إدلب- شهدت قرية اليعقوبية بريف مدينة جسر الشغور غرب إدلب، أمس الأحد، تدشين كنيسة القديسة آنا، برئاسة نيافة المطران ماكار أشكاريان، مطران الأرمن الأرثوذكس لأبرشية حلب وتوابعها، بعد سنوات من الهدم والخراب الذي أصاب قسما كبيرا منها نتيجة هزة أرضية في عام 2020.
يُقام الاحتفال بعيد القديسة آنا بشكل تقليدي في آخر أسبوع من شهر آب/آب من كل سنة، ويُعد من أبرز الأعياد الدينية لدى أبناء الطائفة الأرمنية الأرثوذكسية في سوريا.
وعاد الاحتفال بالقداس من جديد إلى إدلب بعد غياب دام 14 عاما، بالتزامن مع توافد الحجاج الأرمن من مختلف المدن السورية من حلب، واللاذقية، والحسكة، ودمشق وغيرها من المناطق، إلى الكنيسة.
مسيحيون يتوافدون إلى كنيسة القديسة آنا (الجزيرة)
لم الشمل
وقال وكيل مطران أبرشية حلب وتوابعها الأب ليفونيا غيان للجزيرة نت إنه “بعد 14 سنة عدنا إلى القرية التي ولدتُ بها مع عائلاتنا والأهل، لنشهد ونشارك في مراسم عيد القديسة آنا في الكنيسة التي تأسست عام 1320 للميلاد”.
ولفت إلى أنه بعد تحرير سوريا من النظام السابق بدأت الكثير من الأسر بالعودة، وشارك في هذا العيد المسيحيون من حلب واللاذقية والقامشلي والحسكة وكسب ودمشق ومن جميع المحافظات السورية، مما سمح للأهالي باللقاء مع بعضهم البعض من جديد ولمّ شملهم بعد غياب لسنوات.
احتفالات في مدخل الكنيسة الغربي (الجزيرة)
وأوضح الأب غيان أن الكنيسة الحالية أعيد بناؤها عام 2020 عقب الهزة الأرضية التي ضربت المنطقة “بمبادرة محبة وأخوة من رهبنة الفرنسيسكان، لتكون رمزا للصمود والتجذر والإيمان”، وتبادل الأهالي التهاني خلال طقوس التدشين والعيد، وتعانقوا بعد سنوات من الغياب والتهجير، في مشهد حمل الكثير من الدفء الإنساني والفرح الروحي.
وختم بتوجيه رسالة دعاء لجميع السوريين، قائلا “دعاؤنا أن يتذكر الشعب السوري دائما أنهم إخوة، عشنا معا وسنبقى كذلك، علينا أن نستعيد الوعي الذي يغيب أحيانا عن قلوبنا وعقولنا، وأن نتذكر أن ما يجمعنا هو أكبر من كل ما يفرّقنا، رسالتنا اليوم رسالة محبة، ووحدة، وسلام لكل أبناء البلاد”.
إجراء مراسم القداس في الكنيسة (الجزيرة)
احتفالات قديمة
بدورها، قالت آني خيجو القادمة من مدينة حلب للمشاركة في العيد للجزيرة نت إنه “في نهاية شهر آب/آب من كل عام نحتفل في كنيسة القديسة آنا التي يحبها جميع أهل المنطقة، وهذه الاحتفالات هي استمرار لما فعله أجدادنا قبلنا، ونقضي فيها الأسبوع الأخير من هذا الشهر”.
إعلان
وأضافت أن قرية اليعقوبية تتربع على تلة صغيرة في بلدية القنية، و”ما يميزها هو مزار هذه الكنيسة التي ذكرت بالتاريخ منذ عام 1320، وتمت إعادة ترميمها سنة 1914 للميلاد”.
جزء كبير من الكنيسة تدمر بفعل زلزال ضرب المنطقة عام 2020 (الجزيرة)
وأكدت خيجو أن “الفرحة اليوم لا يمكن أن توصف بعد انقطاع دام أكثر من 14 عاما، لأننا عدنا ونجتمع مع الأهل والأحباء والأقارب والأصدقاء بعد غياب طويل عن هذه القرية التي تتمتع بالجمال الساحر بشجرها وتلالها وقدمها بالتاريخ”. وأوضحت أن الكنيسة يأتي إليها الزوار من جميع أنحاء سوريا والعالم.
من جانبه، قطع جورج مسافة أكثر من 100 كيلومتر من مدينة حلب ليحضر طقوس الافتتاح والعيد بعد غياب لأكثر من 10 سنوات، ويوضح للجزيرة نت أنه فور تحرير سوريا استطاع القدوم للمشاركة.
فرقة الكشافة النحاسية تشارك في مراسم افتتاح الكنيسة (الجزيرة)
فرحة بعد حرمان
أما زوئبيك سلوم حداد، من قرية اليعقوبية، فقالت للجزيرة نت إن “الشعب السوري يشتاق لهذا اليوم ليأتي لقريتنا ليزور القديسة آنا، بمشاركة الخواجات والمطران من جميع الطوائف”.
وأضافت “نقوم باستقبالهم بالورد والزمر والطبل ونذبح الذبائح ونطبخ الهريسة وهي أكلة خاصة بهذا اليوم مكونة من اللحم والحنطة، ويأكل منها كل من يحضر هذا الاحتفال بعد مباركتها من المطران في الكنيسة”.
وتستقبل زوئبيك مع أهالي القرية كل القادمين من باقي المحافظات بحفاوة كبيرة تعبيرا عن الحب في هذا الأسبوع الخاص بعيد القديسة آنا والذي يبدأ يوم الأحد من نهاية كل شهر آب/آب ويستمر لمدة أسبوع.
بعض السوريين قطعوا مسافات طويلة لحضور طقوس الافتتاح (الجزيرة)
من ناحيته، صرح بدرس قطنيان الذي جاء من مدينة اللاذقية للجزيرة نت بأنه “بعد 14 عاما من الحرمان من زيارة القرية، استطعنا بعد التحرير القدوم واستعادة الأجواء القديمة المليئة بالمحبة والسلام والتآلف والتعاطف”.
ووجّه رسالة للشعب السوري في الداخل والخارج، قائلا إن “العودة أصبحت ضرورية بعد التحرير من أجل إعادة بناء سوريا وإعمارها معا للنهوض ببلدنا الحبيب ليكون في قمة التطور والازدهار”.
تشهد الضفة الغربية موجة جديدة من الاستيطان الإسرائيلي تحت اسم “فتيات التلال”، وهي مجموعات نسائية إسرائيلية تروج لما يوصف بـ”الاستيطان الناعم”.
وتختلف هذه الموجة عن الاستيطان التقليدي في مظهرها الخارجي، حيث تعتمد على فتيات يتركن التعليم والحياة المدنية ليعشن في خيام ومساكن بدائية على قمم الجبال، بدلا من الاعتماد على الأسلحة والدوريات العسكرية.
وبرزت هذه الظاهرة كامتداد طبيعي لحركة “فتية التلال” التي أسسها مستوطنون متطرفون عام 1998 بتشجيع مباشر من وزير الأمن الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون.
غير أن النسخة النسائية تقدم الاستيطان بوجه مغاير يروج لهذا النمط المصطنع باعتباره تضحية من أجل “الأرض الموعودة”، بينما يواصل في جوهره سلب الأرض من الفلسطينيين وترسيخ السيطرة الإسرائيلية على مساحات واسعة من الضفة الغربية.
تتبنى “فتيات التلال” عقيدة أيديولوجية تهدف للوصول إلى ما يسمينه “إسرائيل الكاملة” أو “إسرائيل الكبرى”، التي لا تقتصر جغرافيتها على حدود فلسطين التاريخية، بل تمتد لتشمل مصر والأردن ولبنان وسوريا والعراق وشبه الجزيرة العربية.
وتكشف شهادات المستوطنات أنفسهن عن هذه الأهداف الواسعة، حيث أوضحت إحداهن أن المشروع يشمل “كل هذه المنطقة” في إشارة واضحة للمنطقة العربية برمتها.
ووفق هذه الرؤية الأيديولوجية، تعتمد هذه المجموعات على أسلوب حياة يقوم على الرعي والتنقل والعزلة عن المجتمع، مع قطيعة مع مظاهر التمدن، كوسيلة إستراتيجية لترسيخ السيطرة على أراض فلسطينية خاصة وتحويلها إلى بؤر استيطانية جديدة.
ويهدف هذا النهج المدروس لتحويل نقاط رعوية بدائية إلى مستوطنات إسرائيلية متكاملة، بغض النظر عن قانونيتها أو انتهاكها للقانون الدولي.
وتبرز بؤرتا “ماعوز إستير” و”أور أهوفيا” شمال شرق رام الله كأوضح النماذج العملية لنشاط “فتيات التلال” وآلية عملهن الممنهجة.
توسع استثنائي
فقد أقيمت “ماعوز إستير” قبل نحو 17 عاماً كنقطة استيطانية شبابية صغيرة، لكنها تحولت عبر مراحل مدروسة إلى ما يشبه مستوطنة متكاملة تسكنها اليوم 17 عائلة ويعيش فيها أكثر من 50 طفلاً.
إعلان
وشهدت هذه البؤرة توسعا استثنائيا خلال أسابيع قليلة، لتصبح مساحتها ضعف مساحة مستوطنة “كوخاف هشاحر” المجاورة التي تبلغ نحو 950 دونماً.
ويأتي هذا التوسع المتسارع بعد 6 سنوات فقط على عودة مجموعات من المستوطنات الإسرائيليات لإحياء تلك البؤرة، في حين تشهد البؤرة حاليا أعمال بناء منازل جديدة للتحضير لاستقبال مزيد من السكان والعائلات.
في المقابل، أسست “فتيات التلال” بؤرة “أور أهوفيا” عام 2023 على تلال قريبة من مستوطنة عوفرا غير القانونية، في خطوة تكشف عن إستراتيجية التوسع المنظم.
وتسعى هذه البؤر المترابطة لتحويل المنطقة بأكملها إلى تجمع استيطاني كبير يستوعب آلاف العائلات في المستقبل، من خلال ربط أكثر من 20 بؤرة بمستوطنة عوفرا الأم، مما يخلق شبكة استيطانية متكاملة.
دعاية رقمية
وتدرك “فتيات التلال” أهمية العصر الرقمي، فتعتمد بشكل كبير على منصات التواصل الاجتماعي لاستقطاب المزيد من الفتيات والعائلات للسكن في البؤر وتوسيعها.
وتنشر حسابات البؤر الاستيطانية مقاطع فيديو مدروسة تروج “لإنجازاتها” وتشجع على الاستيطان، مع استخدام شعارات جذابة مثل “نصنع النصر” و”بعد 5 سنوات تستطيعون أنتم أيضا أن تؤسسوا مستوطنة”.
وتتبنى هذه المجموعات إستراتيجية إعلامية ذكية لتحسين صورة الاستيطان، حيث نشرت محتوى يدّعي كسر الصور النمطية، وتزعم فيه المستوطنات أنهن لا يقتلن العرب ولا يضربن أصحاب الأرض، بل يطبخن وينشرن الغسيل كأي نساء عاديات.
ويحاول هذا الخطاب المحسوب تصوير الاستيطان كمشروع عائلي طبيعي وبيئة اجتماعية قابلة للنمو، بعيدا عن صور العنف والاعتداءات المرتبطة تاريخيا بالمستوطنين، في محاولة لإضفاء الشرعية على مشاريعهن الاستيطانية.
شرعنة قانونية
وتحظى هذه البؤر بدعم حكومي وأمني واضح وشامل، تجلى بشكل رسمي في زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية لمستوطنة “عوفرا” المجاورة لبؤرة “أور أهوفيا” للاحتفال بمرور 50 عاما على إقامتها.
وأكد نتنياهو خلال هذه الزيارة الرسمية على ما وصفه بـ”الجذور التاريخية” للمستوطنات في المنطقة، مما يعطي غطاءً سياسياً عالي المستوى لهذه الأنشطة الاستيطانية.
وعلى المستوى التشريعي، تسعى حكومة الاحتلال جاهدة لتوفير غطاء قانوني شامل للبؤر الاستيطانية عبر الكنيست، حيث أقرت الهيئة العامة بالقراءة التمهيدية مشروع قانون يهدف لإلغاء ما يسمى “التمييز” والسماح لليهود بشراء الأراضي في الضفة الغربية بحرية تامة.
نص المشروع
وينص هذا المشروع الإستراتيجي على حماية عمليات الشراء حتى في حال أي اتفاقيات سياسية مستقبلية، مما يعني عمليا ترسيخ الاستيطان كأمر واقع لا رجعة فيه.
وعلى الصعيد اللوجستي، تزود جميع البؤر بالماء والكهرباء وشبكة طرق خاصة، إضافة لتأمين الحماية العسكرية اللازمة من قبل الجيش الإسرائيلي والإدارة المدنية، وفق ما تؤكده منظمات حقوقية إسرائيلية.
ورغم محاولات الشرطة الإسرائيلية إظهار التزامها بالقانون من خلال تفكيك بعض البؤر أمام الكاميرات، وصف نشطاء حقوقيون هذه العمليات بأنها “مسرحية متفق عليها” و”لعبة مدروسة لذر الرماد في العيون”.
إعلان
ويوضح مدير البحث الميداني في منظمة “بتسيلم” الحقوقية أن معظم البؤر مدعومة مباشرة من قبل الدولة والجيش، وأن عمليات الهدم تتم بشكل شكلي حيث تعود الفتيات لإعادة البناء فور مغادرة قوات الشرطة الموقع.
وفي المقابل، أدانت وزارة الخارجية الفلسطينية والأمم المتحدة هذه المآذارات بقوة، مؤكدة أن جميع المستوطنات تتناقض مع القانون الدولي وتقوض بشكل منهجي إمكانية إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة.
في الأول من أيلول/ أيلول 1969 أطاح انقلاب عسكري بقيادة معمر القذافي بالنظام الملكي في ليبيا بينما كان الملك محمد إدريس السنوسي يتلقى العلاج في تركيا، فمن هو محمد إدريس السنوسي؟
تقول دائرة المعارف البريطانية إن محمد إدريس السنوسي أو إدريس الأول وُلد في 13 آذار/ آذار من عام 1890 في جغبوب في برقة بليبيا، وتوفي في 25 أيار/ آيار من عام 1983 في العاصمة المصرية القاهرة، وكان أول ملك لليبيا عندما نالت استقلالها عام 1951.
إعلان استقلال ليبيا وتتويج الملك السنوسي 1951
“ليبيا إدريس”.. حكاية شابة كان اسمها ممنوعا في عهد القذافي
البدايات والاستعمار الإيطالي
ترعرع محمد إدريس المهدي السنوسي في جغبوب، المعقل الروحي للطريقة السنوسية، وهو الابن الأكبر لمحمد المهدي السنوسي وحفيد مؤسس الطريقة الإمام محمد بن علي السنوسي.
ويقول الكاتب علي عبد اللطيف حميدة في كتاب “المجتمع والدولة والاستعمار في ليبيا” إن السنوسي نشأ في بيئة دينية متأثرة بالتصوف والإصلاح الإسلامي، حيث كان للسنوسية دور كبير في نشر الدعوة والتعليم الديني في الصحراء الكبرى وربط القبائل الليبية بروابط دينية واجتماعية وثيقة.
ومنذ صغره، تشرّب إدريس قيم الزهد والالتزام الديني والانضباط التي ميّزت رجال الدعوة السنوسية، وهو ما هيأه لاحقاً لقيادة الحركة في مرحلة دقيقة من تاريخ ليبيا.
وفي عام 1902، توفي الأب لكن الأبن لم يتول الزعامة مباشرة لأنه كان صغيراً، فقد انتقلت زعامة الطريقة أولاً إلى ابن عمه، أحمد الشريف.
وبعد أن تولى إدريس القيادة بمفرده بعد عام 1916، كانت أول مشكلة واجهها هي التعامل مع الإيطاليين، الذين غزوا ليبيا في عام 1911 في محاولة لإنشاء إمبراطورية شمال أفريقية، لكنهم لم يتمكنوا من بسط سلطتهم إلى ما وراء الساحل.
وتقول دائرة المعارف البريطانية إنه بعد احتلال الإيطاليين لليبيا عام 1911 واجهوا مقاومة طويلة الأمد من قبل السنوسيين في برقة، وهي المقاومة التي حرمتهم من السيطرة التامة على البلاد حتى عام 1931، عندما أسروا وأعدموا قائد المقاومة السنوسية المسلحة لأكثر من 20 عاما عمر المختار.
وقد شهدت ليبيا عقب الاحتلال الإيطالي عددا من المعارك الكبيرة بين المقاومة بقيادة المختار والقوات الإيطالية، منها معركة درنة فى أيار/آيار عام 1913 التي دامت يومين، وانتهت بمقتل 70 جندياً إيطالياً وإصابة نحو 400 آخرين، ومعركة بوشمال عند عين ماره فى تشرين الأول/تشرين الأول عام 1913، فضلا عن معارك أم شخنب وشلظيمة والزويتينة في شباط/شباط عام، 1914 والتي كان يتنقل خلالها المختار بين جبهات القتال ويقود المعارك.
وكان إدريس السنوسي رغم صغر سنه في عام 1911، مرجعية معنوية للمجاهدين، غير أن موقعه كزعيم ديني جعله أكثر ميلاً للتفاوض أحياناً من خوض المعارك المباشرة، وهو ما ظهر في اتفاقياته مع الإيطاليين لاحقاً.
تولى عمر المختار قيادة المقاومة المسلحة ضد الإيطاليين
حقائق ومعلومات عن ليبيا
ليبيا: التاريخ الاستعماري الايطالي ملطخ بالدماء
وبموجب صلح عكرمة في عام 1917 ضمن إدريس وقف إطلاق النار، وبالتالي تأكيد سلطته في برقة الداخلية، وأُبرمت اتفاقية أخرى عام 1919، وأُنشئ بموجبها برلمان برقة، وحصل إدريس وأتباعه على منحة مالية.
وخلال سنوات الحرب العالمية الأولى، تحولت السنوسية إلى قوة إقليمية بعد أن دخلت في تحالف مع الدولة العثمانية وألمانيا ضد بريطانيا وإيطاليا، ولعب إدريس السنوسي دوراً سياسياً مهماً في إدارة هذا الوضع، خاصة وأن السنوسيين دخلوا في مواجهة مع القوات البريطانية في مصر والسودان.
لكن مع نهاية الحرب، أدرك إدريس أن موازين القوى العالمية قد تغيرت وأن الاستعمار الأوروبي أصبح واقعاً لا يمكن هزيمته بسهولة، وهو ما دفعه لاحقاً إلى انتهاج سياسة أكثر براغماتية مع إيطاليا وبريطانيا.
وفي عام 1920، وقّع إدريس معاهدات مع الإيطاليين اعترفت به أميراً على برقة، وهو ما أثار جدلاً واسعاً بين الوطنيين الليبيين، فالبعض اعتبر ذلك تنازلاً، فيما رأى آخرون أنها خطوة ذكية لحماية برقة والحفاظ على نوع من الحكم الذاتي.
وبالفعل، استطاع إدريس أن يؤسس نظاماً إدارياً منظماً في برقة، مستنداً إلى المؤسسات السنوسية والتقاليد القبلية، مما جعل برقة تتمتع بشيء من الاستقرار مقارنة ببقية ليبيا التي كانت ترزح تحت الاحتلال المباشر. وذلك بحسب الكاتب محمد الطيب الأشهب في “كتابه السنوسية وحركة التحرر في ليبيا”.
الفاشية والحرب العالمية الثانية
غير أن هذا التوازن لم يدم طويلاً، فمع صعود الفاشية في إيطاليا بقيادة موسوليني وإحكام قبضته على الحكم في تشرين الأول/ تشرين الأول من عام 1922 انهارت التفاهمات السابقة، وشنّ الإيطاليون حرباً شرسة على المقاومة الليبية، خاصة في برقة بقيادة عمر المختار.
وفي هذه المرحلة، غادر إدريس السنوسي إلى مصر عام 1923، ليعيش في المنفى لسنوات طويلة، ولكنه ظل يمثل القيادة السياسية، فيما تولى عمر المختار قيادة الكفاح المسلح، وهكذا توزعت أدوار القيادة بين المنفى والميدان لكن الهدف ظل واحداً وهو مقاومة الاستعمار.
وعلى الأرض في ليبيا، أرادت إيطاليا أن تمنع طريق الإمداد على المقاومة فاحتلت واحة جغبوب، لكن ذلك لم يحل دون تصاعد عمليات المقاومة، مما دفع موسولينى لتعيين بادوليو حاكما عسكريا لليبيا في كانون الثاني/كانون الثاني عام 1929.
موسوليني يلقي خطبة في حشد من مؤيديه في روما عام 1936
وقد أعرب بادوليو عن رغبته في التفاوض مع المختار الذي استجاب لذلك وتم إبرام هدنة مدتها شهرين.
وفي كتابه “عمر المختار شهيد الإسلام وأسد الصحراء” يقول محمد محمود إسماعيل، إن المختار نشر رسالة إلى الليبيين في ذلك الوقت قال فيها، إنه وافق على تلك الهدنة مقابل عودة الأمير محمد إدريس السنوسي، وانسحاب الإيطاليين من جغبوب، والعفو العام عن كل المعتقلين السياسيين وإطلاق سراحهم.
ولم ينفذ الإيطاليون بنود الهدنة، وقبل نهايتها طالبوا بتمديدها بحجة سفر بادوليو لروما، فمددت لعشرة أيام وعشرين يوما.
وهكذا عندما اكتشف عمر المختار أن الإيطاليين يريدون كسب الوقت صعد من عمليات المقاومة فعين موسولينى الجنرال غراتسيانى محل بادوليو ، وفى 1931 سقطت منطقة الكفرة بأيدي الإيطاليين الذين شددوا ضغوطهم على المختار.
وفي 11 أيلول / أيلول 1931 نجح الإيطاليون في أسر عمر المختار بعد معركة قتل فيها جواده وتحطمت نظارته.
وبعدها بثلاثة أيام في 14 أيلول / أيلول، وصل القائد الإيطالي غراتسياني إلى بنغازي، وأعلن على عجل انعقاد المحكمة الخاصة في 15 أيلول / أيلول 1931، وفي الساعة الخامسة مساء اليوم المحدد لمحاكمة عمر المختار صدر الحكم عليه بالإعدام شنقا.
موسوليني: قصة حليف هتلر الذي اعتبره الكثيرون “رجلا خارقا
أما في مصر، فقد أقام إدريس شبكة علاقات سياسية ودبلوماسية مهمة، إذ استطاع بصفته أمير برقة وزعيماً للسنوسية أن يكسب ود الحكومة المصرية والبريطانيين.
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية في عام 1939، عاد إلى الواجهة من جديد، حيث تحالف مع بريطانيا ضد إيطاليا وألمانيا، وقد شكّلت القوات السنوسية المعروفة بـ “الجيش السنوسي” جزءاً من قوات الحلفاء في شمال أفريقيا، ولعبت دوراً في المعارك ضد قوات المحور.
وقد عزز هذا التحالف مع بريطانيا موقع إدريس السياسي، ومهّد الطريق لاعتراف دولي به كزعيم ليبي بعد الحرب.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبحت ليبيا تحت إدارة بريطانية وفرنسية مؤقتة، وكانت قضية استقلالها مطروحة على طاولة الأمم المتحدة.
الاستقلال وقيام المملكة
الملك إدريس الأول ملك ليبيا يفتتح في بنغازي مراسم أول برلمان ليبي في آذار 1952
وقد برز آنذاك إدريس السنوسي باعتباره الشخصية الأقدر على جمع شتات الليبيين والتحدث باسمهم.
وبالفعل، استطاع أن يقود المسار التفاوضي في الأمم المتحدة، حيث صدر القرار التاريخي بمنح ليبيا استقلالها في 21 تشرين الثاني/ تشرين الثاني من عام 1949، لتصبح أول دولة في أفريقيا تنال استقلالها عبر الأمم المتحدة، وقد كان هذا الإنجاز ثمرة سنوات طويلة من العمل السياسي والدبلوماسي الذي قاده إدريس بحنكة وهدوء، وذلك بحسب ما ورد في كتاب “ليبيا بين الماضي والحاضر” لمحمد يوسف المقريف.
وفي 24 كانون الأول/ كانون الأول من عام 1951، أُعلن استقلال ليبيا رسمياً تحت اسم “المملكة الليبية المتحدة”، ونُصّب محمد إدريس السنوسي ملكاً عليها.
وبذلك، أصبح أول ملك لليبيا الحديثة، جامعاً بين ولاياتها الثلاث وهي برقة وطرابلس وفزان، وقد تميز حكمه منذ البداية بالسعي لتحقيق التوازن بين الأقاليم الثلاثة التي كانت مختلفة في تركيبتها السياسية والاجتماعية.
وتقول دائرة المعارف البريطانية إنه في عهد إدريس، كان للعرش نفوذٌ مُهيمنٌ على البرلمان وسيطرةٌ مُطلقةٌ على الجيش، وكانت الحكومة من سكان المدن الأثرياء وزعماء القبائل الأقوياء الذين تقاسموا المناصب الإدارية المهمة فيما بينهم ودعموا الملك.
وهذا الوضع، إلى جانب الدعم الخارجي من القوى الغربية والدعم العسكري الداخلي من رجال القبائل الموالين له، مكّن إدريس من السيطرة على شؤون الحكومة المركزية.
التحديات وانقلاب القذافي
وخلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، واجه الملك إدريس تحديات صعبة، أبرزها ضعف البنية الاقتصادية وندرة الموارد قبل اكتشاف النفط، فقد كانت ليبيا من أفقر دول العالم آنذاك، وتعتمد على المساعدات الدولية، خصوصاً البريطانية والأمريكية.
وقد سمح إدريس بإنشاء قواعد عسكرية أمريكية وبريطانية على الأراضي الليبية مقابل الدعم المالي، ورغم الانتقادات التي وُجّهت لهذه السياسة، إلا أنها ساعدت على استقرار المملكة حتى اكتشاف النفط في أواخر الخمسينيات.
ومع اكتشاف النفط، شهدت ليبيا تحولاً جذرياً، حيث تدفقت الثروات وبدأت مشاريع تنمية واسعة، غير أن ضعف المؤسسات، وانتشار الفساد في بعض الدوائر، إضافة إلى تمسك الملك بالأسلوب المحافظ في الحكم، جعلت الإصلاحات محدودة، كما أن تراجع صحة الملك وتقدمه في السن جعلاه أكثر اعتماداً على الدائرة الضيقة من مستشاريه، وهو ما خلق فجوة بين السلطة والشباب المتطلع إلى التغيير.
القذافي عقب انقلابه عام 1969
وفي السياسة الخارجية، تبنى الملك إدريس خطاً معتدلاً، معتمداً على التحالف مع الغرب، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، لكنه في الوقت نفسه لم يعارض التعاون مع العالم العربي، إذ انضمت ليبيا إلى جامعة الدول العربية وشاركت في بعض المواقف القومية، وإن كانت بحذر شديد، وقد جعل هذا الموقف المتوازن ليبيا في منأى عن الصراعات الإقليمية الكبرى، لكنه عرّضها أيضاً لانتقادات التيار القومي العربي الذي كان يرى في إدريس ملكاً محافظاً قريباً من الغرب أكثر من اللازم.
معمر القذافي: أين انتهى المطاف بأفراد أسرته؟
شجرة عائلة معمر القذافي
ومع هزيمة الجيوش العربية في حرب حزيران/ حزيران من عام 1967، تصاعدت الضغوط الداخلية على النظام الملكي في ليبيا، فقد خرجت المظاهرات في طرابلس وبنغازي مطالبة بإغلاق القواعد الأجنبية، وهو ما استجاب له الملك إدريس، إذ أعلن إلغاء القواعد البريطانية والأمريكية بحلول 1970، غير أن هذه الخطوة لم تكن كافية لاحتواء الغضب الشعبي، خاصة وأن المد القومي الناصري كان في أوجه.
وفي أيلول/أيلول 1969، بينما كان إدريس يتلقى العلاج في منتجع تركي، انقلب الجيش بقيادة معمر القذافي على الحكومة، فسافر إدريس أولًا إلى اليونان، ثم مُنح اللجوء السياسي في مصر.
وفي عام 1974، حوكم غيابيًا بتهم فساد، وأُدين، وظل في المنفى في القاهرة حتى وفاته في في 25 أيار/ آيار من عام 1983.
إرث متناقض
لقد رحل الملك إدريس السنوسي تاركاً إرثاً متناقضاً، فقد كان بطل الاستقلال ورمز توحيد ليبيا، لكنه في الوقت نفسه عُرف بحكم محافظ لم يحقق إصلاحات سياسية كبرى.
إن إرث إدريس يعكس التناقضات التي عاشتها ليبيا في القرن العشرين بين الدين والسياسة، وبين القبيلة والدولة، وبين الشرق والغرب، وبين المحافظة والتجديد، فقد جاء من بيئة سنوسية صوفية محافظة، لكنه تعامل ببراغماتية مع القوى الكبرى، وحكم في زمن يهيمن عليه الخطاب القومي الثوري، لكنه ظل متمسكاً بالاعتدال والتحالف مع الغرب.
وهكذا، بعد أكثر من نصف قرن على سقوط حكمه، ما زال اسم إدريس السنوسي يعود إلى النقاش كلما طرحت مسألة الشرعية والهوية الوطنية في ليبيا، فالبعض يستحضر ذكراه بوصفه رمزاً للاستقرار والوحدة، في مقابل عقود من الاضطرابات التي عاشتها ليبيا بعده، والبعض الآخر يعتبر أن عهده كان بداية ضياع فرصة بناء دولة حديثة قوية.
وبين هذا وذاك، تبقى سيرته شاهداً على مرحلة تأسيسية في تاريخ ليبيا، حين خرج بلد فقير ممزق من سيطرة الاستعمار ليولد كدولة مستقلة.
ولعل كل ذلك ما يجعل صورته معقدة، فهو ليس بطلاً ثورياً على شاكلة عبد الناصر، لكنه أيضاً لم يكن مجرد دمية بيد الاستعمار، بل رجل توازنات حاول أن يحمي بلاده بأدوات السياسة الواقعية.
في قلب مدينة لاهاي الهولندية، يقع مركز احتجاز فريد من نوعه يحظى باهتمام عالمي واسع، إنه مركز احتجاز الأمم المتحدة، وهو ليس مجرد سجن عادي، بل فضاء مخصص لاحتجاز شخصيات سياسية وعسكرية بارزة متهمة بجرائم دولية جسيمة، بانتظار محاكمتها أمام المحكمة الجنائية الدولية أو محاكم خاصة سابقة.
وفي السنوات الأخيرة، عاد المركز إلى دائرة الضوء عقب إيداع الرئيس الفلبيني السابق رودريغو دوتيرتي فيه، بعد اتهامه بارتكاب جرائم قتل خارج نطاق القانون في سياق الحرب ضد المخدرات.
في هذا التقرير، نستعرض بالتفصيل طبيعة المركز ومكانته، وظروفه التي تجمع بين الحداثة والصرامة، ثم نسلط الضوء على دوتيرتي كنزيل بارز اليوم.
تجمع أنصار دوتيرتي أمام سجن شيفينينغن الذي يضم مركز الاحتجاز التابع للأمم المتحدة (غيتي)
بين العدالة الدولية والتاريخ القضائي
يُعتبر مركز احتجاز الأمم المتحدة في لاهاي مؤسسة فريدة من نوعها تعكس طبيعة العدالة الدولية الحديثة، فمنذ تأسيسه عام 1993 داخل سجن شيفينينغن الهولندي، ارتبط المركز بمحاكمات جرائم الحرب الكبرى، خصوصا تلك المتعلقة بمحكمة يوغوسلافيا السابقة.
وهو اليوم جزء أساسي من منظومة المحكمة الجنائية الدولية، ويُدار تحت إشراف أمينة سر المحكمة بالتعاون مع سلطات السجون الهولندية. ويخضع المركز لمراقبة دورية من اللجنة الدولية للصليب الأحمر لضمان احترام المعايير الإنسانية المنصوص عليها في القانون الدولي.
ومن حيث المكان، يقع المركز في ضاحية شيفينينغن الساحلية التابعة لمدينة لاهاي، على مسافة قصيرة من المقرات القضائية الدولية. هذه الجغرافيا ليست صدفة، بل تعكس إرادة سياسية لتجميع المؤسسات القضائية وأماكن الاحتجاز في بيئة واحدة، تُسهل عمليات النقل والمرافقة الأمنية، وتؤكد الطابع الدولي للمدينة كمركز عالمي للعدالة.
لا يعتبر المركز مجرد سجن محلي تابع لهولندا، بل هو مساحة ذات وضع خاص تخضع لإدارة الأمم المتحدة. وهذا ما يمنحه طبيعة مزدوجة: فهو موجود ماديا داخل منشأة هولندية، لكنه قانونيا جزء من نظام العدالة الدولي.
إعلان
ووفقًا لتقرير لصحيفة نوس الهولندية بعنوان “سجن شيفينينغن، المنزل الجديد لدوتيرتي”، فإن القوانين المنظمة للمركز تقوم على مبدأ “أدنى قدر ممكن من القيود على النزلاء”، ما يعني أن الهدف ليس العقاب، في حد ذاته، بل ضمان الحبس الاحتياطي لحين انتهاء المحاكمة.
رادوفان كاراديتش (وسط) مثل أمام المحكمة الجنائية الدولية عام 2008 في لاهاي (غيتي)
وعلى مدى 3 عقود، مرّ عبر المركز عشرات النزلاء من ذوي الأسماء الثقيلة في التاريخ المعاصر، أبرزهم: رادوفان كاراديتش وراتكو ملاديتش، اللذان أُدينا بجرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية في البوسنة، كما احتُجز فيه قادة سياسيون وعسكريون من سيراليون ورواندا وكوسوفو.
ولم يكن هؤلاء النزلاء مجرد مجرمين عاديين، بل كانوا أشخاصا آذاروا السلطة على شعوب بأكملها، وارتبطت أسماؤهم بفظائع ما زال صداها يتردد في الذاكرة الإنسانية، وتندرج الجرائم التي يُحتجز بسببها هؤلاء السجناء ضمن أخطر ما يمكن أن يواجهه القضاء في عصرنا الحاضر:
جرائم الإبادة الجماعية.
جرائم الحرب.
الجرائم ضد الإنسانية.
هاشم ثاتشي (يمين) مثل أمام قاض في محكمة كوسوفو المتخصصة في لاهاي عام 2020 (أسوشيتد برس)
هذا التعدد في القضايا حوّل المركز إلى رمز بارز للعدالة الجنائية الدولية، إذ يلتقي بين جدرانه قادة سياسيون وعسكريون آذاروا نفوذا وحشيا خارج القانون، وتلاحقهم اتهامات بجرائم كبرى تمس الإنسانية جمعاء، لتؤكد أن القضاء الدولي لم يعد حبيس الجغرافيا الوطنية.
وكانت صحيفة ذا تايمز في تقريرها “فندق لاهاي في انتظار رودريغو دوتيرتي” سلطت الضوء على أن هذا السجن لا يستضيف سوى أعداد قليلة جدا في وقت واحد، ما يعكس طابعه الانتقائي.
ويضم حاليا 5 نزلاء فقط، بينهم الرئيس الفلبيني السابق رودريغو دوتيرتي، ورئيس كوسوفو السابق هاشم ثاتشي، إلى جانب 4 من قادة المليشيات الأفريقية.
ويسمح هذا العدد المحدود بإدارة دقيقة لكل سجين على حدة، ويُسهل توفير بيئة احتجاز تراعي المعايير الإنسانية إلى حد بعيد.
لكن ورغم الطابع “المثالي” للظروف المادية، فإن شهادة المدير السابق للمركز تيم مكفادن تشير إلى أن “الملل هو العدو الأكبر للنزلاء”، فالمشكلة لا تكمن في الطعام أو النظافة أو المرافق، بل في إدارة الوقت الطويل وانتظار المحاكمات التي قد تستغرق سنوات. وهكذا يجمع المركز بين صرامة العدالة، وإنسانية الظروف، وثقل الزمن الذي يُعتبر عقوبة بحد ذاته.
غرفة طبية في مركز احتجاز المحكمة الجنائية الدولية الواقع داخل سجن شيفينينغن (أسوشيتد برس)
“فندق لاهاي” بين الأسطورة والواقع
أطلقت بعض وسائل الإعلام على مركز احتجاز الأمم المتحدة لقب “فندق لاهاي” (Hague Hilton)، في إشارة إلى الظروف المريحة نسبيا مقارنة بالسجون التقليدية.
وقد تناولت صحيفتا ذا تايمز ونوس في تقريريهما السابقين، تفاصيل هذه البيئة، فوصفتا الزنازين والمرافق بما يجعلها قريبة من “غرف فندقية” أكثر منها زنازين تقليدية.
تبلغ مساحة الزنزانة الواحدة نحو 10 إلى 15 مترًا مربعًا، مجهزة بدورة مياه داخلية، ومزودة بجهاز تلفاز مع قنوات كابل وراديو، وهذا المستوى من الخصوصية والراحة ليس شائعًا في السجون الوطنية، ما يعزز صورة “الفندق”.
زنزانة قياسية في مركز الاحتجاز التابع للمحكمة الجنائية الدولية الواقع داخل مجمع سجن شيفينينغن بهولندا (أسوشيتد برس)
ويُتاح للنزيل استخدام المكتبة، وصالة رياضية صغيرة (جيم)، وغرف مخصصة للزيارات العائلية، بما في ذلك الزيارات الزوجية، وتوجد في الممرات ثلاجات وماكينات قهوة ومرافق بسيطة للطهي، وهو تفصيل أضافته ذا تايمز كأحد مظاهر “الحياة العادية” داخل المركز.
إعلان
وتبرز الحرية اليومية داخل المركز بوضوح، فبحسب نوس، تُفتح الأبواب معظم النهار، وتُغلق فقط أثناء استراحة الحراس أو في الليل، ما يسمح للسجناء بالتحرك داخل الجناح والتفاعل فيما بينهم.
وهذا يختلف عن السجون المغلقة التي تُقيّد النزلاء في زنازينهم معظم الوقت، ويعكس هذا النظام فلسفة قانونية تقوم على فكرة أن هؤلاء السجناء لم يدانوا بعد، بل هم متهمون قيد المحاكمة، ويجب أن تُصان كرامتهم الإنسانية.
لكن هل يمكن اعتبار المركز “فندقا” كما تصفه بعض وسائل الإعلام؟ الواقع أن هذا الوصف يحمل بعدا تهكميا؛ فصحيح أن الأثاث والمرافق تبدو مريحة، إلا أن المركز في جوهره يظل سجنا مسوَّرا يخضع فيه النزلاء لإجراءات أمنية دقيقة.
فحتى عمليات النقل إلى المحكمة لا تتم عبر مسار ثابت، بل تُغيَّر يوميا لتفادي أي مخاطر، وهو ما يكفي لتذكير السجناء بأنهم بعيدون كل البعد عن أجواء النزهة السياحية.
مساحة الزنزانة تبلغ نحو 10 إلى 15 مترًا مربعًا مزودة بجهاز تلفاز مع قنوات كابل وراديو (مركز الاحتجاز التابع للمحكمة الجنائية الدولية)
ومن حيث الطاقة الاستيعابية، يُقدَّر أن المركز قادر على احتضان حوالي 40 سجينا، لكن الأعداد الفعلية دائما أقل بكثير. ففي العام الجاري، 2025، لا يتجاوز العدد 5 نزلاء، وهو ما يعكس طبيعة القضايا التي يتعامل معها المركز فالمحاكمات قليلة، لكنها ذات رمزية عالية، تستهدف أفرادًا ذوي سلطة سياسية أو عسكرية.
ويسهل العدد المحدود على الإدارة توفير ظروف شبه شخصية، ويَمنح لكل نزيل هامشا أكبر من الخصوصية.
ويكمن الفارق الجوهري بين “الفندق” والسجن في عنصر الحرية، فالزنازين مهما كانت واسعة ومجهزة، تبقى مغلقة ليلا، ويحرم النزيل من أبسط ما يميز حياة الإنسان الحر مثل القدرة على الخروج متى شاء. وهذا ما يجعل شهادات مثل شهادة مكفادن ذات قيمة، فهي تكشف أن “الملل والانتظار الطويل” هما التحدي الحقيقي. فالمكان ليس جنة، بل هو سجن ناعم المظهر قاسٍ في جوهره.
ويخلص التقريران إلى أن صورة “فندق لاهاي” التي يروج لها الإعلام قد تعكس بعض الواقع، لكنها تتجاهل ما يعنيه الحرمان من الحرية، حتى لو كان في أرقى الظروف. وهذا التناقض هو ما يمنح المركز خصوصيته: فهو يجمع بين مظاهر الراحة ومضمون العقوبة.
صورة من سجن شيفينينغن التابع لمؤسسة لاهاي العقابية (الصحافة الأجنبية)
رودريغو دوتيرتي في انتظار المحاكمة
من بين النزلاء الحاليين لمركز احتجاز الأمم المتحدة، يبرز اسم الرئيس الفلبيني السابق رودريغو دوتيرتي، الذي شكّل وصوله إلى لاهاي حدثا عالميا، فقد اتهمته المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم قتل خارج نطاق القانون، في إطار الحرب الدامية ضد المخدرات التي شنها خلال فترة رئاسته بين 2016 و2022.
وكانت الحملة التي أطلقها دوتيرتي ضد المخدرات مثيرة للجدل منذ بدايتها، فقد تبنى خطابا متشددا، دعا فيه الشرطة علنًا إلى “قتل تجار المخدرات” وأكد أنه لن يلاحقهم قضائيا إذا فعلوا ذلك.
وقد ترجم هذا الخطاب على الأرض بآلاف من عمليات القتل التي وصفتها منظمات حقوقية بأنها “إعدامات خارج نطاق القانون”.
وتشير تقديرات مختلفة إلى مقتل ما بين 6 آلاف و20 ألف شخص، معظمهم من الفقراء وسكان الأحياء الهامشية.
وجود دوتيرتي في المركز يطرح مفارقة لافتة، رجل اعتاد أن يُآذار السلطة بلا قيود، لكنه أصبح اليوم يعيش في جناح يخضع لرقابة مشددة. ورغم الظروف المريحة نسبيا التي وصفها الإعلام، فإن الحرمان من الحرية يظل صادمًا لشخصية اعتادت الحركة والتأثير السياسي المباشر.
وتشير صحيفة ذا تايمز إلى أن دوتيرتي قد يجد نفسه النزيل الوحيد تقريبا في جناحه، بعد احتمال نقل بعض النزلاء الأفارقة، وهو ما يزيد من احتمال وضعه في عزلة غير مقصودة.
إعلان
يُبرز هذا الوضع الجانب النفسي للاحتجاز، فالمشكلة، كما قال المدير السابق مكفادن، ليست في الأكل أو النظافة، بل في مواجهة الزمن الطويل.
وبالنسبة لدوتيرتي، الذي اعتاد وتيرة سياسية صاخبة، قد يكون الملل والفراغ أصعب من أي عقوبة جسدية، وهنا تظهر أهمية البرامج التعليمية والترفيهية التي يوفرها المركز، فهي ليست مجرد رفاهية، بل آلية للحفاظ على السلامة العقلية للنزلاء.
وعلى المستوى القانوني، دوتيرتي ليس مدانًا بعد، فهو في مرحلة الاحتجاز على ذمة المحاكمة وهو ما ينسجم مع فلسفة المركز الذي يضمن معايير عالية لاحترام حقوق الإنسان حتى لأشخاص متهمين بجرائم خطيرة.
لكن مجرد وجود رئيس دولة سابق في هذا السجن يؤكد أن العدالة الدولية قادرة، ولو بشكل استثنائي، على إخضاع أصحاب السلطة للمساءلة، وهو ما يعكس الطابع العالمي المتزايد للمحكمة الجنائية الدولية، التي لم تعد تقتصر على قضايا محددة جغرافيا.
ويجسد أيضًا التوتر بين السيادة الوطنية والعدالة الدولية، فالكثير من أنصاره في الفلبين ما زالوا يعتبرون المحكمة غير شرعية، ويرون أن محاكمته تدخل خارجي في الشؤون الداخلية، لكن مجرد دخوله المركز يؤكد أن النظام القضائي الدولي بدأ يتغلب، ولو جزئيا، على هذه المقاومة.
أعلنت المملكة المتحدة إغلاق سفارتها في القاهرة مؤقتاً بعد أن أزالت السلطات المصرية الحواجز الأمنية أمام المبنى.
وأفادت وزارة الخارجية البريطانية بأن المبنى الرئيسي لسفارتها في حي جاردن سيتي بالعاصمة سيبقى مغلقاً “إلى أن يُستكمل تقييم أثر هذه التغييرات”، موضحة في ذات الوقت أن السفارة ستواصل أداء مهامها.
وأفادت أنباء أن القرار جاء عقب تزايد مطالب داخل مصر باتخاذ إجراءات رداً على طريقة تعامل المملكة المتحدة مع احتجاج نُظم في لندن في وقت سابق.
وذكرت صحيفة “ديلي نيوز إيجيبت” أن ناشطاً موالياً للحكومة المصرية أُعتُقل الأسبوع الماضي، وأُفرج عنه لاحقاً بعد تصديه، على ما يبدو، لمحتجّين أمام السفارة المصرية في المملكة المتحدة.
ونقلت التقارير أن وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، أجرى اتصالاً هاتفياً الأسبوع الماضي مع مستشار الأمن القومي البريطاني، جوناثان باول، وطلب توضيحاً بشأن واقعة الاعتقال.
كما صرّح عبد العاطي في وقت سابق بأن لمصر “حق الرد بالمثل” تجاه الدول التي “لم تضمن الحماية للسفارات المصرية وفق أحكام اتفاقية فيينا”.
وأثار هذا الاعتقال جدلاً في مصر، إذ حث بعض المسؤولين السياسيين السلطات المصرية على رفع الحواجز أمام سفارة المملكة المتحدة في القاهرة.
وعلمت بي بي سي أن الحكومة البريطانية تواصل الحوار مع المسؤولين المصريين بشأن تأمين السفارة في القاهرة وضمان سلامة موظفيها.
وخصصت وزارة الخارجية البريطانية أرقاماً هاتفية للتواصل مع قسم نصائح السفر إلى مصر على موقعها الإلكتروني لمن قد يحتاج مساعدة قنصلية، ولم توجه الصفحة نصيحة بتجنب السفر إلى القاهرة، لكنها حذرت من السفر إلى بعض المناطق الأخرى في مصر.
وكانت السلطات المصرية قد نصبت حواجز ضخمة في محيط سفارتي المملكة المتحدة والولايات المتحدة بالقاهرة منذ سنوات، وقال بعض المعارضين في مصر إن هذه الحواجز أدت إلى إعاقة حركة المرور في الشوارع المحيطة.
وسبق أن علّقت سفارة المملكة المتحدة في القاهرة نشاطها مؤقتاً في عامي 2013 و2014 لأسباب أمنية مختلفة.