
ستانيسلاف بيتروف.. قصة “الرجل الذي أنقذ العالم” من حرب نووية
خلال الحرب الباردة في الثمانينيات من القرن الماضي، بلغ التوتر بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي ذروته، إذ نشر البلدان صواريخ نووية متوسطة المدى في أوروبا.
في ذلك الوقت، اعتبر الرئيس الأميركي رونالد ريغان أنّه من الممكن توجيه ضربة قاتلة لما سمّاه “إمبراطورية الشر”، فأطلق خطته الشهيرة “حرب النجوم” التي كان يُفترض أن تُعطّل الصواريخ النووية السوفيتية، كما أرسل أربعين سفينة أميركية إلى المحيط الهادئ لمحاكاة حرب شاملة مع الاتحاد السوفيتي.
في المقابل، كان الرئيس السوفيتي يوري أندروبوف يعتقد أنّ الولايات المتحدة تستعد لتكون صاحبة الضربة النووية الأولى. لذلك أطلق العملية السرية العملاقة “ريان”، التي كلّف بموجبها 300 جاسوس سوفيتي يعملون في الغرب بمراقبة أي استعدادات محتملة لهجمات ذرية.
في خضمّ هذا القلق العالمي، وتحديدًا بتاريخ 26 أيلول/ أيلول 1983، كان الضابط السوفيتي ستانيسلاف بيتروف في الخدمة في مركز الإنذار المبكر “سربوخوف-15″، عندما تلقّى إنذارًا يُفيد بأنّ الولايات المتحدة أطلقت للتو خمسة صواريخ باليستية عابرة للقارات من إحدى قواعدها باتجاه الاتحاد السوفياتي.
لم يكن أمام بيتروف سوى لحظات قليلة ليُقرّر ما سيفعله. فلو اتّبع البروتوكول العسكري وأبلغ رؤساءه بالتحذير، لكانوا على الأرجح سيشنّون ضربات نووية انتقامية، ما قد يؤدي إلى اندلاع حرب عالمية شاملة. لكنّ بيتروف شعر بأنّ الإنذار غير منطقي، فاختار الانتظار ليرى ما سيحدث. وبقراره هذا، غيّر مجرى التاريخ، ليُعرف لاحقًا بـ”الرجل الذي أنقذ العالم”.
من هو ستانيسلاف بيتروف؟
وُلِد بيتروف في مدينة فلاديفوستوك عام 1939، ونشأ متأثّرًا بوالده الذي شارك في الحرب العالمية الثانية. التحق بقوات الدفاع الجوي السوفياتية في أوائل السبعينيات، وترقّى حتى وصل إلى رتبة مقدم.
شملت مهامه مراقبة نظام الإنذار المبكر الجديد المخصص لاكتشاف الهجمات الصاروخية الباليستية من الدول المعادية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. وخلال فترة خدمته، كانت توترات الحرب الباردة في أوجها. ففي عام 1983 رفض الرئيس الأميركي ريغان تجميد سباق التسلح، بينما كان زعيم الاتحاد السوفيتي آنذاك يوري أندروبوف يعيش هاجس الضربة الأميركية الأولى.
شملت مهام بيتروف مراقبة نظام الإنذار المبكر الجديد الذي يكشف هجمات الصواريخ الباليستية من الدول المعادية- غيتي
وفي الأول من أيلول/ أيلول من العام نفسه، أسقطت الدفاعات السوفيتية طائرة مدنية كورية جنوبية كانت متجهة من ألاسكا إلى سيول، ما أدى إلى مقتل جميع ركابها البالغ عددهم 269 شخصًا. وحينها، زعم الاتحاد السوفييتي أنّ الطائرة كانت في مهمة تجسس لكنها ضلّت مسارها بسبب خطأ ملاحي، غير أنّ العالم صبّ جام غضبه على الاتحاد السوفيتي. وبعد ثلاثة أسابيع فقط، وجد بيتروف نفسه أمام إنذار بوجود خمسة صواريخ متجهة إلى بلاده.
حينها، كان على بيتروف أن يُقرّر بسرعة ما إذا كان سيتبع الأوامر بابلاغ رؤسائه بهذه التحذيرات، وبالتالي المجازفة بإثارة سلسلة من ردود الفعل التي لا رجعة فيها. لكنّه اتخذ قراره المصيري والشجاع.
قرار غيّر مجرى التاريخ
حين دوّت صفارات الإنذار وظهرت أمامه كلمة “إطلاق” على الشاشة، بدا بيتروف هادئًا ظاهريًا، لكنّه كان يعيش صراعًا داخليًا كبيرًا.
تلقّى بيتروف تحذيرًا من أنّ الولايات المتحدة أطلقت 5 صواريخ باليستية عابرة للقارات باتجاه الاتحاد السوفييتي- غيتي
فمن ناحية، أصرت أجهزة الكمبيوتر على أنّ موثوقية التحذير كانت على أعلى مستوى. كما كان هناك أكثر من عشرين مستوى أمان مُطبّقًا لمنع الإنذارات الكاذبة، ولم يكن بيتروف متأكدًا حتى من إمكانية فشلها جميعًا.
وعن هذه اللحظة، قال بيتروف لمجلة “تايم” عام 2015:
لقد بنينا النظام لاستبعاد كل احتمالات الإنذارات الكاذبة. وفي ذلك اليوم، أخبرتنا الأقمار الصناعية بأعلى درجة من اليقين أنّ هذه الصواريخ كانت في طريقها إلينا.
ومع ذلك، كان لدى بيتروف شعور داخلي بأنّ هناك خطبًا ما. وقال لصحيفة “واشنطن بوست” الأميركية عام 1999:
عندما يبدأ الناس حربًا، فإنّهم لا يبدأونها بخمسة صواريخ فقط
بناءً على حدسه، قرّر أن يبلغ القيادة بأنّ الأمر مجرّد عطل في النظام. لو كان مخطئًا، لكانت الصواريخ ستضرب الاتحاد السوفيتي بلا إنذار، أمّا إن كان مصيبًا، فسيمنع كارثة نووية. وبعد عشرين دقيقة مرّت ثقيلة، تبيّن أنّ قراره كان صحيحًا.
ووجد نفسه بين نتيجتين: إذا كان مخطئًا، فستضرب الصواريخ من دون سابق إنذار، مخلفة عددًا لا يُحصى من القتلى السوفييت. أما إذا كان مصيبًا، فسيمنع كارثة نووية محتملة.
عواقب قراره الشجاع
في نهاية المطاف، تبيّن أنّ الإنذار الكاذب حدث عندما أخطأ نظام التحذير بين ضوء الشمس المنعكس على السحب وعوادم محركات الصواريخ الباليستية.
وقال بيتروف لمجلة “تايم”:
كان الأمر كما لو أنّ طفلًا كان يلعب بمرآة تعكس الشمس. وبالصدفة، سقط ذلك الضوء المُبهر في مركز عين النظام.
وعلى الرغم من أنّ بيتروف جنّب العالم حربًا نووية، إلا أنّه لم يُكرّم نظير بطولاته بل حُرم من الترقية ونُقل إلى وظيفة أخرى. كما وبّخه الضبّاط الذين حقّقوا في الحادث لعدم تسجيله كل لحظة بدقة.
وعندما سألوه عن سبب عدم تدوينه لكل تفصيل، أجاب:
لأنّني كنت أحمل الهاتف في يدي وجهاز الاتصال الداخلي في اليد الأخرى، وليس لديّ يد ثالثة.
حافظ الاتحاد السوفيتي على سرية الحادثة لعقد من الزمن. ولكن بعد انهيار البلاد عام 1991، تحدث بيتروف عن تجربته واعتُبر بطلًا.
التكريمات والاعتراف المتأخر
في عام 2004، نال بيتروف جائزة المواطن العالمي “لدوره في تجنّب كارثة”. وبعدها بعامين كُرِّم في الأمم المتحدة. كما نال بيتروف جائزة دريسدن للسلام عام 2013. علاوة على ذلك، أنتج مخرجون دنماركيون فيلمًا وثائقيًا عن حياته بعنوان “الرجل الذي أنقذ العالم”.
نال ستانيسلاف بيتروف جائزة دريسدن للسلام عام 2013- rferl.org
ورغم هذه التكريمات، أصرّ ستانيسلاف بيتروف على أنّه لا يستحق الأضواء. كما أقرّ بأنّ شخصًا آخر في منصبه ربما اتخذ قرارًا مختلفًا.
ومن اللافت أنّ بيتروف لم يكن من المفترض أن يكون في الخدمة ليلة 26 أيلول/أيلول 1983، بل كان ينوب عن ضابط مريض.
وحول هذه المصادفة، قال:
لقد كنت في المكان المناسب في الوقت المناسب.
وقال دميتري بيتروف: “بالطبع، غمرني الرعب مما كان يمكن أن يحدث. لقد فوجئت للغاية عندما عرفت ما حدث، وأنّه التزم الصمت حيال ذلك. من الواضح أنّه لم يستطع قول أي شيء في تلك اللحظة التي كان العالم فيها معلقًا بشعرة”.
وكوالده كان دميتري متحفظًا ومتواضعًا عند الحديث عن الحادثة التي كان من الممكن أن تُغيّر مجرى التاريخ. حيث قال:
كان والدي يؤدي عمله، ولم يعتبر نفسه بطلًا قط