، ولا يقتصر نشاطها على العاصمة ومحيطها، بل يمتد إلى مناطق الجنوب والبقاع لدعم المزارعين وحماية المواشي وتعزيز الاكتفاء الأسري.
إعلان
أما الجمعيات المرتبطة بالحزب، فتواصل توزيع مساعدات غذائية وطبية ومالية على آلاف الأسر شهريا، لا سيما منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية والمالية في عام 2019، الأمر الذي زاد اعتماد شرائح واسعة على هذه المساعدات باعتبارها مصدر دعم رئيسيا في ظل غياب الدولة.
أي مواجهة عسكرية أو حصار سياسي يهدد مباشرة استمرارية الشبكات التي يغذيها الحزب (رويترز)
ومع تصاعد النقاشات حول مستقبل الحزب، وطرح سيناريوهات الصدام بعد قرار نزع سلاحه، تبرز تساؤلات جادة حول مصير هذه المنظومة الخدماتية، ويرى خبراء أن أي ضربة عسكرية أو سياسية واسعة قد تضعف قدرة الحزب على تمويل مؤسساته الاجتماعية، وهو ما سينعكس بصورة مباشرة على الفئات الشعبية التي تعتمد بشكل شبه كامل على خدماته.
في المقابل، تشير تقديرات أخرى إلى أن الحزب سيحاول بما يمتلكه من موارد داخلية الحفاظ على الحد الأدنى من استمرارية هذه الشبكات، بالنظر إلى أنها تشكّل ركيزة أساسية في ترسيخ شرعيته الشعبية والسياسية، وأداة مركزية من أدوات نفوذه داخل بيئته وفي المجتمع اللبناني الأوسع.
شبكة حزب الله الاقتصادية
يقول الصحافي الاقتصادي منير يونس للجزيرة نت إن النشاط الاقتصادي والاجتماعي لحزب الله يتجاوز طابعه العسكري التقليدي، ليشكل شبكة متشعبة من المؤسسات والبرامج.
فإلى جانب المدارس والمستشفيات والمستوصفات، يدير الحزب مشاريع مرتبطة بالبناء والإعمار، كما يوفر برامج دعم اجتماعي عبر بطاقات استهلاكية مخصصة للمناصرين والعناصر، وصولا إلى مبادرات في قطاع المحروقات.
ويبرز في هذا الإطار دور مؤسسة “القرض الحسن”، التي تُعد الذراع المالية الأبرز للحزب، وتشبه هذه المؤسسة في آليات عملها البنك المركزي الخاص به، حيث تضطلع بدور محوري في تلبية احتياجاته الاقتصادية والاجتماعية، مما يعكس مدى تأثيرها في الشبكة الاقتصادية للحزب داخل المجتمع.
ويضيف يونس “هذه المنظومة كانت تعمل بزخم واسع قبل اندلاع الحرب الأخيرة في تشرين الأول/تشرين الأول 2023، لكن قدراتها تراجعت مع شح السيولة، وتوقف خطوط الإمداد عبر سوريا، وتعطل الرحلات الإيرانية إلى بيروت”.
كما يشير يونس إلى أن الحزب أنفق خلال السنوات الماضية ما يقارب مليار دولار لإيواء العائلات المتضررة من التهجير وتدمير المنازل، غير أن موارده تقلصت بشكل حاد بعد الحرب.
ويتابع “اليوم يواجه الحزب تحديا أكبر يتمثل في ملف إعادة الإعمار، إذ يسعى إلى دفع الدولة لتحمل المسؤولية، لكنه يدرك في المقابل أن أي تأخير في إعادة بناء الوحدات السكنية قد يضعف رصيده الشعبي.
لذلك، تتزايد المؤشرات على شروعه بالتحضير لمشاريع إعمارية رغم تكاليفها الباهظة المقدرة بمليارات الدولارات، وسط تساؤلات جدية حول قدرته على توفير هذه المبالغ”.
مؤسسة القرض الحسن تُعد الذراع المالية الأبرز لحزب الله في بيئته (مواقع التواصل)
وفي حال اندلاع مواجهة جديدة، يتوقع يونس أن تتفاقم المعضلات مع اتساع حجم الدمار وتزايد الحاجة إلى موارد مالية للإيواء والإعمار، ويزداد المشهد تعقيدا مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي، حيث يسعى الحزب إلى حماية مقاعده من أي اختراق، ما يفرض عليه إنفاقا انتخابيا واسعا يضيف عبئا ماليا إضافيا على موارده.
إعلان
ويرى يونس أن الحزب يجد نفسه في هذه المرحلة أمام تحديات حرجة تتطلب موارد مالية ضخمة لمواجهة استحقاقات الإعمار، وتلبية متطلبات السياسة الداخلية، والتعامل مع تداعيات الحرب المستمرة.
النفوذ المجتمعي وآفاقه
بدوره، يرى المحلل السياسي قاسم قصير أن النشاط الاقتصادي والاجتماعي الذي يآذاره حزب الله، خصوصا داخل بيئته، لا يقتصر على تخفيف الأعباء عن الدولة فحسب، بل يمتد إلى دعم البيئة المحلية المحيطة به.
ويضيف أن أي استهداف لهذه الأنشطة أو اندلاع صدام مباشر مع الحزب قد يحمل انعكاسات خطيرة على الواقع اللبناني بأسره.
ويشير قصير، في حديثه للجزيرة نت، إلى أن مثل هذه التدخلات قد تؤدي إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وتعزيز مستويات التطرف، وربما إثارة ردود فعل شعبية معارضة على نطاق أوسع.
ويتابع أن الحزب يدير شبكة واسعة من الخدمات تشمل الترميم والإيواء والرعاية الصحية والاجتماعية، إلى جانب التعليم والثقافة، وتعمل عشرات المؤسسات التابعة له على الأرض، مستهدفة شرائح متعددة من المجتمع، ما يعكس مدى تغلغل الحزب في الحياة اليومية للمناطق التابعة له.
يُحيي العالم في 30 آب/ آب اليومَ العالمي للاختفاء القسري، وهو يومٌ يبدو لصيقاً بالمنطقة العربية أكثر من كونه وافداً إليها، نظراً لكثرة حوادث الاختفاء القسري من جهة، ولضعف أو غياب الإمكانيات التي تعنى بمصير المختفين في سجون الأنظمة، سواء في حالات المعارضة السياسية أو في سياق الحروب الأهلية.
يمكن ليوم مثل الاختفاء القسري أن يظهر يوماً يعقبُ انتهاء الحروب، لأنّ الاختطاف والقتل يكون محموماً أثناء الحرب، وهو المآذارة الأكثر انتشاراً في الحروب الأهلية، إلى درجة قد لا يتاح للناس أن يتساءلوا عن مصير ذويهم إلا بعد أن ينتهي الظرف الذي اختفوا فيه، كما في حالة الحرب الأهلية اللبنانية التي خلّفت 17 ألف مفقود، وفي الحالة السورية أيضاً بعد سقوط نظام الأسد، التي ما زالت الأرقام فيها غير محسومة.
الاختفاء القسري، سواء كان بسبب الاعتقال أو الاختطاف أو القتل، هو أسلوب المليشيا، كما هو أسلوب الأنظمة حين تتحوّل إلى سلوك مليشيوي، وهو أيضاً أسلوب المليشيا التي تطمح لأن تصبح دولة. وفي كل الحالات، يبقى مصير المخطوفين في هذه البيئات السياسية معلقاً وغير معروف النهاية.
هذا الغياب يتيح للأدب أن يتدخل ليمنح صوتاً للمفقودين. وقد نجحت الرواية اللبنانية في تناول القضية عبر أدب الحرب الأهلية، فيما عالج الأدب السوري المسألة في إطار أدب السجون.
تختلف معالجة قضية الاختفاء القسري في الأدب بين بلد عربي وآخر
في الرواية اللبنانية الحرب هي البطل: حرب المليشيات، والخطف على الهوية، والقنّاص العشوائي. ومن بين النماذج اللافتة رواية ربيع جابر “طيور الهوليدي إن”، التي تفتتح بإعلانات المفقودين، مع تفاصيل أعمارهم وألوان ثيابهم وأرقام الاتصال بذويهم. الرواية، التي تتناول عامي 1975 و1976، تجعل مسألة المفقودين جزءاً عضوياً من يوميات الحرب وحكايات عائلاتهم.
يأتي اختلاف شكل الاختفاء في الرواية السورية بسبب اختلاف سببه، إذ صاغت عقود الاستبداد شكل المصير حتى في الأعمال الأدبية، وهو شكلٌ نراه بصورة اختفاء قسري في أدب السجون بصورة خاصة.
ربما تكون رواية مصطفى خليفة “القوقعة” أكثر الروايات السورية شيوعاً في هذا الموضوع، ونعرف فيها عن شخصية اعتقلت عند عودتها من فرنسا، في مطار دمشق، مِن غير أن تعرف لماذا. ثم نعرف في مراحل من الرواية أن السبب هو انتقاد حافظ الأسد في حفل في فرنسا. الرواية وراء تفاصيل التعذيب فيها، ليست إلا حكاية اختفاء قسري، عملية انتزاع للشخصية من عالمها، ورميها إلى ما يشبه انقطاعاً في الزمن.
تختلف معالجة قضية الاختفاء القسري في الأدب بين بلد عربي وآخر. وربما وضوح الحالتين اللبنانية والسورية، مع طول زمنهما ووقوعهما على فعل جماعي، أتاح الوقوف على الاختفاء القسري كموضوع يلتقي فيه أدب الحرب وأدب السجون. لكن ما زالت حكاية الاختفاء القسري، الفردي، في الأنظمة البوليسيّة، غير مصدّرة روائياً بالصورة التي قد يستطيع الأدب فيها أن يقول كلمته، بأن يعطي صوته لإنسان مُختطف، لإنسان غائب، من غير أن يعرف أحدٌ مصيره.
بيروت- جدد مجلس الأمن الدولي ولاية قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل) حتى نهاية عام 2026، في قرار اعتبر مفصليا وحمل أبعادا سياسية وأمنية تتجاوز التمديد الروتيني، وسط توتر متصاعد على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية، واستمرار الجدل الداخلي حول مهام القوة وصلاحياتها.
فقد تبنى المجلس بالإجماع القرار رقم 2790، الذي ينص على تمديد الولاية لعام وأربعة أشهر إضافية للقوات الدولية العاملة في لبنان، على أن تبدأ بعد ذلك عملية انسحاب تدريجي ومنظم للقوات خلال عام واحد.
ويعيد القرار التأكيد على دور اليونيفيل في دعم الجيش اللبناني وتطبيق القرار 1701 الذي أرسى وقف الأعمال القتالية بعد حرب تموز/تموز 2006 بين حزب الله وإسرائيل.
كما دعا مجلس الأمن إسرائيل إلى الانسحاب من شمال الخط الأزرق ومن خمس نقاط متحفظ عليها داخل الأراضي اللبنانية، مطالبا السلطات اللبنانية بالانتشار في المواقع التي تُخليها إسرائيل، بدعم من الأمم المتحدة.
وفي بيروت، رحبت السلطات اللبنانية بالقرار، إذ توجه الرئيس جوزيف عون بالشكر إلى أعضاء المجلس الخمسة عشر على إجماعهم، مثمنا دور فرنسا على وجه الخصوص في إعداد النص، والولايات المتحدة لتفهمها ظروف لبنان ودعمها للمسودة الفرنسية.
من جهته، أكد رئيس الحكومة نواف سلام أن التمديد يشكل “مرحلة انتقالية” تنتهي بانسحاب تدريجي وآمن، مشددا على أهمية استمرار عمل القوة الدولية “بما يحفظ السيادة اللبنانية ويعزز التنسيق مع الجيش”.
وتنتشر اليونيفيل التي تأسست عام 1978 إثر الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان على طول الحدود الجنوبية بمشاركة نحو 10 آلاف جندي من جنسيات متعددة، وقد توسعت مهامها بعد حرب 2006 لتشمل مراقبة وقف إطلاق النار ومساعدة الجيش اللبناني في بسط سلطته جنوب الليطاني.
غير أن مهمتها لم تخلُ من التحديات، إذ شهدت السنوات الأخيرة احتكاكات مع بعض الأهالي وصلت أحيانا إلى حد الاعتداء على دورياتها، في حين تتهمها إسرائيل بالعجز عن وقف تهريب السلاح إلى حزب الله، بينما يصر لبنان على أن صلاحياتها تقتصر على المراقبة والدعم اللوجستي دون التدخل في مهام الجيش.
إعلان
ويرى مراقبون أن التمديد الأخير يعكس موازين القوى الدولية في التعاطي مع ملف الجنوب اللبناني، في وقت تتصاعد فيه المخاوف من انزلاق الحدود مجددا نحو مواجهة مفتوحة بين حزب الله وإسرائيل.
حماية دولية
بدوره، يؤكد الكاتب والمحلل السياسي بشارة شربل أن قرار التجديد لليونيفيل لأربعة عشر شهرا، وللمرة الأخيرة جاء نتيجة تسوية بين الولايات المتحدة التي كانت تميل لإنهاء مهمتها فورا، وبين فرنسا وباقي دول مجلس الأمن التي فضلت تمديد مهمتها من دون تحديد مدة مستقبلية.
ويشير شربل في حديثه للجزيرة نت إلى أن القوة الدولية ستواصل دعم الجيش اللبناني في تطبيق القرار 1701 جنوب الليطاني، والمتضمن نزع سلاح حزب الله، وضمان انسحاب إسرائيل من النقاط المحتلة وفق اتفاق “وقف الأعمال العدائية” الموقع في 27 تشرين الثاني/تشرين الثاني الماضي، كما ستستمر اليونيفيل في دورياتها ومهام المراقبة على طول خط الهدنة بين لبنان وإسرائيل.
ويضيف شربل أن للبنان مصلحة واضحة في بقاء هذه القوة لأسباب عملية وسياسية، إذ لا تملك الدولة حاليا القدرة على سد الفراغ الذي يتركه انسحاب نحو عشرة آلاف جندي دولي يساندون الجيش اللبناني في الجنوب.
ويؤكد المحلل السياسي أن لبنان يحتاج إلى اليونيفيل كدرع حماية سياسية ودبلوماسية أمام إسرائيل، إذ تلعب القوة الدولية أحيانا دور الوسيط لعقد اجتماعات عسكرية غير مباشرة بين الجيشين اللبناني والإسرائيلي لحل إشكالات حدودية.
ويختم شربل بالتحذير من أن غياب القوة الدولية سيضع الجيش اللبناني في مواجهة مباشرة مع الجيش الإسرائيلي، وهو سيناريو غير متكافئ قد يجر البلاد إلى مفاوضات مباشرة مع تل أبيب لا تستطيع تحمل تبعاتها.
ثانوية المربي محمد فلحة مدمرة بالكامل في ميس الجبل جنوب لبنان نتيجة القصف الإسرائيلي (الجزيرة)
حل وسط
بدوره، يرى المحلل السياسي توفيق شومان أن التمديد للقوات الدولية العاملة في جنوب لبنان يمثل حلا وسطا على المستوى الدولي، بين موقف فرنسا الداعم لاستمرار هذه القوات والولايات المتحدة الأميركية التي لا ترى جدوى من استمرارها، بما يتوافق أيضا مع وجهة النظر الإسرائيلية.
أما على الصعيد السياسي والأمني، فيشير شومان -للجزيرة نت- إلى أن إنهاء عمل القوات الدولية في العام المقبل لا يمكن فصله عن رغبة واشنطن في استبدالها بقوات متعددة الجنسيات تحت إشراف أميركي، تشارك فيها ألمانيا وبريطانيا، وهو الطرح الذي سبق إعلان وقف إطلاق النار المفترض في 24 تشرين الثاني/ تشرين الثانين الماضي.
ويضيف شومان أن هناك أيضا نقاشا حول إمكانية مشاركة قوات عربية في الوحدات العسكرية المزمع نشرها في جنوب لبنان، ما يطرح تساؤلات حول استبدال القوات الدولية بقوات غير خاضعة لمجلس الأمن الدولي.
ويشير إلى أن هذا التحرك قد يكون مقدمة لاختبار رد الفعل اللبناني على مشروع المنطقة الاقتصادية الخاصة الذي كشف عنه المبعوث الأميركي إلى لبنان توم باراك خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت.
مرحلة فاصلة
ويرى الخبير العسكري العميد حسن جوني أن قرار تمديد مهمة قوات الطوارئ الدولية في جنوب لبنان (اليونيفيل) لستة عشر شهرا إضافيا يحمل دلالات أبعد من كونه إجراء روتينيا، إذ يفتح الباب أمام مرحلة حاسمة في مستقبل وجود هذه القوات.
إعلان
ويشير جوني في حديثه إلى الجزيرة نت إلى أن هذه الفترة ستكون بمثابة العد العكسي للبحث في مصير اليونيفيل، فالوضع القائم ليس مرشحا للاستمرار طويلا وسط تصاعد التطورات السياسية والأمنية في المنطقة.
ويضيف أن الخيارات المطروحة تنحصر بين مسارين: إما التوصل إلى تسوية تضمن الاستقرار وترتيب الأوضاع الأمنية، أو الانزلاق نحو مواجهة جديدة تفرض ترتيبات مغايرة على الأرض.
ويتابع أن التمديد الأخير يبدو عمليا بمثابة تمهيد لمرحلة نهائية، إذ إن استمرار وجود القوات بعد 16 شهرا قد يفقد جدواه، فإذا تحقق الاستقرار تنتفي الحاجة إليها، وإذا تفجرت الأوضاع مجددا فلن يكون بمقدورها منعه، مما يجعل وجودها بلا معنى.
ويخلص جوني إلى أن التمديد الحالي يصب في مصلحة لبنان، ويسجل كنجاح دبلوماسي، خاصة أن فرنسا دفعت باتجاهه وحظي بغطاء أممي، ليأتي في نهاية المطاف لصالح الدولة اللبنانية.