تحذير: يحتوي هذا التقرير على صور قد يجدها البعض مزعجة
كان عالم حاسوب في جامعة في شمال إنجلترا يدرس صورة لجثة – محاولاً حل لغز حيَّر الشرق الأوسط لحوالي خمسين عاماً.
سأل البروفيسور، حسن أوغيل، من جامعة برادفورد بشيء من الشك: “هل هذا شكله الآن؟”
الصورة الرقمية هي لوجه متحلل وهي على وشك أن تُعرض على خوارزمية خاصة ضمن تحقيق أجرته بي بي سي.
التُقطت الصورة الأصلية من قبل صحفي رأى الجثة في مشرحة سرية في العاصمة الليبية عام 2011. وقيل له آنذاك إنها قد تعود إلى رجل الدين ذي الشخصية الكاريزمية، موسى الصدر، الذي اختفى في ليبيا عام 1978.
ولَّد اختفاء الصدر سيلاً لا ينضَب من نظريات المؤامرة. من الناس مَن يعتقد أنه قُتل، بينما يزعم آخرون أنه لا يزال حيّاً و محتجزاً في مكان ما في ليبيا.
وبالنسبة لأتباعه المتحمسين، فإن اختفاءه يثير القدر ذاته من الغموض الذي أحاط بمقتل الرئيس الأمريكي جون كينيدي عام 1963. ولشدة حساسية هذا التحقيق المطوّل، وجدت نفسي أنا وفريقي في الخدمة العالمية في بي بي سي محتجزين لعدة أيام في ليبيا.
تتأجج المشاعر لأن الصدر شخصية مُبجّلة عند أتباعه – سواء لسمعته السياسية كمدافع عن مسلمي لبنان الشيعة المهمَّشين آنذاك، أو بوصفه زعيماً دينياً في الإطار الأشمل.
منحه أتباعه لقب “إمام” وهو تكريم غير اعتيادي لرجل دين شيعي وهو على قيد الحياة، أُسبِغ عليه عرفاناً لعمله من أجل الطائفة الشيعيّة.
إن اختفاءه الغامض أضاف إلى قوته المعنويّة لأنه يذكّر بمصير “الإمام الثاني عشر الغائب”، الذي يعتقد أكبر فروع الشيعة، المعروفون بـ “الاثني عشرية”، أنه لم يمت وسيعود في آخر الزمان ليُحِلَّ العدلَ في الأرض.
لقد بدَّل اختفاء الصدر ربما مصير أكثر مناطق العالم اضطراباً دينياً وسياسياً وعرقياً: الشرق الأوسط. فالبعض يعتقد أن رجل الدين الإيراني – اللبناني كان على وشك أن يستخدم نفوذه لدفع إيران – وبالتالي المنطقة – نحو اتجاه أكثر اعتدالاً عندما اختفى على أعتاب الثورة الإيرانية.
لذلك، يتوقّف الكثير على جهود التعرف التي قامت بها جامعة برادفورد. فقد قال الصحفي الذي التقط الصورة إن الجثة طويلة القامة على نحو غير عادي – وكان الصدر معروفاً بطول القامة التي بلغت 1.98 متر (6 أقدام و5 بوصات). لكن الوجه بالكاد احتفظ بملامح تسمح بالتعرّف عليها.
هل يمكننا أخيراً حل اللغز؟
موسى الصدر: ما الذي يجعل من قضيته ملفاً لا يغلق؟
الصدر شخصيةٌ مُبجلة لدى المسلمين الشيعة
أنا من قرية “اليمّونة”، في أعالي جبال لبنان، حيث تُروى قصص منذ زمن بعيد عن شتاء 1968 القاسي، حين دمر البلدةَ انهيار ثلجي، فجاء موسى الصدر مجتازاً الثلوج العميقة لنجدتها.
الانبهار الذي يروي به القرويون تلك القصة اليوم، يعكس مقدار الصبغة الأسطورية التي اكتسبها. قال لي أحدهم وهو يسترجع ذكرياته عندما كان في الرابعة من عمره: “كان الأمر أشبه بالحلم … سار فوق الثلج، وتبعه جميع القرويين … وسرت أنا في الأثر فقط لألمس عباءة الإمام”.
فيما مضى من عام 1968، لم يكن الصدر معروفاً كثيراً في قرية معزولة مثل اليمّونة، لكنه كان بدأ يكتسب شيئاً فشيئاً سمعة وطنية. ومع نهاية ذلك العقد، أصبح شخصية بارزة في لبنان، معروفاً بدعوته إلى الحوار بين الأديان وإلى الوحدة الوطنية.
وانعكست مكانته في اللقب الفخري “إمام” الذي أسبغه عليه أتباعه. وفي عام 1974 أطلق الصدر “حركة المحرومين”، كمنظمة اجتماعية وسياسية طالبت بالتمثيل النسبي للشيعة والتحرر الاجتماعي والاقتصادي للفقراء بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينيّة. وكان مصمماً على تجنب الطائفية إلى حد أنه ألقى خطباً حتى في الكنائس.
كان الصدر يحظى بجاذبيته لدى أصحاب العديد من الأديان
في 25 آب/آب 1978، سافر الصدر إلى ليبيا بدعوة من زعيمها آنذاك العقيد معمر القذافي.
قبل ذلك بثلاث سنوات، اندلعت في لبنان حرب أهلية. شارك المقاتلون الفلسطينيون في النزاع الطائفي، خصوصاً أن كثيرين منهم كانوا يتمركزون في جنوب لبنان حيث يقطن معظم أتباع الصدر. وبدأ الفلسطينيون يتبادلون النيران مع إسرائيل عبر الحدود، فأراد الصدر من القذافي الذي كان يدعم الفلسطينيين، أن يتدخل لحماية المدنيين اللبنانيين.
وفي 31 آب/آب، وبعد انتظارٍ دام ستة أيام للقاء القذافي، شوهد الصدر وهو يُقاد بعيداً عن فندق في طرابلس في سيارة حكومية ليبية. واختفى أثره بعد ذلك.
زعمت أجهزة أمن القذافي لاحقاً أنه غادر إلى روما، لكن التحقيقات أثبتت زيف ذلك.
ولم يكن ممكناً وجود صحافة مستقلة في ليبيا زمن القذافي. لكن في 2011، حين ثار الليبيون ضده أثناء الربيع العربي، فُتحت كوّة صغيرة لتبيان الحقيقة.
في عام 2011، ذهب الصحفي قاسم حمد إلى ليبيا حيث تلقى معلومة سرية عن الصدر
كانت هناك سبع عشرة جثة محفوظة في غرفة التبريد التي أُدخل إليها – إحداها لطفل، والبقية لرجال بالغين. قيل لقاسم إن الجثث محفوظة منذ نحو ثلاثة عقود – وهو ما يتوافق مع الخط الزمني الذي يخص الصدر. جثّة واحدة منها فقط تشبه الصدر.
أولاً، قال قاسم، شكل وجه الجثة ولون البشرة والشعر ما زال يشبه الصدر رغم مرور الزمن. وثانياً، أضاف، إن الشخص بدا أنه أُعدم.
على الأقل كان ذلك استنتاج قاسم، استناداً إلى الجمجمة. وبدت وكأنها تعرضت إما لضربة قوية على الجبهة أو لطلقة فوق العين اليسرى.
لكن كيف يمكن أن نعرف يقيناً أن هذه الجثة للصدر؟
حركة أمل اللبنانية منذ موسى الصدر وحركة المحرومين حتى نبيه بري
أظهر عامل في المشرحة (في الصورة) الجثة لقاسم حمد
لذا أخذنا الصورة، التي التقطها قاسم في المشرحة، إلى فريق في جامعة برادفورد كان يطور منذ 20 عاماً خوارزمية فريدة تُدعى “التعرف العميق على الوجه”، وهي تميّز أوجه تشابه معقدة بين الصور، وأُثبت أنها موثوقة للغاية في الاختبارات حتى على الصور غير المثالية.
وافق البروفيسور أوغيل، الذي يقود الفريق، على مقارنة صورة المشرحة بأربع صور للصدر في مراحل مختلفة من حياته، ثم تمنح البرمجية صورة المشرحة تقييماً عاماً على 100، وكلما ارتفع الرقم زادت احتمالية أن يكون الشخص هو نفسه، أو أحد أقاربه.
وإذا جاءت النتيجة دون الخمسين يُرجّح أن يكون الشخص غير ذي صلة بالصدر. أما بين 60 و70 نقطة فيعني أنه هو أو قريب له. أمّا إذا بلغت 70 نقطة أو أكثر فهذا يُعتبر تطابقاً مباشراً.
الصورة حصلت على نتيجة في الستينيات – “احتمال مرتفع” – أن تكون للصدر، بحسب ما قال البروفيسور أوغيل.
وللتأكد من النتيجة، استخدم الأستاذ الخوارزميّة ذاتها لمقارنة الصورة مع ستة من أفراد عائلة الصدر، ثم مع 100 صورة عشوائية لرجال من الشرق الأوسط على درجات متفاوتة من الشّبه به.
قورنت صورة الجثة في المشرحة بصور عائلة الصدر، وصور أخرى لرجال عشوائيين لا علاقة لهم بالصدر
حصلت صور العائلة على نتائج أفضل بكثير من الصور العشوائية، لكن أفضل نتيجة بقيت المقارنة بين صورة المشرحة وصور الصدر في حياته.
وأظهرت النتيجة أن هناك احتمالاً قوياً أن قاسم قد رأى جثة الصدر. والحقيقة أن الجمجمة وُجدت متضررة، ما يوحي، على الأرجح، بأن الصدر قُتل.
في آذار/آذار 2023، بعد أربع سنوات تقريباً من عثوري على صورة قاسم لأول مرة، تمكنا من السفر إلى ليبيا للحديث مع شهود محتملين وللبحث عن الجثة بأنفسنا. كنا نعرف دائماً أن القصة حساسة، لكننا فوجئنا برد الفعل الليبي.
يحاول قاسم (يمين) تذكر موقع المشرحة السرية بينما يتجول في شوارع طرابلس ويتحدث مع محمد (يسار)
في اليوم الثاني من مهمتنا في طرابلس، كنا نبحث عن المشرحة السرية. قاسم، الذي رافق فريق بي بي سي، لم يتذكر اسم المنطقة التي زارها عام 2011، سوى أنها كانت قرب مستشفى.
قيل لنا إن هناك مستشفى على مسافة قريبة، فاتجهنا إليه.
فجأة قال قاسم: “هذا هو المكان. أنا متأكد. هذا هو المبنى الذي ضمَّ المشرحة”.
كان مظهر المبنى الخارجي آخر ما استطعنا تصويره. طلبنا إذناً للتصوير داخله، لكن تصاريحنا أُلغيت. وفي اليوم التالي، قبضت علينا مجموعة رجال مجهولين، اتضح لاحقاً أنهم من جهاز المخابرات الليبية، من دون أي تفسير.
أُخذنا إلى سجن تديره المخابرات الليبية، حيث احتُجزنا في الحبس الانفرادي، واتُّهمنا بالتجسس. عُصِبت أعيننا، واستُجوبنا مراراً، وقيل لنا إنه لا أحد يمكنه مساعدتنا. قال لنا خاطفونا إننا سنبقى هناك لعقود.
قضينا ستة أيام صعبة في الاحتجاز. وأخيراً، بعد ضغوط من بي بي سي والحكومة البريطانية، أُفرج عنا ورُحّلنا.
كان مؤلماً أن نشعر بأننا أصبحنا جزءاً من القصة. فما زالت ليبيا منقسمة بين إدارتين متنافستين وميليشيات متصارعة، وأوضح لنا موظفو السجن أن المخابرات الليبية تُدار من قبل موالين سابقين للقذافي، ممن لا يرغبون في أن تحقق بي بي سي في اختفاء الصدر.
احتجاج خلال الثورة الإيرانية في أيلول/أيلول 1978، بعد أيام قليلة من اختفاء الصدر. يعتقد محللون أن الصدر كان بإمكانه تغيير مسار الثورة
لطالما اعتقد بعض الناس أن الصدر قُتل.
الدكتور حسين كنعان، الأكاديمي اللبناني السابق الذي كان يعمل في الولايات المتحدة، قال إنه زار وزارة الخارجية الأمريكية في الأسبوع الذي اختفى فيه الصدر عام 1978، وأُبلغ أن الوزارة تلقت تقريراً يفيد بمقتله.
هذا السرد دعمه وزير العدل الليبي الأسبق، مصطفى عبد الجليل، الذي قال لقاسم عام 2011، “في اليوم الثاني أو الثالث، زوّروا أوراقه، بأنه ذاهب إلى إيطاليا. وقتلوه داخل سجون ليبيا”.
وأضاف: “القذافي له الكلمة الأولى والأخيرة في جميع القرارات”.
فلماذا إذن قد يأمر القذافي بقتل الصدر؟
إحدى النظريات، كما يقول الخبير في الشأن الإيراني، أندرو كوبر، هي أن القذافي تأثر بالمتشددين الإيرانيين الذين أقلقهم أن الصدر على وشك أن يعطل أهدافهم للثورة الإيرانية.
كان الصدر يدعم كثيراً الثوار الإيرانيين الذين أرادوا إنهاء حكم الشاه محمد رضا بهلوي. لكن رؤيته المعتدلة لإيران اختلفت بشدة مع أفكار المتشددين الإسلاميين الذين لم يستسيغوها بل كانوا ينبذونها.
قبل أسبوع من اختفائه، وفقاً لكوبر، كتب الصدر إلى الشاه عارضاً المساعدة.
كوبر أجرى مقابلة مع برويز ثابتي، المدير السابق لجهاز مكافحة التجسس في مخابرات الشاه، وذلك في سياق بحثه لكتاب سيرة عن الشاه. وقال له ثابتي إن رسالة الصدر عرضت المساعدة في تقويض قوة المتشددين الإسلاميين عبر السعي لإدخال إصلاحات سياسية تستميل العناصر الأكثر اعتدالاً في المعارضة.
ويؤكد سفير لبنان السابق لدى إيران، خليل الخليل، وجود هذه الرسالة، مشيراً إلى أنه فهم أنها طلبت اجتماعاً مع الشاه كان مقرراً في 7 أيلول/أيلول 1978.
ويعتقد كوبر أن هذه المعلومات سُرّبت إلى المتشددين الإيرانيين.
تعتقد حركة أمل في لبنان أن الصدر لا يزال على قيد الحياة، وتنظم في معظم الأعوام مسيرة في ذكرى اختفائه للمطالبة بالإفراج عنه
لكن الإيرانيين لم يكونوا الوحيدين الذين قد يرغبون في موت الصدر.
كان القذافي يقدّم دعماً عسكرياً للمقاتلين الفلسطينيين الذين يهاجمون إسرائيل من جنوب لبنان، ونُسِبت إلى الصدر أقوالاً من مقابلات أجراها أنه حاول إيجاد حل مع منظمة التحرير الفلسطينية.
قد تكون المنظمة اعتقدت أن الصدر، خوفاً على اللبنانيين، قد يقنع القذافي بكبحهم.
ورغم أن كثيرين يعتقدون أن الصدر مات، إلا أن آخرين يصرّون على أنه ما زال حياً.
من بين هؤلاء التنظيم الذي أسسه في السبعينيات، والذي أصبح اليوم حزباً سياسياً شيعياً نافذاً في لبنان يُعرف باسم “حركة أمل”.
رئيس “أمل”، ورئيس البرلمان، نبيه بري يؤكد أنه لا يوجد دليل على وفاة الصدر، الذي لو كان حيّاً اليوم لبلغ 97 عاماً. لكن كانت هناك فرصة للفصل في الأمر بشكل قاطع.
في عام 2011، عندما زار قاسم المشرحة السرية، لم يكتفِ بالتقاط صورة للجثة. بل تمكّن أيضاً من أخذ بعض بصيلات الشعر، بغرض استخدامها في فحص الحَمض النووي DNA. سلّمها لمسؤولين كبار في مكتب بري لكي تُخضع للتحليل.
لو ثبتت مطابقتها مع أحد أفراد عائلة الصدر لكان ذلك دليلاً قاطعاً على أن الجثة تعود له. لكن مكتب بري لم يأتِ بردٍّ على ما اقترحه قاسم.
القاضي حسن الشامي، أحد المسؤولين الذين عينتهم الحكومة اللبنانية للتحقيق في اختفاء الصدر، قال إن “أمل” أخبروه أن عينة الشعر فُقدت بسبب “خطأ تقني”.
قدمنا نتائج التعرف على الوجه إلى ابن الصدر، السيد صدر الدين الصدر. فجلب معه مسؤولاً بارزاً من أمل هو الحاج سميح هيدوس، وكذلك القاضي الشامي.
والكل أجمع على عدم تصديق نتائجنا.
أسس الصدر حركة أمل في السبعينيات من القرن الماضي
قال صدر الدين إن من “الواضح” من شكل الجثة في الصورة أنها ليست لوالده. وأضاف أن ذلك “يتعارض مع معلوماتٍ لدينا تعود إلى ما بعد هذا التاريخ (2011، عام التقاط الصورة)”، بأن والده ما زال حياً و محتجزاً في سجن ليبي.
لم تعثر بي بي سي على أي دليل يدعم هذا الرأي.
لكن خلال تحقيقاتنا، اتضح لنا أن الاعتقاد بأن الصدر لا يزال على قيد الحياة له قوة كبيرة كعقيدة موحدة للعديد من الشيعة اللبنانيين. في 31 آب/ آب من كل عام، تحيي حركة أمل ذكرى اختفائه.
تواصلنا مراراً مع مكتب نبيه بري لطلب مقابلة، وطلبنا تعليقاً على نتائجنا، ولم نتلقَّ ردّا.
كما طلبت بي بي سي من السلطات الليبية التعليق على تحقيقنا هذا، وتوضيح سبب احتجاز فريقنا من قبل المخابرات. ولم نتلقَّ أي رد أيضاً.
في وقت تتصاعد الشكاوى من تزايد كميات الأدوية منتهية الصلاحية في الصيدليات، يدقّ نقيب صيادلة لبنان جو سلّوم ناقوس الخطر، ويدين بشدّة امتناع وكلاء الأدوية عن استرجاع تلك الأدوية في حديث لـ”العربي الجديد”، واصفاً الأزمة المستجدّة بأنّها أشبه بـ”قنبلة موقوتة تُهدّد حياة المرضى”. وفي هذا الإطار، أصدرت نقابة صيادلة لبنان بياناً، اليوم الاثنين، حذّر فيه سلّوم من أنّ “الدواء منتهي الصلاحية لا يقلّ خطورة عن الدواء المزوّر”، وأنّ امتناع شركات ومصانع عن استرجاعه وتلفه في خارج لبنان يؤدّي إلى “إغراق الصيدليات” به، ولا سيّما أنّه يُمنَع على الصيادلة “رميه أو تلفه في أيّ مكان”، نظراً إلى الخطورة التي يمثّلها على البيئة والسلامة العامة.
وتكثر في الآونة الأخيرة شكاوى المواطنين في لبنان إزاء شراء أدوية من الصيدليات، يتبيّن أنّها إمّا منتهية الصلاحية وإمّا شارفت مدّة صلاحيتها على الانتهاء، إذ لم يتبقَّ لها سوى أشهرٍ قليلة وأحياناً شهر واحد على أبعد تقدير، مع العلم أنّ المشترين قليلاً ما يتحقّقون بأنفسهم من تواريخ الصلاحية، إذ إنّ الصيدليات مصدر موثوق بالنسبة إليهم.
وتجري العادة في لبنان أن يشتري المريض أكثر من علبة واحدة من الدواء الذي يتناوله، خصوصاً في ظلّ مخاوف من انقطاع محتمل. فما عاشه المواطنون من أزمة أدوية مفقودة في أثناء الانهيار المالي بالبلاد، بدءاً من أواخر عام 2019، يجعلهم يشعرون بالقلق. بالتالي يعمدون إلى تخزين الأدوية التي يحتاجون إليها في علاجهم، لكنّ ذلك قد يؤدّي في نهاية المطاف إلى رمي كميات منها، إذ قد تنتهي مدّة صلاحيتها قبل استهلاكها.
ويشكو صيادلة كثيرون من عدم تجاوب وكلاء الأدوية معهم عند طلبهم استرجاع دواء منتهي الصلاحية، إذ إنّ تلفه ليس من صلاحيات الأوائل. ويتذرّع الوكلاء، في رفضهم التجاوب، بقرار صادر عن وزير الصحة العامة السابق فراس الأبيض في هذا الشأن، علماً أنّ عدداً كبيراً من الصيادلة في المقابل عمد خلال الأزمة الاقتصادية التي ضربت لبنان إلى تخزين الأدوية المدعومة لبيعها بأسعار أعلى عند رفع الدعم عنها.
تطبيق القانون ضرورة
ويقول نقيب صيادلة لبنان جو سلّوم، في حديثه إلى “العربي الجديد”، إنّ “شركات عديدة امتنعت، منذ عام 2022، عن استرجاع الأدوية منتهية الصلاحية من الصيدليات، في حين أنّه يجب عليها الالتزام بتطبيق قانون مزاولة مهنة الصيدلة الذي ينصّ على استرجاع كلّ الأدوية منتهية الصلاحية حفاظاً على حياة المرضى وترحيلها إلى خارج لبنان من أجل تلفها”. ويؤكد سلّوم أنّ “الصيادلة عانوا من هذه المسألة، ووجدوا أنفسهم، مرّات عدّة، ضحية عدم استرجاع الوكلاء الأدوية منتهية الصلاحية، وذلك في إنفاذ قرار صدر عن وزير الصحة العامة السابق القاضي بمنع استرداد الأدوية، على الرغم من أنّه مناقض للقانون المذكور أعلاه”. ويشدّد نقيب الصيادلة على أنّه “لم يعد بإمكان الوكلاء الامتناع عن ذلك، اليوم، خصوصاً بعد صدور قرار مجلس شورى الدولة في كانون الثاني/ كانون الثاني 2025 بالدعوى التي تقدّمنا بها ضدّ الوزارة وربحناها. بالتالي صار لزاماً عليهم تطبيق ما ينصّ عليه قانون مزاولة مهنة الصيدلة، والحلّ الوحيد اليوم هو بتطبيق القانون ومندرجاته كافة”.
ويلفت سلّوم إلى أنّ “الشكاوى الأساسية تصل من الصيادلة، فالمخاوف موجودة حتماً (ومشروعة) من حصول أخطاء غير متعمّدة، في حال بيع دواء منتهي الصلاحية، الأمر الذي يعرّض حياة المرضى للخطر (وسلامتهم)، إذ قد يؤدّي إلى مضاعفات خطرة، ولا سيّما في حال مرّت مدّة طويلة على انتهاء مدّة صلاحيته”. يُذكر أنّ خطر الدواء منتهي الصلاحية يكمن في أنّ المادة الفاعلة فيه تفقد فعاليتها، بالتالي لا يعود قادراً على توفير العلاج اللازم.
ويشرح سلّوم أنّه “يجب على الوكلاء أو الشركات، في العادة، استرجاع الأدوية عندما يقترب تاريخ انتهاء صلاحيتها من ثلاثة أشهر، وذلك بعد أن يبلغ الصيدلي الوكيل أو المصنّع بذلك حتى يسحبا الدواء المعني ويسترجعاه”. وينفي سلّوم “وجود أيّ علاقة لتخزين الأدوية يوم كان الدعم قائماً عليها بمسألة الأدوية منتهية الصلاحية، خصوصاً أنّ الدواء المدعوم كان يُهرَّب إلى الخارج أكثر ممّا كان يُخزَّن في الصيدليات على الأراضي اللبنانية”، مشدّداً على أنّ “الأزمة (الراهنة) مرتبطة بعدم استرداد الأدوية، وبالتالي ببقائها على الرفوف”.
في المقابل، ردّت نقابة مستوردي الأدوية وأصحاب المستودعات في لبنان على بيان نقابة الصيادلة، وأفادت بأنّ “آلية استرجاع الأدوية تُطبَّق من جانب أعضائها وفقاً لأصول واضحة ومنظّمة وشفّافة، وبما ينسجم مع الواجبات المهنية المتّفق عليها. وفي حال وُجد أيّ خلل أو التباس في التطبيق، فإنّ مكان معالجته الطبيعي هو الحوار بين النقابتَين، بروح التعاون والتفاهم المعهودة، لا عبر المنابر الإعلامية وخلق التباسات لدى الرأي العام”. وأوضحت النقابة موقفها من “ملف المرتجعات الدوائية”، مبيّنةً أنّه “ملفّ تجاري بحت”، وشدّدت على أنّ “إثارة هذا الموضوع عبر الإعلام، في وقت إنّه قيد النقاش الجاد والمباشر حالياً بين نقابة الصيادلة ونقابتنا بإشراف وزارة الصحة العامة، لا تخدم الهدف المنشود، بل تفتح الباب أمام تأويلات غير دقيقة”. وجدّدت التأكيد أنّ “الموضوع تجاري، ولا يجوز تحت أيّ ظرف إعطاؤه بُعداً دوائيّاً أو أمنيّاً أو تصويره أزمة صحية”.
وذكرت نقابة مستوردي الأدوية وأصحاب المستودعات في لبنان أنّه “لا يجوز لأيّ صيدلي أن يبيع دواءً منتهي الصلاحية، بل عليه عزله عن الأدوية المصروفة وفقاً للأصول”، مشيرةً إلى أنّ “آلية إرجاع الأدوية منتهية الصلاحية موجودة ومعروفة لجميع الصيادلة، وهي تشمل أصنافاً محدّدة بكميّات منطقية، ويجري تطبيقها بشكل متوازن منذ سنوات”. وتساءلت النقابة، في بيانها نفسه، عن “خلفيّة طرح هذا الملف اليوم بالذات، في وقت تُبذَل جهود مشتركة لإيجاد حلول مسؤولة، وتحديداً بعدما تبيّن خلال الأشهر الماضية أنّ بعض الصيدليات التي كانت تشتكي من انقطاع الأدوية خلال اشتداد الأزمة في السنوات الماضية تطلب إرجاع كميات منتهية الصلاحية تعود إلى تلك الفترة المأزومة تحديداً. وهذا الواقع يطرح علامات استفهام حول حصول تخزين غير مبرّر للأدوية، أو عدم صرفها للمرضى في الوقت المناسب، على الرغم من الحاجة الملحّة إليها”.
وأعادت نقابة مستوردي الأدوية وأصحاب المستودعات، في بيانها اليوم، التشديد على “التزامها بمواصلة الحوار مع نقابة الصيادلة، واستعدادها لاسترجاع الأدوية منتهية الصلاحية وفقاً لآلية منطقيّة ومتوازنة، تأخذ في الاعتبار الكميات الفعلية والبيانات الواقعية”، مضيفةً أنّ “الشركات المستوردة لا تتهرّب من مسؤولياتها، لكنّها ترفض اعتماد أيّ مقاربة غير منطقية تُبرّر الهدر، سواء أكان هدراً في الأموال المرصودة لشراء أدوية جديدة أم هدراً في الموارد غير المصروفة أصلاً على الدواء”. وتابعت أنّ “هذا الملف لا يمتّ بصلة لا من قريب ولا من بعيد إلى أزمة الدواء في لبنان، بل يتعلّق حصراً بترتيبات مالية وتوزيعية بين المستوردين والصيادلة، ولا يجوز تحميله أبعاداً أخرى خارجة عن سياقه”.
أجرى وفد سوري، اليوم الاثنين، زيارة إلى بيروت، التقى خلالها نائب رئيس الحكومة اللبناني طارق متري حيث جرى البحث في القضايا المشتركة بين لبنان وسورية، على رأسها الملفات المتّصلة بالحدود واللجوء والموقوفين السوريين في السجون اللبنانية والمعتقلين والمفقودين اللبنانيين في الداخل السوري.
وضمّ الوفد السوري الوزير السابق ومدير الشؤون العربية في وزارة الخارجية محمد طه الاحمد والوزير السابق محمد يعقوب العمر مسؤول الادارة القنصلية، ومحمد رضا منذر جلخي، رئيس الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً. وخلال اللقاء، جرى البحث في القضايا المشتركة وسُبل معالجتها بما يعزّز الثقة والاحترام المتبادل والرغبة الصادقة في التعاون بين البلدين. كما جرى التطرّق إلى مسائل المعتقلين والمفقودين السوريين في لبنان والمفقودين اللبنانيين في سورية، والتعاون في ضبط الحدود ومنع التهريب، وذلك بحسب بيان موزّع عن اللقاء.
كما بحث اللقاء “قضية النازحين السوريين وعودتهم إلى بلادهم وأهمية تسهيلها، وتم الاتفاق على مراجعة الاتفاقات اللبنانية السورية وتحسينها والنظر في الاتفاقات والاجراءات التي تحفز التعاون الاقتصادي بين البلدين”. أيضاً، تقرّر تأليف لجنتين مختصّتين لإعداد النصوص التحضيرية لاتفاق قضائي وآخر يتعلق بالحدود تمهيداً لزيارة وزارية سورية إلى بيروت في فترة قريبة.
وكانت معلومات تحدثت عن اجتماع لبناني سوري كان سيعقد الأسبوع الماضي وقد أُرجئ من قبل الطرف السوري، بيد أن متري أكد حينها أنّه لم يُحدَّد بعد موعد رسمي للاجتماع، وبالتالي لا يمكن الحديث عن إلغائه أو إرجائه.
ويأتي الحراك اليوم على وقع الاتصالات الرسمية القائمة بين البلدين لحلّ المشاكل العالقة والقضايا المشتركة، وخصوصاً تلك التي ترتبط بضبط الحدود والمعابر ومنع التهريب بعد الأحداث الدامية التي حصلت في آذار/آذار الماضي، وصولاً إلى ترسيم الحدود براً وبحراً، وتعزيز التنسيق الأمني بما يحفظ استقرار كلّ من لبنان وسورية.
والملفان الأكثر تداولاً في هذه المرحلة هما ملف اللاجئين السوريين، وقد بدأت الحكومة اللبنانية تطبق خطة العودة الطوعية بالتعاون مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إلى جانب ملف الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية، خصوصاً بعدما زادت وتيرة مطالبات الموقوفين وتحركاتهم واحتجاجاتهم لحلّ ملفاتهم، بعد سنين قضوها في ظروف سيئة جداً، وبتوقيفات عشوائية، لمعارضتهم نظام الأسد، ولبقاء غالبيتهم من دون محاكمة.
وهذه الملفات كانت في صلب المباحثات التي جرت في إبريل/نيسان الماضي بين الرئيس السوري أحمد الشرع ورئيس الوزراء اللبناني نواف سلام في دمشق، إلى جانب التداول في تسهيل العودة الآمنة والكريمة للاجئين السوريين إلى أراضيهم ومنازلهم بمساعدة الأمم المتحدة والدول الشقيقة والصديقة، وبحث مصير المفقودين والمعتقلين اللبنانيين في سورية، بالإضافة إلى مطالبة السلطات السورية بالمساعدة في ملفات قضائية عدة، وتسليم المطلوبين للعدالة في لبنان، أبرزها تفجير مسجدي التقوى والسلام، وبعض الجرائم التي يُتهم بها نظام الأسد. كما جرى البحث في ملف الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية.
وشملت المباحثات أيضاً بحث التعاون في المجالات المختلفة، وفتح خطوط التجارة والترانزيت، وفي استجرار النفط والغاز، والنظر في خطوط الطيران المدني. كما جرى التطرق إلى البحث في الاتفاقيات بين البلدين والتي ينبغي إعادة النظر فيها، ومن ضمنها المجلس الأعلى اللبناني السوري.
يطلّ لبنان على أسبوع حافل بالمشاورات السياسية والاتصالات الداخلية والخارجية المكثفة، قبيل انعقاد جلسة مجلس الوزراء، يوم الجمعة، لمناقشة الخطة التطبيقية لحصر السلاح، وسط ترقّب لردات الفعل على مبادرة الحوار التي أطلقها رئيس البرلمان نبيه بري أمس الأحد. وشنّ بري أمس هجوماً على الورقة الأميركية، رافضاً السير بها، من دون أن يقفل الباب في المقابل على ملف حصر السلاح بيد الدولة، معرباً عن الانفتاح على مناقشة مصيره في إطار خريطة طريق تقوم على حوار هادئ توافقي، تحت سقف الدستور وخطاب القسم والبيان الوزاري والقوانين والمواثيق الدولية، بما يفضي إلى صياغة استراتيجية للأمن الوطني تحمي لبنان، وتحرّر أرضه، وتصون حدوده المعترف بها دولياً.
وتأتي مبادرة بري قبل أيام من الجلسة المنتظرة لمجلس الوزراء يوم الجمعة المقبل، بعدما كانت مقرّرة غداً الثلاثاء، إفساحاً في المجال أمام التوافق على حلّ يجنّب لبنان أي سيناريو صدامي، ولا سيما مع الجيش اللبناني، علماً أنّ الأنظار تبقى أيضاً على التهديد الإسرائيلي، الذي ترتفع وتيرته ويُترجم ميدانياً بتكثيف الغارات، للضغط على لبنان بغية التسريع في عملية نزع سلاح حزب الله، وكذلك أميركياً، في ظل التلويح بإمكان نزع السلاح بالقوة العسكرية.
وتتمسّك القوى المعارضة لحزب الله وحركة أمل بضرورة سير الحكومة بخطة سحب السلاح وعدم التراجع عن ذلك، معتبرة أن الفرصة اليوم متاحة لإنهاء هذا الملف، خصوصاً أن كل محاولات الحوار السابقة قد فشلت، ملوّحة بأن أي تأخير أو مماطلة أو خطوات رمادية من شأنها أن تزيد المخاطر على لبنان. وبحسب معلومات “العربي الجديد”، فإن “مبادرة بري قيد الدرس من قبل الرئيسين جوزاف عون ونواف سلام، وهما حريصان على السير بأي خطوة من شأنها أن تجنّب البلاد أي صدام، لكن في الوقت نفسه متمسّكان بالمضي قدماً بحصر السلاح بيد الدولة، وكذلك بانعقاد جلسة مجلس الوزراء يوم الجمعة، وضرورة مشاركة الجميع فيها لمناقشة الخطة التي كُلّف الجيش بوضعها، فهذه أيضاً بالنسبة إلى الرئيسين فرصة للنقاش وتبادل الآراء، وضمن مؤسسات الدولة، علماً أن القرار بشأن الخطة قد لا يتخذ في الجلسة نفسها”.
وتبعاً للمعلومات، فإنّ “الرئيس عون يجري اتصالات خارجية، ولا سيما مع فرنسا وأميركا، من أجل الضغط على إسرائيل لتنفيذ تعهداتها، والإشارة إلى الخطوات التي قام بها لبنان حتى اليوم، والتي تظهر مدى جديته في تطبيق قراراته، لكن في الوقت نفسه يجب أن يُلاقى بخطوات مقابلة وضمانات من شأنها أن تزيل الهواجس اللبنانية”. وفي هذا الإطار، يقول مصدر مقرّب من بري لـ”العربي الجديد”، إنّ “رئيس البرلمان قدّم أمس مبادرته، ودعا إلى الحوار، كما يدعو إليه دائماً، فلا يمكن حلّ أي أزمة في لبنان إلّا بالتوافق والالتقاء، ولا يمكن القبول بالضغط على لبنان بهذا الشكل وتهديده”.
ويلفت إلى أن “بري لم ينع الورقة الأميركية، بل على العكس، فلبنان ليس الطرف الذي يخرق الاتفاقات، والدليل أنه منذ إقرار أهدافها، زادت الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، كما أن الموفد توماس برّاك لم يأتِ بأي جواب إسرائيلي، لا بل على العكس تراجع عن كلامه، وبالتالي، لا يمكن تحميل لبنان اللوم”. ويشدد المصدر على أن “فرصة لبنان الوحيدة تبقى في الحوار الداخلي، وعلى جميع الأفرقاء الالتقاء ووضع الخلافات والحسابات السياسية الخاصة جانباً، ونحن سننتظر ردات الفعل”، لافتاً إلى أن “حزب الله وحركة أمل يدرسان خطواتهما، وكل الاحتمالات مفتوحة حتى جلسة الجمعة، وفيها، ولن نفعل إلا ما هو في مصلحة لبنان والحفاظ على مؤسسته العسكرية”.
على خطّ آخر، تتجه الأنظار إلى الخطة التي أعدّها الجيش اللبناني لحصر السلاح، والتي يجب أيضاً أن تلقى الضوء الأخضر من الولايات المتحدة التي طلبت الاطلاع عليها. ويؤكد مصدر عسكري لـ”العربي الجديد”، أنّ “الجيش، ومن خلال لجنة عسكرية موسّعة، أعدّ خطة تطبّق على مراحل، سواء على صعيد نوعية السلاح، أو تقسيم المناطق، وعمل عليها بهدوء ودقة، لأن هدفه الأساسي حماية السلم الأهلي والاستقرار”. ويشير المصدر إلى أن “الخطة تشمل أولاً كيفية سحب السلاح وإنهاء كافة العمليات في جنوب الليطاني التي سبق أن بدأت، علماً أن ما يعيق استكمال الجيش انتشاره هو استمرار الاحتلال والاعتداءات، ومن ثم شمال الليطاني والمناطق الأخرى، كما تُركّز على التحديات التي يواجهها الجيش والحاجات اللازمة للقيام بمهامه، ومن هنا تتضمن بالتالي المطالبة بتعزيز قدراته وتقديم الدعم المطلوب له”.
في مثل هذا اليوم من كلّ عام، تُنكأ جراح كثيرين، إذ يستذكرون أحبّاء يُطلق عليهم “مفقودون” أو “مخفيون قسراً“. ويعاني لبنان خصوصاً في هذا المجال.
في عام 2010، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة 30 آب/ آب من كلّ عام يوماً عالمياً لضحايا الإخفاء القسري من أجل تذكير العالم بالمصير المجهول لآلاف الأشخاص المغيَّبين قسراً، وبما تعانيه عائلاتهم العالقة في الانتظار. وفي لبنان، يحلّ هذا اليوم في هذا العام مع رمزية خاصة؛ في الذكرى الخمسين للحرب اللبنانية (1975) وما تلاها لم تجفّ دموع الأمهات اللواتي ما زلنَ يرفعنَ صور أبنائهنّ بحثاً عن حقيقة غائبة.
وكان قانون المفقودين والمخفيين قسراً قد أُقرّ في عام 2018 في لبنان قبل أن تُشكَّل في عام 2020 هيئة وطنية مستقلة لتولّي هذا الملف. لكنّ الأهالي، حتى اليوم، لم يتلقّوا خبراً واحداً عن أحبّتهم المفقودين، في حين لا قبور يزورونها، ولا شهادات وفاة، ولا أدلّة علمية لإثبات أيّ شيء… فراغ فقط يبتلع الأمل ويُطيل زمن الانتظار. وعلى مدى عقود، تنقّل هؤلاء بين المسؤولين، وطرقوا أبواب الوزارات والمحاكم، ونظّموا مسيرات، ورفعوا صور أبنائهم، ووقّعوا عرائض وطنية، متشبّثين بحقّهم في معرفة الحقيقة.
تقدّر المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي في لبنان عدد المفقودين بالبلاد بنحو 17 ألف شخص، لكن لا إحصاءات رسمية تحدّد العدد بدقّة. أمّا سجلات الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً فتضمّ أسماء أكثر من ألفَي مفقود، 94% منهم من الرجال و6% من النساء، علماً أنّ 79% من بينهم لبنانيون و15% فلسطينيون و2% سوريون و4% من جنسيات أخرى. وكان عام 1976، العام الثاني من الحرب اللبنانية، قد سجّل 468 مفقوداً، تلاه عام 1982 مع 452 مفقوداً.
تقول رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين، وداد حلواني، لـ”العربي الجديد” إنّ “اللجنة لم تتواصل مع 17 ألف عائلة مفقود، فهذه مهمّة الدولة”. تضيف: “نحن بادرنا، منذ تشكيل اللجنة في عام 1982، والحرب كانت لا تزال مشتعلة، إلى دعوة كلّ من فقد فرداً من أسرته إلى إدراجه في سجلاتنا. وتضمّ لوائح اللجنة ما بين 2500 و2600 مفقود”.
وتشدّد حلواني على أنّ “القضية لم تعد تحتمل الانتظار. هذه ليست قضية تحتاج إلى تدخّل أميركي أو إيراني، إنّها قضية داخلية ويجب أن تُحلّ. لا أحد يريد محاسبة المرتكبين على الماضي، لكنّ من يحرم الأهالي اليوم من حقّهم في معرفة مصير أحبّتهم هو المسؤول أمامنا وأمام التاريخ”.
وأدرج رئيس الحكومة اللبناني نواف سلام قضية المفقودين والمخفيين قسراً في البيان الوزاري الأخير، متعهّداً بأنّ حكومته سوف تعمل لتطبيق القانون ودعم الهيئة الوطنية. أمّا على الأرض، فلم يلمس الأهالي أي تقدّم في هذا الشأن. وتؤكد حلواني: “لم نلمس سوى اهتمام شفهي. تأمّلنا بالعهد الجديد، لكنّ شيئاً لم يتحقّق”، مضيفة أنّ الأمر يقتصر على “الكلام فقط”.
ووافق مجلس الوزراء، في حزيران/ حزيران الماضي، على مشروع مرسوم لتعيين عشرة أعضاء جدد للهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً بعد انتهاء ولاية الأعضاء الأوائل في تموز/ تموز الماضي الذي تبعه، لكنّ أيّ مرسوم لم يُصدر حتى الآن، ولم يقسم الأعضاء الجدد اليمين.
من معرض صور مفقودين في خلال الحرب اللبنانية، بيروت، 13 إبريل 2010 (أنور عمرو/ فرانس برس)
ويوضح المحامي زياد عاشور، رئيس الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً بالإنابة، أنّ “تأخّر المرسوم يعود إلى اعتذار أحد القضاة عن قبول المهمّة، الأمر الذي أوقف صدوره إلى حين تسمية بديل”. ويكمل: “لكنّ هذا غير مبرّر. ففي عام 2020، اعتذر أحد القضاة كذلك، ولم يؤخّر ذلك صدور المرسوم وأدّينا اليمين أمام رئيس الجمهورية”. ويلفت إلى أنّ “التأخير يبيّن أنّ القضية ليست من ضمن الأولويات”.
وإلى جانب العقبات الإدارية، يواجه ملف المفقودين في لبنان صعوبات تقنية كبيرة. في عام 2012، أطلقت اللجنة الدولية للصليب الأحمر مشروع جمع “معلومات ما قبل الإخفاء”، بما يشمل بيانات المفقودين وأخذ عيّنات حمض نووي من ذويهم، خصوصاً كبار السنّ منهم، استعداداً لأيّ كشف مستقبلي عن مقابر جماعية على سبيل المثال. وقد جُمعت نحو ألفَي عيّنة، لكنّها لم تُسلَّم بعد إلى الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً.
ويعيد عاشور السبب إلى أنّ “الهيئة تفتقر إلى البنية التحتية المؤهّلة لحفظ البيانات والعينات بطريقة آمنة، لذا بقيت لدى اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وقد نُقلت إلى خارج لبنان أخيراً بسبب الحرب (الإسرائيلية الأخيرة)، من أجل الحفاظ عليها”.
وفي عام 2023، ظهرت في مدوخا بقضاء البقاع الغربي (شرق) مقبرة جماعية يُرجَّح أنّها تضم رفات مقاتلين فلسطينيين تعود إلى زمن الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982. قبل ذلك، في عام 2005، كُشف عن مقبرة بالقرب من وزارة الدفاع الوطني في اليرزة بقضاء بعبدا (وسط). وفي مواقع أخرى، عُثر على رفات بلا هوية، كأنّما الماضي ينبش نفسه من تحت التراب ولا يجد من يجيبه. ويبدو أنّ التكنولوجيا وحدها لا تكفي، فالإمكانيات شحيحة، والبحث عن الحقيقة يصطدم دائماً بجدار الدولة العاجزة أو المتواطئة.
وفي كلّ مرّة يُكشَف عن رفات، تُنبش كذلك ذاكرة الأهالي الذين لم يهدؤوا يوماً. بعد 50 عاماً من اندلاع الحرب اللبنانية (1975 – 1990)، ما زالوا يرفعون صور أبنائهم في الساحات ويروون الحكايات في المعارض والندوات، فيحوّلون الغياب إلى حضور عنيد والوجع الفردي إلى قضية وطنية.
وداد حلواني ورفاقها لم يتعبوا، ولم يساوموا، ولم يهادنوا. هم يعرفون أنّ معركتهم ليست لتحديد مصير المفقودين فقط، بل هي من أجل الحقّ والاعتراف والذاكرة، للإثبات أنّ هؤلاء لم يتعرّضوا للإخفاء عبثاً، وأنّ وجودهم ليس قابلاً للمحو، حتى لو كان الاعتراف الأخير ورقة رسمية بعنوان “شهادة وفاة”.
“أين هم؟” سؤال ما زال يُطرَح منذ نصف قرن. كثيرات هنّ الأمهات اللواتي لم يتوقّفنَ عن التشبّث بصور أبنائهنّ، لم يتوقّفنَ عن انتظار المستحيل. بالنسبة إليهنّ، كلّ يوم يمرّ يعني تلاشي احتمال اللقاء. لكن ثمّة أمهات سلّمنَ الشعلة إلى أفراد آخرين من العائلة. وتقول وفاء حوحو، شقيقة المفقود اللبناني جمال، الذي خُطف في عام 1978 وهو في الثامنة عشرة من عمره، لـ”العربي الجديد إنّ “في البداية، كنّا نتلقّى أخباراً عنه. لكن بعد الحرب في سورية، انقطعت كلّ الأخبار. ما زلنا نعيش على الأمل. لا أستطيع أن أقطع الأمل لأنّني لم أرَ بعيني أيّ شيء”. بدورها، تقول فاطمة كبارة، شقيقة المفقود اللبناني محمد لـ”العربي الجديد”: “لو كانوا ميتين نعرف أنّهم ميتون، لكن هكذا لا نعرف عنهم أيّ شيء”، مؤكدةً أنّ “الأمر صعب جداً”.