تعيش حليمة في صدمة فقدان ابنتها الكبرى رضا، التي قُتلت طعنًا بالسكين على يد زوجها أمام أعينها وأعين حفيدتيها الصغيرتين. العائلة تقول إن الخلافات المادية، خاصة بعد صدور حكم قضائي بإلزام الزوج بالنفقة، كانت السبب الرئيسي في تصاعد العنف حتى انتهى بالقتل.
حادثة قتل رضا ليست الأولى، لكنها حلقة جديدة في سلسلة متكررة من جرائم العنف ضد النساء في مصر، غالباً ما يكون الجاني فيها شريكاً حالياً أو سابقاً أو أحد أفراد الأسرة.
“كل ذلك من أجل النفقة”
في منزلها الواقع بحي كرموز وسط مدينة الإسكندرية، تكتسي حليمة بالسواد من رأسها إلى قدميها، تجلس وبجانبها حفيدتيها، طفلتان لا تتجاوز أعمارهما العاشرة، لا يفترقان عن جدتهما أينما تحركت.
تتذكر حلمية تفاصيل ليلة الحادث “كنا نجلس وفجأة بدأ يطرق على الباب حتى كسره، دفعني على الأرض، وبدأ في ضربها، بدأت أصرخ، والأطفال يصرخون، حتى أتى بسكين من المطبخ وطعنها”.
لا ينسيها الحزن رغبتها في الثأر، “أشعر بالغلب وبالمرار، أشعر أني أريد أن انتقم”.
رضا وطفلتيها
قبل الحادث بأيام، انتقلت حليمة للعيش في منزل ابنتها رضا القريب من منزلها، خوفاً من محاولات الزوج التعدي عليها: “كان يريد طردها من المنزل الذي دفعت نصف ثمنه”، تقول في حديثها لبي بي بي “كل ذلك حدث من أجل النفقة، لم يرغب في الدفع، كانت ابنتي تصرف عليه وعلى البنات، تطعمه وتسقيه، وفي النهاية قتلها”.
لم تكن هذه المشاجرة الأولى بين رضا وزوجها، إذ تقول عائلتها إن المشاكل بدأت بينهما منذ بداية زواجهما قبل أكثر من 10 سنوات، وإنه اعتدى عليها بالضرب سابقا، كما اعتدى على شقيقها، وكثيراً ما هددها خاصة بعد حصولها على حكم المحكمة الذي يلزمه بالإنفاق عليها.
ويقول محمد شقيق رضا “منذ حصولها على حكم النفقة بدأ في تهديدها، كان يرغب في الزواج مجدداً، ولم يكن يرغب في الإنفاق عليها أو على البنات”.
حاولت رضا الحصول على مساعدة عدة مرات لكن دون جدوى، يقول شقيقها “طلبنا مساعدة من والدته رفضت، ومن أقاربه وأصدقائه رفضوا، وحين طلبنا مساعدة من الحكومة قتلها”.
حاولت حليمة منع الاعتداء عن ابنتها دون جدوى
تصاعد في أعداد الجرائم
بحسب تقرير حديث صادر عن مؤسسة “إدراك للتنمية والمساواة” في تموز 2025، وُثّقت 120 جريمة قتل لنساء على يد الزوج أو أحد أفراد العائلة خلال النصف الأول من عام 2025 وحده. ويُعد هذا امتداداً لتصاعد بدأت مؤشراته منذ عام 2023، حيث رُصدت 140 جريمة، وارتفع العدد إلى 261 جريمة في عام 2024.
غالبًا ما ترتبط هذه الجرائم بخلافات زوجية تتعلق بالوضع الاقتصادي أو بالشكوك في السلوك، وفقاً لتقرير إدراك، الذي يستند إلى بلاغات رسمية وأخبار منشورة، مع الإشارة إلى أن عدداً كبيراً من الحالات لا يتم توثيقها أو الإبلاغ عنها من الأساس.
في الوقت نفسه، رصدت مؤسسة إدراك خلال عام 2024 أكثر من 1,195 جريمة عنف ضد النساء والفتيات في مصر، تنوعت بين القتل، والشروع في القتل، والضرب المبرح، والاغتصاب، والانتحار، والابتزاز الإلكتروني، وغيرها من الانتهاكات.
مديرة وحدة الرصد في مؤسسة إدراك، شيماء فكري، تقول إن ” المعطيات المتاحة تظهر أن جرائم قتل النساء لا تأتي وليدة الصدفة، بل تأتي في الغالب كنهاية مسار طويل من أشكال مختلفة من العنف أوسعها انتشااً العنف المنزلي. فأغلب الحالات يكون الجاني فيها شريكاً حالياً أو سابقاً أو أحد الأقارب، وغالباً ما يسبق الجريمة تاريخ من التهديد والاعتداء والمطاردة”.
ثغرات قانونية ومجتمعية
المحامية بالنقض مها أبو بكر
رغم صدور بعض أحكام الإعدام في قضايا قتل النساء، إلا أن محامين وحقوقيين يشيرون إلى ثغرات قانونية تُخفف العقوبات على الجناة، خاصة إذا كانت الجريمة داخل الأسرة.
المحامية بالنقض مها أبو بكر توضح أن القوانين الحالية لا تتعامل بجدية مع التهديد أو العنف المنزلي، إذ تُقيد أغلب البلاغات كـ”إثبات حالة” دون اتخاذ إجراءات فعلية.
وتضيف أن هناك ثقافة مجتمعية تضع اللوم على النساء عند التبليغ، وتجعل من لجوئهن للقانون “فضيحة عائلية”، مما يضاعف من تردد النساء في طلب الحماية.
في السياق ذاته، طالب برلمانيون تحدثت إليهم بي بي سي بضرورة تغيير بعض مواد قانون العقوبات التي تمنح القاضي سلطة تخفيف العقوبة إذا وقعت الجريمة داخل نطاق الأسرة.
وتقول النائبة البرلمانية مها عبد الناصر “الأوقع إصدار قانون موحد لمناهضة العنف ضد المرأة وهو قانون تقدمنا به في الدورة البرلمانية السابقة، وسنتقدم به مجدداً”.
طالب برلمانيون بإصدار قانون موحد للعنف ضد النساء
العنف مضاعف في ظل الأزمة الاقتصادية
يقول أستاذ علم الاجتماع سعيد صادق إن تدهور الوضع الاقتصادي في مصر أسهم في تصاعد العنف الأسري، حيث يتزايد التوتر داخل البيوت نتيجة الضغوط المالية، بينما تبقى النساء الحلقة الأضعف.
ويضيف أن “العنف يصبح أكثر حضوراً في البيوت، والنساء هنّ أكثر من يدفع الثمن في ظل غياب قوانين رادعة ونظام حماية فعّال”.
في بلد تعول فيه النساء أكثر من 30% من الأسر المصرية، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2021، وتتحمل فيه ملايين السيدات مسؤولية الإنفاق والرعاية اليومية، تبقى الحماية القانونية من العنف قاصرة، سواء على مستوى التشريع أو التنفيذ.
تشير أحدث بيانات الجهاز المركزي نفسه إلى أن نحو ثلث النساء المتزوجات في الفئة العمرية بين 15 و49 عاماً تعرّضن لشكل من أشكال العنف على يد الزوج – سواء نفسياً أو جسدياً أو جنسياً، وذلك بحسب مسح أُجري عام 2021.
ورغم إعداد مسودة قانون موحد لمناهضة العنف ضد النساء تشمل تعريفات واضحة للعنف الأسري وآليات لحماية الناجيات، إلا أنها لم تُطرح حتى الآن للنقاش في البرلمان، وسط مطالبات مستمرة من منظمات حقوقية وبرلمانيين بإقرارها.
في شهر أيار/أيار الماضي، شرعت أميرة في رحلة محفوفة بالمخاطر عبر إحدى مناطق الحرب الأكثر سخونة في السودان.
وكانت قوات الدعم السريع شبه العسكرية قد سيطرت حديثاً على المدينة التي كانت تعيش فيها، وهي مدينة النهود في ولاية غرب كردفان.
كان الطريق محفوفاً بالمخاطر، لكنها شعرت أنه لا خيار أمامها. فقد كانت حبلى في شهرها السابع.
قالت أميرة: “لم تعد هناك مستشفيات ولا صيدليات، وكنت أخشى ألا أجد أي سيارة مغادرة إذا بقيتُ لفترة أطول. أصبح السفر شبه معدوم، وصعباً للغاية ومكلفاً جداً”.
حصدت الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع أرواح المدنيين لأكثر من عامين. والآن، انتقلت جبهات القتال إلى منطقة كردفان الجنوبية، التي عبرتها أميرة.
ولا تستخدم بي بي سي في هذا التقرير اسمها الحقيقي، وذلك في سبيل حماية هويتها.
أثناء فرارها، سجّلت أميرة مذكرات صوتية عرضتها منظمة “آفاز” الحقوقية على بي بي سي. كما تواصلنا معها هاتفياً في العاصمة الأوغندية كامبالا، حيث تنتظر ولادة طفلها.
وكانت رحلة أميرة منذ بدايتها تعتريها الصعاب.
لماذا تعتبر معركة كردفان حاسمة في الحرب السودانية؟
وقالت أميرة إن قوات الدعم السريع وحلفاءها كانوا يسيطرون على جميع وسائل النقل.
وعندما صعدت هي وزوجها على متن شاحنة لنقلها من مدينة النهود، اندلع شجار بين الشاب الذي استأجر المركبة لعائلته، وسائق من قوات الدعم السريع الذي كان يعرض مزيداً من المقاعد على ركاب آخرين.
قالت أميرة: “أخرج السائق سلاحه على الفور وهدد بإطلاق النار على الشاب الذي استأجر الشاحنة. كان الجميع يتوسلون إليه، بمن فيهم رفيقه من قوات الدعم السريع”.
“كانت جدة الصبي ووالدته تبكيان وتمسكان بساقي السائق، وتتوسلان إليه ألا يطلق النار. كنا نحن الركاب متجمدين من الخوف”.
تضيف أميرة: “لسبب وجيه، شعرتُ أنه إذا قرر إطلاق النار، فسيُطلق النار على العديد من الأشخاص، وليس شخصاً واحداً فقط، لأنه كان ثملاً ويدخن الماريغوانا”.
وأخيراً أبعد السائق مسدسه جانباً، لكن الشاب بقي في مدينة النهود.
انطلقت الشاحنة المحملة بالركاب على طريق غير مستوٍ مليء بالحفر وتتخلله الجداول، محملةً بالأمتعة و70 أو 80 شخصاً، بينهم أمهات يتمسكن بأي شيء يمكنهن الإمساك به، ويحاولن الحفاظ على سلامة أطفالهن في الوقت ذاته.
قالت أميرة: “كنت خائفة طوال الوقت. كنت أدعو الله ألّا يُولد الطفل الذي في رحمي، وكنت آمل أن يكون كل شيء على ما يرام”.
نقص التغذية في الفاشر يبلغ أسوأ مراحله، والإمارات تتهم الحكومة السودانية بعرقلة جهود السلام
تعطلت المركبات التي سافرت بها أميرة وزوجها عدة مرات خلال رحلتهما اليائسة
في النهاية، وصل المسافرون إلى مدينة الفولة، عاصمة ولاية غرب كردفان. لكن أميرة لم ترغب في البقاء هناك أكثر مما ينبغي، لأن الجيش كان يقترب من المنطقة.
وقالت أميرة في مذكراتها الصوتية: “لم أكن أعرف ماذا سيحدث إذا وصل الجيش إلى الفولة، خاصة وأن الجنود بدأوا في استهداف أشخاص من مجموعات عرقية معينة يعتقدون أنها مرتبطة بقوات الدعم السريع، مثل البقارة والرزيقات”.
تابعت أميرة: “زوجي ينتمي إلى إحدى هذه المجموعات العرقية، مع أنه لا علاقة له بقوات الدعم السريع. هو موظف في القطاع العام، ودرس القانون، لكن هذا لا يهم الآن؛ فالناس يُستهدفون لمجرد انتمائهم العرقي”.
وقد اتُهمت القوات المسلحة السودانية والميليشيات المتحالفة معها بملاحقة المدنيين المشتبه في تعاونهم مع قوات الدعم السريع في الأراضي التي تسيطر عليها، وهو ما وصفته الأمم المتحدة بـ “تقارير موثوقة عن عمليات قتل خارج القانون”.
وكان الجيش السوداني قد أدان في وقت سابق الانتهاكات “الفردية” التي ارتكبها بعض جنوده، عندما اتُّهم بانتهاك حقوق الإنسان.
وشكّل رئيس أركان الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، لجنة في وقت سابق من هذا العام للتحقيق في الانتهاكات المزعومة خلال اجتياح الجيش لوسط السودان.
السودان: كيف يؤثر الإعلان عن حكومة موازية في أزمة البلد ومستقبله؟
قصة مدينة الفاشر من الازدهار في عصر سلطنة الفور وحتى اليوم
أصبحت كردفان، المكونة من ثلاث ولايات، ساحة المعركة الرئيسية. وتتمتع هذه المنطقة بأهمية بالغة في حرب السودان، إذ تضم حقول نفط رئيسية، وتُعد محوراً استراتيجياً لطرق النقل المهمة.
وقد أدى تورط ميليشيات أخرى إلى جانب قوات الدعم السريع، وخاصة “الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال”، إلى تصعيد العنف وتفاقم الأزمة الإنسانية، ما يجعل من شبه المستحيل على منظمات الإغاثة إرسال الإمدادات.
بعد مغادرة الفولة، قضت أميرة ثلاثة أيام، وتنقلت خلالها بين عدة مركبات، للوصول إلى الحدود مع جنوب السودان، حيث الأمان. وكانت العقبات لا حصر لها.
وقالت إن “سائقي قوات الدعم السريع كانوا يعملون حسب مزاجهم”.
“كانوا يقررون من يركب، وأين يجلس، ومقدار الأجر. لم تكن هناك تسعيرة محددة، وكان عليك تحمّل ذلك. فهؤلاء الرجال مسلحون، وكان العنف أمراً هيّناً بالنسبة لهم”.
وأضافت أن المسافرين كانوا يتوقفون كل عشرين دقيقة تقريباً عند نقاط تفتيش تابعة لقوات الدعم السريع، ويجبرون على دفع الأموال لعناصر القوات المتمركزين هناك.
وذلك على الرغم من أنهم كانوا برفقة أفراد تابعين لقوات الدعم السريع، وكانوا يدفعون لهم أيضاً.
كان الطعام باهظ الثمن، وكانت المياه شحيحة.
استأجرت أميرة هذا السرير لقضاء ليلة في قرية الحجيرات حيث تمكنت من الاتصال بالإنترنت عبر ستارلينك
في قرية الحجيرات، تمكن المسافرون من الاتصال بالإنترنت عبر جهاز ستارلينك تابع لقوات الدعم السريع، لكن حتى هذا الأمر انطوى على مخاطر.
قالت أميرة: “بمجرد اتصالك بالإنترنت، عليك توخي الحذر. إذا سمعك أفراد قوات الدعم السريع وأنت تشاهد فيديو للجيش، أو تشغّل نغمة رنين أو أغنية عسكرية، أو تذكر قوات الدعم السريع بشكل عرضي خلال محادثة، فسيعتقلونك”.
كانت حالة الطرق سيئة للغاية، وكانت المركبات تتعطل باستمرار، وتعطّلت مركبة أميرة ثلاث مرات أثناء الرحلة.
أسوأ لحظة لأميرة كانت عندما انفجر إطار المركبة التي تُقلّها أثناء مرورها عبر غابة أكاسيا، تاركةً الركاب عالقين دون ماء. وكان السائقون المارّون بالطريق يقولون إنه لا يملكون مساحة إضافية.
قالت أميرة: “أقسم بالله، شعرت أنني قد لا أصل إلى مكان آخر أبداً، وأنني سأموت هناك”.
“لقد استسلمت. لم يكن لدي سوى بطانية، لذا أخذتها واستلقيت ونمت على الأرض”، “في ذلك اليوم، شعرت حقاً أن نهايتي ستكون هناك”.
لكن لم تكن تلك النهاية، تمكنت أميرة وزوجها أخيراً من ركوب شاحنة صغيرة محملة بشحنة من الخضروات.
قتال عنيف في مدينة الفاشر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع
اليوم العالمي للاجئين: سودانيات بين الاغتصاب والاستغلال في ليبيا
وفي اليوم التالي، وصلوا إلى أبيي عند الحدود، لكن السفر إلى هناك تباطأ بسبب الأمطار والفيضانات.
في هذه المرحلة كانوا داخل مركبة محملة ببراميل الوقود، وظلت المركبة تتعطل.
قالت أميرة: “كانت السيارة تغرق في الوحل مراراً وتكراراً”.
“كانت ملابسنا مبللة. وكذلك حقائبنا، التي تضررت أصلاً بسبب الغبار والحرارة، والآن أصبحت مبللة”.
“كنا نتجمد من البرد وكنا ندعو الله أن نصل إلى بر الأمان”.
وفي نهاية المطاف، وصل الزوجان إلى جوبا، عاصمة جنوب السودان، التي تبعد نحو 1300 كيلومتر إلى الجنوب من النهود، ومن هناك استقلوا حافلة إلى عاصمة أوغندا.
والآن بعد أن وصلت إلى بر الأمان، أصبح الشعور بالارتياح مريراً وحلواً في آن واحد.
تلقّت أميرة وجبة خفيفة ترحيبية في أبيي، إذ كان الطعام باهظ الثمن خلال الرحلة، وكان المسافرون يشربون في كثير من الأحيان من البرك
تشعر أميرة بقلق بالغ إزاء أفراد عائلتها الذين بقوا في السودان، كما تشعر بالحزن والتوتر وهي تستعد للولادة.
“أنا خائفة جداً من شعور الولادة، لأنها المرة الأولى بالنسبة لي، طفلي الأول ولن تكون والدتي معي”، قالت أميرة.
“سيكون هناك معي صديقتي وزوجي فقط. لا أعلم… إنها أمور كثيرة، غير منظمة، ومربكة للغاية”.
أميرة ناشطة في مجال حقوق المرأة والديمقراطية، وقد تولت أعمال الإغاثة أثناء الحرب، من خلال ما يُعرف بغرف الاستجابة للطوارئ.
وقالت إن مجموعتها كانت موضع شك من قبل الجيش، وأُلقي القبض على بعض أعضائها.
أخبرتني أميرة: “كنت خائفة من الجيش والمخابرات العسكرية. كانوا يعتقلون الشباب ويحتجزونهم”.
السودان: كيف يواجه السودانيون مأساتي الحرب وانتشار الأوبئة في آن واحد؟
وأضافت: “لكن حين جاءت قوات الدعم السريع، لم يكونوا أفضل. فهم ينهبون ويغتصبون. ولا تقلّ أعمالهم عمّا يفعله الجيش. كلهم سواء”.
ورغم الأدلة الكثيرة على أعمال النهب ومزاعم الاغتصاب، تُصرّ قوات الدعم السريع على أنها لا تستهدف المدنيين. ونفت اتهامات التطهير العرقي، واصفةً العنف بأنه صراعات قبلية.
وينفي طرفا الصراع في السودان الاتهامات الموجهة إليهما بارتكاب جرائم حرب.
التحدي الذي تواجهه أميرة الآن، والفرحة في الوقت ذاته، يتمثل في أن تصبح أماً.
لكن السؤال المطروح دائماً هو: هل ستتمكن من العودة إلى السودان مع طفلها؟
قالت أميرة: “آمل أن يتحسن الوضع في السودان، لن يكون الوضع آمناً كما كان من قبل، ولن يبقى الناس كما هم، ولن تبقى الأماكن كما هي، كل شيء سيتغير”.
“لكن إذا توقفت الحرب، فسيكون هناك على الأقل شكل من أشكال الأمان. ولن يموت الناس عشوائياً كما يحدث الآن”.
قال عنها إنها “المرأة التي أبصرتُ بعينيها”، وقالت عنه بعد رحيله: “كنتَ صلابتي، كنتَ تحميني، وها أنا ذي بلا دفاع!”.
حين كان الحب أسير القيود والعادات الصارمة في الشرق والغرب، بزغت قصة حب من نوع نادر، نسج خيوطها شاب مصري مسلم كفيف أبصر بنور الفكر، وشابة فرنسية مسيحية أبصرت بقلبها ما لم تبصره العيون. إنها قصة حب عميد الأدب العربي، طه حسين، وسوزان بريسو، تلك العلاقة التي تجاوزت حدود الدين والجغرافيا والثقافة، وأصبحت شهادة حيّة على أن الحب النقي لا يحتاج لحاسة البصر، بقدر ما يحتاج إلى أن يُولد في الأعماق، وينمو على صدق العطاء.
حين التقت سوزان المثقفة الطالب طه حسين خلال رحلة دراسته في فرنسا، أُعجبت به رغم إعاقته البصرية واختلاف ثقافتهما ودينهما، فأحبته حباً فريداً، وساندته لا كحبيبة وزوجة فحسب، بل كرفيقة عمر ومُلهمة طوال مشواره، فقرأت له الكتب، وكتبت له بيدها، وأدارت شؤونه، فكانت عينه التي رأى بها نور العالم، في واحدة من أرقى وأعمق قصص الحب في تاريخ الأدب الحديث.
وتذكر أمينة مؤنس طه حسين، حفيدة عميد الأدب العربي، في مقدمة الطبعة الجديدة لمذكرات جدتها سوزان، بعنوان “معك: من فرنسا إلى مصر (قصة حب خارقة) سوزان وطه حسين (1915-1973)”، نقلاً عن مذكرات والدها غير المنشورة، بعنوان “ذكرياتي”، وصفاً لعلاقة حب أمه سوزان بوالده قائلاً إنها كانت “الرفيقة الرائعة خلال أكثر من ستين عاماً لمصري أعمى صار أكبر كاتب عربي في القرن العشرين، اشتُهر في بلده بسبب كل ما حققه في مجال التعليم والعلوم والثقافة، وأنشأ الجامعات والمعاهد العلمية عبر العالم، وكُرّم في الشرق مثلما كُرّم في الغرب”.
ويضيف: “كانت (سوزان) على الدوام إلى جانبه، راعيةً، مخلصةً، محبةً. واسته وشجعته حين كانت الأمور تسوء (ويعلم الله كم كانت تسوء!) وشاركته بكل تواضع نجاحاته وانتصاراته. وساعدته على التغلب على عاهته، على أن يصير ما كانه، على أن يتناول الطعام على موائد الملوك، على أن يتلقَّى ضروب الثناء والتكريم في أوروبا، وفي الشرق، وفي كل مكان. كانت حاضرة دوماً حين كان بحاجة إليها، وقد قال هو نفسه إنه لولا زوجتُه لما كان شيئاً”.
“سوزان قبل طه حسين”
سوزان بريسو في شبابها (صورة أرشيفية)
ولدت سوزان هيلويز بريسو في 26 نيسان/نيسان عام 1895، في بلوزيني-سور-أوش، في كوت دور، وجرى تعميدها الكاثوليكي في 19 أيار/آيار من العام نفسه على يد خالها الأب جوستاف فورنييه، الذي كان راعيها.
كان أبوها ألبير فليكس آندروش بريسو، يبلغ من العمر 25 عاماً عند ولادة ابنته، وكان يعمل محاسباً، أما أمها، آن مرغريت بريسو، فكانت في عمر 24 عاماً وربة منزل.
ويقول المؤرخان الفرنسيان، زينا ويغان وبرونو بونفار، في دراستهما عن سوزان ومذكراتها: “على الصعيد المادي، بدأت حياة ألبير بريسو ومرغريت فورنييه الزوجية بداية سعيدة، كان ألبير يعمل محاسباً، ولا نعلم أين تعلم هذه المهنة، ولا ضمن أي شروط كان يآذارها، كل ما نعلمه، أنه في عام 1889، قبل تجنيده، بحسب ملفه العسكري، كان موظفاً في الضرائب”.
وفي عام 1900، حين لم تكن سوزان قد تجاوزت سن الخامسة من عمرها، أنقلب كل شيء وحدثت صدمة كبيرة لوالدها عندما صدر حكم قضائي بناء على طلب من أحد الدائنين، وأشهرت محكمة التجارة إفلاس “المدعو بريسو، الذي يعمل في مهنة التحصيل المصرفي في بلينيي سور أوش”، وتسبب هذا الحكم القضائي في انهيار كبير في حياة الأسرة، بل أصبحت سوزان وشقيقتها ماري أندريه، أمام مصير مجهول.
وتقول زينا ويغان وبرونو بونفار: “لا نعلم شيئاً تقريباً عما حدث للأسرة خلال الفترة بين 1900 إلى 1906، ومعلوماتنا عن ألبير بريسو، مصدرها ملفه العسكري، ففي آب/آب 1901، انتقل إلى منطقة سان آمان مونترون، وسكن في شارع بور تموتان وصار مرتبطاً بمنطقة بورج العسكرية”.
ويضيف المؤرخان الفرنسيان، من واقع استنتاجهما، أن سوزان “حصلت على الشهادة الابتدائية في بروغمون، في عام 1906، وكان عمرها في ذلك الوقت 11 عاماً”، ويلفتان إلى أنهما بمواصلة البحث في حياة سوزان فقدا أثرها من جديد، كما “لم تعد (سوزان) ولا شقيقتها تسكنان في عام 1911 لدى جدَّيهما، وليس في ذلك ما يثير العجب، لأن الوقت كان قد حان منذ عدة سنوات على الأقل بالنسبة إلى سوزان كي تتابع دراساتها الثانوية”.
ظهرت سوزان في السجلات من جديد، وعثر المؤرخان على سوزان بريسو “تلميذة في ثانوية مونبلييه… ويشير دفتر توزيع الجوائز سنة 1913 إلى أنها حصلت هذه السنة على شهادة نهاية الدراسة الثانوية، بتقدير جيد، وعلى القسم الأول من البكالوريا، اللغة اللاتينية/اللغات الحية (إنجليزية-إيطالية)، ويشير أيضاً إلى أنها حصلت على جائزة جيمس هايد لحصولها على أعلى الدرجات في تقييم مادة اللغة الإنجليزية في امتحانات شهادة نهاية الدراسات الثانوية”.
وبعد مونبلييه وشهادة نهاية الدراسات الثانوية والبكالوريا، يعثر المؤرخان مرة أخرى على سوزان في ثانوية فنلون بباريس التي سجلت فيها بين الأول من تشرين الأول/تشرين الأول 1913 و31 كانون الأول/كانون الأول عام 1914، في القسم السادس آداب (لغة إنجليزية)، بغية الاستعداد لدخول مسابقة الالتحاق بمدرسة المعلمين العليا بسيفر، برفقة صديقتها الحميمة، إيرين فالييه، من منطقة سافوا، المولودة بتاريخ الأول من تموز/تموز 1895 بشامبيري، والتي ستكون إحدى الشهود، فيما بعد، على زواج سوزان وطه حسين في آب/آب 1917.
توقفت سوزان عن استكمال دراستها بناء على طلب من أمها لتعود إلى مونبلييه عام 1915، كي تكون في مأمن من القصف الألماني، خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وربما كانت تنوي، بحسب رأي المؤرخين الفرنسيين، استئناف دراستها بعد فترة للإعداد لخوض مسابقة تسمح لها بالحصول على درجة معلمة في التعليم الثانوي العام للفتيات.
“حين ينبض الحب في عتمة الحياة”
كان طه حسين يطلق على سوزان لقب “الصوت العذب”، نظراً لعذوبة صوتها أثناء قراءتها له
عندما لجأت سوزان بريسو وعائلتها إلى مدينة مونبلييه، عثرت على فرصة عمل هناك لقراءة النصوص لطالب دراسات عُليا كفيف، يدعى طه حسين.
ويقول مؤنس طه حسين، نقلاً عن حديث مع الكاتب اللبناني شربل داغر منشور تحت عنوان “على خطى طه حسين” في مجلة “ذا يونسكو كوريير”، عدد آذار/آذار 1990، التي تصدرها منظمة اليونسكو: “بما أن والدي كان كفيفاً، فقد كان بحاجة إلى من يساعده في اللغة الفرنسية ويقرأ له، فوضع إعلاناً في إحدى الصحف المحلية، فتقدّمت سوزان للوظيفة، لكنها لم تكتف بالقراءة له فقط، بل كانت ترافقه إلى محاضراته في كلية الآداب في جامعة مونبيليه، وعندما انتقلا إلى باريس، كانت تمشي بجانبه يداً بيد من مكان سكنه إلى السوربون”.
وتقول سوزان طه حسين نفسها في مذكراتها “معك: من فرنسا إلى مصر”، التي كتبتها بعد وفاة طه حسين بناء على مقترح من الفرنسي جاك بيرك، أستاذ التاريخ الاجتماعي والحضاري في الكوليج دو فرانس، وترجمه من الفرنسية بدر الدين عرودكي: “أول مرة التقينا فيها كانت في 12 أيار/آيار 1915 في مونبلييه (ومنذ زواجنا كنا نحتفظ لهذا اليوم بوضع خاص). لم يكن ثمة شيء في ذلك اليوم ينبئني بأن مصيري كان يتقرر، ولم يكن بوسع أمي، التي كانت بصحبتي، أن تتصور أمراً مماثلاً” .
وتضيف: “كنت في شيء من الحيرة، إذ لم يسبق لي في حياتي أن كلمتُ أعمى. لقد عدتُ إليه أزوره بين الحين والآخر في غرفته التي كانت غرفة طالب جامعي. كنا نتحدث وكنت أقرأ له بعض الفصول من كتاب فرنسي. ولعل القدر كان قد أصدر قراره بالفعل، فقد كان هناك أعمى آخر، هو الأستاذ الإيطالي الذي كان يدرّس له اللغة اللاتينية، قد أدرك ذلك وقال له: سيدي هذه الفتاة ستكون زوجتك”.
كان طه يطلق على سوزان لقب “الصوت العذب”، نظراً لعذوبة صوتها أثناء قراءتها له وهو يعمل على إتقان لغته الفرنسية، إذ لم تكن جميع المراجع الدراسية متاحة بطريقة “برايل”، وقد أفصح في مذكراته الذاتية “الأيام”، عن أن القلق لم يعرف طريقاً إلى قلبه منذ اللحظة التي سمع فيها ذلك “الصوت العذب” لأول مرة.
شعر طه حسين منذ لقائه الأول بسوزان بإحساس عميق بأنها ستكون امرأة حياته
سجل طه حسين إحساسه الأول بسوزان قائلاً: “وإذا هو (أي طه حسين) لا يعرف الوحدة ولا يجد الوحشة حين يخلو إلى نفسه إذا أظلم الليل، وكيف تجد الوحدة أو الوحشة إلى نفسه سبيلاً، وكيف تبلغه تلك الخواطر التي كانت تؤذيه وتضنيه وتؤرِّق ليله، وفي نفسه صوت عذب رفيق يشيع فيه البرَّ والحنان، ويقرأ عليه هذا الأثر أو ذاك من روائع الأدب الفرنسي القديم؟”
ويضيف: “سمع الفتى (أي طه حسين) ذلك الصوت يقرأ عليه شيئاً من شعر راسين ذات يوم. فأحس كأنه خُلق خلقاً جديداً، ومنذ تلك الساعة التي سمع فيها ذلك الصوت لم يعرف اليأس إلى نفسه سبيلاً”.
شعر الطالب طه حسين منذ لقائهما الأول بإحساس عميق بأنها ستكون امرأة حياته. وفعلاً، وبعد فترة من الزمن، رغب طه وسوزان في الزواج، لكن واجهتهما عقبات.
وتتذكر سوزان ما قاله لها طه ذات يوم: “(اغفري لي، لابد أن أقول لك ذلك، فأنا أحبكِ). صرخت وقد أذهلتني المفاجأة بفظاظة: (ولكني لا أحبك!) كنت أعني الحب بين الرجل والمرأة ولا شك. فقال بحزن (آه، إنني أعرف ذلك جيداً، وأعرف جيداً كذلك أنه مستحيل)”.
وتضيف في مذكراتها: “ويمضي زمن، ثم يأتي يوم آخر أقول فيه لأهلي إنني أريد الزواج من هذا الشاب. وكان ما كنت أنتظره من رد الفعل: (كيف؟ من أجنبي؟ وأعمى؟ وفوق ذلك كله مسلم؟! لا شك أنك جننت تماماً”.
ويقول مؤنس طه حسين: “عائلتها كانت مصدومة من فكرة زواجها بطالب مصري، ليس فقط لأنه فقير ومسلم، بل لأنه كفيف أيضاً. لكن والدتي رفضت التراجع. فقام أحد أعمامها، وكان كاهناً ذكياً ومثقفاً، بالخطوة الحاسمة. بطلب من جدتي، طلب ساعة يخلو فيها مع والدي. ذهبا في نزهة، وكان الكاهن ممسكاً بذراع أبي، يتحدثان في أمور شتى. وعندما عادا، قال الكاهن لشقيقته: لا تقلقي! بل بالعكس، يجب أن تفرحي. هذا الشاب عبقري. وسوزان كانت تعرف ذلك بالفعل. وتزوّجا في الثاني من آب/آب 1917”.
وفي غضون خمس سنوات، وبدعم من سوزان، حصل طه حسين على شهادة الليسانس، ثم دبلوم الدراسات العليا في موضوع عن تاكيتوس، واجتاز بنجاح امتحان “الأغريغاسيون” التنافسي لتأهيل أساتذة الجامعة، كما نال شهادة الدكتوراه عن رسالته البحثية عن المؤرخ العربي في القرن الرابع عشر، ابن خلدون، الذي يعد مؤسس علم الاجتماع، كما أتقن اللغتين اليونانية واللاتينية.
“قلب واحد وديانتان”
في غضون خمس سنوات، وبدعم من سوزان، حصل طه حسين على شهادة الليسانس، ثم دبلوم الدراسات العليا
رغم أن سوزان بريسو كانت مسيحية كاثوليكية الإيمان وطه حسين مسلم العقيدة، إلا أن اختلاف الديانة لم يكن عائقاً أمام قصة حبهما النادرة، بل على النقيض من ذلك، صار الاختلاف أرضية مشتركة وخصبة لحوار داخلي عميق، ونقطة التقاء بين روحين تجاوزتا حدود الطقوس والمذاهب، وسكنتا في فضاء أرحب يفيض بالفهم والاحترام المتبادل.
لم ترغب سوزان يوماً في أن تغيّر قناعات طه، ولم يسع هو لزعزعة إيمانها، بل احترما بعضهما بعضاً، فصار الحب بينهما جسراً من الاحترام والرفقة والمثابرة، وأثبتا أن ما يجمع القلوب أعمق بكثير من أن تفرّقه المعتقدات الدينية، وأن الإرادة الصادقة قادرة على بناء بيت واحد، تسكنه روحان في سلام لا يعرف سبيلاً للانقسام.
وتتذكر سوزان في الثالث من حزيران/حزيران في مذكراتها قائلة: “بالأمس كان (عيد) العنصرة، ومرة أخرى ترد إلى خاطري بصفاء بالغ ذكرى العنصرة في (غاردونيه) كنت قد استمعت إلى القداس في الكنيسة من الأعلى، وكان القس العجوز قد قرأ إنجيل يوحنا. كان الصباح رائعاً، وكان كل شيء نديّاً وجميلاً: السماء، والبحيرة، والأشجار، والأزهار. كل شيء يبهر البصر، وكنتُ أنحدر نحو الفندق وأنا أتلو بيني وبين نفسي (قول المسيح): سلاماً أترك لكم، سلامي أعطيكم (إنجيل يوحنا27:24)”.
وتضيف: “وإذ أذكر اليوم هذا الصباح، أفكر بهذا التوافق الخفي الذي وحّدنا دوماً في احترام كل منّا لدين الآخر. لقد دُهش البعض من ذلك، في حين فهم البعض الآخر، إذ رأى أن بوسعي أن أردد صلاتي على حين أستمع إلى القرآن في الغرفة المجاورة، ويصدفني اليوم أن أفتح المذياع لأستمع إلى آيات من القرآن عندما أبدأ في تسبيحي، بل إني لأسمعه على كل حال في أعماق نفسي”.
وتقول سوزان، متذكرة طه حسين مخاطبة إياه في نفسها: “كنت غالباً ما تحدثني عن القرآن، وتردد لي البسملة التي كنت تحبها بوجه خاص. وكنت تقرأ التوراة، وكنت أتحدث أنا عن يسوع. كنت تردد في كثير من الأحيان: (إننا لا نكذب على الله)، لقد قالها القديس بولس. لا شك أننا لا نكذب على الله، وويل للمكذبين”.
كما كتبت سوزان عن زيارة قاما بها معاً ذات مرة إلى القدس، ولخّصت تجربتهما الغنية في زواج بين ديانتين قائلة: “لم يكن فندقنا بعيداً عن كنيسة القيامة، كان الوقتُ وقت عيد الفصح والحج… وصلينا (سوزان وطه)، كل في قلبه، في مسجد عمر وفي الجثسيماني”.
وتتذكر: “في كثير من المرات التي كنا نتحدث فيها، كان يستشهد ببيت من الشعر أو بمثل أو بآية من القرآن الذي كان يحب أن يقرأه لي وأن يترجمه لي”.
“تلاحم روحي”
عميد الأدب العربي طه حسين وإلى جواره زوجته ورفيقة مشواره سوزان بريسو(صورة أرشيفية)
كان الارتباط الأسري بين سوزان وطه حسين ارتباطاً فريداً بلغ حد التلاحم بما جعل لحظة الابتعاد بينهما مؤلمة كالجُرح المفتوح، ولم يكن وجودهما في منزل واحد مجرد ترتيب حياتي، بل كان ضرورة روحية لكل منهما، لا يهدأ قلب أحدهما إلا بوجود الآخر بقربه.
فإذا اضطرت سوزان للسفر أو الابتعاد لسبب قهري، كان طه يعيش أيامه كأن الحياة فقدت معناها، ينهكه الشوق، ويؤلمه الغياب، وتُصبح الدقائق أثقل من أن تُحتمل، أما هي، فكانت لا تهنأ بشيء إلا حين تعود إلى طه، إلى تلك الوحدة الحميمة التي جمعت بينهما كأن لا فكاك منها. كان بيتُهما عالماً لا يُبنى إلا بوجود الاثنين معاً، وكل غياب كان شرخاً لهذا العالم، وجرحاً في قلب الأسرة التي لم تعرف يوماً سبيل الانفصال.
بعد ولادة طفليهما، مؤنس وأمينة، وبسبب هشاشة وضعهما الاقتصادي، اضطرت الأم والطفلين إلى قضاء ثلاثة أشهر في فرنسا، وكان ذلك أمراً بالغ الصعوبة على الزوجين.
وكتبت سوزان تقول: “أخيراً اتخذنا قرارنا: سأرحل مع الطفلين، حزينة القلب فاقدة العقل لمجرد فكرة ترك طه لعناية أصدقاء لا شك في إخلاصهم لكنهم لا يعرفون قط كيف يجب القيام بها. وكنت أتخيّل جيداً كل المصاعب التي كان سيواجهها في كل لحظة. ومن حسن الحظ أن كان له سكرتير يعرف عاداته تماماً، وكان ذكياً مستقيماً طيب القلب، وقمت بتنظيم الوجبات التي كان يُؤتى بها من البيت الذي كنا نسكن فيه نفسه”.
وتضيف: “كانت هذه الأشهر الثلاثة من الفراق مؤلمة، وكنتُ أشكو باستمرار متوقعة تراجع طه عن قرار سفري، وهو الذي كان قد قبل بل طالب بسفري من أجل صحة زوجته وطفليه، تاركاً بذلك نفسه لوحدة أكثر شناعة بالنسبة له بمئة مرة منها بالنسبة إلى إنسان آخر غيره”.
وتقول سوزان: “كنا، خلال هذه الأشهر الثلاثة، نتبادل الرسائل كل يوم. كانت رسائله تحكي لوعة الغياب، وتنطق بشجاعته وحبه وهيامه ببلده، وتصور مشاريعه وأحلامه والأحداث التي كان يقص عليّ تفاصيلها مع شيء من السخرية أو المرح أو العنف”.
عميد الأدب العربي طه حسين وزوجته سوزان وابنتهما أمينة وابنهما مؤنس (صورة أرشيفية)
وأوردت في مذكراتها عدة مقاطع من رسائل طه حسين، التي تشهد على عاطفة ومشاعر رقيقة، كما تكشف عن حدة طباعه، كهذا المقتطف من إحدى الرسائل: “أود لو أصف لكِ ضيقي عندما تركت السفينة، عندما رجعت إلى القاهرة، عندما عدت من فوري إلى البيت، فقد دخلت غرفتنا وقبّلت الزهرة وغطيت بالقبلات الصورة التي لا أراها … ومع ذلك فقد فعل أصدقائي كل ما بوسعهم لتسليتي”.
ويضيف طه في رسالته لزوجته: “عندما عدتُ، واجهت هذا الفراغ، والسرير الذي لا يزال على حاله، وسرير الصغيرة المغطى، والمهد الغائب… كان ذلك أمراً رهيباً. وكنت بحاجة للشجاعة لأقوم بخلع ملابسي… ولكن أنتِ، من يسهر عليكِ؟ من يُعنى بكِ؟ لو أنني قربكِ، لا لشيء إلا لكي أحمل لكِ مؤنس، وألُبس عنكِ أمينة، وأعطيك روح النعناع!”
ويقول أيضاً: “يستحيل عليّ القيام بشيء آخر غير التفكير بكِ. ولا أستطيع أن أمنع نفسي من البكاء كلما دخلت الغرفة؛ فأنا أجدك في كل مكان دون أن أعثر عليك… كانت الزهرة قد ذبلت، فوضعتها في العلبة التي تركتها لي لأضع فيها رسائلك، سأقبّلها كل يوم. لقد استحالت الغرف معابد، وعليّ أن أزورها كل يوم. ولو أنك رأيتني أخرج من غرفة لأدخل أخرى، ألمس الأشياء، وأنثر القبلات هنا وهناك”.
ويختتم طه رسالته: “إني في طريقي لتبديد ثلاثة أشهر من عمري… هل أعمل؟ ولكن كيف أعمل بدون صوتك الذي يشجعني وينصحني، بدون حضورك الذي يقوِّيني؟! ولمن أستطيع أن أبوح بما في نفسي بحرّية؟! ستقولين لي: عليك أن تكتب لي، لكنكِ تعلمين جيداً أن الكتابة غير التحدث، وأن قراءة رسالة ليست هي الاستماع إلى صوت، ثم إنك تعلمين جيداً أنني كثيراً ما لا أقول شيئاً وإنما أتناول يدكِ وأضع رأسي على كتفكِ… ثلاثة أشهر … ثلاثة أشهر … فترة رهيبة. لقد استيقظتُ على ظلمة لا تُطاق، وكان لا بد لي من أن أكتب لك لكي تتبدّد هذه الظلمة. أترين، كيف أنك ضيائي حاضرةً كنتِ أم غائبة؟!”
“في مواجهة الأزمات”
تحدثت سوزان في مذكراتها عما تعرّض له طه حسين من أهوال بسبب السلطات الدينية الإسلامية بسبب كتابه عن “الشعر الجاهلي”
لم تكن سوزان مجرد رفيقة لطه حسين في أوقات الرخاء والنجاح، بل كانت عموده الصلب في أوقات المحن والانكسارات، فمنذ بداية رحلتهما، كانت حاضرة في كل أزمة مرّ بها، تسانده بصبر لا ينفد، وحب لا يتزعزع، فحين أرهقته العزلة، كانت صوته للعالم، وحين داهمته خيبات الواقع، كانت يده التي تُمسكه عن السقوط، تحمل معه أثقال المسؤولية، وتقفت إلى جواره يوماً بيوم، تُخفّف آلامه، لتزرع فيه أملاً جديداً، حتى صار وجودها سر صموده، ورفقتها درعاً يقيه من قسوة الأيام.
تحدثت سوزان في مذكراتها عما تعرّض له طه حسين من أهوال بسبب السلطات الدينية الإسلامية، حين اتُخذ الأزهر قراراً بحظر كتابه عن “الشعر الجاهلي” في عام 1926، بعد أن اعتُبر “خطراً وغير مقبول”، لأنه شكّك في تقاليد وقيم التراث القديم، الذي اعتبره بعض رجال الدين غير قابل للنقاش وتهديداً للعقيدة، وفضّل على ذلك قراءته العقلانية المستندة إلى دراسته النقدية للأدب العربي قبل الإسلام.
ويقول طه في كتابه: “شككت في قيمة الأدب الجاهلي وألححت في الشك، أو قل: ألح عليَّ الشك، فأخذت أبحث وأفكر، وأقرأ وأتدبر، حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء إلا يكن يقيناً فهو قريب من اليقين؛ ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدباً جاهلياً ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تُمثل حياة الجاهليين”.
وبعد أن هدأت تلك العاصفة الفكرية، أخذته سوزان إلى إحدى القرى في منطقة “هوت سافوا” الفرنسية ليستعيد عافيته ويُشفى من مرارته، وهناك، في غضون تسعة أيام فقط، كتب الجزء الأول من سيرته الذاتية “الأيام”، وفي عام 1932، وبسبب معارضته الشديدة لتسييس منح الدرجات الفخرية في الجامعة التي كان يُدرّس فيها، فُصل من عمله، ليجد نفسه عاطلاً عن العمل، ولخّصت سوزان بمرارة قدر ما كان يعانيه طه قائلة في مذكراتها: “كان طه يدفع غالباً ثمن جريمته أن يكون إنساناً حراً”.
وتقول: “لم يكتفوا بطرده من الكلية التي كان عنواناً لعزتها وكرامتها وقوةً نابضةً فيها، وإنما أرادوا أيضاً إحراق كتبه، فأخذوا منه بيته الذي يسكن فيه، وأغرقوه بالشتائم، وحاولوا أن يحرموه من كل وسيلة للعيش بمنعهم مثلاً بيع الصحيفة التي كان يصدرها، وبإنذارهم البعثات الأجنبية في مصر بالكف عن أن تقدِّم له عروضاً للعمل”.
ويسلط هذا المثال، من أمثلة عديدة، الضوء على أن حياة سوزان مع طه لم تكن عالماً مليئاً بالسعادة، فهي تقول متذكرة ما قاله لها في ذات مرة: “إننا لا نحيا لنكون سعداء”، وتعلق سوزان على تلك المقولة: “عندما يكون المرء شأن طه، فإنه لا يعيش ليكون سعيداً، وإنما لأداء ما طُلب منه”، ثم تعود إلى كلمة قالها طه لها في ذات مرة: “لعل ما بيننا يفوق الحب”.
وتضيف: “كنا على حافة اليأس، ورحتُ أفكر: لا، إننا لا نحيا لنكون سعداء، ولا حتى لنجعل الآخرين سعداء، لكني كنت على خطأ، فلقد منحت (أنت) الفرح، وبذلت ما في نفسك من الشجاعة والإيمان والأمل. كنت تعرف تماماً أنه لا وجود لهذه السعادة على الأرض، وإنك أساساً، بما تمتازُ به من زُهد النفوس العظيمة، لم تكن تبحث عنها، فهل يُحظر عليّ الأمل بأن تكون هذه السعادة قد مُنحت لك الآن؟”
وعلى صعيد حياتهما العائلية داخل منزلها يصف مؤنس طه حسين بُعداً آخر، نقلاً عن حديثه المنشور في مجلة اليونسكو، السابق ذكرها، عن سؤال لطالما راود البعض: ما هي لغة الحوار داخل منزل طه حسين أكانت العربية أم الفرنسية؟، ويقول ابنهما: “كنا نتحدث الفرنسية دائماً في المنزل. لم تتعلم والدتي العربية بشكل حقيقي. كانت تتحدث بها بدرجة كافية للتسوق والتعامل مع مواقف الحياة اليومية”.
ويضيف: “أعتقد أن والدي كان سعيداً باستخدام الفرنسية في المنزل. لقد كتب مقالات ومحاضرات بالفرنسية، ولكن ليس بدافع ميول شخصية بقدر ما كان استجابةً للطلبات. كانت العربية هي اللغة التي يفكر بها ويشعر من خلالها. ولم يبدأ بنقل أفكاره ومشاعره إلى لغات أخرى إلا لاحقاً”.
“رحيل دون افتراق”
لم تكن قصة حب سوزان بريسو وطه حسين مجرد لقاء جمع بين رجل وامرأة، بل كانت رحلة عمر امتزج فيها العقل بالعاطفة
عندما فارق طه حسين الحياة في 28 تشرين الأول/تشرين الأول عام 1973، لم يكن الحزن عند سوزان مجرد دموع أو غياب، بل انطفاء نور رافقها ما يزيد على نصف قرن، وكتبت تصف نهاية مشواره معها في مذكراتها: “لم يكن يبدو عليه المرض إطلاقاً ذلك السبت 27 تشرين الأول/تشرين الأول، ومع ذلك، ففي نحو الساعة الثالثة من بعد الظهر شعر بالضيق. كان يريد أن يتكلم، لكنه كان يتلفظ الكلمات بعسر شديد وهو يلهث. ناديت طبيبه والقلق يسيطر عليّ. لكني لم أعثر عليه، فركبني الغم، وعندما وصل، كانت النوبة قد زالت، وكان طه قد عاد إلى حالته الطبيعية”.
وتضيف: “ثم جاءت الليلة الأخيرة. ناداني عدة مرات، لكنه كان يناديني على هذا النحو بلا مبرر منذ زمن طويل. ولما كنت مرهقة للغاية، فقد نمت، نمت ولم أستيقظ، وهذه الذكرى لن تكفَّ عن تعذيبي”.
توفي طه وتوقف القلب إلى الأبد، وتتذكر سوزان وفاة رفيق عمرها قائلة: “جلستُ قربه، مرهقة متبلدة الذهن وإن كنت هادئة هدوءاً غريباً (ما أكثر ما كنت أتخيّل هذه اللحظة المرعبة!) كنا معاً، وحيدين، متقاربين بشكل يفوق الوصف. ولم أكن أبكي – فقد جاءت الدموع بعد ذلك – ولم يكن أحد يعرف بعد بالذي حدث”.
وتقول: “كان الواحد منّا قِبَلَ الآخر. مجهولاً ومتوحداً، كما كنّا في بداية طريقنا. وفي هذا التوحد الأخير، وسط هذه الألفة الحميمة القصوى، أخذتُ أحدّثه وأقبّل تلك الجبهة التي كثيراً ما أحببتها، تلك الجبهة التي كانت من النُبل ومن الجمال بحيث لم يجترح فيها السن ولا الألم أي غضون، ولم تنجح أية صعوبة في تكديرها … جبهة كانت لا تزال تشع نوراً”.
لم تكن قصة حب سوزان بريسو وطه حسين مجرد لقاء جمع بين رجل وامرأة، بل كانت رحلة عمر امتزج فيها العقل بالعاطفة، والصوت بالنور، والاختلاف بالاتحاد، كانت سوزان عينيه التي لا تُبصر، وصوته الداخلي الذي لا يصمت، كانت ملاذه في العُزلة، ورفيقته في النجاح وفي قسوة الأيام.
أما هو، فكان حكايتها الثريّة التي كتبتها بالحب وبالاختيار الحر، في بيتهما، اجتمع الشرق بالغرب، والإسلام بالمسيحية، والفرح بالألم، أصبح بيتهما وطناً للروح والمعنى، وبعد رحيله ظلت سوزان شاهدة على حب لا ينطفئ، حاضنة لذكرى رجل، صنع النور من العمى، والحياة من الكلمة.
أعلنت الدولة الجزائرية رسميًا رفع تحفظها عن الفقرة الرابعة من المادة 15 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة سيداو لعام 1979، والتي تنص على حق المرأة في حرية التنقل واختيار محل السكن والإقامة على قدم المساواة مع الرجل.
أثار هذا القرار جدلاً واسعاً.
ولكنها ليست المرة الأولى التي تثير فيها هذه الاتفاقية جدلاً في الأوساط العربية. لماذا؟ وما هي هذه الاتفاقية أصلاً؟
اضطرت سناء، شابة جزائرية في منتصف العشرينيات، إلى تحدي والدها حين وصلها خطاب القبول في إحدى المنح المرموقة التي تقدمها الحكومة البريطانية. وبعد أشهر من إعداد طلبها الذي شمل خططاً مهنية واضحة، ومقالات، وخطابات توصية، حققت حلمها بالانضمام إلى برنامج لا يقبل فيه سوى نحو أربعة آلاف متقدّم من أصل أكثر من ستين ألف طلب سنوياً حول العالم.
لكن فرحتها لم تدم طويلاً. فقد استقبل والدها الخبر برفض قاطع: “لا يمكن أن تسافري وحدك إلى بريطانيا دون إذن أو مرافقة”. تقول سناء: “كان ذلك أصعب قرار في حياتي. لم يكن أمامي إلا الهرب. دفعت ثمنه غالياً، فقد قاطعتني عائلتي لسنوات، لكنني لم أندم”.
نساء أكثر تعليماً… هل تتبدّل قواعد الزواج؟
لماذا يفقد الرجل الثقة بنفسه عندما تحصل الزوجة على دخل أعلى منه؟
لم يكن هذا الموقف مجرد مسألة عائلية، بل هو انعكاس لطابع قانوني واجتماعي راسخ في الجزائر. فـ قانون الأسرة الصادر عام 1984، المستمد من الشريعة الإسلامية، يجرد المرأة من بعض حقوقها المدنية ويشترط وجود وليّ (أب أو أخ أو زوج) لاتخاذ قرارات مصيرية مثل الزواج والتنقل. ورغم أن القانون لا ينص صراحة على إلزامية إذن الولي للسفر، إلا أن العرف الاجتماعي والمآذارات الإدارية كإجراءات استخراج جواز السفر أو مرافقة القُصّر جعلت الأمر شبه إلزامي، خاصة في المدن الصغيرة أو في حالات النزاعات الأسرية.
قصة سناء ليست استثناءً؛ فقد واجهت أجيال من الجزائريات هذا الجدار العرفي والقانوني ذاته، حيث كُرّست سلطة الرجل في اتخاذ قرارات أساسية مثل الزواج أو السكن وحتى السفر. وقد ظل هذا الواقع قائماً رغم انضمام الجزائر إلى اتفاقية “سيداو” (CEDAW) منذ التسعينيات، مع تحفظات أبرزها على الفقرة الرابعة من المادة 15 التي تمنح المرأة حق التنقل واختيار محل الإقامة بالتساوي مع الرجل.
اليوم، وبعد أكثر من ثلاثة عقود، رفعت الجزائر هذا التحفظ رسمياً في آب/آب 2025 بموجب مرسوم رئاسي رقم 25-218. وبحسب وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية، فإن هذه الخطوة لا تغيّر الواقع التشريعي مباشرة، لكنها تعد إشارة رمزية مهمة نحو التوافق بين التشريع الوطني والالتزامات الدولية في مجال المساواة بين الجنسين.
“متأخّر ولكن ضروري”
في بيت عائلتها بالجزائر، جلست خديجة قلالش، الباحثة في جامعة ليستر والناشطة في مجال حقوق الإنسان، لتخبر والدتها بخبر بدا بسيطاً على الورق لكنه مفصلي في الحياة اليومية: “لم يعد عليك أن تطلبي إذن أبي لتسافري أو تختاري مكان سكنك.”
تقول خديجة لبي بي سي: “أنا نفسي احتجتُ إلى إذن والدي حين سافرت لمتابعة دراستي في بريطانيا. كان ذلك جزءاً من واقع المرأة الجزائرية التي تُعامل في القانون والعرف كقاصر تحت وصاية الأب أو الزوج.”
كان هذا الموقف ترجمة شخصية لقرار الجزائر رفع تحفظها عن الفقرة الرابعة من المادة 15 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، التي تضمن للنساء حرية التنقل واختيار محل الإقامة أسوة بالرجال. وتضيف خديجة: “إنه تطوّر واعد، متأخر جداً لكنه ضروري. هو اعتراف ولو صغير بوكالة المرأة على نفسها، واستقلاليتها.”
لكن القرار لم يمرّ بهدوء. فبينما اعتبرته منظمات نسوية مكسباً تاريخياً يعزز مسار المساواة بين الجنسين ويمهّد لإصلاحات أعمق في قانون الأسرة الجزائري، رأته التيارات المحافظة تهديداً لاستقرار العائلة وتفريطاً في المرجعية الدينية والتقاليد.
من جهتها، وصفت منصة “صوت النساء” الخطوة بأنها “أكثر من مجرد إجراء قانوني”، معتبرة أن إلغاء التحفظ يمثل إعادة الاعتبار لاستقلالية المرأة داخل الأسرة، بعد عقود من تكريس سلطة الزوج كـ”رئيس العائلة”. وأكدت أن القرار هو ثمرة “كفاح طويل للحركة النسوية والمجتمع المدني”، من حملات التوعية إلى التقارير الموازية المقدمة للأمم المتحدة. لكنها شددت في الوقت ذاته على أن التحدي الأكبر ما زال يتمثل في إصلاح شامل لقانون الأسرة ودمج مبادئ العدالة الجندرية في السياسات العمومية والثقافة المجتمعية.
الكويت ترفع سن الزواج وتلغي تخفيف عقوبات “جرائم الشرف”
“القانون وحده لا يكفي”
عيداً عن القوانين والاتفاقيات الدولية، يرى ناشطون أن التحدي الحقيقي أمام حقوق المرأة في الجزائر يكمن في المجتمع نفسه، المنقسم بين مدن كبرى أكثر انفتاحاً وأرياف ما زالت متمسكة بالتقاليد الصارمة. ففي الجزائر العاصمة ووهران وقسنطينة، بات مألوفاً أن تعمل النساء، أو يسكنّ بمفردهن، أو يسافرن للدراسة والعمل. لكن في البلدات الصغيرة، ما تزال فكرة أن تعيش امرأة وحدها أو تتنقل من دون إذن الأب أو الأخ موضع جدل ووصمة اجتماعية.
وتؤكد الباحثة في حقوق المرأة خديجة أن التغيير لا يتوقف عند النصوص القانونية، بل يحتاج إلى تثقيف النساء بحقوقهن الأساسية. تقول لبي بي سي: “القانون وحده لا يكفي. إذا لم تعرف المرأة أن لها الحق في السكن أو السفر باستقلالية، فلن تتمكن من المطالبة به. التوعية هي الضمانة الحقيقية ضد أي تراجع أو مقاومة مجتمعية.”
لكن التحدي الأكبر، وفق ناشطات نسويات، يتمثل في غياب البنية التحتية الداعمة للنساء: لا خطوط هاتف كافية للدعم، ولا مراكز إيواء للحالات الطارئة، ولا مكاتب مساعدة قانونية متاحة للجميع. وتضيف خديجة: “إذا قررت فتاة الانتقال للدراسة في مدينة أخرى وواجهت رفضاً من الأب أو الأخ، فلن تجد شبكة دعم قوية تحميها. هنا يظهر الخلل الكبير بين النصوص القانونية والواقع الاجتماعي.”
الجزائر ترفع تحفظها عن الفقرة الرابعة من المادة 15 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، التي تضمن للنساء حرية التنقل واختيار محل الإقامة أسوة بالرجال.
تحسين صورة؟
أثار توقيت القرار الكثير من التساؤلات. فبعد أكثر من ثلاثة عقود من المصادقة المتحفّظة على اتفاقية “سيداو”، لماذا اختارت الجزائر هذه اللحظة تحديداً لرفع أحد أهم تحفظاتها المتعلق بحرية التنقّل والسكن للنساء؟
تضع هذه الخطوة الجزائر ضمن مجموعة من الدول العربية التي بدأت تدريجياً رفع تحفظاتها على الاتفاقية، سواء استجابة لضغوط أممية وأوروبية، أو نتيجة ضغوط داخلية من الحركات النسوية والمجتمع المدني. كما يُنظر إليها كجزء من محاولة الجزائر تعزيز صورتها الحقوقية على المستوى الدولي، في وقت تسعى فيه لموازنة ضغوط الغرب مع حساسيات الداخل.
ويرى محللون أن الخطوة جاءت استجابة لمطالب متزايدة من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، خاصة في ظل المراجعة الدورية الشاملة لسجل الجزائر في مجلس حقوق الإنسان. ويعتبر آخرون أن الأمر مرتبط أيضاً بمحاولة السلطة تحسين صورتها الخارجية، والتأكيد على التزامها بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، في وقت تعمل فيه على تعزيز شراكاتها الاقتصادية والدبلوماسية مع أوروبا وإفريقيا.
ويقول الباحث السياسي الجزائري كمال طيرشي لبي بي سي إن القرار يحمل رسائل مزدوجة: “للخارج، هو إعلان بأن الجزائر تسير في مسار الانفتاح والمواءمة مع الاتفاقيات الدولية. وللداخل، هو محاولة من السلطة لتأكيد قدرتها على اتخاذ قرارات إصلاحية رغم المعارضة المحافظة.” لكنه يلفت إلى أن نجاح الخطوة يبقى رهناً بمدى ترجمتها إلى تعديلات فعلية في قانون الأسرة الجزائري، أو بقائها مجرد ورقة سياسية لتلميع الصورة.
المحافظون: “وصفة لانهيار الأسرة”
في المقابل، ارتفع صوت التيار المحافظ في الجزائر رافضاً خطوة رفع التحفّظ. فقد اعتبر السياسي الإسلامي عبد الرزاق مقري أن اتفاقية “سيداو” “واحدة من أخطر الاتفاقيات الدولية التي تستهدف تفكيك الأسرة وفرض النموذج الغربي على المجتمعات الإسلامية”. وأضاف متسائلاً عبر حسابه على فيسبوك ومنصة إكس: “ما الذي تغيّر اليوم حتى نتراجع عن تحفظات رفضناها بالأمس؟”
وبالنسبة إلى هؤلاء المعارضين، فإن رفع التحفّظ لا يقتصر على تعديل مادة قانونية، بل يُنظر إليه كمساس بمنظومة الأسرة الجزائرية المبنية على أسس دينية واجتماعية راسخة. ويخشون أن تؤدي مساواة المرأة بالرجل في قرارات السكن والتنقّل إلى تصاعد النزاعات الزوجية، وزيادة نسب الطلاق التي وصلت بالفعل إلى نحو 40 بالمئة من حالات الزواج في الجزائر.
ويحذّر المحافظون من أن “المساس بالاختلاف الجوهري بين الرجل والمرأة، كما نصّ عليه القرآن، ليس خطوة نحو المساواة بل وصفة لانهيار الأسرة”. وفي نظرهم، فإن القرار لم ينبع من إصلاح داخلي، بل جاء استجابة لضغوط دولية وغربية قد يدفع ثمنها المجتمع الجزائري لاحقاً.
نساء يتظاهرن في شوارع الجزائر العاصمة بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، 8 آذار/أذار 2021.
بين النص والواقع
قد يُسجَّل رفع التحفّظ في النصوص القانونية، لكن أثره الحقيقي يظل مرهوناً بمدى تطبيقه على أرض الواقع. فما زالت نساء كثيرات في الجزائر يواجهن عراقيل اقتصادية وثقافية وقضائية تحدّ من استقلاليتهن. ويرى خبراء أن غياب إصلاحات موازية ـ من تدريب القضاة وأجهزة الشرطة إلى رفع الوعي المجتمعي ـ قد يجعل الخطوة أقرب إلى إنجاز رمزي منها إلى تغيير فعلي.
وتؤكد الباحثة والناشطة خديجة أن القرار لا يزال “نظرياً”: “سأعتبره اختراقاً حقيقياً عندما أراه مطبقاً في قانون الأسرة الجزائري. حينها فقط يمكن للمرأة أن تسافر أو تبني بيتها المستقل من دون وصاية الأب أو الزوج أو الأخ.”
وفي تجربتها الشخصية، تقول إنها عادت بعد سنوات من الغياب ولاحظت تغيّرات اجتماعية تدريجية: نساء يعملن في المدارس، وأخريات يستأجرن منازل بمفردهن، وهي ظواهر كانت قبل عقدين موصومة بالعار. لكنها في الوقت نفسه تسمع أصواتاً غاضبة على وسائل التواصل الاجتماعي. وتضيف: “أحد المعلقين كتب: ‘إلى أين يذهبون بحقوق النساء؟ ماذا يريدون بعد؟'”، في إشارة إلى استمرار المقاومة المجتمعية لأي خطوة نحو المساواة بين الجنسين.
نساء يتظاهرن في شوارع الجزائر العاصمة بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، 8 آذار/أذار 2021.
هل يتغيّر قانون الأسرة الجزائري؟
قانونياً، يُقرّب رفع التحفّظ الجزائر من التزاماتها الدولية في مجال حقوق الإنسان، إذ تنص المادة 151 من دستور 2020 على أن المعاهدات الدولية تسمو على القوانين الوطنية، ما يجعل هذه الخطوة ملزمة للمشرّع الجزائري. ويرى المحامي موحوس صديق أن القرار “قد يفتح الباب أمام مراجعة شاملة لقانون الأسرة الذي ظل مثار جدل منذ صدوره عام 1984”.
ويشرح صديق لبي بي سي أن رفع التحفظ عن الفقرة الرابعة من المادة 15 في اتفاقية “سيداو” يضع الجزائر أمام معادلة مزدوجة: الالتزامات الدولية من جهة، وخصوصيات المجتمع وقوانينه الداخلية من جهة أخرى. ويذكّر بأن الجزائر عندما أبدت تحفظها عام 1996، كان السبب قانونياً بحتاً، إذ إن قانون الأسرة حينها لم يعترف للزوجة بذمّة مالية مستقلة، ما كان سيخلق تناقضاً مباشراً مع نص الاتفاقية. لكن مع تعديل القانون عام 2005 وإضافة المادة 37 التي كرّست الذمة المالية المستقلة للزوجة، “زالت أسباب التحفظ بزوال مبرراته”، كما يقول موحوس، معتبراً الخطوة الأخيرة “استكمالاً لمسار بدأ منذ سنوات”.
أما عن قضية إذن الزوج أو الولي لسفر المرأة، فيوضح أن القانون الجزائري لا ينص صراحة على هذا الشرط، لكن الأعراف والتقاليد الاجتماعية كرّست هذه المآذارة داخل كثير من الأسر. ويضيف: “أخلاقياً واجتماعياً، كانت المرأة تستأذن زوجها أو والدها قبل السفر. لكن قانونياً، لا يوجد نص يفرض ذلك. الاستثناء الوحيد يظهر إذا غادرت الزوجة البيت الزوجي بشكل دائم دون اتفاق، ففي هذه الحالة يمكن للزوج أن يرفع دعوى نشوز ضدها، وهو ما يضعها تحت طائلة العقوبات.”
وعن الإشكالات المستقبلية، يرى موحوس أن رفع التحفظ لم يعد يتعارض مع قانون الأسرة بعد تعديلات 2005، لكنه يذكّر بأن الجزائر ما زالت متحفّظة على مواد أخرى مثل المادة 29، ما يعكس أن مسار المواءمة القانونية لم يكتمل بعد. وبالنسبة للنزاعات المحتملة، يتوقع أن يظل الوضع قريباً مما هو عليه الآن: “حتى قبل رفع التحفظ، كانت هناك خلافات زوجية بسبب عمل الزوجة أو سفرها، وغالباً ما تُحل عبر القضاء. الجديد اليوم هو أن هذه النزاعات قد تأخذ زخماً سياسياً وإعلامياً أكبر، لكنني لا أتوقع تفككاً اجتماعياً واسعاً، بل مجرد زوبعة مؤقتة تستغلها بعض الأطراف لأهداف إيديولوجية.”