رشيد بنزين والوجه الإنساني للضحايا: القراءة فعل مقاومة والمُتخيَّل لا يُستعمر

رشيد بنزين والوجه الإنساني للضحايا: القراءة فعل مقاومة والمُتخيَّل لا يُستعمر

“لا يمكن استعمار المتخيل”، بهذه العبارة البليغة والمفعمة بالتحدي، يفتتح الكاتب الفرنسي المغربي رشيد بنزين حديثه عن روايته الجديدة، التي تشكل العمل الأدبي الوحيد حول قطاع غزة في الموسم الأدبي الفرنسي الحالي.

في عمله المعنون “الرجل الذي كان يقرأ كتبا” (L’Homme qui lisait des livres)، تسرد حكاية صاحب مكتبة في غزة، رجل من مواليد عام 1948، عام النكبة، ومن عشاق الثقافة الفرنسية، ليصبح صوته نافذة نطل منها على جرح لا يندمل.

أثار هذا العمل اهتمام ناشرين أجانب حتى قبل صدوره، وهو ما يطرح سؤالا ملحا حول افتقار المشهد الأدبي العالمي لنتاج يغوص في عمق التجربة الإنسانية في غزة.

ومن المقرر صدور 14 ترجمة للرواية في المملكة المتحدة وإسبانيا وإيطاليا ودول أوروبية أخرى، وهو ما يعتبره بنزين نجاحا كبيرا في حد ذاته، لأنه يعني أن كلام “نبيل”، صاحب المكتبة الغزي، بدأ ينتشر ويخترق جدران الصمت.

يتساءل بنزين عن معنى أن يكون المرء “رجلا طيبا في زمن الحرب”، خاصة في سياق غزة المأساوي. ففي مواجهة التدفق اليومي للصور المروعة، التي تحجب في نهاية المطاف غزة الحقيقية وتجعلها غير مرئية، تبرز الحاجة الماسة للكلمات.

يتابع: “يقولون لنا مثلا: سقط اليوم 63 قتيلا في غزة. من كثرة ما نعتاد على هذه الأرقام، تحل ظاهرة تجريد الناس من إنسانيتهم”. من هنا، كان لا بد من اللجوء إلى الكلمات، ليس لكلمات التحليل السياسي والدراسات الإستراتيجية، بل لكلمات تغوص في “الحميمية” وتستعيد الوجه الإنساني للضحايا.

هوية مركبة في وجه التبسيط

اختار بنزين لشخصيته الرئيسية، نبيل، أن يكون ابنا لأب مسيحي وأم مسلمة. هذا الخيار لم يكن اعتباطيا، بل جاء بهدف تسليط الضوء على الوضع الفلسطيني المعقد، في وجه أولئك الذين يبحثون دائما عن التبسيط والقطيعة الأيديولوجية.

أراد الكاتب ألا يختزل الفلسطينيين في هوية المسلم فقط، وألا يختزل ما يجري في غزة في كونه مجرد حرب بين العرب واليهود. يقول بنزين: “هناك مسيحيون، هناك هذا المزيج… أردت أن تقف هذه الشخصية عند تقاطع تقاليد مختلفة، أن تكون قادرة على المزج بين سور من القرآن ومزامير من الكتاب المقدس”.

إعلان

يقوم نبيل بفعل يعتبره الكاتب جذريا وثوريا: القراءة. فكل الخسائر التي تكبدها كفلسطيني ولد عام 1948 لا تحدد هويته بالكامل. فكما يقول على لسان شخصيته: “كلنا ولدنا عام 1948”.

الأدب في مواجهة القنابل

نبيل هو صاحب مكتبة، لكنه يقضي وقته في إهداء الكتب بدلا من بيعها. هذا الفعل، في الظروف التي نعيشها، وفي ظل علاقتنا الخاصة مع الزمن، يتحول إلى فعل عصيان ومقاومة. يتساءل بنزين: ماذا بمقدور الأدب أن يفعل؟ الإجابة تأتي واضحة وحاسمة: “لن يتمكن من وقف القنابل، ولا إعادة الحياة إلى القتلى، الأطفال، النساء. لكنه قادر ربما على الحفاظ على النواة الأكثر صلابة في الإنسان”.

كان من الممكن أن يشعر نبيل في أي لحظة بالكراهية، وكان العالم سيتفهم ذلك بعد كل ما عاناه. لكن هناك أمرا ثابتا لدى هذا الرجل، وهو أنه “يرفض تجريد الناس من إنسانيتهم”.

في وجه التدمير المنهجي لقطاع غزة، أي أمل يمكن أن يتبقى؟ يرى بنزين أن من المهم إدراج هذه الرواية في دورة الزمن الطويل. فنبيل يروي قصة العام 1948، يروي اللاجئين، ويروي مكانة الكتابة، وشقيقه، ووالدته… إنه يروي ملحمة فلسطينية كاملة.

الخطر الأكبر الذي يراه الكاتب يلوح في الأفق هو الشعور بالعجز. “يسعى البعض لإيهامنا بأنه ليس بإمكاننا القيام بأي شيء، بأن الأمر ليس بأيدينا. في حين أن العكس صحيح، يعود لكل منا أن يتمكن في وقت من الأوقات من النهوض والتظاهر والمقاطعة، أن يذهب نحو الإنسانية”.

أهدى رشيد بنزين هذه الرواية “لكل الذين يرفضون الاستسلام للعتمة”، فبين الأنقاض والدمار، هناك رجل يقرأ. قد يبدو هذا كل ما في الأمر، ولكنه في الوقت نفسه شيء هائل. إنه الدليل القاطع على أنه “لا يمكن استعمار المتخيل، وأنه في نهاية الأمر، تبقى حرية الفكر تلك”.

ماكرون يشكك بعقد قمة بين بوتين وزيلينسكي

ماكرون يشكك بعقد قمة بين بوتين وزيلينسكي

قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اليوم الجمعة إنه إذا لم يعقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قمة مع نظيره الأوكراني  فولوديمير زيلينسكي فإن ذلك سيعني أنه “تلاعب” بالرئيس الأميركي دونالد ترامب.

وخلال مؤتمر صحفي مشترك مع المستشار الألماني فريدريش ميرتس في تولون جنوبي فرنسا، قال ماكرون إنه إذا لم يتم عقد هذا الاجتماع الثنائي الذي “التزم به بوتين مع ترامب” بحلول الاثنين المقبل، فإن هذا “التلاعب لا يمكن أن يمر بدون رد”.

وأضاف الرئيس الفرنسي “سنتحدث مع الرئيس ترامب” في نهاية هذا الأسبوع و”إذا خلصنا الأسبوع المقبل، بعد أشهر من الوعود التي لم يتم الوفاء بها، إلى أن هذا ليس هو الحال، فسندعو بوضوح شديد إلى فرض عقوبات أولية وثانوية” على روسيا.

وجاءت تصريحات ماكرون في وقت تشهد فيه الجهود الدبلوماسية لإنهاء النزاع المستمر منذ 3 سنوات ونصف سنة بعض التعثر، بعد أن تحرك ترامب لاستئناف الحوار مع موسكو في بداية ولايته الرئاسية الثانية.

ولم يبد ماكرون أي ندم لوصفه بوتين في وقت سابق من هذا الشهر بأنه “غول على أبوابنا”، الأمر الذي أثار غضب موسكو. وقال “نقول إن هناك غولا على أبواب أوروبا، وهذا ما يراود جورجيا (بعد غزو عام 2008) وأوكرانيا والعديد من الدول الأخرى”.

FILE - In this combination of file photos, U.S. President Donald Trump, left, and Ukraine's President Volodymyr Zelenskyy, center, are seen at the Elysee Palace, Dec. 7, 2024 in Paris, and Russian President Vladimir Putin addresses a Technology Forum in Moscow on Feb. 21, 2025. (AP Photo/Aurelien Morissard, left and center, Pavel Bednyakov, right, File)
بوتين (يمين) وزيلينسكي (وسط) وترامب (أسوشيتد برس)

تشاؤم ألماني

من جهته، قال المستشار الألماني فريديريش ميرتس إن الحرب في أوكرانيا قد تستمر “لأشهر عديدة أخرى”، مستبعدا التوصل إلى وقف سريع للقتال.

وأضاف متعهدا “لن نتخلى عن أوكرانيا”، مشيرا أيضا إلى أن بوتين “لا يظهر أي استعداد” للقاء زيلينسكي و”وضع شروطا مسبقة غير مقبولة على الإطلاق”. وتابع “بصراحة هذا لا يفاجئني لأنه جزء من إستراتيجية الرئيس الروسي”.

يذكر أنه رغم تأكيد البيت الأبيض بدء خطوات عقد القمة بين بوتين وزيلينسكي، لم يعط الجانب الروسي أي إشارة إلى أنه تم الاتفاق على عقد اجتماع ثنائي أو ثلاثي مع أوكرانيا والولايات المتحدة.

إعلان

وقال ترامب في منشور على منصته “تروث سوشيال” أثناء انعقاد قمة واشنطن مع زيلينسكي وقادة أوروبيين، إنه اتصل بالرئيس الروسي، وإن الترتيبات لعقد اجتماع بين بوتين وزيلينسكي في مكان سيحدد لاحقا قد بدأت، وأضاف أنه سينضم إلى الزعيمين بعد ذلك إن سارت الأمور على ما يرام.

محمد السادس.. “لوموند” الفرنسية تنشر مقالات ناقدة للملك المغربي وتثير غضبا

محمد السادس.. “لوموند” الفرنسية تنشر مقالات ناقدة للملك المغربي وتثير غضبا

أثارت سلسلة تقارير نشرتها صحيفة “لوموند” الفرنسية غضب المغاربة، حيث اتهمت الصحيفة لملك بأنه يوطد علاقته مع المقربين له منذ عقود داخل القصر الملكي من أجل تأمين استمراريته في الجلوس على كرسي العرش.

كما عنونت الصحيفة أحد تقاريرها بـ”أجواء نهاية عهد الملك محمد السادس”، حيث طرحت الصحيفة الفرنسية تساؤلات حول صحته وترتيبات الخلافة وتطرقت إلى ازدياد ظهور ولي العهد في مناسبات رسمية.

إعداد: نسيمة بن أحمد

يمكنكم مشاهدة الحلقات اليومية من البرنامج الساعة الثالثة بتوقيت غرينيتش، من الإثنين إلى الجمعة، وبإمكانكم أيضا الاطلاع على قصص ترندينغ بالضغط هنا.

أول فريق أوروبي يضم تشكيلة كاملة للاعبين ولدوا بعد عام 2000

أول فريق أوروبي يضم تشكيلة كاملة للاعبين ولدوا بعد عام 2000

دخل نادي ستراسبورغ الفرنسي تاريخ كرة القدم من الباب الواسع بإنجاز غير مسبوق بعد أن بدأ مباراته ضد ميتز في الجولة الأولى من الدوري الفرنسي، بتشكيلة كاملة من اللاعبين من مواليد عام 2000 وما بعد.

وأصبح ستراسبورغ بقيادة المدرب ليام روسينيورأول ناد في الدوريات الخمسة الكبرى يدفع بتشكيلة أساسية كاملة من لاعبين وُلدوا بعد عام 2000 وفقا لصحيفة “ماركا” الإسبانية، في المباراة التي جرت يوم 17 آب/آب الجاري.

وكرّر ستراسبورغ الأمر ذاته أمام بروندبي النرويجي في ذهاب المرحلة النهائية من التصفيات المؤهلة إلى دوري المؤتمر الأوروبي يوم الخميس الماضي.

كما خاض لقاء نانت الأخير في الجولة الثانية من الدوري الفرنسي بـ10 لاعبين من مواليد القرن الـ21، باستثناء الحارس كارل-يوهان جونسون البالغ من العمر 35 عاما.

وفي المباراة ضد نانت بلغ متوسط أعمار التشكيلة الأساسية لستراسبورغ 20 عاما و4 أيام، وفي تلك المواجهة كان الأرجنتيني خواكين بانيشيلي (22 عاما) هو أكبر لاعبي الفريق على أرض الملعب، بعد جونسون حارس المرمى.

بذلك حطّم ستراسبورغ رقما قياسيا في “الليغ 1” ظل صامدا منذ 78 عاما وتحديدا منذ موسم 1947-1948 عندما خاض ليل مباراة بتشكيلة متوسط أعمارها 21 عاما و171 يوما.

إعلان

وجاءت هذه الخطوة بعد عامين من استحواذ مجموعة بلو كو المالكة لتشلسي الإنجليزي أيضا، على النادي الفرنسي، وهو ما اعتبره رئيس ستراسبورغ مارك كيلر بداية فصل جديد في مسيرة الفريق.

وقال كيلر “وضعنا أساسا قويا، وإذا أردنا المضي قدما ورفع النادي إلى بُعد جديد كان لزاما علينا أن نترافق مع هيكل صلب قادر على دعم تطورنا وطموحنا”.

كما لم يُخف المدرب روسينيور حماسه اتجاه هذه التجربة والعمل مع لاعبين شباب بقوله في بداية الموسم الماضي “لدينا مجموعة شابة وهذا يعجبني كثيرا. لدي ثقة كبيرة بالمستقبل نظرا لما حققناه في فترة قصيرة”.

ومنذ ذلك الحين (2023) واصل الفريق مساره التصاعدي فأنهى الموسم الماضي 2024-2025 في المركز السابع بالدوري الفرنسي، ويقترب حاليا من التأهل لدوري المؤتمر الأوروبي.

كما بدأ الموسم الجديد 2025-2026 بقوة إذ يحتل المركز الرابع برصيد 6 نقاط من فوزين، بفارق الأهداف فقط خلف أولمبيك ليون المتصدر، وتولوز وباريس سان جيرمان.

حريق مالي يهدد أوروبا… مخاوف من اتساع شرارة فرنسا إلى كل منطقة اليورو

حريق مالي يهدد أوروبا… مخاوف من اتساع شرارة فرنسا إلى كل منطقة اليورو

تتصاعد المخاوف في الأوساط المالية العالمية من أن تتحول الأزمة السياسية في فرنسا إلى شرارة هزة اقتصادية جديدة داخل الاتحاد الأوروبي، بعدما انعكست حالة عدم اليقين السياسي داخل فرنسا، صاحبة ثاني أقوى اقتصاد في القارة بعد ألمانيا، بشكل مباشر على أسواق المال والمؤشرات الكلية. فقد سجلت السندات الحكومية الفرنسية لأجل عشر سنوات عائداً يناهز 3.5%، وهو من أعلى المستويات في منطقة اليورو، بينما اتسع الفارق مع السندات الألمانية إلى 77 نقطة أساس. وتوقع محللون من شركة كارمينياك لإدارة الأصول أن يصل الفارق إلى 100 نقطة أساس إذا تصاعدت الأزمة، وهو مستوى لم يسجل منذ أزمة منطقة اليورو قبل أكثر من عقد.

ويعد اتساع الفارق بين العائد على السندات الحكومية الفرنسية ونظيرتها الألمانية، من أبرز مؤشرات القلق في الأسواق المالية الأوروبية، وهو ما يعرف في الأسواق باسم Spreads (الفارق في العائد الذي يطالب به المستثمرون مقابل الاحتفاظ بسندات دولة تعتبر أكثر مخاطرة مقارنة بألمانيا التي تعد الملاذ الآمن في منطقة اليورو). وبحسب بيانات بلومبيرغ، وتوقعات وصول هذا الفارق إلى 100 نقطة أساس يعيد إلى الأذهان أجواء أزمة الديون الأوروبية عام 2012، عندما وصلت الفوارق بين السندات الألمانية ونظيراتها في دول الجنوب الأوروبي إلى مستويات قياسية هددت استقرار اليورو.

وتكمن خطورة هذا المؤشر في أنه لا يقتصر على رفع تكلفة الاقتراض الحكومي الفرنسي، بل ينعكس أيضاً على تكلفة التمويل للشركات الفرنسية، التي تضطر لدفع فوائد أعلى للاقتراض في ظل بيئة تتسم بانعدام اليقين. وبحسب “رويترز”، فإن هذا الوضع قد يضعف قدرة فرنسا على تنفيذ خطة الإصلاح المالي التي تستهدف خفض العجز إلى 4.6% من الناتج المحلي خلال العام المقبل، خصوصا مع ارتفاع فاتورة خدمة الدين العام الذي تجاوز 113% من الناتج المحلي الإجمالي. وإذا استمر هذا الاتجاه، فإنّ الفارق مع ألمانيا قد يتحول إلى مؤشر إنذار مبكر على أزمة ثقة أوسع في منطقة اليورو، بخاصة أن فرنسا تعد ثاني أكبر اقتصاد في الكتلة الأوروبية وسابع أكبر اقتصاد على مستوى العالم.

بداية حريق مالي

وقالت صحيفة لوموند الفرنسية إن إعلان رئيس الوزراء فرانسوا بايرو عن تصويت الثقة في 8 أيلول/أيلول كان بمثابة صدمة جديدة للأسواق، إذ أعاد الاقتصاد إلى حالة من الشكوك وعدم اليقين بعد أشهر من محاولات الاستقرار. وأوضحت الصحيفة أن بورصة باريس تراجعت بشكل ملحوظ عقب الإعلان، بالتوازي مع ارتفاع متطلبات المستثمرين للعوائد على السندات الحكومية وهو ما يعكس تزايد المخاوف بشأن قدرة الحكومة على السيطرة على المالية العامة.

وأضافت الصحيفة أن وزارة الاقتصاد والمالية الفرنسية، المعروفة باسم بيرسي، اضطرت إلى التدخل بسرعة عبر تصريحات تهدئة ولقاءات مع المستثمرين الكبار، في محاولة لوقف ما وصفته بـ “بداية حريق مالي”. ويقصد بذلك أن حالة فقدان الثقة يمكن أن تمتد بسرعة إلى باقي القطاعات المالية، فتؤدي إلى ارتفاع تكلفة التمويل ليس فقط على الدولة، بل أيضاً على الشركات الخاصة. وأشارت “لوموند” إلى أن التجارب السابقة – مثل أزمة الديون الأوروبية عام 2012 -أظهرت أن مثل هذه الشرارات قد تنتشر سريعا عبر أسواق المنطقة، لتتحول من أزمة محلية إلى أزمة أوروبية أوسع.

وبحسب محللين نقلت عنهم الصحيفة، فإن استمرار حالة الغموض السياسي قد يدفع المستثمرين الدوليين إلى تقليص تعرضهم للأصول الفرنسية، سواء عبر خفض حيازاتهم من الأسهم المدرجة في المؤشر الرئيسي لبورصة باريس (CAC 40) أو عبر إعادة تسعير المخاطر في سوق السندات السيادية. وهذا السيناريو، وفق “لوموند”، من شأنه أن يقوض أي فرص لتعاف اقتصادي سريع في فرنسا، ويضع ضغوطا إضافية على منطقة اليورو ككل، ولا سيما إذا ما توسع الفارق مع السندات الألمانية إلى مستويات مقلقة.

ورغم أن المؤشر الرئيسي لبورصة باريس (CAC 40) تعافى بنسبة 0.4% بعد يومين من الخسائر، فإن المحللين يرون أن هذا الاستقرار مؤقت في ظل ترقب المستثمرين لتصويت الثقة الحاسم في 8 أيلول/أيلول، والذي قد يحدد ملامح السياسة المالية المقبلة. وبحسب “رويترز”، فإن حجم المخاطر الحالية لا يكمن فقط في احتمالية سقوط حكومة فرانسوا بايرو، بل في تأثير ذلك على ثقة المستثمرين، وتكلفة التمويل، وتدفقات رؤوس الأموال إلى فرنسا، ما يجعل ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو تحت مجهر الأسواق العالمية أكثر من أي وقت مضى.

تراجع خطير

تشير بيانات المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية في فرنسا إلى أن استثمارات الشركات الفرنسية غير المالية (الشركات التي تنتج السلع والخدمات لكنها ليست مؤسسات مالية مثل البنوك) شهدت تباطؤاً ملحوظاً منذ انتخابات 2024 المبكرة، إذ انكمشت أو ظلت مستقرة في معظم الفصول الأربعة الأخيرة، ما يعني أنّ الاقتصاد الفرنسي خسر أحد أهم محركات النمو طويل الأجل، وهو الإنفاق الرأسمالي (الأموال التي تخصصها الشركات لتوسيع نشاطها أو شراء أصول جديدة).

وحذر باتريك مارتن، رئيس اتحاد أرباب العمل الفرنسي Medef (أكبر منظمة لتمثيل الشركات الفرنسية)، من أن الاستثمار في فرنسا يتراجع بشكل خطير، ما يضع البلاد في موقع متأخر مقارنة بمنافسيها الأوروبيين. ويأتي هذا التراجع في بيئة يتسم فيها النمو بالضعف (متوقع 0.7% فقط في 2025) مع عجز مالي مرتفع يبلغ 5.4% من الناتج المحلي الإجمالي. وبحسب فايننشال تايمز، فإن استمرار هذا الاتجاه سيؤثر سلباً على معدلات التوظيف ويقلص من القدرة التنافسية للصناعة الفرنسية داخل السوق الأوروبية.

الخطر على اليورو

ويرى محللون، وفق تقارير إعلامية أوروبية، أنّ أزمة فرنسا تتجاوز حدود الاقتصاد المحلي لتتحول إلى تهديد استراتيجي لمستقبل اليورو، مؤكدين أن المعضلة الأساسية لا تكمن فقط في ارتفاع العجز أو زيادة كلفة التمويل، بل في صورة اليورو عملة احتياطية عالمية. فبحسب بيانات صندوق النقد الدولي يشكل اليورو نحو 20.5% من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية في 2025، مقارنة بأكثر من 58% للدولار.، وهو ما يعني أن أي اهتزاز في ثاني أكبر اقتصاد داخل الكتلة من شأنه أن يضعف ثقة البنوك المركزية العالمية في العملة الأوروبية، ويعزز الميل نحو تنويع الاحتياطيات باتجاه الدولار أو حتى اليوان الصيني.

يُذكر أنّ دولاً مثل اليونان والبرتغال وأيرلندا كانت الحلقة الأضعف في أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو بين عامي 2010 و2012، بينما لعبت فرنسا دور الضامن إلى جانب ألمانيا. واليوم، ينعكس المشهد، ففرنسا نفسها أصبحت في مرمى الأسواق، حيث يدفع المستثمرون قسط مخاطرة أعلى للاحتفاظ بسنداتها مقارنة ببعض الاقتصادات الأصغر. وتظهر هذه المفارقة كيف تحولت الأزمة إلى تهديد هيكلي لـ”القلب” الأوروبي لا لأطرافه فقط، وهو ما يزيد من حساسية الأسواق تجاه أي مؤشرات سياسية أو مالية سلبية تصدر من باريس. وحذرت صحيفة لوموند من أن استمرار الغموض في باريس يضعف الموقف التفاوضي لبروكسل في الملفات الاستراتيجية، سواء تعلق الأمر بالطاقة أو بالسياسات الدفاعية، كما يضعف قدرة أوروبا على لعب دور مواز للولايات المتحدة في النظام المالي العالمي. 

السيناريوهات المحتملة

وبحسب مسح أجرته “العربي الجديد” للتغطيات الاقتصادية الغربية للأزمة الفرنسية، أجمعت غالبية التقارير والتحليلات على أن الأزمة لم تعد مسألة سياسية فرنسية، بل أصبحت اختباراً جوهرياً لقدرة باريس على استعادة ثقة الأسواق وضبط ماليتها العامة. ومن خلال ما ورد بهذه التقارير والتحليلات، يمكن استخلاص ثلاثة مسارات رئيسية محتملة تشكل الإطار الأكثر ترجيحاً لفهم مستقبل الوضع: الأول يقوم على نجاح الحكومة في تمرير خطة الضبط المالي، والثاني على سقوطها وتشكيل حكومة ضعيفة، والثالث على الذهاب إلى انتخابات مبكرة بما تحمله من كلفة سياسية ومالية مرتفعة. هذه السيناريوهات لا تمثل توقعات يقينية، لكنها تقدم قراءة استشرافية استناداً إلى اتجاهات الأسواق وميزان القوى داخل البرلمان الفرنسي. ويمكن إيجاز هذه السيناريوهات الثلاثة المحتملة في ما يلي:

1- تمرير الثقة واستمرار خطة الضبط المالي
إذا نجحت حكومة فرانسوا بايرو في تمرير تصويت الثقة، فستكسب فرنسا مهلة زمنية لاستعادة جزء من المصداقية المالية. وسيؤدي هذا السيناريو إلى تراجع تدريجي في علاوة المخاطر على السندات السيادية الفرنسية واحتواء الفارق مع السندات الألمانية دون عتبة 100 نقطة أساس. وقد تستجيب الأسواق إيجاباً عبر خفض طفيف في تكاليف الاقتراض، مما يسهل إدارة الدين العام الذي يتجاوز 113% من الناتج المحلي. ومع ذلك، يبقى الأثر محدودا على المدى القصير نظراً لضعف مؤشرات الثقة الاقتصادية وتباطؤ النمو المتوقع عند 0.7% فقط في 2025. وهو ما يعني أن نتيجة حدوث هذا السيناريو تتمثل في حدوث “استقرار مالي نسبي دون تحسن جوهري في الاستثمار أو النمو”.

2- فشل التصويت وتشكيل حكومة جديدة ضعيفة
أما إذا فشلت الحكومة في كسب الثقة، فسيضطر الرئيس إيمانويل ماكرون إلى تعيين رئيس وزراء جديد يقود حكومة أقلية أو ائتلاف هش. ويعني هذا السيناريو إطالة أمد عدم اليقين، مع استمرار الضغوط على الأسواق، واتساع الفارق مع ألمانيا إلى نطاق 80 – 100 نقطة أساس. وفي غياب موازنة معتمدة، قد تتزايد المخاوف بشأن التصنيف الائتماني لفرنسا، وهو ما قد يرفع تكاليف الاقتراض للشركات ويضعف تدفقات الاستثمار الأجنبي. وستترتب على حدوث هذا السيناريو “ضبابية ممتدة تؤدي إلى ارتفاع فاتورة خدمة الدين وتراجع الاستثمار الخاص، مع خطر تخفيض محتمل للتصنيف الائتماني”.

3- حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة
السيناريو الأكثر كلفة يتمثل في حل البرلمان والذهاب إلى انتخابات مبكرة، ما يعني دخول فرنسا في فراغ سياسي يستمر لأسابيع وربما أشهر. وهذا الوضع عادة ما يؤدي إلى إعادة تسعير شامل للأصول الفرنسية، حيث يطالب المستثمرون بعوائد أعلى على السندات، وقد يتجاوز الفارق مع ألمانيا حاجز 100 نقطة أساس، وهو المستوى الذي حذرت منه شركة كارمينياك. وعند هذه النقطة، قد يجد البنك المركزي الأوروبي نفسه مضطرا إلى التلويح باستخدام أدوات غير تقليدية مثل برامج شراء السندات لدعم الاستقرار، أي أن حدوث هذا السيناريو سيترتب عليه اتساع فجوة المخاطر، وتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر، وضعف جاذبية اليورو أمام الدولار واليوان.

ويرى خبراء أنّ شرارة التحدي تتجاوز باريس لتطاول الاتحاد الأوروبي ككل. فإذا اهتزت ثقة الأسواق في ثاني أكبر اقتصاد في الكتلة، فإنّ اليورو نفسه سيكون معرضاً لفقدان جزء من جاذبيته باعتباره عملة احتياطية عالمية، وهو ما شددت عليه “فاينانشال تايمز” باعتباره الخطر الأعمق للأزمة. ما ستكشفه الأسابيع المقبلة، بخاصة التصويت المقرر في 8 أيلول/أيلول المقبل، لن يحدد فقط مصير حكومة فرانسوا بايرو، بل قد يرسم ملامح العقد المقبل للاقتصاد الفرنسي ولمكانة الاتحاد الأوروبي في النظام المالي العالمي. والسؤال المفتوح يبقى: هل تملك فرنسا القدرة على كسر حلقة العجز والدين واستعادة ثقة الأسواق، أم أن أوروبا مقبلة على أزمة جديدة تنطلق من قلبها هذه المرة لا من أطرافها؟