أكّدت الجامعة العربية في وثيقة بعد اجتماعها الذي انتهى أمس الجمعة، أن لا تعايش سلمياً في منطقة الشرق الأوسط، في ظل استمرار احتلال إسرائيل لأراضٍ عربية، وسعيها لضمّ أراضٍ أخرى، واستمرارها في “مآذاراتها العدائية”. وتبنت الجامعة، الخميس، خلال الاجتماع الذي عُقد في مقرّها في القاهرة على المستوى الوزاري، “الرؤية المشتركة للأمن والتعاون في المنطقة” التي تقدّمت بها مصر والسعودية، وتحدّثت عن “تقويض مسارات السلام والأمن والاستقرار كافة، ولا سيما عبر مواصلة إسرائيل… من دون رادع لحربها العبثية على قطاع غزة (…) والانتهاكات الجسيمة من قتل وحصار وتجويع وضمّ أراضٍ واستيطان ومحاولة تهجير الشعب الفلسطيني”.
وشدّدت القرارات الصادرة عن الجامعة العربية على “عدم إمكانية التعويل على ديمومة أي ترتيبات للتعاون والتكامل والتعايش بين دول المنطقة، في ظل استمرار احتلال إسرائيل لبعض الأراضي العربية أو التهديد باحتلال أو ضمّ أراضٍ عربية أخرى”. وثمة اتفاق سلام بين كل من مصر والأردن مع إسرائيل، فيما وقّعت الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب اتفاقات تطبيع مع الدولة العبرية في عام 2020. وكانت السعودية تتفاوض مع إسرائيل حول التطبيع حتى السابع من تشرين الأول/ تشرين الأول 2023، تاريخ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، التي تسبّبت بوقف هذه المفاوضات.
وجدّدت الجامعة العربية في البيان الصادر عنها، التأكيد أن “غياب التسوية السلمية للقضية الفلسطينية هو السبب الرئيسي في اندلاع جولات عنف” في المنطقة، مشيرة الى أن هذه التسوية تتمّ من خلال حل الدولتين ومبادرة السلام العربية لعام 2002 التي عُرفت بالأرض مقابل السلام، وانسحاب إسرائيل حتى خطوط الرابع من حزيران/ حزيران 1967 وتجسيد القضية الفلسطينية. وتحفظت كل من تونس والعراق عن بعض التعابير في هذه الفقرة الأخيرة. من جهتها، أشادت مصر بالقرار، وأكّدت أن “لا مجال للسماح بهيمنة أي طرف على المنطقة، أو فرض ترتيبات أمنية أحادية تنتقص من أمن المنطقة واستقرارها”.
وعقدت الجامعة العربية في شهر آب/ آب الماضي، اجتماعاً طارئاً، دانت فيه خطة إسرائيل لاحتلال قطاع غزة، معتبرة ذلك بمثابة “عدوان سافر على جميع الدول العربية وأمنها القومي ومصالحها السياسية والاقتصادية، وتهديد للأمن والسلام والاستقرار في المنطقة”، داعية الجزائر والصومال، العضوين في مجلس الأمن، والمجموعة العربية في نيويورك، إلى تقديم مشروع قرار لإلزام إسرائيل بوقف إطلاق النار في غزة.
وطالب البيان الختامي “المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل لوقف عمليات الإبادة والتجويع للفلسطينيين في قطاع غزة. وأعرب مجلس جامعة الدول العربية عن إدانته “قرارات وخطط حكومة الاحتلال الإسرائيلي لفرض السيطرة العسكرية الكاملة على قطاع غزة، وتهجير الشعب الفلسطيني، وجرائم العدوان والإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي ترتكبها إسرائيل في غزة والضفة الغربية المحتلة، بما فيها مدينة القدس”.
كشف موقع “دروب سايت نيوز” أن شركة “غوغل” أبرمت اتفاقا بـ45 مليون دولار مع مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، للترويج لرواية تل أبيب، والتنصل من الجرائم التي ترتكبها بحق فلسطينيي قطاع غزة على مدار 700 يوم، في واحدة من أطول وأقسى المآسي الإنسانية في العصر الحديث.
وأفاد “دروب سايت نيوز”، الأربعاء الماضي، بأن “شركة غوغل، بموجب عقد مدته 6 أشهر بقيمة 45 مليون دولار، أبرمته مع نتنياهو، تساهم في الترويج لرسائل الحكومة الإسرائيلية، والتقليل من شأن الأزمة الإنسانية في غزة”.
وحسب الموقع، فإن العقد قد وُقّع أواخر حزيران/حزيران الماضي، ويصف غوغل بأنها “جهة رئيسية” في دعم إستراتيجية نتنياهو للعلاقات العامة.
ووفقا للتقرير، تُدار الإعلانات عبر يوتيوب ومنصة “غوغل ديسبلاي آند فيديو 360″، وتُوصف في الوثائق الحكومية الإسرائيلية بأنها “هاسبارا”، وهو مصطلح عبري يُترجم غالبا إلى “دعاية”.
الجرائم الإسرائيلية في غزة طالت البشر والحجر ( الأوروبية)
دعاية وإدانة
وتُظهر السجلات أن إسرائيل أنفقت أيضا 3 ملايين دولار على الإعلانات عبر منصة شركة “إكس” الأميركية، و2.1 مليون دولار عبر منصة “أوت برين” الإسرائيلية.
وقال متحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي آنذاك “إن السلطات قد تُطلق حملة رقمية لتوضيح عدم وجود سياسة تجويع بغزة وعرض البيانات”.
ومنذ ذلك الحين، انتشرت على نطاق واسع إعلانات حكومية إسرائيلية تُنكر وجود مجاعة في غزة، بما في ذلك مقطع مصور على يوتيوب من قبل وزارة الخارجية الإسرائيلية، جاء فيه أن “هناك طعاما في غزة، وأن أي ادعاء آخر هو كذبة”
وقد حصد المقطع أكثر من 6 ملايين مشاهدة، وقد رُفع جزء كبير منه من خلال إعلانات ترويجية مدفوعة.
ويتزامن تكثيف تل أبيب أساليب الدعاية لترويج روايتها مع تزايد الإدانة الدولية لإغلاق إسرائيل، في 2 آذار/آذار الماضي، جميع المعابر المؤدية إلى غزة مانعة أي مواد غذائية أو علاجات أو مساعدات إنسانية، ما أدخل القطاع في مجاعة رغم تكدس شاحنات الإغاثة على حدوده.
غزة- مع استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وانقطاع الكهرباء منذ الأيام الأولى، اتجه مستثمرون محليون لإحياء مشاريع تشغيل مولدات كهربائية كبيرة، بهدف إنشاء شبكات توزيع للمنازل والمحلات مقابل رسوم مالية.
وليست هذه المشاريع جديدة تماماً، فقد وُجدت قبل الحرب لكنها توقفت نتيجة القصف وتعطل شبكاتها، لتعود اليوم بقوة، خصوصاً المنطقة الوسطى الأكثر أماناً نسبياً.
ويعكس إقبال المواطنين على هذه المولدات الحاجة الماسة إلى التيار الكهربائي ولو لساعات محدودة يومياً، لتمكين العائلات من شحن الهواتف وتشغيل الأجهزة الأساسية، والسماح للمحلات والورش بإنجاز أعمالها.
وبرغم التكلفة المرتفعة، اعتبر كثيرون هذه المولدات “شريان حياة” لا غنى عنه في ظل الظلام المستمر.
أرقام تكشف حجم التحدي
في مخيم النصيرات وسط القطاع، أعادت شركات محلية مثل “أبناء فارس أبو زايد للتجارة والمولدات الكهربائية” و”أبو خوصة للمولدات” النور إلى الشوارع والمحال بعد عتمة طويلة.
ويعتمد المشروع على تشغيل شبكة مولدات كبيرة تعمل بالسولار الصناعي من الثامنة صباحاً حتى الساعة 11 ليلاً، رغم المخاطر الأمنية والتكاليف العالية.
مناطق وأحياء كاملة بالنصيرات مضاءة من خلال مولدات شركة أبو زايد (الجزيرة)
ويوجد في المنطقة 5 مولدات بقدرة إنتاجية تبلغ 1.5 ميغاواط، ويحتاج تشغيلها في الساعة الواحدة إلى 120 لتر سولار بتكلفة 60 شيكلاً (نحو 18 دولاراً) للتر الواحد، مما يعني كلفة تشغيلية إجمالية تصل إلى 7800 شيكل (نحو 2200 دولار) يومياً.
ورغم الأعباء المالية، فإن تشغيل هذه المولدات أسهم في إعادة بعض النشاط الاقتصادي للأسواق والأحياء.
شهادات من قلب الأزمة
انعكست هذه الخطوة مباشرة على حياة الناس. ويقول للجزيرة نت أبو إبراهيم خليفة (صاحب محل خياطة بسوق النصيرات) إنه بعد أن كان يعتمد على العمل اليدوي المرهق وقليل الإنتاجية “أصبحت أعتمد على كهرباء المولدات التي صارت شريان الحياة بالنسبة لي. الماكينات تنجز العمل بسرعة، وأي انقطاع يتسبب في توقف رزقي”.
إعلان
وأضاف أبو إبراهيم “الرسوم مرتفعة بلا شك، لكنها تظل مقبولة قياساً بالمردود الذي يغطّي التكلفة ويحافظ على زبائني وسمعتي”.
لكن الصورة ليست وردية للجميع، فمحمد عبد الفتاح، الذي اشترك بخط كهرباء بسعة 4 أمبيرات، قال “السعر مرتفع جداً. الحد الأدنى 100 شيكل أسبوعياً (نحو 30 دولاراً) أي أكثر من 400 شيكل شهرياً، وهذا عبء ثقيل على العائلات البسيطة”.
ويضيف المواطن “كثيرون يضطرون للتقشف في احتياجاتهم كي يدفعوا مقابل الكهرباء”.
موقف رسمي ورؤية اقتصادية
واعتبرت بلدية النصيرات عودة المولدات “حلاً إسعافياً مؤقتاً” بعد توقف محطة الكهرباء نتيجة الاستهداف الإسرائيلي.
وقال مصدر مسؤول بالبلدية إن هذه المشاريع “ساهمت في تخفيف المعاناة اليومية وتوفير احتياجات أساسية، لكنها في المقابل تسبب ضوضاء وتلوثاً وتفرض تكاليف باهظة”.
إضاءة سوق النصيرات ليلا يمنح المواطنين شعورا بالراحة النفسية (الجزيرة)
وأوضح أن أصحاب المولدات يقدمون خدمات مجانية مثل إنارة الشوارع وتشغيل آبار المياه، مشيرا إلى أن البلدية تقدم تسهيلات لهؤلاء تتعلق بتحديد أماكن التشغيل ومنح إرشادات فنية، لكنها تراها حلولاً طارئة لا يمكن أن تكون بديلاً دائماً عن الشبكة العامة.
واقتصادياً، أوضح الأكاديمي سمير أبو مدللة أن سعر الكيلو من كهرباء المولدات يصل إلى 35 شيكلاً (10 دولارات) مع حد أدنى أسبوعي يبلغ 50 شيكلاً (15 دولاراً).
وأوضح أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر أن التكلفة تشمل الوقود والكوابل وأجور العمال ونقل المولدات، إلى جانب المخاطر العالية، مما يجعل الأسعار مرتفعة ولا تناسب غالبية الأسر الفقيرة، وإن كانت مقبولة للمحال التجارية التي تستطيع تحميلها على أسعار السلع.
أبعاد إنسانية ونفسية
وبدا الأثر النفسي لهذه المشاريع جلياً أيضاً، ويقول استشاري الصحة النفسية نعيم العبادلة -للجزيرة نت- إن عودة الكهرباء ولو لساعات قليلة تبعث الأمل لدى الأسر “وتخفف القلق والتوتر، خاصة بين الأطفال والنساء، وتعيد لهم شعوراً نسبياً بالأمان”.
لكن العبادلة حذر من أن “ارتفاع الكلفة وعدم استدامة هذه المشاريع قد يؤديان إلى انتكاسات نفسية واجتماعية متتالية”.
ومن جانب آخر، شدد القائمون على هذه المشاريع على أن الدافع الأساسي كان الحاجة الإنسانية الملحّة.
ويقول أحمد أبو زايد المدير العام لشركة “أبناء فارس أبو زايد للتجارة والمولدات الكهربائية” أن حاجة الناس الملحة للكهرباء بعد انقطاع طويل كانت الدافع الأساسي لإعادة تشغيل المولدات رغم المخاطر الكبيرة والظروف الأمنية الصعبة.
وقال للجزيرة نت “ارتفاع التكلفة يعود إلى عدم توفر السولار الطبيعي، واللجوء لاستخدام الصناعي الذي يبلغ سعر اللتر منه 60 شيكلاً (18 دولاراً) إضافة إلى الحاجة لتوفير أسلاك وكوابل جديدة لشبكات التوزيع المتضررة بفعل القصف والتجريف”.
ومن جانبه دعا فهد أبو زايد مدير المشاريع بالشركة المؤسسات الدولية والمحلية للمساهمة في دعم هذا المشروع من أجل تخفيف التكلفة على المواطنين قدر الإمكان.
مولدات كبيرة تعمل بالسولار الصناعي لإنارة مخيم النصيرات (الجزيرة)
أما خالد أبو خوصة مدير شركة “أبو خوصة للمولدات” فأكد أن التحديات كانت جسيمة لكن “الإصرار على التخفيف عن المواطنين” كان الحافز الأكبر.
إعلان
وأضاف “سمحنا لعدة منازل بالاشتراك في خط واحد لتوزيع التكلفة، واعتمدنا أنظمة دفع مرنة عبر التطبيقات البنكية أو النقد المباشر للمحال التجارية”.
وبهذا المشهد، تبدو مولدات غزة استثماراً محفوفاً بالمخاطر لكنه في الوقت ذاته شريان حياة مؤقتاً يعيد للناس بعض تفاصيل يومهم المفقودة، وسط حرب أطفأت الكهرباء وأثقلت كاهل السكان بتكاليف لا طاقة لهم بها.
واصل جيش الاحتلال الإسرائيلي، اليوم السبت، نسف المباني السكنية في مدينة غزة ضمن خطته لتهجير السكان واحتلال المدينة، في حين وثقت المصادر الطبية استشهاد وإصابة فلسطينيين في غارات جديدة.
وأفاد مراسل الجزيرة بأن الجيش الإسرائيلي ينفّذ حاليا عمليات نسف ضخمة للمباني السكنية شمالي مدينة غزة، ويأتي هذا بعدما دمرت قواته أمس الجمعة برج مشتهى غربي المدينة.
في غضون ذلك، أفاد مجمع الشفاء الطبي باستشهاد 5 أشخاص بينهم طفلة، في حين أصيب آخرون في قصف إسرائيلي على منزل بمخيم الشاطئ غربي مدينة غزة.
وكانت مصادر طبية قد وثقت استشهاد 51 فلسطينيا بنيران جيش الاحتلال في مناطق عدة بقطاع غزة منذ فجر الجمعة، بينهم 36 في مدينة غزة.
وقد أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، الجمعة، تصعيد العملية العسكرية في قطاع غزة، وقال “الآن تفتح أبواب الجحيم”، وهو ما أكدت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) أنه اعتراف بجرائم الإبادة.
ومنذ بضعة أسابيع، تدمر إسرائيل مربعات سكنية كاملة في مدينة غزة وفي جباليا شمالي القطاع ضمن خطتها لاجتياح المدينة، واحتلالها في عملية أسمتها “عربات جدعون 2″.
وأدانت دول عديدة ومنظمات حقوقية وإنسانية عمليات الجيش الإسرائيلي، محذرة من تصعيد دموي جديد وتهجير واسع لسكان مدينة غزة، الذين يناهز عددهم مليون نسمة.
وقالت الأمم المتحدة إن آلاف الفلسطينيين نزحوا نحو ساحل غزة مع تصاعد القتل والمجاعة.
إعلان
ومنذ تشرين الأول/تشرين الأول 2023، تشن إسرائيل -بدعم أميركي- حرب إبادة على سكان قطاع غزة، تشمل القتل والتجويع والتدمير والتهجير القسري، متجاهلة النداءات الدولية لوقف الحرب وأوامر محكمة العدل الدولية بهذا الصدد.
وخلّفت الإبادة أكثر من 64 ألف شهيد و162 ألف مصاب، كما استشهد جراء التجويع 376 فلسطينيا، بينهم 134 طفلا، وفق أحدث إحصاءات وزارة الصحة في قطاع غزة.
في مدينة غزة (شمالي القطاع) والتي صارت مسرحا لمجازر يومية، لا تبدو الأبراج السكنية هدفا عسكريا بقدر ما تحولت إلى رموز لنهج جديد في هذه الحرب الدامية، قائم على التدمير المنهجي لكل مقومات الحياة.
فإسقاط برج تلو آخر لا يعكس فقط إصرارا إسرائيليا على توسيع نطاق الدمار، بل يكشف عن إستراتيجية أعمق هدفها إفراغ المدينة من سكانها وقطع الطريق على أي تسوية سياسية محتملة.
وفي حديثه لبرنامج “مسار الأحداث” يذهب الأكاديمي والخبير بالشؤون الإسرائيلية مهند مصطفى إلى أن هذا النهج لا يفسَّر بالضرورات العسكرية، بل يرتبط بمشروع أيديولوجي يهدف إلى محو البنية المدنية الفلسطينية.
فيوميا يُهدم ما يقارب 300 مبنى، في عملية تُدار من وحدات خاصة داخل الجيش الإسرائيلي وبالتعاون مع مقاولين مدنيين، في أمر الذي يحيل -حسبه- إلى نموذج “الإبادة الجماعية” عبر استهداف البنية التحتية والثقافية للمجتمع، وليس فقط أرواح المدنيين.
والمثير أن هذا التدمير يُقدَّم بغطاء دعائي يزعم استهداف مواقع للمقاومة، لكن الخبير العسكري اللواء فايز الدويري يرى أن هذه مجرد ذرائع، فالمقاومة -كما يؤكد- لا يمكن أن تغامر بحياة مئات الأسر عبر تحويل أبراج شاهقة إلى مقرات عسكرية مكشوفة.
وحتى الإنذارات التي تُمنح للسكان قبل القصف، لا تعدو كونها عملية إخراج قسري إلى العراء، في مسرحية لا تترك للنازحين إلا خيام العراء والطرقات.
رسالة “تلفزيونية”
أما الباحث الأول بمركز الجزيرة للدراسات لقاء مكي فيجد في مشهد الأبراج المتهاوية بُعدا سياسيا بقدر ما هو عسكري، إذ يرى أن إسرائيل تسعى لتوجيه رسالة “تلفزيونية” واضحة: أن أبواب التفاوض أُغلقت.
فبعد أن فقدت غزة عمرانها وحياتها المدنية، لم يعد ثمة ما يمكن لحركة حماس أن تفاوض عليه، إذ تحولت المدينة إلى ركام يفرغ أي مسار سياسي من مضمونه.
إعلان
وتبرز في المقارنة مع حروب التاريخ مفارقة لافتة، ففي الحرب العالمية الثانية، ورغم تدمير مدن أوروبية ويابانية بالكامل، أعيد إعمارها وعاد إليها أهلها.
وأما في غزة، فيُراد للدمار أن يكون مدخلا للتهجير، على غرار ما جرى عام 1948، حيث استُخدم الرعب لاقتلاع مئات الآلاف من الفلسطينيين. والهدف الآن -كما يوضح مكي- دفع الناس إلى النزوح الجماعي ثم إبقاؤهم بلا أفق عودة أو إعمار.
وتكتسب المقاربة بين النكبتين القديمة والجديدة بعدا أكثر خطورة لدى مصطفى الذي يميز بين التهجير عام 1948 والإبادة الجماعية الراهنة.
ففي الأولى، كان المشروع الصهيوني يركز على إفراغ الأرض لاستيطانها، أما اليوم فإن إسرائيل -بحسب رأيه- تسعى إلى محو الوجود الفلسطيني نفسه، عبر الجمع بين التهجير والقتل الجماعي وتفكيك المخيمات في الضفة الغربية المحتلة، وهي بذلك تتجاوز كل “الخطوط الحمراء” التي التزمت بها سابقا.
قرار إستراتيجي
ومن واشنطن، يقدم مسؤول الاتصالات السابق في البيت الأبيض مارك فايفل زاوية مختلفة، إذ يرى أن ما يجري ليس مجرد خيار عسكري بل هو قرار إستراتيجي اتخذه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يقوم على إعلاء السيطرة على غزة فوق أي مسار تفاوضي.
وبحسب فايفل، فإن الحكومة الإسرائيلية لا تتجه نحو تسوية أو صفقة بقدر ما تدفع الأمور إلى مرحلة استسلام كامل للمقاومة، حتى وإن أدى ذلك إلى تدمير البنية التحتية المدنية وجرّ المآسي على السكان.
ويضيف أن غياب موقف أميركي حاسم يعزز هذا النهج، فالإدارة الحالية -برأيه- تتعامل مع الحرب في غزة كملف ثانوي مقارنة بأولويات مثل أوكرانيا، مما يمنح إسرائيل ضوءا أخضر لمواصلة التصعيد.
ووصف فايفل اجتماعات البيت الأبيض التي ناقشت مستقبل القطاع -بمشاركة شخصيات مثل جاريد كوشنروتوني بلير بأنها بدت منفصلة تماما عن الواقع الميداني، حيث يواجه الفلسطينيون مجاعة وقصفا يوميا بلا انقطاع.
وتكشف تصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين، المنقولة في الإعلام الإسرائيلي، عن إدراك ضمني لغياب أي جدوى عسكرية مباشرة من التدمير الواسع.
أهداف مؤجلة
غير أن الدويري يفسر ذلك باعتباره جزءا من خطة تهجير ممنهجة، تبدأ بالقصف المكثف ثم دفع السكان تدريجيا نحو مناطق أكثر اكتظاظا، قبل فتح الطريق أمام اجتياح بري أعمق. وفي هذا السياق، يصبح البحث عن الأسرى أو ضرب الأنفاق أهدافا مؤجلة، وليست السبب الحقيقي في هدم الأبراج.
ورغم الموقف المصري الحازم الرافض لأي تهجير عبر أراضيه، يبقى السيناريو الأكثر ترجيحا -بحسب مكي- هو البحث عن منافذ بديلة لاقتلاع الفلسطينيين، سواء عبر الموانئ أو بلدان بعيدة.
غير أن غياب توافق دولي على استقبال المهجرين يعيق تنفيذ الخطة، ويجعل التدمير أداة لإبقاء السكان في دوامة الجوع والنزوح الداخلي بانتظار فرصة لترحيلهم.
وفي هذا المشهد المأزوم، تُختزل المفاوضات إلى طرح إسرائيلي وحيد: وقف الحرب مقابل استسلام كامل لحماس ونزع سلاحها، وهو ما يعادل إلغاء وجودها السياسي والعسكري.
ومع رفض حركة المقاومة الإسلامية لهذه الشروط، يتضح -كما يرى مصطفى- أن نتنياهو لا يريد أي اتفاق شامل، لأن ذلك سيمنح الفلسطينيين فرصة لإعادة بناء ما تهدم، وهو ما يناقض جوهر الإستراتيجية الإسرائيلية الحالية.