
احتجاز الاحتلال جثامين الشهداء… سياسة ممنهجة تسلب الفلسطينيين حقّ الوداع
في إطار إصراره على انتهاك حقوق الفلسطينيين، الأحياء منهم والأموات، يواصل الاحتلال الإسرائيلي سياسته الخاصة باحتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين في الثلاجات ومقابر الأرقام، محوِّلاً الموت إلى أداة عقاب جماعي تؤدّي إلى معاناة متواصلة لدى الأهالي، فهذه المآذارة الممنهجة المقوننة بتشريعات وقرارات قضائية تحرم مئات العائلات من أبسط حقوقها الإنسانية في وداع أبنائها ودفنهم بكرامة.
الفلسطينية عزيزة سليمة من سلفيت، شمالي الضفة الغربية المحتلة، من الأمهات اللواتي يحتجز الاحتلال جثث أبنائهنّ. وإذ تشكو من ذلك، تخبر “العربي الجديد” أنّها ترتّب سرير ابنها محمد في كلّ صباح، وتبدّل أغطيته، منذ استشهاده في الرابع من كانون الأول/ كانون الأول 2021. تضيف أنّها في بداية فصلَي الصيف والشتاء، تستبدل ملابسه الشتوية بتلك الصيفية وبالعكس، حتى تظلّ خزانته “جاهزة” كما كانت قبل استشهاده، وكما تفعل مع أشقّائه.
وتشير عزيزة إلى أنّ محمد، المحتجز جثمانه في ثلاجات الاحتلال منذ استشهاده في البلدة القديمة من القدس المحتلة، كان ليكون في التاسعة والعشرين من عمره، في حين أنّ هاجس احتمال بقائه على قيد الحياة يسيطر عليها. وتقرّ بأنّها، في كلّ يوم، تتخيّل أن يرنّ الهاتف فيكون هو أو أن يُدَقّ الباب فيدخل منه.
ولا تُعَدّ حالة عزيزة معزولة، إذ يسيطر هذا الهاجس على عائلات كثيرة يحتجز الاحتلال جثامين أبنائها الشهداء. وهو أمر “طبيعي” مع عدم القيام بوداع أخير وعدم وجود قبور للشهداء. وعلى الرغم من أنّ الاحتلال سلّم العائلة، بعد 35 يوماً من استشهاد محمد، تقريراً خاصاً بتشريح جثّته في معهد أبو كبير الإسرائيلي للطبّ الشرعي، وأرفقه بصورة، فإنّ وجود قبر للشهيد وإكرام ابنها بدفنه هما الأساس بالنسبة إلى والدته.
وتؤكد والدة محمد أنّها تعيش “على ذكراه؛ أتذكّره في كلّ لحظة وأتمنّى في كلّ لحظة أن يكون مصاباً وليس شهيداً”. يُذكر أنّه ابنها البكر، وفي آخر مرّة خرج فيها من سلفيت أخبرها بأنّه متوجّه إلى عمله في مطعم يقع بالأراضي المحتلة عام 1948، لكنّه قصد المسجد الأقصى بدلاً من ذلك ليصلّي العصر فيه، فأطلقت قوات الاحتلال النار عليه عند باب العامود بالقدس المحتلة بعد اتّهامه بطعن مستوطن وجندي.
وتقول عزيزة إنّها حاولت، مع أمهات شهداء آخرين، “إيصال صوتنا”، خلال اعتصام بمناسبة اليوم الوطني لاسترداد جثامين الشهداء نُظّم يوم الثلاثاء الماضي في ساحة مركز البيرة الثقافي بالبيرة وسط الضفة الغربية، لكنّ الاحتلال حرمهنّ حتى من ذلك، بعدما اقتحم رام الله والبيرة وانتشرت قواته حول موقع الاعتصام فحاصرت من فيه. يُذكر أنّ 27 آب/ آب من كلّ عام هو اليوم الوطني لاسترداد جثامين الشهداء والكشف عن مصير المفقودين في فلسطين.
وتفيد بيانات الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء بأنّ الاحتلال ما زال يحتجز جثامين 726 شهيداً في ثلاجاتها ومقابر الأرقام. ومن بين الجثامين المحتجزة 256 جثماناً تعود إلى شهداء مدفونين في مقابر الأرقام منذ انتفاضة الأقصى والحقب التي سبقتها، و469 جثماناً تعود إلى شهداء منذ العودة إلى تنفيذ هذه السياسة في عام 2015.
وتشير الحملة الوطنية والمؤسسات المعنية بشؤون الأسرى، في بيان مشترك صدر بمناسبة اليوم الوطني لاسترداد جثامين الشهداء، إلى أنّ الأرقام الكبيرة مؤشّر إلى تصاعد سياسة الاحتلال هذه في السنوات الأخيرة. ومن بين هؤلاء الشهداء 67 طفلاً، و85 شهيداً من الحركة الأسيرة، وعشر نساء.
إلى جانب الجثامين الـ726 المحتجزة، ثمّة 1500 من الجثامين التي تعود إلى شهداء من قطاع غزة وقد راحت تُحتجَز منذ بداية حرب الإبادة التي ترتكبها إسرائيل منذ السابع من تشرين الأول/ تشرين الأول 2023، وفقاً لما وثّقته مصادر إسرائيلية. وهي محتجزة في معتقل سدي تيمان في صحراء النقب وسط ظروف غير إنسانية، الأمر الذي يؤكّد الطابع الممنهج وطويل الأمد للانتهاكات الإسرائيلية في هذا المجال، بحسب ما أشار إليه البيان الصادر بمناسبة اليوم الوطني.
وتشدّد الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء ومؤسسات الأسرى على أنّ احتجاز الجثامين سياسة إسرائيلية لمعاقبة الفلسطينيين بعد الموت، وتواصل سلطات الاحتلال منذ أكثر من خمسة عقود سياسة احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين الذين قتلتهم قواتها، إمّا في مقابر سرية تُعرَف بـ”مقابر الأرقام” وإمّا في الثلاجات، وتحرم عائلاتهم من أبسط حقوقها في ما يخصّ وداع أحبّائها ودفنهم بكرامة.
وتوضح الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء ومؤسسات الأسرى أنّه لا يمكن وصف هذه السياسة بأنّها “عَرَضية، بل جرى تثبيتها تدريجياً في المنظومة الإسرائيلية، وهي امتداد لمنطق السيطرة الاستعمارية الذي يتجاوز حياة الفلسطينيين ليطاول موتهم أيضاً، فيسلبهم الكرامة والذاكرة وحقّ الوداع”. وتؤكد، في بيانها، أنّ احتجاز الجثامين يمثّل أحد أبرز أشكال ما يسمّيه الباحثون “سياسات الموت”، أي “استخدام الجسد بعد الوفاة وسيلةً للهيمنة والقمع”، وكذلك “حرمان الفلسطينيين من الحداد العلني، إذ تفرض سلطات الاحتلال سيطرتها حتى على أعمق مشاعر الفقد”، وغالباً ما تُجبَر العائلات على انتظار طويل بلا نهاية لاسترداد جثامين أبنائها، وحتى بعد الإفراج عنها تُفرض عليها في بعض الحالات شروط قاسية مثل الدفن ليلاً بمشاركة عدد محدود من الأشخاص وحضور أمني مكثّف، الأمر الذي يعني “السيطرة على طقوس موت الفلسطينيين وذاكرتهم أيضاً”.
وكان احتجاز الجثامين بدأ مآذارةً عسكريةً غير منتظمة، لكنّه سرعان ما ترسّخ في البنية القانونية الإسرائيلية. ومنذ عام 1967 دُفن مئات الشهداء الفلسطينيين في مقابر الأرقام السرية، وفي عام 2004 صدر توجيه يقيّد هذه المآذارة مؤقتاً، قبل أن تعود بقوّة في عام 2015 استناداً إلى أنظمة الطوارئ البريطانية لعام 1945.
وفي عام 2017، قضت المحكمة العليا بعدم وجود أساس قانوني لاحتجاز الجثامين، لكنّها أرجأت تنفيذ الحكم لمنح حكومة الاحتلال فرصة لتشريع يضفي عليه “شرعية”. واستجاب الكنيست بتعديل قانون مكافحة الإرهاب في عام 2018، مانحاً الشرطة صلاحية رسمية لاحتجاز الجثامين. وفي عام 2019، تراجعت المحكمة عن قرارها وأجازت احتجاز الجثامين لأغراض “المساومة”، قبل أن تُوسَّع هذه السياسة في عام 2020 لتشمل جميع الفلسطينيين المتّهمين بتنفيذ عمليات، فتحوّلت بالتالي من مآذارة غير قانونية إلى منظومة قانونية متكاملة عبر مزيج من الأوامر العسكرية والقرارات القضائية والتشريعات الجديدة.
وتحذّر الحملة الوطنية لاسترداد الجثامين والمؤسسات الفلسطينية المعنية بشؤون الأسرى من أنّ هذه السياسة تخلّف آثاراً إنسانية مدمّرة، إذ تعيش العائلات في حالة “حداد معلّق”، عاجزةً عن بدء مسار الحزن الطبيعي في غياب جثّة الفقيد. وغالباً ما تُسلَّم الجثامين وهي مجمّدة أو مشوّهة، فتضاعَف صدمة الأهل وتُسرَق منهم فرصة الوداع الأخير، كذلك تشترط سلطات الاحتلال في كثير من الحالات مبالغ مالية باهظة أو دفنا ليليا أو نقل الجثمان إلى مقابر بعيدة عن العائلة.
وتلفت الحملة الوطنية إلى أنّ القوانين الدولية لحقوق الإنسان والقانون الإنساني تحظر بصورة قاطعة هذه المآذارات، إذ توجب اتفاقيات جنيف المعاملة الكريمة للقتلى وإعادة جثامينهم إلى ذويهم، وبالتالي يمثّل احتجاز الجثامين انتهاكاً لحقّ الكرامة والحياة الأسرية والحرية الدينية، كذلك يرقى في بعض الحالات إلى جريمة الاختفاء القسري.