
آن فرانك وهند رجب.. الطفولة مذبوحةً في زمني الإبادة النازية والإسرائيلية
وُلدت آن فرانك في فرانكفورت بألمانيا عام 1929، وتوفيت عام 1945 في أحد معسكرات الاعتقال النازية، قبيل إعلان الحلفاء انتصارهم على ألمانيا في العام نفسه.
وبعد خمسٍ وتسعين سنة من ولادة آن، وُلدت هند رجب عام 2018 في حي تل الهوى بقطاع غزة. ومثل آن، لم يكتب لها أن تكبر وترى العالم كما رآه أقرانها، إذ رحلت طفلة صغيرة قبل أن تصبح امرأة وأمًا.
رحلت هند عام 2024 خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المستمر منذ 7 تشرين الأول/ تشرين الأول 2023.
كانت آن فرانك في الخامسة عشرة حين توفيت جرّاء المرض داخل معسكر الاعتقال، فيما رحلت هند رجب بعد تسعة وسبعين عامًا من وفاة آن، عن ست سنوات فقط، في أكبر معتقل عرفه التاريخ الحديث: قطاع غزة.
كلتاهما طفلتان وجدتَا نفسيهما في قلب صراع دموي كبير وطاحن لا يد لهما فيه، ولا حيلة.
وبينما كانت آن فرانك ضحية أفظع إبادة عرفها التاريخ الحديث ضد يهود أوروبا، كانت هند رجب ضحية أحفاد ضحايا تلك الإبادة (الهولوكست النازي)، الذين أنشأوا دولتهم على أرض أجدادها، واستمروا منذ ذلك الحين في قتل سكانها، وصولًا إلى العدوان الأخير على غزة. وقد دفع ذلك البابا الراحل فرنسيس إلى القول إن ما يحدث في قطاع غزة يحمل سمات “الإبادة الجماعية”.
وفي تشرين الثاني/ تشرين الثاني 2024، اقترح بابا الفاتيكان الراحل على المجتمع الدولي دراسة ما إذا كانت العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة تُشكّل فعلًا إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني.
هند رجب.. طفولة مغدورة
استشهدت الطفلة هند رجب في كانون الثاني/ كانون الثاني 2024، خلال قصف استهدف حي تل الهوى، مسقط رأسها في مدينة غزة.
وبسبب الهلع الذي خلّفه القصف العنيف آنذاك، هربت هند مع أقارب لها داخل سيارة بحثًا عن ملاذ آمن، لكن السيارة لم تسلم من القصف.
وكانت طفلة أخرى أكبر سنًا من هند بين الركاب، فاتصلت بالهلال الأحمر الفلسطيني طالبة المساعدة، فيما كانت دبابة إسرائيلية تقترب من السيارة مطلقة النار عليها وعلى من فيها، قبل أن ينقطع الاتصال.
وكان آخر ما دوّن في نداء الاستغاثة قول الطفلة للموظف في الهلال الأحمر الفلسطيني على الجانب الآخر: “عمو، قاعدين بطخوا علينا. الدبابة جنبنا. إحنا بالسيارة وجنبنا الدبابة”، قبل أن يُسمع صوت وابل من الرصاص يتبعه صراخها.
وقد بثّت قنوات عربية تسجيل المكالمة خلال تغطية العدوان على غزة، فاجتذب اهتمام عشرات الآلاف من المشاهدين في المنطقة والعالم، وتحوّل صراخ الطفلة ورعبها إلى مصدر تعاطف وقلق لمعرفة مصير ركاب السيارة وما إذا نجا أحدهم.
قتلتهم إسرائيل جميعًا
واكبت الفضائيات العربية الحدث عبر مقابلات مباشرة مع مؤسسات الإغاثة والإنقاذ، ومنها الهلال الأحمر الفلسطيني الذي حاول مرارًا معاودة الاتصال بالرقم الذي خرجت منه مكالمة الاستغاثة.
وفي إحدى المحاولات الأخيرة نجح الاتصال، وسمع خلالها صوت خائف يردّ على المكالمة. إنه صوت الطفلة هند رجب التي كانت تشعر بالذعر، وكانت الناجية الوحيدة من القصف، فأرسلوا لها فريق إنقاذ لكنّ الاتصال بهذا الفريق سرعان ما انقطع بدوره.
بعد اثني عشر يومًا من الغموض وغياب أي أثر، عُثر على جثث هند وأقاربها، إلى جانب جثث فريق الإنقاذ الذي تعرّضت سيارته بدورها للقصف، فلم يتمكن من إنقاذها ومن معها.
لم تنته القصة هنا، فثمة أسطورة نشأت باستشهاد هند، إذ سرعان ما تحوّلت إلى أيقونة عابرة للحدود والثقافات، تتعلق بمفهوم العدالة وعدم الإفلات من العقاب، وعلى نحو معقّد تحوّلت هند إلى ضحية نموذجية تختزل سيرتها قضية شعبها الكبرى.
واكتسبت “صورة الضحية” الفلسطينية من خلالها بعدًا جديدًا، مؤسساتيًا، بقيام شابين لبنانيين بتأسيس مؤسسة تحمل اسم مؤسسة هند رجب في بروكسل في أيلول/ أيلول 2024.
وتسعى المؤسسة لكسر “إفلات الاحتلال الإسرائيلي من العقاب”، فيما يتعلق بجرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان في فلسطين وخصوصًا في قطاع غزة.
وسرعان ما تحوّلت هند رجب بفضل المؤسسة التي تحمل اسمها إلى كابوس لإسرائيل وجنود الاحتلال، إذ قدّمت حتى تشرين الأول/ تشرين الأول 2024، شكاوى ضد 1000 جندي إسرائيلي إلى المحكمة الجنائية الدولية، مطالبة بإصدار مذكرات اعتقال بحقهم، ومدعمة شكاواها بأدلة من بينها “بصماتهم الرقمية” المنشورة عبر صور ومقاطع فيديو وثّقت جرائم حرب محتملة.
كما تعقّبت المؤسسة الجنود في الدول التي زاروها، ما اضطر إسرائيل إلى ترحيل بعضهم في اللحظات الأخيرة لتجنيبهم الاعتقال والمحاكمة.
آن فرانك وذعر الهولوكست
وُلدت آن فرانك عام 1929 في فرانكفورت، وتُعدّ من أشهر الرموز اليهودية، لسببين: أولًا، لأنها تختزل صورة الضحية اليهودية للهولوكوست، وثانيًا لمذكّراتها التي عُثر عليها بعد وفاتها عام 1945، والتي رصدت يومياتها خلال اختبائها مع عائلتها في هولندا هربًا من الملاحقة النازية.
أصبحت مذكّراتها، المعنونة بـ”مذكّرات فتاة صغيرة”، نصًا مرجعيًا في تصوير الضحية، وحظيت بانتشار واسع بعد تحويلها إلى أفلام ومسرحيات ووثائقيات.
بعد أربع سنوات من ولادتها، انتقلت عائلتها إلى أمستردام (هولندا) عام 1933 إثر وصول النازيين إلى الحكم في ألمانيا.
تحولت يوميات آن فرانك إلى أفلام سينمائية ووثائقية منذ الخمسينيات – موسوعة الهولوكست
وبعد الاحتلال الألماني لهولندا عام 1940 وما تبعه من إجراءات اتخذتها السلطات النازية ضد اليهود من مصادرة ممتلكات وملاحقات، اضطرت العائلة عام 1942 للاختباء في “غرف سرية” بمبنى كان يعمل فيه والد آن. لكن السلطات النازية اكتشفت أمرهم بعد عامين، وأرسلتهم إلى معسكرات الاعتقال حيث ماتت آن وشقيقتها بسبب المرض عام 1945.
وبعد هزيمة النازية في الحرب العالمية الثانية، عثر والدها على يوميات ابنته آن، فنشرها عام 1947، ومنذ ذلك الحين تُرجمت إلى لغات عدة، وحُوّلت إلى المسرح والسينما، منها فيلم “يوميات آن فرانك” (1959) من إخراج الأميركي جورج ستيفنز، والفيلم الألماني “مذكرات آن فرانك” (2016) للمخرج هانز شتاينبيشلر، إضافة إلى أعمال وثائقية ومسلسلات.
هند رجب في السينما
وعلى خطى آن، وجدت هند نفسها في المسار الإنساني ذاته العابر للقوميات والأعراق، والذي لا يُعنى سوى بآلام الإنسان الصغير في أزمنة الحروب والصراعات الكبرى، إذ سرعان ما طرق بابها الفن السابع، فصُوّرت مأساتها في فيلم وثائقي هو الأول من نوعه عن حياتها ورحيلها.
ملصق فيلم صوت هند رجب للتونسية كوثر بن هنية – موقع المخرجة على فيسبوك
فقد أخرجت المخرجة التونسية كوثر بن هنية فيلم “صوت هند رجب“، بعد أن سمعت صدفة التسجيل الصوتي لنداء استغاثتها. وقالت إنها شعرت حينها أن الأرض تهتز من تحتها، فاتصلت بالهلال الأحمر الفلسطيني لتسمع التسجيل كاملًا، ثم قررت تحويل القصة إلى فيلم.
وتروي بن هنية شعورها بالعجز والحزن الشديد عندما سمعت بالصدفة العام الماضي التسجيل الصوتي لهند رجب قبل مقتلها، قائلة إنها شعرت أن الأرض أخذت تهتز من تحتها، وإنها سارعت بعد ذلك، للاتصال بالهلال الأحمر الفلسطيني لسماع التسجيل الصوتي كاملًا، قبل أن تقرر صناعة فيلم عن الطفلة الفلسطينية.
تؤكد بن هنية أن جوهر فيلمها “بسيط جدًا لكن يصعب التعايش معه”، مضيفة: “لا أستطيع تقبّل عالم يطلب فيه طفل النجدة ولا أحد يلبّي. هذا الألم وهذا الفشل نشعر به جميعًا”.
وتوضح بن هنية أن قصة فيلمها لا تخص الفلسطينيين وحدهم، بل تعبّر عن حزن عالمي، وأن “الحبكة الأدبية، خاصة عندما تُستمد من أحداث حقيقية موثقة ومؤلمة، تكون أقوى أدوات السينما، التي تقوم بدورها بحفظ الذكرى ومقاومة النسيان”.
ويُعرض الفيلم ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية السينمائي بدورته الـ82 التي افتُتحت في 27 آب/ آب وتستمر حتى 6 أيلول/ أيلول الجاري، حيث يتنافس 21 فيلمًا طويلًا على جائزة الأسد الذهبي، بينها “صوت هند رجب”، وفقًا للمدير الفني للمهرجان ألبرتو باربيرا.
رسالة “البندقية” من أجل فلسطين
وقبيل عرض الفيلم، أعلن عدد من نجوم هوليوود انضمامهم إلى فريق إنتاجه وترويجه، منهم بحسب موقع “ديد لاين” الإخباري الأميركي، براد بيت وخواكين فينيكس وروني مارا وألفونسو كوارون، وجوناثان غليزر.
ولم تحضر هند رجب إلى مهرجان البندقية وحدها، بل حضرت غزة أيضًا، إذ شهدت الدورة الحالية تظاهرات شارك فيها آلاف الأشخاص تضامنًا مع الفلسطينيين، ورُفعت خلالها الأعلام الفلسطينية ولافتات تطالب بمقاطعة إسرائيل و”وضع حد للإبادة” وسط عدد كبير من الأعلام الفلسطينية. وهتافات “فلسطين حرة”.
كما عبّر عدد من الفنانين المشاركين في المهرجان عن دعمهم للفلسطينيين، من بينهم المخرجة المغربية مريم التوزاني وزوجها المخرج نبيل عيوش اللذان حملا لوحة سوداء كُتب عليها “أوقفوا الإبادة الجماعية في غزة” على السجادة الحمراء، فيما ارتدى المخرج اليوناني يورغوس لانثيموس دبوسًا بألوان العلم الفلسطيني خلال المؤتمر الصحافي لفيلمه الروائي الطويل “بوغونيا”.
وشهد الافتتاح أيضًا حملة توقيعات على رسالة مفتوحة أطلقتها مجموعة “البندقية من أجل فلسطين”، أسسها عشرة مخرجين إيطاليين مستقلين، تندد بالحرب على غزة.
وقال فابيوماسيمو لوزي، أحد مؤسسي المجموعة: “الهدف من الرسالة كان وضع غزة وفلسطين في قلب الاهتمام العام في البندقية، وهذا ما تحقق”، مؤكدًا أن الرسالة جمعت ألفي توقيع، بينها أسماء بارزة في السينما العالمية، من كين لوتش إلى أودري ديوان مرورًا بأبيل فيرارا.