لم تنجح شاحنات البضائع التي دخلت إلى قطاع غزة مؤخراً في كسر حدة التجويع، كونها محدودة للغاية مقارنة بحجم الحاجة، وأسعارها تفوق القدرة الشرائية لغالبية العائلات التي فقدت مصادر رزقها وسط الحرب الإسرائيلية المتواصلة منذ نحو 23 شهراً.
يخيم شبح التجويع على آلاف العائلات الفلسطينية في قطاع غزة، والتي لم تستفد كثيراً من دخول أعداد محدودة من شاحنات المساعدات عبر معبر كرم أبو سالم في رفح (جنوب)، ومنطقة زيكيم في الشمال، ولا تزال موائدهم أسيرة أطعمة مكررة لا تكفي لمسك رمق الأطفال أو الكبار، ولا تحمي أجسادهم من الأمراض، تنحصر في العدس والأرز وبعض المعلبات. ويفيد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة بأن الاحتلال يواصل منع أكثر 430 صنفاً من المواد الغذائية الأساسية، والمواد المحظورة تشمل اللحوم الحمراء والبيضاء، والأسماك، والأجبان، ومشتقات الألبان، والفواكه والخضراوات، والمكملات الغذائية، إلى جانب أصناف ضرورية مثل المدعمات التي تحتاج إليها الحوامل وأصحاب الأمراض المزمنة.
ويوضح المكتب الإعلامي الحكومي في بيان، أن الاحتلال لم يسمح خلال الثلاثين يوماً الماضية إلا بدخول 14% فقط من الاحتياجات، ما سبَّب العجز القائم، وأن أكثر من 95% من سكان القطاع بلا مصادر دخل، في حين يمنع الاحتلال تنظيم عمليات توزيع المساعدات أو تأمينها، ويواصل سياسة (هندسة التجويع) ضد نحو 2.4 مليون فلسطيني في قطاع غزة، ما أدى إلى ارتفاع عدد ضحايا الجوع وسوء التغذية، وسط مخاوف من تفاقم الأعداد خلال الفترة المقبلة، خاصة بين الأطفال وكبار السن والمرضى.
وأعلنت وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة، السبت، تسجيل 10 وفيات جديدة، من بينهم 3 أطفال بسبب التجويع وسوء التغذية في القطاع خلال 24 ساعة، ليرتفع عدد ضحايا التجويع إلى 332 شهيداً، من بينهم 124 طفلاً. وأعلنت الأمم المتحدة في 22 آب/آب، المجاعة في مدينة غزة، اعتماداً على تقييم للمبادرة العالمية للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي.
تجلس الفلسطينية أم نزار ريان (35 سنة) على باب خيمتها في وسط مدرسة لإيواء النازحين غربي مدينة غزة، وقد بدا على ملامحها الإعياء، توزع نظراتها صوب أطفالها السبعة، وتقول لـ “العربي الجديد”: “اليوم كان طعامنا أرزّاً من التكيّة الخيرية. إذا كان هناك أرز نتناول وجبة، وإذا لم يصل الأرز إليهم فلا نأكل. نعيش طوال الأسبوع على وجبة الأرز اليومية، وأحياناً معلبات إن توفرت. الأولاد يطلبون اللحوم أو البطاطا أو الخضراوات، لكنّ الأسعار باهظة، ولا نملك ثمنها. حتى الملابس والأدوية لم نعد قادرين على توفيرها”. ويزيد مصاب ريان وضع زوجها الذي فقد بصره على إثر تعرضه للضرب المبرح خلال اقتحام قوات الاحتلال للمدرسة التي نزحوا إليها سابقاً في مخيم جباليا شمالي القطاع، قبل توجههم إلى حي الشيخ رضوان بمدينة غزة، فالزوج لا يستطيع إعالة أسرته، وأصبح أسير الفراش، لذا أصبحت العائلة أسيرة المساعدات المحدودة التي تقدّمها التكيات الخيرية.
نزح الفلسطيني بدري معروف (44 سنة) مع أفراد أسرته الستة من بيت لاهيا إلى مدرسة إيواء في حي الشيخ رضوان المهدد بالإخلاء، ويختصر حال أسرته قائلاً: “أكلنا طوال الأسبوع الأرز والعدس فقط. دخلت بعض البضائع، لكن لا يتوفر لدي أموال لشراء أي منها كوني مُعطلاً عن العمل منذ بداية الحرب، ولا أستطيع توفير قوت يومي”. ويضيف معروف لـ “العربي الجديد”: “أولادي يطلبون بندورة أو بطاطا أو حلاوة، لكني لا أقدر على تلبية مطالبهم، وزوجتي مريضة قلب، وتزداد حالتها سوءاً من قلة الطعام، ولا أملك حتى ثمن دوائها. دخول بعض الأصناف لم يغيّر شيئاً في واقع التجويع، فالبضائع غالية، ونحن بلا مصدر دخل”.
مأساة أخرى يعيش تفاصيلها الفلسطيني سامي غبن (44 سنة)، والذي يعيل أسرة مكونة من 10 أفراد، وبات عاجزاً عن توفير أدنى مقومات الحياة لأطفاله، ما يدفعه إلى الذهاب لمناطق دخول المساعدات الإنسانية في أقصى شمالي القطاع، رغم أن الرحلة “مقامرة بالحياة”. ويقول غبن لـ “العربي الجديد”: “نضطر إلى الذهاب قرب حاجز زيكيم كي نحصل على كرتونة غذائية، لكن المكان هناك عبارة عن مصيدة موت. اليوم أكلنا جميعاً علبة حمص واحدة، وطعامنا المعتاد هو أرز أو عدس من التكيات. كيلو الحطب بـ7 شواكل، ولا نستطيع شراءه، وبالتالي نأكل من دون تسخين. حياتنا بائسة. نفس الأكل كل يوم، والنتيجة أمراض جلدية والتهابات وضعف مناعة عند الأطفال. ابني يسألني عن ملوخية أو جبن أو طماطم. لكن إذا أردت أن تطعم أولادك فعليك أن تخاطر بحياتك”.
الصورة
ظفر بحصص طعام من مطابخ خيرية في مدينة غزة، 30 آب 2025 (عبد الحكيم أبو رياش/ الأناضول)
من جانبها، تقول الفلسطينية هناء أبو العيش، وهي أم لأسرة مكونة من 6 أفراد: “نعاني عدم القدرة على شراء الأطعمة، رغم دخول بعض البضائع في الفترة الأخيرة، ونعتمد على الأطعمة المعلبة مثل الحمص والفول، وطوال أيام الأسبوع لا أطبخ، وأعتمد على الأرز الذي توزعه التكيّات الخيرية في مدرسة النزوح”. وتحكي لـ “العربي الجديد”: “في كل أيام الأسبوع طعامنا مكرر، ولا يتغير عن العدس والأرز والمعكرونة وبعض المُعلبات. لا أذهب إلى السوق لأنني لا أملك مالاً لشراء أي شيء. سعر كيلو البندورة 120 شيكلاً، فكيف أشتريها؟ أنا مريضة قلب، وطعام المعلبات مضر لحالتي، لكننا لا نملك غيره. المجاعة مستمرة في قطاع غزة رغم دخول أصناف من البضائع، والغالبية يواجهون صعوبات في توفير الطعام بسبب عدم وجود مُعيل”.
ولا يختلف حال الفلسطيني موسى عطية كثيراً، فهو أب لثمانية أطفال، وبات عاجزاً عن تلبية أدنى مقومات الحياة، خصوصاً المأكل والمشرب. ويقول لـ “العربي الجديد”: “دخول بعض البضائع لا يغير الواقع الصعب الذي نعيشه، خاصة أنني عاطل، ولا أملك أموالاً لشراء مستلزمات العائلة. أولادي أنفسهم في المربى أو العسل، أو حتى البسكويت. بعد دخول البضائع لم أقدر على شراء الخضراوات أو الفواكه. زهقنا من العدس والفاصوليا والأرز، والمجاعة لا تزال موجودة”.
تعيش الفلسطينية سامية طشطاش مع أشقائها الثلاثة من ذوي الإعاقة داخل خيمة في مدرسة إيواء بمدينة غزة، وهم بلا مُعيل، وتقول لـ “العربي الجديد”: “إذا جاءنا أرز من تكية المدرسة نأكل، وإذا لم يأتنا فلا نأكل، وطوال الأسبوع نعيش على العدس والمعكرونة والأرز. نفسي أذوق الدجاج أو البطاطا أو الباذنجان. البضائع وصلت إلى السوق، لكننا لا نستطيع الشراء لأنه ليس لدينا أموال”. وتضيف طشطاش: “البضائع التي دخلت قطاع غزة أسعارها مرتفعة، وتفوق مقدرة الجميع، وحتى الآن لم أستطع شراء أي شيء منها. نحلم بتغيير روتين الطعام اليومي، ونعود إلى تناول الدجاج والخضراوات، لكن حتى اللحظة تظل هذه مجرد أمنية لا نملك تحقيقها”.
من جهتها، تؤكد اختصاصية التغذية، سماهر أبو عجوة لـ “العربي الجديد”، أن “غياب التنوع الغذائي الذي يشمل البروتينات والخضراوات والفواكه، يؤدي إلى ضعف المناعة، والإصابة بالأمراض المزمنة، وتأخر نمو الأطفال، وانتشار أمراض مثل فقر الدم والهزال، وما يتوفر حالياً في قطاع غزة لا يلبي أدنى مقومات الصحة السليمة”. وتضيف أبو عجوة : “الغذاء الصحي يعتمد على التنوع الذي يشمل الكربوهيدرات، والبروتينات، والدهون الصحية، وفي غزة حالياً، ما يتناوله الناس يومياً يقتصر على العدس والأرز والمعكرونة وبعض المعلبات، بينما الخضراوات والفواكه معدومة تقريباً، واللحوم غائبة تماماً، وهذا يعني نقصاً خطيراً في الفيتامينات والمعادن الأساسية، ما يؤدي إلى ضعف المناعة وانتشار الأمراض”.
وتحذر الطبيبة الفلسطينية من خطورة الاعتماد على تناول الأطعمة المُعلبة لفترات طويلة، مؤكدة أن “المعلبات مليئة بالأملاح والمواد الحافظة، وهي تسبب مشكلات في القلب والكلى والجهاز الهضمي، كما تؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم، وارتفاع مستوى سكر الدم، وصولاً إلى الأورام السرطانية. الأطفال الذين يتغذون على هذه الأطعمة سيعانون الهزال وضعف النمو، وربما التأخر العقلي”. وتشدد أبو عجوة على أن “غياب البروتين الحيواني والخضراوات والفواكه سيترك آثاراً طويلة المدى على الصحة العامة لأهالي غزة، خاصة الأطفال والمرضى وكبار السن، ونتحدث عن جيل كامل مهدد بالإصابة بسوء التغذية الحاد”.
قد يغامر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وحكومته المتطرفة ويحاول احتلال قطاع غزة عسكرياً، وقد يأخذه الغرور ويحاول ارتكاب تلك الحماقة، خاصة أنه حصل على موافقة المجلس الوزاري المصغر على مقترح السيطرة على مدينة غزة ضمن خطة أوسع لاحتلال القطاع بالكامل. وفي 8 آب/آب الماضي، أقرت حكومته خطة طرحها نتنياهو، لإعادة احتلال القطاع بالكامل تدريجياً، بدءاً بمدينة غزة. بل إن وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس ورئيس الأركان إيال زامير صدَّقا على خطط احتلال المدينة وبدء استدعاء 60 ألف جندي احتياط.
لكن مغامرة إعادة احتلال قطاع غزة عسكرياً ليست بالسهولة التي قد يتخيلها نتنياهو وحكومته المتطرفة في إسرائيل. لا أتحدث هنا من وجهة نظر عسكرية بحتة، فاحتلال غزة يحتاج إلى خطوات منها تعبئة ربع مليون جندي احتياط في غضون أشهر قليلة، قبل نهاية السنة المالية الحالية، واستيراد مزيد من الأسلحة والمعدات، وتغطية الكلف المالية الضخمة، بما فيها المتعلقة بتمويل علاج أزمة النازحين من مدينة غزة، والتي تُقدر بنحو أربعة مليارات شيكل.
علماً أن تكلفة تجنيد قوات الاحتياط، واستخدام الذخيرة والعتاد لاحتلال غزة تُقدر بنحو 350 مليون شيكل يومياً، وبما يعادل نحو 50 مليار شيكل بحلول نهاية عام 2025، وهو مبلغ يضاف للخسائر الاقتصادية التي تكبدتها دولة الاحتلال جراء الحرب على القطاع، والتي تفوق المائة مليار دولار، وهي تكلفة سيضطر الإسرائيلي لدفعها في صورة ضرائب وتضخم في أقرب فرصة أو بعد نهاية الحرب.
أتحدث من وجهة نظرة اقتصادية ومالية شاملة، وارتدادات تلك العملية العسكرية الواسعة والخطيرة على الاقتصاد الإسرائيلي، والتي قد تعيده إلى المربع الأول. وفق التقديرات فإن التكلفة الإجمالية لتمويل الحملة العسكرية لاحتلال غزة قد تصل إلى 180 مليار شيكل، أي ما يعادل 52.6 مليار دولار، وإن تلك النفقات الضخمة لم تجرِ مناقشتها بعد، سواء داخل الحكومة أو الكنيست، على مستوى كيفية تدبيرها، أو تأثيراتها الخطيرة على الموازنة والنفقات العامة ودافعي الضرائب والخدمات المقدمة للإسرائيلي من تعليم وصحة ورعاية اجتماعية وبنية تحتية وغيرها.
بل إن تقديرات مسؤولين في وزارة المالية الإسرائيلية ترى أن التكلفة المتوقعة لتغطية تكاليف احتلال غزة وتوسيع الحرب القائمة، والتي تتراوح بين 120 و180 مليار شيكل وفق أرقامها، قد ترفع العجز المالي لموازنة إسرائيل إلى نحو 7% هذا العام بزيادة 2%، وتعقد مهمة الحكومة في إدارة الاقتصاد والتعاطي مع أسوأ أزمة أمنية تشهدها دولة الاحتلال منذ نشأتها.
وقبل أن يفكر نتنياهو في ارتكاب حماقة احتلال غزة، فإنه يجب أن يدرك أن الاقتصاد الإسرائيلي قد يشهد انهياراً أو على الأقل تراجعاً حاداً على مستوى معدل النمو والمؤشرات الأخرى وتفاقم الدين العام والتضخم، ودعم هشاشة الاقتصاد وزيادة منسوب التعثر المالي لأنشطته، وأن الكلفة المتوقعة ستزيد الفجوة بين الحكومة والإسرائيلي، الذي سيكون عليه دفع مزيد من الضرائب والرسوم وزيادات في التضخم وأسعار السلع مقابل تمويل الحملة العسكرية، وأن يتوقع تراجعاً كبيراً في مستوى الخدمات المقدمة له مقابل تدبير الحكومة السيولة المطلوبة لاحتلال غزة.
كما أن تبعات احتلال غزة ستؤدي إلى حدوث تأثيرات اقتصادية خطيرة أخرى، منها تنامي سلاح المقاطعة ضد كل ما هو إسرائيلي والدول الشركات الداعمة لحرب الغبادة الجماعية في غزة، وهروب ما تبقى من استثمارات أجنبية، وتخفيضات متتالية في التصنيف الائتماني لإسرائيل إلى مستويات دول عربية وأفريقية تعاني من أزمات مالية طاحنة، وحدوث شلل في الأنشطة الاقتصادية، مع زيادة المخاطر الجيوسياسية، وسحب 250 ألفاً من سوق العمل لإلحاقهم بالجيش كجنود احتياط.
كما أن احتلال غزة سيزيد وتيرة مقاطعة دول العالم لإسرائيل اقتصادياً واستثمارياً، وزيادة التعامل مع إسرائيل على أنها دولة منبوذة وعنصرية، وانسحاب مزيد من الشركات والصناديق الاستثمارية العالمية الكبرى، وهو ما يؤثر على مركزها الاستثماري والمالي والتكنولوجي الذي سعت لتأسيسه طوال سنوات، وكذا على الصورة الذهنية التي حاولت رسمها في السنوات الأخيرة وهي أنها واحة الأمن والاستقرار في منطقة تموج بالاضطرابات والحروب والمخاطر الجيوسياسية والأمنية.
أعلنت وزارة الصحة في غزة، اليوم الجمعة، أن أعداداً كبيرة من الفلسطينيين وصلوا إلى المستشفيات والنقاط الطبية خلال الأيام الماضية، وهم يعانون من مرض مجهول. جاء ذلك في وقت يفتقر فيه قطاع غزة إلى الإمكانات الطبية اللازمة لتشخيص طبيعة هذه الحالات، وسط حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة منذ نحو 23 شهراً.
وكتب مدير عام وزارة الصحة في غزة، منير البرش، على منصة إكس: “تشمل الأعراض ارتفاع درجات الحرارة وآلام المفاصل وسيلان الأنف والسعال والإسهال. ورغم أننا في القرن الحادي والعشرين، لا تتوفر في غزة أبسط الإمكانات الطبية لتحديد طبيعة هذا المرض، فلا مختبرات ولا حتى إمكانية لإجراء تحاليل دم أساسية مثل صورة الدم”.
تابع: “تُجبر الطواقم على مآذارة الطب بوسائل بدائية نتيجة الحصار ونقص الإمكانات، حيث يستخدم الطوب لتثبيت الأرجل المكسورة بدلاً من الأجهزة الطبية. وتجرى العمليات الجراحية تحت إضاءة الهواتف المحمولة، كما يُنفذ التنفس الصناعي يدوياً عند انقطاع الكهرباء بسبب نفاد الوقود”. وأكد أن “كل ذلك يحدث وسط إبادة جماعية وتجويع ممنهج وتهديد باحتلال مدينة غزة الذي بدأ فعلياً عبر تفجير أحياء سكنية، وأهالي القطاع يواجهون ظروفاً إنسانية وصحية قاسية بينما يلتزم العالم الصمت”.
ويشهد قطاع غزة، تحت وطأة الهجمات الإسرائيلية والحصار الخانق الذي يُقيّد وصول المساعدات الإنسانية، كارثة إنسانية، مع انتشار الجوع ونقص المياه والأدوية والمستلزمات الطبية ولوازم النظافة. ومنذ بدء الإبادة الجماعية في غزة، يتعمّد جيش الاحتلال الإسرائيلي استهداف القطاعات الحيوية والعاملين في المجال الإنساني، من مستشفيات وطواقم طبية وصحافية ورجال دفاع مدني، رغم المطالبات الحقوقية الدولية المتكررة بتحييدهم.
5 حالات وفاة جديدة نتيجة المجاعة وسوء التغذية في غزة
على صعيد آخر، أعلنت وزارة الصحة في قطاع غزة ارتفاع حصيلة الوفيات جراء التجويع الإسرائيلي الممنهج إلى 322 فلسطينياً من بينهم 121 طفلاً منذ 7 تشرين الأول/ تشرين الأول 2023، بعد تسجيل 5 حالات وفاة نتيجة المجاعة وسوء التغذية، بينهم طفلان. وقال البرش: “منذ أن أعلنت المبادرة العالمية للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي عن المجاعة في غزة سُجلت 44 وفاة، من بينها 6 أطفال”.
وفي 22 آب/ آب الجاري أكدت المنظمة في تقريرها “حدوث المجاعة في مدينة غزة (شمال)، وتوقعت أن تمتد إلى دير البلح (وسط) وخانيونس (جنوب) بحلول نهاية أيلول/ أيلول المقبل”.
Image
ومنذ 2 آذار/ آذار الماضي، تغلق إسرائيل كل المعابر المؤدية إلى غزة، وتمنع دخول أي مساعدات إنسانية، ما جعل القطاع يعاني من مجاعة رغم تكدس شاحنات الإغاثة على حدوده. ثم سمحت قبل نحو شهر بدخول كميات محدودة من المساعدات للا تلبي أدنى الاحتياجات، فيما تستمر المجاعة وتتعرض معظم الشاحنات للسطو من عصابات تقول حكومة غزة إنها تحظى بحماية إسرائيلية.
يعيش أهالي مدينة غزة والنازحون فيها حالة استثنائية من الحيرة والقلق الجماعي، بفعل إعلان الجيش الإسرائيلي أمس الجمعة مدينة غزة “منطقة قتال خطيرة” وأنه بدأ العمليات التمهيدية والمراحل الأولية للهجوم على المدينة مضيفاً أنه يعمل حالياً بقوة كبيرة على مشارف المدينة، ما يعيد إلى الأذهان سيناريو النزوح الأكبر بداية العدوان قبل 22 شهراً. وتبدو حركة الناس في شوارع مدينة غزة المهددة بالاقتحام بطيئة ومثقلة بالأسئلة، فلا أحد يعرف إلى أين يسير، ولا إلى أي جهة يمكن أن يتجه في حال بدأ الاجتياح البري الشامل للمدينة. وتحولت التهديدات الإسرائيلية إلى هاجس يومي يثقل صدور الأهالي، ويضعهم أمام سؤال وجودي “إلى أين يمكن أن نذهب بعد أن امتلأ الجنوب عن آخره؟”. الجنوب الذي كان يمثل لآلاف العائلات “الملاذ الأخير”، لم يعد يتسع لاستقبال أي أسرة جديدة، بعدما تعرضت رفح وخانيونس لدمار واسع، وتكدست مئات آلاف الأسر في أحياء مهدمة أو مخيمات نزوح مكتظة، ومع تهديد دير البلح والمناطق الوسطى بالقصف والاقتحام، تلاشت آخر المساحات التي كان الناس يأملون التوجه إليها.
لا مكان لنصب خيمة في غزة
وشهدت الأيام الأخيرة محاولات عائلات من مدينة غزة للنزوح نحو المحافظات الوسطى أو الجنوب، لكنهم اصطدموا بالواقع القاسي، لا مكان لنصب خيمة جديدة، ولا ساحة تتسع حتى لأسرة واحدة، البعض قضى ليالي في العراء أو على الطرقات، وآخرون اضطروا للعودة مجدداً إلى بيوتهم المهددة بالقصف، في مشهد يجسّد انسداد الأفق وانعدام البدائل. هذا الواقع فاقم مشاعر الرعب والضغط النفسي، إذ بات الغزيون يعيشون بين خيارين أحلاهما مر: البقاء تحت خطر الاحتلال والقصف في مدينة غزة، أو المحاولة المستحيلة للنزوح نحو مناطق لم تعد تتسع لأي قادم جديد، وبين هذين الخيارين، يعيش الناس في حالة انتظار خانق يختلط فيه الخوف من المستقبل مع العجز عن اتخاذ أي قرار آمن. وفي ظل استمرار الغارات والقصف على كل مكان، تزداد مخاوف السكان من أن يتحول النزوح القسري، إذا ما فرض، إلى مأساة مفتوحة بلا أفق، خصوصاً في وقت لم يعد فيه الجنوب سوى صورة أخرى من الجوع والاكتظاظ والموت البطيء.
سمية بدوي: هذه أول مرة أشعر بأن غزة تُدفع دفعاً نحو التهجير القسري
في السياق، تقول الفلسطينية سمية بدوي (42 عاماً)، وهي أم لخمسة أطفال، إنها أعدت بعض الحقائب الصغيرة حتى يكونوا جاهزين في أي لحظة، لكن الحقيقة أنها لا تعرف إلى أين ستذهب، وهو ما بات يشعرها بأنها وأسرتها باتوا بين فكي كماشة. وتضيف في حديثٍ لـ”العربي الجديد”: “حاولنا الأسبوع الماضي النزوح إلى (المنطقة) الوسطى، وعندما وصلنا إلى مشارف دير البلح اكتشفنا أن لا مكان، ولا حتى متراً واحداً لنضع خيمة فيها. الناس هناك يفترشون الشوارع والطرقات، عدنا إلى منطقتنا المهددة بالقصف وكأننا لم نفعل شيئاً”. وتضيف بدوي: “عشت كل جولات التصعيد السابقة، لكن هذه أول مرة أشعر بأن غزة تُدفع دفعاً نحو التهجير القسري، الجنوب لم يعد موجوداً، رفح وخانيونس أصبحتا أنقاضاً، والوسطى مهددة كل يوم بالقصف، لم يبقَ أمامنا سوى أن نعيش هنا وننتظر قدرنا”.
ولم يختلف الواقع كثيراً عند الفلسطيني أدهم السمري (33 عاماً) الذي نزح مرتين سابقاً من الشجاعية إلى مدارس غزة، حيث كان يأمل في كل نزوح أن يجد مكاناً جديداً أكثر أماناً، بينما لم يجد الآن أي مكان بعد امتلاء المدارس ومخيمات النزوح المعتمدة والعشوائية وحتى الطرقات والمفترقات. ويوضح السمري، في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، أنه بات يشعر بالرعب الحقيقي من كلمة “أخلوا مناطق سكنكم”، ليس لأنها جيدة أو تنعم بالخدمات والبنية التحتية التي جرى تدميرها بشكل كامل، وإنما لعدم توفر أماكن، حتى وإن كانت بلا خدمات “لا يوجد شبر واحد يمكنه استيعاب أسرة صغيرة”. ويشير السمري إلى أنه عاد من نزوح طويل في المحافظات الجنوبية، ذاق خلاله كل أصناف العذاب، ونزح مجدداً بعد عودته إلى مدينة غزة، ولا يزال يشعر بالعذاب ذاته بعد فقدان بيته، لكن الهاجس الأكبر يتمثل في معاودة النزوح نحو الجنوب، معتبراً أن صدور مثل هذا الأمر لا يمكن اعتباره سوى “حكم بالإعدام الجماعي”.
أما الفلسطيني عدي حبيب (28 عاماً) فيقول: “لم يبقَ لنا سوى الانتظار، نزحنا سابقاً إلى عدة أماكن، لكن لم نجد مكاناً حتى في الساحات، عدنا إلى بيتنا رغم أنه نصف مهدم”. ويلفت حبيب في حديثٍ لـ”العربي الجديد” إلى أن النزوح مجدداً في مثل هذه الظروف التي تنعدم فيها كل سبل الحياة ومقوماتها، إلى جانب انعدام وجود أماكن لاستقبال النازحين حتى وإن كانت أماكن بلا مقومات، يعني “التشرد في العراء، والنوم على الأرصفة أو بين الركام”. وتنتشر الأحاديث داخل البيوت والخيام عن الأخبار المتداولة باحتمال اجتياح المدينة، وكثير من الأسر تبيت بثياب جاهزة للنزوح، لكن من دون وجهة، البعض ينام بجانب حقائب صغيرة تحوي وثائق وأدوية وبعض الملابس، بينما يتناوب الكبار على طمأنة الصغار الذين يسألون: “وين رح نروح؟”.
أدهم السمري: لا يوجد شبر واحد يمكنه استيعاب أسرة صغيرة
مآسي المدينة
وبعد تدمير مدينتي رفح وخانيونس لم يعد أي متسع لاستقبال نازحين جدد، لدرجة أن بعض العائلات تسكن داخل هياكل مدمرة أو بين الركام، في الوقت الذي لم تعد المحافظات الوسطى آمنة ولا متاحة، فهي مهددة بالقصف والاقتحام، وتفتقر أصلاً لأي قدرة على استقبال مزيد من الأسر، في الوقت الذي يعيش أهالي مدينة غزة بين حيرة البقاء في مواجهة التهديد المباشر بالاحتلال أو البحث عن ملاذ غير موجود. حول ذلك، يقول الباحث السياسي جميل مازن شقورة لـ”العربي الجديد” إن سياسات جيش الاحتلال على الأرض من خلال التطويق والتدمير الممنهج، تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع الميداني في القطاع، لا سيما مدينة غزة، من خلال خلق ظروف معيشية غير قابلة للاستدامة، ما يؤدي فعلياً إلى تفريغ مناطق واسعة من سكانها ومن ثم احتلالها.
ويحذّر من أن ما يفعله الاحتلال يهدف إلى التهجير القسري، لكنه يغلف هذا الأمر بمصطلح الهجرة الطوعية من خلال ما يقوم به وما يآذاره على الأرض. وينبّه كذلك إلى أن ذلك بات سياسة متعمدة، وليست نتيجة اعتباطية للحرب، إذ اعتبر إيلي باخر، المستشار القانوني السابق لجهاز الشاباك، أن الحرب تجاوزت أهدافها العسكرية لتصبح أداة سياسية لإفراغ غزة تدريجياً من سكانها، تمهيداً لمشاريع ضم واستيطان مستقبلية، وهو ما يصفه بـ”خطة الحسم”. ويلفت شقورة إلى أنه في ظل غياب أي أفق واضح لإنهاء الحرب والحصار المفروض على مدينة غزة وتدمير المساحات المدنية، لم يعد المكان في غزة قابلاً لحياة السكان، وسيدفعهم الاحتلال بشتى الطرق للنزوح جنوباً من أجل تنفيذ مخططاته الرامية لاحتلال المدينة.
تستعد إسرائيل خلال الأيام القريبة لوقف عمليات الإسقاط الجوي للمساعدات الإنسانية فوق مدينة غزة شمالي القطاع، وتقليص إدخال الإمدادات في خطوة تهدف إلى إجبار مئات آلاف السكان على النزوح نحو الجنوب قبيل العملية العسكرية المرتقبة لاقتحام المدينة، وفق ما أوردته قناة “كان” العبرية الرسمية، اليوم الجمعة. وقالت القناة إن “القرار يستهدف إيصال رسالة إلى أكثر من 800 ألف من سكان غزة بضرورة إخلاء المدينة والتوجه جنوباً، ضمن الإجراءات الممهدة لاحتلالها”.
ونقلت القناة عن مصدر أمني إسرائيلي زعمه أن “البنى التحتية الإنسانية في جنوب القطاع باتت جاهزة لاستقبال السكان”، مضيفة أن التقديرات تفيد بأنّ جيش الاحتلال سيبدأ بإصدار أوامر للفلسطينيين في مدينة غزة بإخلائها، خلال قرابة أسبوع ونصف. ووفق القناة، فإن المستوى السياسي في إسرائيل أوعز، صباح الجمعة، بوقف ما سمّاه “التهدئة التكتيكية” التي كانت تُطبّق في مدينة غزة منذ شهر، وتسمح بساعات محدودة من وقف إطلاق النار اليومي لإدخال مساعدات، وذلك بعد ضغوط وانتقادات دولية حادة حذّرت من تفاقم الجوع في القطاع.
وتفرض إسرائيل حصاراً مطبقاً على 2.4 مليون فلسطيني في قطاع غزة، منذ 2 آذار/ آذار الماضي، وتآذار بحقهم سياسة تجويع ممنهجة، من خلال إغلاق المعابر الحدودية للقطاع، ما أدخل سكانه في مرحلة المجاعة، وأزهق أرواح كثيرين. ولجأت بعض الدول العربية والغربية، أبرزها الأردن ومصر والإمارات وفرنسا، إلى إسقاط المساعدات من الجو. وبينما يُقال إن المساعدات الجوية تسد بعض احتياجات السكان المحاصرين، يرى أهل غزة أنها طريقة مُذلة تحط من كرامتهم، وأن الحل الأمثل هو فتح المعابر البرية وإدخال المساعدات من خلالها.
ويأتي هذا بينما أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي، في وقت سابق اليوم، إلغاء الهدنة التكتيكية اليومية في مدينة غزة ومحيطها، واعتبرها منطقة قتال خطيرة، مشيرًا إلى أنه بدأ العمليات التمهيدية والمراحل الأولية للهجوم على المدينة، وأنه “يعمل حالياً بقوة كبيرة على مشارفها”. وقال متحدث باسم جيش الاحتلال في بيان “بناء على تقييم الوضع وتوجيهات المستوى السياسي تقرر ابتداء من اليوم (الجمعة) في تمام الساعة 10:00، ألا تشمل حالة الهدنة التكتيكية المحلية والمؤقتة للأنشطة العسكرية منطقة مدينة غزة، والتي ستعتبر منطقة قتال خطيرة”. وفي 27 تموز/ تموز الماضي، أعلن الجيش الإسرائيلي بدء ما سماه “تعليقاً تكتيكياً محلياً للأنشطة العسكرية” في مناطق محددة بقطاع غزة، بينها مدينة غزة، للسماح بمرور المساعدات الإنسانية.
وأوضح أن “التهدئة الجزئية” ستستمر فقط في بعض مناطق الوسطى والمواصي جنوبي القطاع، حيث تخطط إسرائيل إلى تجميع السكان هناك. في موازاة ذلك، تُستكمل التحضيرات في جنوب القطاع لاستقبال المهجرين من مدينة غزة، وفق زعم القناة ذاتها. وفي 8 آب/ آب الجاري، أقرت الحكومة الإسرائيلية خطة طرحها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لإعادة احتلال قطاع غزة بالكامل تدريجياً، بدءاً بمدينة غزة.
والثلاثاء، قال المكتب الإعلامي الحكومي بغزة إنه خلال 30 يوماً دخلت قطاع غزة نحو ألفين و654 شاحنة، تعرض معظمها للنهب بمساعدة إسرائيل. وشدد على أن قطاع غزة يحتاج يومياً إلى أكثر من 600 شاحنة مساعدات مختلفة لتلبية الحد الأدنى من احتياجات 2.4 مليون إنسان، وسط انهيار شبه كامل للبنية التحتية بفعل الحرب والإبادة المستمرة. وخلّفت الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل منذ 7 تشرين الأول/ تشرين الأول 2023، بدعم أميركي مطلق، 63 ألفاً و25 شهيداً، و159 ألفاً و490 مصاباً من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وأكثر من 9 آلاف مفقود، ومئات آلاف النازحين، ومجاعة أزهقت أرواح 322 فلسطينياً بينهم 121 طفلاً.