خبراء للجزيرة نت: حرب روسيا على أوكرانيا أمام سيناريوهين

خبراء للجزيرة نت: حرب روسيا على أوكرانيا أمام سيناريوهين

كييف- بعد مرور أسبوعين تقريبا على قمة ألاسكا واجتماعات واشنطن، يبدو أن شمعة الأمل بوقف الحرب الروسية الأوكرانية بدأت تنطفأ شيئا فشيئا، وأن نار الحرب عادت لتستعر مجددا، وستكون لها الكلمة الفصل حتى إشعار آخر.

واقع تدل عليه عمليات القصف المتبادلة التي تركز على منشآت ومرافق النفط والغاز والطاقة الكهربائية والمياه ومحطات وخطوط السكك الحديد، كما كان عليه الحال قبل أكثر من عام، كما تشير إليه سخونة الجبهات التي اشتعلت كما لم تكن على عدة محاور، حيث يسعى كل جانب إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب لنفسه، والخسائر للآخر.

قمة ترامب (يمين) وبوتين تركت من الأسئلة أكثر مما قدمت من الإجابات حسب مراقبين (رويترز)

أسباب التصعيد

وعندما يخوض السياسيون والمحللون الأوكرانيون في أسباب هذا التصعيد وتوقيته، فإنهم يجمعون على عدة أمور، من أبرزها:

  • كسب الوقت في الميدان: وهذا ما لمح إليه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي قال إن نظيره الروسي فلاديمير بوتين يجيد رياضة التملص، ويختلق الشروط التي تمنع عقد لقاء ثلاثي يجمعهما بوساطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

وتنضوي تحت هذا السبب أيضا منافع سياسية وعسكرية، يشرحها للجزيرة نت الخبير العسكري إيفان ستوباك بالقول: “حاول الروس تحقيق مكاسب ميدانية من عمليات الصيف التي خططوا لها، وكان من السذاجة توقع عدولهم عن هذه الخطط بسرعة، استجابة لرغبات ترامب، ولأنهم فشلوا في الميدان وفي حماية أراضيهم من هجمات مسيّراتنا، عادوا لقصف المدن الأوكرانية بوحشية كما نرى”.

  • تحدي الغرب الداعم لكييف: بحسب فولوديمير فيسينكو رئيس مركز الدراسات السياسية التطبيقية “بنتا”، فإن بوتين انتصر على ترامب في ألاسكا، في الوقت الذي كان من المتوقع فيه أن تفرض الولايات المتحدة عقوبات قاسية على موسكو، وفي ألاسكا أيضا، أذل بوتين بنجاح دول الغرب وسخر بصمت من قرار محكمة الجنايات الدولية الصادر بحقه، ثم عاد ليصعد متحديا تلك الدول، ومدعيا أن الدول الأوروبية تعمل مع كييف على إفشال جهود ترامب “الصادقة” لتحقيق السلام.
  • انعدام ثقة الجانبين بالدبلوماسية: وهذا أقل سبب يخوض فيه الأوكرانيون، لكن بعضهم يرى أنه لم توجد بعد أرضية لأي حل دبلوماسي قريب، حتى وإن تحدث الجانبان دائما عن ذلك، أو جرت محادثات السلام على أعلى مستوى.
إعلان

ويرى داعمو هذا الرأي، على قلتهم في المواقع وشبكات التواصل، أنه لا معنى لخفض التصعيد ما دامت المواقف متصلبة، والضمانات الغربية مجرد وعود، والعقوبات الأميركية مجرد وعيد.

إحباط أوكراني

كل ذلك انعكس إحباطا على الشارع الأوكراني، لأن الجهود الأميركية لم تحدث اختراقا، حتى وإن صرح بعكس ذلك الرئيس ترامب، وفق ما يرى مراقبون.

في هذا السياق، يعتقد الكاتب والصحفي ميلان ليليتش أن الرئيس الأميركي ممتعض لعدم إحراز أي تقدم، ويحاول إخفاء فشله بإلقاء اللوم على بوتين أو زيلينسكي.

وأضاف للجزيرة نت: “الناس في أوكرانيا محبطون ويشعرون أنهم خُذلوا مجددا، حتى وإن جرت مكالمات واجتماعات حول ضمانات أمنية قوية وموثوقة لكييف، واستمرار الحرب يشغلهم، والأمل بحل قريب يتلاشى تماما كما كانوا يعتقدون قبل نحو 6 أشهر”.

هذا المزاج العام انعكس حسب نتائج استطلاع حديث للرأي نشرته مجموعة “ريتينغ” نهاية آب/آب الجاري، حيث كشف أن 82% من الأوكرانيين يؤيدون التفاوض، منهم 59% يؤيدون الوصول إلى حلول وسط، وهي أعلى نسبة تؤيد هذا التوجه منذ بداية الحرب، في حين أن نسبة الراغبين باستمرار الحرب حتى النصر انحسرت إلى 11% فقط.

القمة المعقدة

وهكذا يرسم خبراء سيناريوهين اثنين لمسار الحرب، أولهما يتعلق بإمكانية عقد لقاء قمة يجمع بوتين وزيلينسكي وجها لوجه، يؤسس -بطريقة ما- لحل يرسم أولى خطوات السلام، ولكن يبدو أن عقدها لا يقل تعقيدا عن الخلافات الأوكرانية الروسية في رابع سنوات الحرب، ولهذا يتوقع كثيرون ألا يتم قريبا أو أن تكون نتائجه محدودة.

ويقول فولوديمير فيسينكو، رئيس مركز الدراسات السياسية التطبيقية (بنتا)، للجزيرة نت: “اللقاء، إن تم، سيؤدي إلى شيء ما حتما، لكن هذا الشيء لن يكون جذريا ولن يعني اتفاق سلام شامل، باعتقادي أقصى وأسهل وأسرع ما يمكن التوصل إليه هو وقف لإطلاق النار”.

ويضيف “حتى الآن لم يتحدث الكرملين عن أن اللقاء سيتم أو لا، ربما لأن رفضه خط أحمر يغضب ترامب، كما يمكن للرئيس الأميركي إقناع بوتين بعقد اللقاء وخيار هدنة مفتوحة، وأن يسوق هذا الفوز السريع لجمهوره كبداية النهاية للحرب، لكن الوصول إلى تلك النهاية سيستغرق وقتا طويلا بعد ذلك”.

أما ثاني سيناريو متوقع للمشهد، فهو حرب ممتدة حتى 2026، عنوانها الاستنزاف حتى الرمق الأخير، ولكن على أساس معطيات جديدة لم تكن موجودة.

من جانبه، يرى الخبير العسكري إيفان ستوباك أن “بوتين حرك التماثيل الأوروبية النائمة اللطيفة”، وبات الدعم الأوروبي لكييف قويا ونشطا، يشمل السلاح والعقوبات ودراسة إرساله قوات وغير ذلك، “بينما التقدم عبر المفاوضات موجود فقط في خيال ترامب”.

ويضيف: “نرى الآن بداية مرحلة جديدة من حرب استنزاف ستستمر عدة أشهر، الفائز فيها من سيصمد حتى النهاية، والنتيجة ستحدد من سيكون أقوى على طاولة المفاوضات بعد ذلك”.

الاضطرابات تجتاح أكبر دولة إسلامية في العالم.. فما الذي يجب معرفته؟

الاضطرابات تجتاح أكبر دولة إسلامية في العالم.. فما الذي يجب معرفته؟

تظاهر مئات الطلاب في المدن الإندونيسية الكبرى أمس الاثنين، متحدين تحذيرات من شن حملة ضدهم بعد عطلة نهاية الأسبوع التي شهدت اضطرابات دامية أسفرت عن مقتل 8 أشخاص في أسوأ أعمال عنف تشهدها البلاد منذ أكثر من عقدين.

واندلعت المظاهرات الاثنين الماضي بسبب ما يقول المحتجون إنها رواتب وبدلات سكن مرتفعة لأعضاء البرلمان، وسرعان ما تطورت الاحتجاجات إلى أعمال شغب الخميس بعد انتشار مقطع فيديو يظهر مركبة للشرطة تصدم دراجة أجرة نارية وتدهس سائقها الشاب.

وتعددت مطالب المحتجين، لكن شرارة الاحتجاجات اشتعلت تنديدا بإعلان حصول النواب على بدل سكن أعلى بنحو 10 مرات من الحد الأدنى للأجور في العاصمة جاكرتا.

تبرز الاضطرابات استياءً عميقا من المؤسسة السياسية الإندونيسية وسلوك الشرطة وأولويات الإنفاق الحكومي. كما أنها بالغة الأهمية لأكبر دولة ذات أغلبية مسلمة في العالم، حيث يُنظر إلى الاستقرار السياسي على أنه أمر حيوي للأمن والنمو الاقتصادي للمنطقة ككل.

Protesters shout slogans during a protest, against lavish allowances given to parliament members, outside the parliament in Jakarta, Indonesia, Monday, Sept. 1, 2025. (AP Photo/Achmad Ibrahim)
المتظاهرون رددوا شعارات خلال احتجاج ضد المخصصات السخية الممنوحة لأعضاء البرلمان (أسوشيتد برس)

وتمثل هذه الأزمة أخطر تحدٍّ يواجه الرئيس برابوو سوبيانتو حتى الآن، الذي تخضع قيادته لتحد حقيقي مع اتساع نطاق الاحتجاجات في أرخبيل جنوب شرق آسيا وجذبها اهتمامًا دوليا.

ما الذي حصل حتى الآن؟

نظمت مجموعات طلابية مظاهرات في جاكرتا ويوجياكارتا وباندونغ وماكاسار، رغم الدوريات العسكرية المكثفة ونقاط التفتيش الشرطية.

وفي ماكاسار، تجمع الطلاب بالقرب من مبنى البرلمان المحلي الذي أُضرمت فيه النيران خلال اضطرابات الأسبوع الماضي، وجابت مواكب الجيش شوارع جاكرتا الرئيسية، حيث انتقلت المدارس إلى التعليم عن بُعد، وطلبت الشركات من موظفيها العمل من منازلهم.

وأكدت الشرطة اعتقال أكثر من 1200 شخص في جميع أنحاء البلاد، وإصابة أكثر من 700 آخرين، وقدر المحافظ الخسائر بنحو 3.4 ملايين دولار.

إعلان

وكانت هناك أعمال شغب ونهب، حيث هوجمت منازل قادة سياسيين، بمن فيهم وزير المالية، وأُحرقت مكاتب حكومية، بحسب الرواية الرسمية.

وفي باندونغ، أشعل المتظاهرون النار في الإطارات، وفي تيرناتي استخدمت الشرطة الغاز المدمع لمنع الحشود من اقتحام مباني البرلمان. وقال مسؤولون إن 4 قتلى على الأقل خلال عطلة نهاية الأسبوع سقطوا نتيجة “عنف غوغائي وحرق متعمد” في ماكاسار.

سوبيانتو أعلن تخفيضا لمخصصات النواب لامتصاص الغضب الشعبي (رويترز)

محاولة التهدئة

وفي محاولة لتهدئة الغضب الشعبي، أعلن الرئيس سوبيانتو عن تخفيضات في مخصصات النواب. ومع ذلك، أشاد في الوقت نفسه بقوات الأمن على “تضحياتها” ومنح ترقية لأربعين شرطيا مصابًا.

وأثناء زيارته جرحى الشرطة في جاكرتا، ذكّر الرئيس الجمهور بضرورة الحصول على موافقة قانونية على الاحتجاجات وإنهائها بحلول الساعة السادسة مساءً، وهو تصريح يراه المنتقدون تحذيرا وليس تنازلًا.

ورفضت جماعات طلابية رد الرئيس، ووصفته بأنه غير كافٍ ومنفصل عن مطالب الشعب، ويرى المحتجون أن المسألة لا تتعلق فقط بالامتيازات المالية، بل تتعلق أيضًا باستعادة الثقة في المؤسسات العامة والمطالبة بإصلاح حقيقي للشرطة.

وفي غضون ذلك، أجّلت العديد من منظمات المجتمع المدني مظاهراتها، مشيرة إلى الاعتقالات الجماعية والأجواء القمعية التي تجعل الاحتجاج السلمي شبه مستحيل.

Protesters shout slogans during a protest, against lavish allowances given to parliament members, outside the parliament in Jakarta, Indonesia, Monday, Sept. 1, 2025. (AP Photo/Achmad Ibrahim)
المحتجون لم يتوقفوا عن التظاهر حتى بعد محاولة الرئيس لتهدئة النفوس (أسوشتيد برس)

وعلى الصعيد الدولي، أعربت الصين -أكبر شريك تجاري لإندونيسيا- عن دعمها لقدرة سوبيانتو على إدارة الأزمة، مما يعكس القلق الإقليمي بشأن استقرار إندونيسيا.

وباعتبارها أكبر ديمقراطية واقتصاد في جنوب شرق آسيا، يُعدّ الاستقرار الداخلي لإندونيسيا أمرًا بالغ الأهمية للأمن الإقليمي الأوسع والنمو الاقتصادي.

ويواجه الرئيس سوبيانتو الآن لحظة فارقة، فقدرته على تجاوز هذه الأزمة -موازنة الإصلاحات الجادة مع ضرورة استعادة النظام- لن تُشكّل رئاسته فحسب، بل ستُحدد أيضًا ما إذا كانت إندونيسيا ستبقى قوة استقرار في منطقة متزايدة التقلب.

فضيحة لافون.. يوم أرادت إسرائيل إحراق القاهرة والإسكندرية

فضيحة لافون.. يوم أرادت إسرائيل إحراق القاهرة والإسكندرية

تُعد حادثة لافون -أو ما عُرفت بعملية “سوزانا”- واحدة من أكثر الفضائح الاستخباراتية إثارة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ففي عام 1954 نفذت إسرائيل عملية سرية على الأراضي المصرية استهدفت تقويض استقرار النظام الجديد بقيادة جمال عبد الناصر، وإفساد علاقات القاهرة مع الولايات المتحدة وبريطانيا.

تكشف تفاصيل هذه العملية عن شبكة معقدة من التخطيط والتنفيذ، إذ جرى اختيار أهداف حساسة لعمليات تخريبية بهدف إثارة الشكوك لدى بريطانيا والولايات المتحدة بشأن نية النظام المصري وقتها تجاهها، لكن العملية انتهت بفشل ذريع بعد كشف الخلية المنفذة واعتقال أفرادها، مما أدى إلى أزمة سياسية داخل إسرائيل عُرفت بـ”فضيحة لافون”.

فما فضيحة لافون؟ وما أسبابها ونتائجها؟ وما روايات الشهود حولها؟

British Minister of State Anthony Nutting and Egyptian Prime Minister Abdul Nasser signing the Anglo-Egyptian Treaty, which ends Britain's 72 year guard on the Suez Canal, in Cairo, 1954. (Photo by © Hulton-Deutsch Collection/CORBIS/Corbis via Getty Images)
رئيس الوزراء المصري جمال عبد الناصر (يمين) ووزير الدولة البريطاني أنتوني نوتنغ يوقعان اتفاقية الجلاء 1954 (غيتي)

ضرب الاستقرار في مصر

بعد ثورة تموز/تموز 1952 التي أنهت حكم الملك فاروق ومهّدت لقيام النظام الجمهوري بقيادة الضباط الأحرار، دخلت مصر مرحلة انتقالية دقيقة.

ومع تدرج جمال عبد الناصر، نائب رئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس الوزراء المصري، في بسط نفوذه على مقاليد الحكم، تفاقمت الخلافات الداخلية بينه وبين اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية.

وعلى المستوى الخارجي، كانت المفاوضات المصرية البريطانية بشأن اتفاقية الجلاء عن الأراضي المصرية من القاعدة البريطانية بقناة السويس تقترب من نهايتها في حزيران/حزيران 1954، مما أثار المخاوف الإسرائيلية من أن يؤدي الانسحاب البريطاني إلى تعزيز القوة العسكرية المصرية، الأمر الذي قد يمهّد لخوض الدول العربية بقيادة مصر حربا جديدة ضدها بعد هزيمة 1948.

وقد أسهمت سياسة إدارة الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور حينئذ -التي اتسمت ببرود تجاه إسرائيل- في تغذية هذه المخاوف، مع احتمال انفتاح واشنطن على القاهرة، حسبما ترصد ميثاق بيات في كتابها “السياسة الأميركية تجاه إسرائيل في عهد إدارة الرئيس دوايت آيزنهاور”.

إعلان

ووسط تصاعد التوترات السياسية الإقليمية مطلع الخمسينيات، أعدت الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية خطة سرية ضمن وحدات شعبة الاستخبارات العسكرية، استهدفت ضرب الاستقرار الداخلي في مصر عبر سلسلة عمليات نوعية بهدف تعويق وتأخير الانسحاب البريطاني من مصر.

تمحورت الخطة حول تجنيد عناصر يهودية مصرية شابة للقيام بتفجيرات واعتداءات على دور السينما والمقار العامة والمراكز الثقافية إلى جانب استهداف سيارات الدبلوماسيين والرعايا البريطانيين.

كذلك تشير الباحثة ليفيا روكاخ -في كتابها “إرهاب إسرائيل المقدس”- إلى أن الهدف كان واضحا في تقويض ثقة الرأي العام العربي والدولي بالنظام المصري الناشئ، وإحباط أي مسعى غربي لتزويده بالمساعدات العسكرية.

في تلك الأثناء، كان بن غوريون قد ترك منصب رئاسة الوزراء متوجها إلى حياة شبه منعزلة في إحدى مستوطنات النقب، غير أن غيابه لم يوقف دفع الخطة إلى مرحلة التنفيذ.

وتوضح رواية روكاخ أن مقربين منه داخل الحكومة استغلوا نفوذهم لتزوير توقيع وزير الدفاع الجديد بنحاس لافون -الذي تولى المنصب خلفا لموشيه شاريت- على أوامر تنفيذية بالغة الحساسية.

وبذلك حُولت خطة استخباراتية سرية إلى عملية تحمل غطاء رسميا مزيفا، مما جعلها واحدة من أكثر الحوادث المثيرة للجدل في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، حسب الباحثة روكاخ.

(Original Caption) Pinhas Lavon, focal point of the greatest political storm in Israeli history, resigned, Feb. 9, as Secretary General of the Histradut Labor Federation. Lavon, temporarily removed from political power by the resignation, was forced to quit to end the feud between Ben-Gurion's Mapai Labor Party and Lavon's supporters. Lavon was cleared recently of any blame for a secrecy shrouded security operation failure in 1954 by the country's former coalition cabinet. Ben-Gurion did not agree with the cabinet's decision and demanded they re-open the case. Finally Ben-Gurion resigned, Jan. 31, in protest to the cabinet decision, automatically bringing about the fall of the government. Ben-Gurion is now acting as caretaker Premier until President Ben-Zvi can find someone to form a new government.
بنحاس لافون تولى منصب وزير الدفاع الإسرائيلي خلفا لموشيه شاريت (غيتي)

العملية سوزانا

ومع حلول مساء 16 حزيران/حزيران 1954، انطلقت الإشارة السرية التي كانت في انتظارها الخلية الإسرائيلية العاملة داخل مصر والتي كان أغلبها من اليهود المصريين.

وخصص برنامج موجه لربات البيوت على راديو إسرائيل حلقة عن إعداد الكيك الإنجليزي، وكانت هذه رسالة مشفرة أُعدّت سلفا لبدء تنفيذ سلسلة عمليات تخريبية، إذ يذكر يوسي ميلمان وإيتان هابر في كتابهما “الجواسيس” أن مثل هذه البرامج الإذاعية كانت إحدى وسائل الاتصال المبتكرة بين قادة العمليات وأفراد الخلايا النائمة.

في قلب ذلك المشهد، برز اسم إيفري جلعاد الضابط السابق في الجيش الإسرائيلي الذي أُقيل عام 1951 إثر اتهامه بسرقة ثلاجة قبل أن يجد لنفسه موقعا جديدا في الوحدة 131 المختصة بالعمليات السرية والتخريبية خلف خطوط ما تصفها إسرائيل بـ”الأراضي المعادية”.

وبناء على أوامر مباشرة من شعبة الاستخبارات العسكرية، وصل جلعاد إلى الإسكندرية أوائل عام 1954 متخفيا في صورة وكيل لشركة إلكترونيات ألمانية، مستخدما هوية مزورة باسم “الرائد بول فرانك”، وهو ضابط ألماني اختفى أثره بعد مهمة استخباراتية في فلسطين.

ويذكر عادل حمودة في كتابه “عملية سوزانا” أنه بهذه التغطية المحكمة تمكن جلعاد من التحرك بحرية نسبية داخل مصر، جامعا المعلومات ومهيئا الأجواء لتنفيذ عمليات ستشكّل لاحقا جوهر “قضية لافون” أو “عملية سوزانا”.

في سياق عملية “سوزانا”، أوكلت قيادة الوحدة 131 تحت إشراف المقدم مردخاي بن تسور مهمة خاصة إلى الرائد أفراهام دار، المعروف بدوره في تنظيم الهجرة اليهودية من أوروبا إلى إسرائيل.

إعلان

وقد دخل أفراهام دار إلى مصر بجواز سفر بريطاني يحمل اسما مستعارا، وهو “جون دارلينغ”، وأسّس شبكة تجسس في القاهرة والإسكندرية لتنسيق العمليات التخريبية التي كانت تستهدف مرافق مدنية، مثل دور السينما ومكاتب البريد، والأهم من ذلك مؤسسات بريطانية وأميركية في القاهرة والإسكندرية.

ومع اقتراب عقارب الساعة من 11 صباحا في الثاني من تموز/تموز 1954، اتخذت الخلية خطواتها الأولى، فقد تقدّم أحد أفرادها، وهو فيليب ناثانسون، نحو صندوق بريد في الإسكندرية ووضع لفافة صغيرة داخله، وفي التوقيت ذاته تقريبا ألقى كل من زملائه فيكتور ليفي وروبير داسا لفافات مماثلة في صناديق بريد أخرى قريبة.

وسرعان ما شبّ حريق في مكتب البريد الأميركي بالإسكندرية وأسفر عن وقوع ضحايا، وعند وصول الرائد ممدوح سالم ضابط المباحث العامة إلى موقع الحادث، عثر على جراب نظارة يحوي بقايا فوسفور أحمر، وهو ما كشف عن أن الحريق ناجم عن تفاعل كيميائي متعمد، وفق ما يرويه عادل حمودة في كتابه “عملية سوزانا”.

ورغم خطورة الحادث، فلم تشر الصحافة إلى شيء يتجاوز مجرد خبر عابر، لكن مساء 14 تموز/تموز، أعاد داسا المحاولة حين دخل مكتبة المركز الثقافي الأميركي في الإسكندرية بصحبة فتاة شابة، تاركا خلفه جراب نظارة.

وفي الوقت ذاته تقريبا اندلعت حرائق في المكتبتين الأميركيتين بالقاهرة والإسكندرية، مما أسفر عن إصابات بين الموظفين والزوار، في حين أرجعت وسائل الإعلام السبب إلى “تماس كهربائي”، متجاهلة خلفياته التخريبية.

بداية سقوط الخلية

في مساء 23 تموز/تموز 1954، وبالتزامن مع الذكرى الثانية لثورة تموز/تموز، قادت المصادفة إلى كشف الخلية، فقد كان النقيب حسن المناوي معاون مباحث قسم العطارين في جولة اعتيادية بشارع فؤاد بالإسكندرية حين استوقفه صراخ قادم من أمام سينما “ريو”، حينها اندفع نحو مصدر الصوت ليجد رجلا يخرج مسرعا والنيران تلتهم بنطاله.

تحرك الضابط بسرعة وألقى بالرجل أرضا وبدأ يلف جسده لإخماد اللهب، ولكن تبيّن لاحقا أن الرجل هو فيليب ناثانسون أحد عناصر خلية إسرائيلية سرية، ففي أثناء محاولته نفض سرواله سقط من يده جراب نظارة، تناثرت منه حبيبات مسحوق أسود اللون اتضح لاحقا أنه مادة مستخدمة في عمليات تخريبية.

وكما يذكر يوسي ميلمان ودان رافيف في كتابهما “أمراء الموساد“، فقد اقتيد ناثانسون إلى قسم الشرطة، وهناك أدلى تحت ضغط التحقيق باعترافات كشفت هوية شريكه فيكتور ليفي، مؤكدا انتماءهما إلى خلية تجسس إسرائيلية تنشط داخل مصر.

ووفق ما أشار إليه أحمد عادل رئيس وحدة الدراسات في “مجموعة 73 مؤرخين” لأحد المواقع الإخبارية، فإن هذه اللحظة كانت الشرارة الأولى لانهيار شبكة التجسس التي ستعرف لاحقا بـ”قضية لافون”.

في ذلك اليوم، كانت الخطة الإسرائيلية قد وصلت إلى مرحلتها الأخطر، إذ جرى تحديد أهداف بارزة في القاهرة والإسكندرية لوضع المتفجرات، من بينها محطة القطارات ومسرح ريفولي في القاهرة، وسينما مترو وسينما ريو في الإسكندرية.

ولكن بعد سقوط فيليب ناثانسون في قبضة الأمن واعترافه، دهمت قوة من الشرطة منزله لتعثر على أدلة حاسمة شملت صورة فوتوغرافية كتب على ظهرها عبارة “فيكتور، روبير، فيليب: أصدقاء إلى الأبد”، بالإضافة إلى أفلام فوتوغرافية توضح بالتفصيل طرق صناعة القنابل وشفرة الاتصالات اللاسلكية.

وعندما عاد العميل روبير داسا إلى منزله فوجئ بكمين لرجال الأمن المصري ينتظره، وقد كشفت التحقيقات اللاحقة أنه كان قبل لحظات من القبض عليه قد وضع قنبلة حارقة داخل حقيبة أودعها في مخزن أمانات محطة سكك حديد القاهرة، في خطوة كانت ستؤدي إلى تفجير كبير وسط العاصمة.

صمويل بخور عازار Samuel Bakhour Azar
اعترافات صموئيل بخور عازار أضافت خيطا جديدا للتحقيق مما أدى إلى انهيار شبكة التجسس سريعا (الصحافة الإسرائيلية)

استمرار تفكيك الخلية حتى انهيارها

وخلال التحقيقات، تمسك الأصدقاء الثلاثة برواية واحدة أمام سلطات الأمن، مؤكدين أنهم أشعلوا الحرائق بدافع وطني، بزعم إرغام البريطانيين على مغادرة مصر، غير أن تقرير المعمل الجنائي كشف بوضوح الطبيعة التخريبية للعملية، إذ أثبت أن أغلفة النظارات التي استخدموها كانت مليئة بمزيج من مواد شديدة الاشتعال، تضمنت كلورات البوتاسيوم والزنك المعدني وأكسيد الحديد ومسحوق الألومنيوم.

إعلان

قاد فيكتور ليفي ضباط المباحث إلى مقر الشبكة في الإسكندرية بحثا عن الجهاز اللاسلكي الذي كانت الخلية تستخدمه في الاتصال، غير أن المحاولة باءت بالفشل، وعند استجوابه اتهم فيكتور زميله صموئيل عازار بسرقة الجهاز. استمرت المراقبة الأمنية للمكان حتى تمكنت السلطات من إلقاء القبض على عازار ليلة 27 تموز/تموز.

ومن اللافت أن اعترافات صموئيل أضافت خيطا جديدا للتحقيق، إذ كشف عن الشخص الخامس في الشبكة وهو مائير صمويل ميوحاس، موضحا أن هذا الأخير كان يحتفظ بأموال الخلية في الإسكندرية، واستخدم مبلغ 500 جنيه مصري لشراء المواد اللازمة لصناعة القنابل الحارقة.

واعتمادا على اعترافات ميوحاس، تمكنت السلطات المصرية من الإيقاع بالطبيب موسى مرزوق الذي كان يُعد العقل المؤسس للشبكة في القاهرة، ومع سقوطه بدأ باقي الأعضاء في الانهيار واحدا تلو الآخر، ومع ذلك ظل أخطر عنصرين خارج قبضة الاعتقال، وهما جون دارلينغ ضابط الجيش الإسرائيلي، وإيفري جلعاد اللذان نجحا في الهروب.

وقد لعبت آذاريل نينيو، إحدى أعضاء الشبكة، دورا محوريا في الربط بين الخلية في مصر والقيادة العليا في باريس، إذ تلقت ما مجموعه ألف جنيه مقابل خدماتها، وفق ما أورده إيربش فولات في كتابه “عمليات الوحدات السرية الإسرائيلية”.

اعتراف إسرائيلي متأخر

ويذكر إبراهيم عيد في “جواسيس على ضفاف النيل” أنه قبيل جلسات المحاكمة وقعت حادثة مثيرة في ليلة 21 كانون الأول/كانون الأول 1954 حين فتح السجّان أحمد ظاهر باب زنزانة العميل ماكس بينيت بعد أن سمع أنينا خافتا، ليجده يحتضر والدماء تنزف من يده ومات قبل يوم من موعد مثوله للمحاكمة.

ووفق ما ذكره ريتشارد ديكون في كتابه “الخدمة السرية الإسرائيلية”، كان بينيت قد زار مصر 3 مرات، آخرها عام 1953 مدعّيا إقامة علاقات مع ضباط الجيش المصري بهدف استيراد أطراف صناعية من ألمانيا لعلاج مشوهي الحرب، وهي حجة وفرت له غطاء للتحرك وبناء شبكة اتصالاته.

لاحقا، نفت إسرائيل أي علاقة لها بالحادثة، وأُرسل جثمان بينيت إلى ألمانيا الغربية ليدفن هناك، غير أنه في عام 1959 نُبش القبر سرا ونُقل الجثمان إلى إسرائيل لإعادة دفنه، ووُضع في قبر بلا علامة، ولم تخطر السلطات أرملته بعملية النقل إلا قبل يوم واحد من مراسم الدفن، كما تجاهل مجتمع الاستخبارات جميع طلبات الأسرة للحصول على تفسير لملابسات الوفاة.

Meir Max Bineth
ماكس بينيت لم تعترف به إسرائيل رسميا عميلا لها إلا عام 1988 (الصحافة الإسرائيلية)

ولم تعترف إسرائيل رسميا بماكس بينيت عميلا لها إلا عام 1988، حين مُنح رتبة عقيد في احتفال أقيم بمكتب وزير الدفاع في تل أبيب، حسب ما يذكره ميلمان في كتابه “أمراء الموساد”.

ويذكر الصحفي البريطاني ديفيد هيرست في كتابه “البندقية وغصن الزيتون” أن أفراد الشبكة -باستثناء موسى مرزوق وصموئيل عازار اللذين أُعدما في 31 كانون الثاني/كانون الثاني 1955- استُقبلوا في إسرائيل استقبال الأبطال بعد إطلاق سراحهم في إطار صفقة تبادل أسرى مع مصر عام 1968.

ومن المواقف اللافتة أن وزير الدفاع موشيه ديان حضر حفل زفاف آذاريل إحدى أبرز عناصر الشبكة، وقال لها “حرب الأيام الستة حققت نجاحا كافيا إذ أدت إلى إطلاق سراحك”.

نينو في حفل زفافها وإلى جوارها رئيسة الوزراء غولدا مائير (الصحافة المصرية)
آذاريل نينيو في حفل زفافها وإلى جوارها رئيسة الوزراء الإسرائيلية آنذاك غولدا مائير (الصحافة المصرية)

انكشاف الفضيحة

وكما يذكر إبراهيم عيد، فإن إيفري جلعاد الذي تمكن من الهرب قبل القبض عليه في مصر، استُدعي عام 1955 على عجل للإدلاء بشهادته في القضية، إذ ألقى باللوم على أعضاء الخلية في مصر في فشل العمليات، غير أنه اعترف لاحقا بأنه أدلى بشهادة غير صحيحة التزاما بأوامر موشيه ديان، بهدف الحفاظ على صورة إسرائيل أمام الرأي العام.

وزعم أن جهاز الموساد كان يسعى إلى كشف شبكة عملاء “مودعين” في مصر بغية إلحاق الضرر بجهاز استخبارات الجيش وانتزاع السيطرة التي كان يتمتع بها في الساحة الاستخباراتية.

وتكشف الوثائق -التي أفرج عنها جيش الدفاع الإسرائيلي أوائل عام 2016- عن تأسيس إسرائيل وحدة تخريبية تعمل بأسلوب قوات الكوماندوز خلف خطوط العدو.

وتشير هذه الوثائق إلى أن وزير الدفاع آنذاك بنحاس لافون وجّه هذه الوحدة لاستهداف مصالح بريطانية في مصر، مع إضفاء طابع يوحي بأن المنفذين إسلاميون، في محاولة للإضرار بالعلاقات المصرية البريطانية وإثارة الشكوك المتبادلة بين الطرفين.

ومع فشل هذه العملية والفضيحة التي وقعت فيها إسرائيل يومئذ، لم تُبدِ السلطات الإسرائيلية تعاونا يذكر مع بقية عناصر الشبكة التي اعتقلتها القاهرة في قضية لافون، فقد أُعدم اثنان من اليهود المصريين عام 1955، في حين صدرت بحق 4 آخرين أحكام بالسجن لمدد طويلة.

إعلان

ويذكر يوسي ميلمان في “أمراء الموساد” أنه بعد العدوان الثلاثي على مصر “حرب السويس” عام 1956 رفضت إسرائيل عرضا مصريا لمبادلتهم بأسرى مصريين وقعوا في قبضة الجيش الإسرائيلي، وذلك بناء على معارضة رئيس الأركان حينها موشيه ديان الذي خشي أن تفضي الصفقة إلى حرج سياسي لإسرائيل.

ولكن في عام 1968 تم الإفراج عن العملاء آذاريل نينيو وفيليب ناثانسون وروبرت داسا وفيكتور ليفي ضمن صفقة تبادل شملت آلاف الأسرى المصريين، ومع ذلك ظل الـ4 بعد الإفراج عنهم بأكثر من 20 عاما يوجّهون شكاوى من الإهمال، في حين اشتعل الجدل في الصحافة الإسرائيلية بين اتهامات متعارضة وروايات متبادلة بشأن طريقة تعامل مؤسسات الدولة معهم.

معسكرات الحماية الأممية بجنوب السودان تتحول إلى مأوى دائم

معسكرات الحماية الأممية بجنوب السودان تتحول إلى مأوى دائم

شهدت دولة جنوب السودان في 15 كانون الأول/كانون الأول 2013 اندلاع مواجهات مسلحة بين قوات الرئيس سلفاكير ميارديت والمعارضة بقيادة نائبه السابق ريك مشار، سرعان ما تحولت من صراع سياسي على السلطة إلى حرب ذات طابع إثني.

ومع تصاعد أعمال العنف التي استهدفت مدنيين من مجموعة النوير التي ينحدر منها ريك مشار على أيدي جنود الجيش الحكومي، لجأ الآلاف إلى مقار بعثة الأمم المتحدة في العاصمة جوبا وعدد من الولايات، ومع تزايد التدفق، اضطرت البعثة لتحويل مقراتها إلى معسكرات لحماية المدنيين، شكلت ملاذا مؤقتا تحول لاحقا إلى إقامة طويلة الأمد.

ورغم توقيع اتفاق السلام عام 2018 الذي نص على تقاسم السلطة وعودة ريك مشار إلى جوبا نائبا أول للرئيس، لم تتغير قناعة آلاف النازحين من هؤلاء المدنيين بإمكانية العودة إلى حياتهم الطبيعية، فقد تعرضت منازل كثير منهم للمصادرة والاحتلال من قبل قوات حكومية، في حين لا تزال هشاشة الاتفاقية تثير مخاوفهم من تجدد القتال.

معسكر حماية المدنيين الرئيسي غربي العاصمة جوبا ارشيف(البعثة الاممية)
معسكر حماية المدنيين الرئيسي غربي العاصمة جوبا (البعثة الأممية)

ورغم أن الحرب توقفت رسمياً، فإن ذكريات أحداث كانون الأول/كانون الأول 2013 وما أعقبها من أعمال عنف دامية ما زالت حاضرة في أذهانهم، الأمر الذي يدفعهم إلى التمسك بالبقاء داخل معسكرات الأمم المتحدة باعتبارها الملاذ الأخير الأكثر أماناً.

وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن نحو 229 ألف شخص ما زالوا يقيمون داخل معسكرات البعثة الأممية في العاصمة جوبا، بعد أن غادر قرابة مئة ألف نازح خلال السنوات الماضية إلى بعض الولايات.

وفي المقابل، فضّلت أعداد كبيرة أخرى مغادرة البلاد واللجوء إلى المعسكرات المنتشرة في أوغندا المجاورة، مما يعكس استمرار أزمة النزوح رغم مرور أكثر من عقد على اندلاع الحرب.

وبمرور الوقت تحولت معسكرات حماية المدنيين إلى مجتمعات شبه مكتملة، إذ أُنشئت داخلها مدارس مؤقتة ومراكز صحية وأسواق صغيرة لتلبية احتياجات السكان، ورغم أن الأمم المتحدة أعادت لاحقاً تصنيفها إلى “مخيمات نازحين” تحت إدارة الحكومة، فإن آلاف الأسر لا تزال تقيم فيها، مترددة في العودة إلى مناطقها الأصلية التي دُمّرت أو صودرت خلال سنوات الحرب، مما جعل المخيمات تتحول من مأوى طارئ إلى واقع دائم يكرّس معضلة النزوح.

النزوح يتحول لمعضلة

ويرى مراقبون أن استمرار اعتماد عشرات الآلاف على هذه المعسكرات يمثل عقبة أمام مشاريع المصالحة الوطنية وإعادة الإعمار، فوجودها المستمر يذكّر يومياً بفشل الدولة في ضمان الأمن لمواطنيها، ويضع الأمم المتحدة في معضلة بين واجب الحماية وخطر تكريس واقع الانقسام.

احدى مراكز الرعاية الصحية داخل معسكر الحماية الاممية بالعاصمة جوبا (ارشيف البعثة الاممية)
أحد مراكز الرعاية الصحية داخل معسكر الحماية الأممية بالعاصمة جوبا (البعثة الأممية)

يقول الكاتب والمحلل السياسي سايمون قاج إن لجوء المواطنين إلى معسكرات الأمم المتحدة في جنوب السودان كان نتيجة الحرب التي اندلعت في أيلول/أيلول 2013، رغم أن الصراع بدأ كخلافات سياسية بين قادة حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان، فإن طرفي الحرب استخدما أدوات الاستقطاب الإثني لتعزيز مواقفهما، مما أدى إلى شرخ اجتماعي واسع وفقدان المواطنين الثقة في الحكومة، مشيرا إلى أن معسكرات الأمم المتحدة ملاذاً آمناً للمدنيين، توفر لهم الحماية من العنف المباشر وتخفف من آثار الانقسامات العرقية والسياسية التي أججت الأزمة واستمرت في تهديد استقرار المجتمع.

إعلان

ويضيف قاج في حديثه للجزيرة نت أن “معسكرات حماية المدنيين وزعت السكان على أساس مجتمعي، كما أن الاتفاق السياسي بين الحكومة والمعارضة لم يعالج الشرخ الاجتماعي الناتج عن الحرب، بل اقتصر على تقاسم السلطة والثروة، وبقي النازحون يشعرون بعدم الأمان رغم توقيع الاتفاق، فيما وفرت لهم المعسكرات مأوى وطعاما وماء وحماية واستقراراً أمنياً وهو ما عجزت عنه الحكومة”.

ويرى الناشط المدني جيمس لادو أن استمرار معسكرات الحماية يعكس عمق أزمة الثقة بين النازحين والحكومة وأجهزة الأمن المحلية، مبينا أنه رغم توقيع اتفاقيات السلام، لا يزال كثيرون مترددين في العودة إلى مناطقهم، خوفاً من هشاشة الضمانات الأمنية واستمرار النزاعات المحلية على الأرض والموارد، مما يجعل المعسكرات ملاذهم الآمن الوحيد.

ويشير لادو -في حديثه للجزيرة نت- إلى وجود أبعاد إنسانية واجتماعية جديدة لاستمرار بقاء هؤلاء المدنيين داخل معسكرات الحماية الأممية لأكثر من 10 أعوام وهي أن “هناك جيل كامل تلقى تعليمه داخل الأسوار، حيث نشأ أطفال لا يعرفون سوى بيئة المخيم وما فيها من ضغوط اقتصادية وصحية نتيجة الاعتماد على المساعدات الإنسانية المحدودة، وتوترات مجتمعية بين سكان المخيمات والمجتمعات المضيفة خارجها”.

قيام أفراد البعثة الأممية بفتح المجاري داخل المعسكر في فصل الخريف (أرشيف البعثة الأممية)
أفراد البعثة الأممية يفتحون المجاري داخل المعسكر في فصل الخريف (أرشيف البعثة الأممية)

أزمة النازحين

ويشير الكاتب الصحفي كواجوك لاكو إلى أن أزمة النازحين في معسكرات جنوب السودان بعد اندلاع الأحداث عام 2013 تمثل نقطة سوداء في ملف الحرب الأهلية والصراعات المستمرة، موضحا أنه في البداية، كان الفارون من مناطق مثل بانتيو وبور وملكال وجوبا، من العرقيات المتورطة في النزاع، يعتقدون أن الأزمة لن تطول وأن النزوح سيكون مؤقتاً، إلا أن مرور أكثر من 10 سنوات على اندلاع الحرب جعل هؤلاء يواجهون واقعاً مريراً، إذ تحولت المعسكرات من مأوى طارئ إلى إقامة دائمة، مع استمرار غياب الأمن والضمانات للعودة إلى ديارهم.

ويضيف لاكو في تصريحات للجزيرة نت أن “النازحين، بمن فيهم من التحق بهم خلال تجدد القتال بين أطراف الحركة الشعبية، لا يمكنهم التفكير في العودة إلى منازلهم بسبب استمرار الصراعات، خصوصاً في ولايتي أعالي النيل والوحدة، فقد عاش معظمهم أهوال الحرب وفقدوا بيوتهم التي استولى عليها خصومهم العرقيون، خاصة في مناطق مثل ملكال وجوبا، إذ ما زال الكثيرون يتحدثون عن مصير منازلهم المدمرة، بينما يظل احتمال تجدد الصراع قائماً في الأفق”.

يذكر أن جنوب السودان شهد حربا أهلية دامية في كانون الأول/كانون الأول 2013، إثر خلاف سياسي بين الرئيس سلفا كير ونائبه السابق رياك مشار، تحوّل سريعًا إلى صراع قبلي، مما أدى إلى مقتل عشرات الآلاف ونزوح الملايين، وقد عمّقت المواجهات الانقسامات السياسية والعرقية، وسط انهيار مؤسسات الدولة وتفاقم الأزمة الإنسانية في بلد حديث الاستقلال يعاني من صراع على السلطة والثروة، خاصة في المناطق النفطية.

أهالي مخيم جنين بين النزوح والقهر.. عندما تُسلب حتى المقابر

أهالي مخيم جنين بين النزوح والقهر.. عندما تُسلب حتى المقابر

جنين- لم تستطع والدة الشهيد وئام حنون أن تُكمل حديثها عن منزلها الذي هُجرت منه في مخيم جنين شمال الضفة الغربية، ولا عن شوقها للعودة إليه. خانتها الكلمات وهي تصف حنينها لزيارة قبر نجلها الشهيد، والجلوس بقربه والتحدث إليه.

ففي المخيم الذي أُفرغ من سكانه وتحول إلى ثكنة عسكرية يطوقها جيش الاحتلال بـ3 بوابات حديدية تعزله عن محيطه، بقيت المقبرة شاهدة على الفقد، والمكان الأكثر ألما وحضورا في ذاكرة الأهالي النازحين.

وإضافة لرمزية المقبرة ومكانتها في تاريخ نضال المخيم، كانت أول مكان تصله أقدام الزائرين في الأعياد والمناسبات أيضا.

وكان آخر عهد أم وئام بقبر نجلها الشهيد في يوم عيد الفطر الماضي، حين تمكنت من زيارته للحظات قبل أن تقتحم قوات الاحتلال المكان وتفرض إخلاءه بالقوة.

وقالت “لم تمضِ سوى دقائق على وصولي للمقبرة برفقة عدد من ذوي الشهداء صباح العيد، قاصدين معايدة أحبتنا وقراءة الفاتحة على أرواحهم، حتى باغتنا جيش الاحتلال بإطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي في الهواء لإجبارنا على الرحيل. ومنذ ذلك اليوم بقيت حسرة حرماني من رؤية قبر وئام جاثمة على صدري”.

وتضيف أم وئام في حديثها للجزيرة نت “على مدى الأشهر السبعة الماضية -وهو تاريخ بدء عملية “السور الحديدي” الإسرائيلية في مخيم جنين- حُرم الأهالي من زيارة قبور أحبائهم وتفقدها، في حين بقيت محاولات النازحين للوصول إلى المقبرة بعد إعلان الاحتلال عن سماح مؤقت للدخول إلى أطراف المخيم معلقة”.

وتصف المقبرة بعد سيطرة جنود الاحتلال عليها، فتقول إنها “تحولت إلى مكان مهمل وغير نظيف، شواهد القبور تكسوها الأعشاب اليابسة”، وتضيف “من حقنا كفاقدين أن ندخل المقبرة ونعيد تنظيفها والاعتناء بها”.

الدفن بعد التنسيق

ومنذ شهور، لم يعد بمقدور كثيرين حضور دفن الشهداء وأقاربهم في المقبرة، وغابت المشاهد المهيبة التي دأب عليها أهالي جنين على مر السنين، إذ كانت مواكب التشييع تجوب شوارع المدينة وصولا إلى مقبرة المخيم، حيث يجتمع المئات للمشاركة في حفر القبور وإتمام مراسم الدفن، في تقليد جسد دوما روح الكفاح والصمود في المخيم.

إعلان

وتمكنت عائلة الشهيد يوسف العامر، الذي اغتاله الاحتلال الإسرائيلي في بلدة قباطية جنوب جنين بعد أن هدم الغرفة الزراعية التي كان يتحصن بها أواخر تموز/تموز الماضي، من الحصول على تنسيق خاص لدفنه في مقبرة شهداء المخيم، على أن يقتصر الحضور على 10 من أقاربه من الدرجة الأولى فقط.

وفي حديثه مع الجزيرة نت قال عماد العامر والد الشهيد يوسف “إضافة لألم فقد ابني كان ألم دفنه بهذه الطريقة قاسيا علينا، وكنت أرى جيش الاحتلال يراقبنا من بعيد، إلى أن انتهت مراسم الدفن”.

ويضيف “يوسف عاش مقاوما، ولم يقبل الأهالي أن يشيع بصمت كامل، حملوه على الأكتاف حتى وصلنا إلى محيط مستشفى جنين الحكومي، وهناك منعنا من دخول المخيم إلى حين وضع الجثمان في سيارة الإسعاف وسُمح بدخول أقربائه فقط”.

قبور شهداء في مقبرة مخيم جنين التي حرم الاحتلال الاهالي من زيارتها
أهالي جنين يقولون إن الاحتلال تعمد إبعادهم عن كل ما ألفوه في حياتهم، ومن بين ذلك زيارة المقبرة (الجزيرة)

مفارقة مؤلمة

وخلال تغطية أحد الصحفيين لدفن الشهيد يوسف العامر عبر خاصية البث المباشر طلبت أم وئام حنون منه أن يوجه الكاميرا باتجاه قبر نجلها وئام لتراه وتطمئن عليه.

ويمثّل شوق أهالي مخيم جنين لمقبرة الشهداء امتدادا لحنينهم إلى كل تفاصيل حياتهم التي سُلبت منهم وأُجبروا على الرحيل عنها.

ويؤكد العامر أن “وجود الاحتلال داخل المخيم أحدث شرخا عميقا في قلوب سكانه، فالمخيم ارتبط اسمه لعقود كمركز للمقاومة في الضفة، وظل يتردد صداه في وجدان الفلسطينيين بما شهده من معارك كبرى، وعلى رأسها معركة عام 2002 الشهيرة التي ارتقى فيها قادة بارزون مثل محمود طوالبة، وشادي النوباني”.

ويتابع قائلا “نحن عائلة كبيرة تضم ما يقارب 150 فردا، كنا نلتقي بشكل شبه يومي، لكن منذ 7 أشهر تفرق شملنا بين قرى جنين ووسط المدينة، أقربنا اليوم يبعد مسكنه نحو 25 كيلومترا عن منزله في المخيم، وهذا واقع قاس وصعب للغاية”.

شوق للشهداء

ويشير أهالي جنين إلى أن الاحتلال تعمد إبعادهم عن كل ما ألفوه خلال سنوات حياتهم، وشمل ذلك الأموات، بما يعني انتزاعهم من كينونتهم، ولم يعد الأمر مجرد تغيير جغرافي للمخيم، بل امتد ليطال انتماءهم للمكان وروابطهم الاجتماعية وهويتهم.

ويرى العامر -الذي دفن والدته بنفس الطريقة في مقبرة شهداء المخيم قبل 5 أيام- أن جنازتها كانت أصعب ألما على نفسه، إذ تعود والدته إلى عائلة الزبيدي المعروفة في جنين، وعرفها جميع السكان بأنها جدة الشهداء، ودفنت بوجود 10 من أبنائها وأحفادها فقط، بينما لو كانت الظروف كما في السابق، لحضر جنازتها الآلاف من أهالي جنين وعموم الضفة الغربية.

ويضيف العامر “مهما تحدثت، لن أستطيع وصف معاناة النازحين، لا توجد كلمات تعبر عن شعوري حين أمر بمحيط منزلي على أطراف المخيم بشكل شبه يومي ولا أستطيع دخوله. حديقته التي كنت أجلس فيها مع جيراني وعائلتي كل يوم لم يتبقَ منها شيء..”.

يصمت ويتابع “لا حروف تصف العجز الذي نشعره بعد خسارتنا كل شيء، أولادنا، منازلنا، ممتلكاتنا، ذكرياتنا، باختصار كل شيء”.

ويؤكد أبو أحمد السعدي، أحد النازحين من مخيم جنين، كلام العامر، قائلا للجزيرة نت “الاحتلال استكثر علينا حتى القبور، هم لا يريدوننا أحياء ولا حتى أموات، مشكلة النزوح وضنك العيش وصعوبة الحياة في السكنات منذ 7 أشهر في كفة، وشوقنا للشهداء وزيارتهم في كفة أخرى”.

إعلان

وخلال اجتياح المخيم العام الماضي، والذي استمر 10 أيام، هدمت جرافات الاحتلال أسوار مقبرة المخيم، ومزق جنود الاحتلال عشرات الصور المعلقة لشهداء ومقاومين من كتيبة جنين، بينهم أطفال ومسنون قضوا في اقتحامات الجيش قبل السابع من تشرين الأول/تشرين الأول 2023.

ومنذ عملية السور الحديدي، قتلت إسرائيل 45 فلسطينيا في محافظة جنين، بينهم 11 من المخيم، تم دفن 9 منهم بعد حصول أهاليهم على تنسيق من الجيش الإسرائيلي، في حين احتجزت سلطات الاحتلال جثامين 3 آخرين.