قالت صحيفة لوتان إن سويسرا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تضمن لكل مواطن مكانا في ملجأ للطوارئ، وعدت ذلك إرثا مباشرا للحرب الباردة، كلف الدولة بناء 370 ألف ملجأ.
وأوضحت الصحيفة بأن قانونا اتحاديا فرض في أوائل ستينيات القرن الماضي، بناء هذه الملاجئ، سواء كانت مدمجة في مبان خاصة أو مبنية كمخابئ عامة، مشيرة إلى أن ذلك جعل البلاد مستعدة لحماية سكانها من أسوأ الاحتمالات في مواجهة عودة الحرب في أوروبا والتهديدات العالمية.
ونتيجة لذلك، ينتشر الآن ما يقرب من 370 ألف مبنى تحت الأرض في أنحاء البلاد، توفر ما مجموعه 1.3 مكان لكل مواطن -حسب الصحيفة- ولا تزال هذه السياسة ركيزة أساسية من ركائز الحماية المدنية، رغم تقليص أو تعديل بعض الملاجئ.
وأشارت الصحيفة إلى أن من بين أكثر المواقع إثارة للإعجاب ملجأ سونينبرغ في لوسيرن، وقد بني في نفق طريق في سبعينيات القرن الماضي، وكان يتسع لما يصل إلى 20 ألف شخص، بما يضمه من مهاجع وغرف قيادة ومستشفى ومطبخ، وحتى زنازين سجن.
وعلقت الصحيفة بأن الحماية المدنية في سويسرا تتجاوز الملاجئ حيث توجد المستشفيات تحت الأرض، وأستوديوهات الراديو الآمنة لضمان استمرارية الرعاية والمعلومات في أوقات الأزمات.
وخلصت الصحيفة إلى هذه المرافق تجذب اهتماما متجددا في هذه الفترة التي تجددت فيها الصراعات المسلحة في أوروبا وتزايدت التهديدات العالمية.
وكانت الملاجئ خلال الحرب الباردة، تبنى على نفقة الدول وتدار ضمن برامج الحماية المدنية، كجزء من إستراتيجية الاستعداد الشامل لأي هجوم نووي، ولم تكن من باب الرفاهية، بل هي بنية تحتية وطنية عامة، تشيد تحت المدارس والمباني الحكومية وحتى في الأحياء السكنية، وهي مفتوحة للجميع من دون تمييز طبقي أو مالي.
أما اليوم -كما أورد تقرير على موقع الجزيرة- فقد تبدل المشهد بالكامل، فلم تعد الملاجئ وسيلة لحماية السكان، بل تحولت إلى مشروعات استثمارية خاصة، تحاكي الفخامة وتستهدف الأثرياء وتديرها شركات خاصة تسوق لحلول بقاء مؤتمتة وفاخرة.
قال تقرير -نشرته صحيفة إندبندنت- إن هناك دعوات جديدة للتعاطف مع معاناة اللاجئين وتحسين معاملتهم مع حلول الذكرى العاشرة لوفاة الطفل السوري إيلان كردي، وسط تصاعد الاحتجاجات المناهضة للاجئين في أوروبا والمملكة المتحدة.
وأكدت الصحيفة أن صورة جثة الطفل السوري الصغير -التي جرفتها الأمواج إلى أحد شواطئ تركيا- أثارت صدمة عالمية، وتحولت إلى رمز لمعاناة المهاجرين والمخاطر القاتلة التي يواجهونها بحثا عن حياة أفضل.
وذكر التقرير -بقلم محرر الأخبار دانيال كين- أن شقيق إيلان ووالدته كانوا ضمن 5 أشخاص لقوا مصرعهم غرقا في الثاني من أيلول/أيلول 2015، عندما انقلب القارب الذي كان يقلهم من بودروم التركية إلى جزيرة كوس اليونانية.
أزمة مستمرة
ويأتي التقرير وسط تزايد القلق في المملكة المتحدة من قضية الهجرة، التي أصبحت في مقدمة أولويات البريطانيين وأدت إلى مظاهرات متفرقة في أنحاء البلاد الشهر الماضي، وفق الجزيرة.
وأشارت إندبندنت إلى أنها نشرت صورة إيلان على صفحاتها الرئيسية قبل 10 سنوات، وهو ما فجّر موجة تضامن عالمية وتدفّق تبرعات هائلة لدعم الجمعيات الإنسانية المعنية بأوضاع اللاجئين.
تجمُع على شاطئ غزة لتذكر مأساة إيلان الكردي، أيلول/أيلول 2015 (الأناضول)
وكانت عائلة إيلان -حسب إندبندنت- من آلاف العائلات التي اضطرت إلى الهرب خارج البلاد بعد الحرب السورية، التي اندلعت عام 2011 عقب احتجاجات مناهضة لنظام الرئيس المخلوع بشار الأسد.
ووفق ما نقله التقرير عن بيانات المنظمة الدولية للهجرة، توفي أكثر من 3700 مهاجر خلال محاولتهم عبور البحر المتوسط عام 2015 وحده.
وبعد مرور عقد على المأساة، تواصل منظمات حقوقية وإنسانية مطالبة الحكومات الأوروبية بإظهار مزيد من الرأفة والإنسانية تجاه المهاجرين، في وقت تتنامى فيه الدعوات إلى ترحيلهم.
معاداة اللاجئين
وأشار التقرير إلى أن حزب الإصلاح البريطاني -بزعامة نايجل فاراج– وأحزابا أخرى تبنّت مواقف أكثر تشددا تجاه اللاجئين، وزادت حدة الخطاب السياسي ضدهم، مما يعكس تصاعد النزعة المناهضة للمهاجرين في أوروبا.
إعلان
وذكرت الجزيرة في تقرير أن بيانات حكومية بريطانية -صادرة في 25 آب/آب- أظهرت أن 28 ألفا و76 مهاجرا عبروا القنال الإنجليزي على متن قوارب صغيرة منذ بداية العام.
تجمعات واحتجاجات من مناهضي الهجرة ومعارضيها أمام فنادق تؤوي طالبي لجوء (غيتي)
وأضافت الجزيرة أن عدد المهاجرين يشكل زيادة قدرها 46% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024، وهو رقم قياسي يفاقم الضغوط على رئيس الوزراء العمالي كير ستارمر بشأن سياسات حكومته في ملف الهجرة واللجوء.
ونقلت إندبندنت عن غوردن إيسلر، رئيس منظمة “سي آي” للإنقاذ المدني، قوله إنه من “المخزي” أن أوروبا فشلت في توفير ممرات آمنة للاجئين حتى بعد مرور عقد على غرق إيلان.
وأضاف إيسلر -وفق محادثته الأصلية مع صحيفة لاريبوبليكا الإيطالية- أن القارة لم تهمل اللاجئين فحسب، بل تعمل على عرقلة جهود المنظمات الإنسانية التي تحاول مساعدتهم.
ويشكل ملف الهجرة إحدى أكثر القضايا حساسية وتعقيدا أمام حكومة ستارمر، التي تواجه انتقادات من المعارضة المحافظة ومن قطاعات شعبية ترى أن استمرار تدفق المهاجرين يقوّض الثقة بوعود الحكومة بضبط الحدود وإدارة النظام الجديد للهجرة.
في مقال نشرته صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، رسم الكاتب يوعانا غونين صورة لما وصفه بالقسوة التي أصبحت متجذرة في المجتمع الإسرائيلي من خلال 3 مشاهد مختلفة.
وقال الكاتب إن الصور الثلاث تعكس “تعفن القوة والسلطة والقلب” في إسرائيل، وتوضح حجم الانحدار الأخلاقي الذي وصل إليه المجتمع ومدى الاستهانة بحياة الآخرين وكرامتهم.
غطرسة القوة
الصورة الأولى عبارة عن مشهد التقطه نشطاء منظمة “حاخامات من أجل حقوق الإنسان”، يُظهر جنديا إسرائيليا في الضفة الغربية مرتديا خوذة وسترة واقية ونظارة شمسية، مغطيا وجهه بقناع في شكل جمجمة.
وحسب الكاتب، فإن هذا الجندي يجسد الموت وليس الإنسانية، ووجوده لا يهدف لحماية النظام أو الأمن، بل يساند المستوطنين في طرد الفلسطينيين من أراضيهم في بلدة الخضر قرب بيت لحم، رغم أن المزارعين يمتلكون تصاريح رسمية.
ويرى الكاتب أن ارتداء القناع ليس مجرد نزوة شخصية، بل هو تعبير صارخ عن الهدف الحقيقي للاحتلال، وهو تحويل حياة الفلسطينيين اليومية إلى رعب مستمر بالاعتقالات الليلية، والحواجز الخانقة، والاعتداءات المتكررة، وتوفير الحماية للمستوطنين المتطرفين.
يوعانا غونين: فساد القوة وفساد السلطة وفساد القلب، تمثّل “بورتريها للمجتمع الإسرائيلي المعاصر”
سخرية مقيتة
الصورة الثانية هي عبارة عن مقطع انتشر قبل أيام في إسرائيل، حيث يظهر والد وزيرة حماية البيئة عيديت سيلمان وهو يسخر من امرأة مسنّة تعاني من الرعاش، وذلك أثناء مشاركتها في وقفة احتجاجية قرب بيت الوزيرة للمطالبة بالإفراج عن الأسرى.
حين واجهته بقولها “ألا تخجل من ابنتك؟” رد عليها بتقليد رعشتها بطريقة ساخرة ومهينة، في مشهد يجسد -وفقا للكاتب- ثقافة سياسية تُعلي من شأن السلطة وتحتقر التعاطف، وهي سمةٌ مُميّزة للحركات الفاشية.
ويقارن الكاتب بين سلوك والد الوزيرة والجندي المقنّع، مؤكدا أن كليهما يتلذذ بتجريد الآخر من إنسانيته، سواء عبر قناع يثير الخوف، أو من خلال إهانة الآخرين والسخرية منهم.
إنكار المعاناة
أما الصورة الثالثة فقد نشرها الصحفي الإسرائيلي حانوخ داوم للتشكيك في التقارير عن انتشار المجاعة في غزة، وتُظهر الصورة المولّدة بالذكاء الاصطناعي امرأة فلسطينية بأربع أياد، وقطتين برأس واحد، وديناصورا في الخلفية.
إعلان
علق داوم ساخرا بأن “المجاعة في غزة تزداد سوءا”، وأضاف “شخصيا، أشفق بشكل خاص على الدجاجة الغريبة في الخلفية”.
ويؤكد الكاتب أن هذه الصورة التي حظيت بآلاف التعليقات الساخرة ورسائل الإعجاب بين الإسرائيليين على مواقع التواصل، ليست مجرد نكتة، لكنها انعكاس لثقافة إنكار واسعة تحوّل المعاناة إلى موضوع للضحك والتسلية.
ويخلص الكاتب إلى أن هذه المشاهد الثلاثة التي تعكس فساد القوة وفساد السلطة وفساد القلب، تمثّل “بورتريها للمجتمع الإسرائيلي المعاصر، الذي حوّل القسوة إلى أيديولوجيا وأصبح غارقا في هاوية مظلمة”.
لندن- منذ أيام تستيقظ الشوارع البريطانية على ظهور غير متوقع لأعلام “صليب القديس جورج” ورايات الاتحاد البريطاني منتصبة بشكل غير معهود على الطرق الرئيسة وفي الساحات العامة وعند مداخل البيوت، في مشهد تبدو معه مدن البلاد، التي عاشت طوال هذا الصيف على إيقاع احتجاجات عارمة ضد المهاجرين، وكأنها تستعد للاحتفاء بحدث استثنائي.
يُعتبر علم “صليب القديس جورج” رمزا وطنيا لإنجلترا، ويحرص الإنجليز على رفعه خاصة في المناسبات الكروية والأحداث الكبرى حيث يكون الشعور الوطني في ذروته. لكن هذا الرمز يختزن أيضا تاريخا من الصراع السياسي والعقائدي، حيث كان يشهره المحاربون المجندون للقتال في الحروب الصليبية خلال القرون الوسطى، وراية يرفعها المقاتلون الإنجليز أثناء حملات الغزو.
ومع إعلان الاتحاد البريطاني في القرن الـ17 دمج “صليب القديس جورج” إلى جانب صلبان أخرى تمثل كلا من أيرلندا وأسكتلندا لتشكيل علم الاتحاد، توارى هذا الرمز قبل أن تستأثر به الحركات اليمينية المتطرفة الصاعدة خلال القرن الـ20.
ارتفاع منسوب خطابات الهوية في بريطانيا بسبب الاستقطاب السياسي الحاد بشأن أزمة الهجرة (الجزيرة)
استقطاب سياسي
وفي الوقت الذي اعتاد فيه البريطانيون على شوارعهم الهادئة التي يحافَظ فيها على الحياد ولا يفسح فيها لإشهار رموز قد يعدها البعض مستفزة أو حاملة لرسائل سياسية عدائية، لا تبدو عودة هذه الأعلام إلى الفضاء العام مجرد استعادة لرمز يجسد وحدة البريطانيين وأمجادهم الوطنية، وإنما أصبحت مصدر إزعاج للبعض ومثار استقطاب سياسي حاد.
قبل أسابيع ظهرت مجموعات تدعى “محاربو وويولي” على وسائل التواصل تقول إنها تضم “رجالا إنجليزا فخورين ومعتزين بهويتهم ووطنيتهم الإنجليزية”، دعت لرفع الرايات في المدن والبلدات البريطانية إحياء لهذا التقليد. ومع مبادرة بعض المجالس البلدية لإزالتها، تأججت موجة غضب ضد القرار وبدأت تنتشر عرائض إلكترونية مطالبة بمنعه.
إعلان
كما انطلقت صفحات أخرى على مواقع التواصل الاجتماعي في حشد التبرعات لشراء رايات “القديس جورج” وتعليقها في بعض المدن البريطانية، في ظل انتشار خطابات هوياتية حادة على تلك المنصات تدعو إلى حماية “الجذور الأصيلة” للبريطانيين البيض ونموذج الحياة الإنجليزية المهدد في نظرهم بمد المهاجرين المتدفق الذي فشلت الحكومة في محاصرته.
وأضحت رايات “صليب القديس جورج” رمزا احتجاجيا بارزا يرفعه أنصار اليمين الشعبوي بفخر في وجه الأقليات واللاجئين، في سياق حملة تظاهرات منسقة للحشد ضد المهاجرين أمام الفنادق التي تؤوي طالبي اللجوء بشكل مؤقت، وتضييق الخناق على الحكومة العمالية لدفعها لتشديد سياسات الهجرة.
وفي خضم تلك الاحتجاجات، رفع المشاركون أيضا شعارات معادية للمهاجرين مثل “أنت على أرضنا” و”أوقفوا القوارب”، إلى جانب عبارات مستوحاة من حركة ماغا الأميركية اليمينية “لنجعل إنجلترا عظيمة مرة أخرى”.
صفحات على مواقع التواصل حشدت من أجل التبرع لشراء رايات “القديس جورج” (الجزيرة)
ساحات اشتباك
وأصبحت “فنادق المهاجرين” على مدى الأسابيع الماضية ساحات اشتباك دائمة مع الشرطة البريطانية ومتظاهرين آخرين مؤيدين لحقوق المهاجرين، حيث يطالب أنصار اليمين الشعبوي بإخلائها وطرد اللاجئين منها.
ويتعاطى الساسة البريطانيون بحذر مع استيقاظ هذه النزعة القومية في ظل تصاعد حدة الاستقطاب السياسي الذي يجعل من قضية الهجرة مادة رئيسية له تتغذى عليها سردية الأحزاب اليمينية، خاصة حزب الإصلاح المتطرف بعد أن رسخ حضوره كقوة انتخابية صاعدة في البلاد إثر تحقيقه نتائج غير مسبوقة في الانتخابات المحلية الأخيرة.
وانبرت بعض المجالس البلدية البريطانية كمجلسي مدينة برمنغام وتاور هامليتس لإزالة تلك الأعلام من الشوارع معللة ذلك بـ”اعتبارات السلامة” دون أن تمانع في تعليقها في البيوت أو الحدائق الخاصة.
بعض المجالس البلدية أزالت الأعلام ما أثار موجة انتقادات (الجزيرة)
لكن المتحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر لم يعارض حملة رفع الأعلام في الشوارع، مؤكدا على “أهمية احترام تعبير البريطانيين عن وطنيتهم”، بينما رفضت زعيمة حزب المحافظينكيمي بادينوك قرار إزالة تلك الأعلام، ووصفت الخطوة بأنها “أمر مخز ومستفز”.
ولم يتردد أيضا زعيم حزب الإصلاح اليميني نايجل فاراج الذي يقود تعبئة إعلامية غير مسبوقة مناوئة للاجئين في الاحتفاء برفع الأعلام، وقدم خطة لترحيل جماعي للمهاجرين حال وصوله للسلطة. وانضم إليه الملياردير الأميركي إيلون ماسك مرحبا بحملة الأعلام ونشر صورة لعلم “القديس جورج” على حسابه في منصة “إكس” التي يملكها.
وبينما تعهد فاراج بالتشجيع على مواصلة رفع الأعلام في المجالس التي يسيطر عليها، فتحت الشرطة البريطانية تحقيقات بدعوى الإضرار بالممتلكات العامة بعد ظهور صلبان حمراء وطلاء أعلام “القديس جورج” على جدران عامة.
سلوك إقصائي
وظهرت تلك الصلبان إلى جانب عبارات محرضة على كراهية المسلمين أيضا على جدار مسجد في مدينة باسلدون، وسط مخاوف من أن تغذي هذه الحملات ظاهرة الإسلاموفوبيا وكراهية الأقليات والأجانب.
إعلان
ويرى طاهر عباس أستاذ التطرف والعدالة الاجتماعية في جامعة برمنغهام البريطانية، في حديث للجزيرة نت، أن انتشار هذه الحملات على نحو منظم عائد بالأساس إلى ارتفاع منسوب الخطابات اليمينية على شبكات التواصل والحيز الذي توفره للحشد عبر تشكيل ما يشبه “غرف صدى” تضخ داخلها الدعاية الراديكالية، وتستعاد فيها الأمجاد الوطنية تجييشا للنعرات القومية.
ويضيف عباس أن هذا السلوك “الإقصائي” الذي يحاول احتلال مساحات في الفضاء العام المشترك يبعث برسائل تخويف للأقليات خاصة المسلمين الذين يعدون فئات هشة تستهدفها الدعاية اليمينية المتطرفة.
بدورها، تحذر شاكونتالا باناجي أستاذة الإعلام والتغيير الاجتماعي بجامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، في حديث للجزيرة نت، من محاولة اختزال الهوية المركبة لمجتمع متعدد الأعراق كبريطانيا في رموز هوياتية مثيرة للانقسامات وتحاول إلغاء الآخر المختلف وتهدد نموذج العيش المشترك.
وترى باناجي أن صعود هذه التيارات اليمينية من الهامش السياسي إلى مركز التأثير في صناعة القرار ومحاولتها احتكار رموز الهوية، يهدد التعددية الديمقراطية ويحتمي بالخطابات القومية لصرف النظر عن أسباب تصاعد موجات الهجرة إلى بريطانيا والتي تتحمل السياسات الاستعمارية للدول الغربية وإذكاؤها للنزاعات والحروب المسؤولية عنها.
أصبحنا الآن نُدرك بشكل أكبر أهمية أنظمة الدفاع الجوي متعددة الطبقات لأمننا. إذا كان لديهم (إسرائيل) قبة حديدية، فسيكون لدينا قبة فولاذية.. لن ننظر إليهم ونقول لماذا لا نمتلكها؟
بواسطة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مقر صناعات الفضاء الجوي التركية (TUSAS) في 29 تشرين الأول/ تشرين الأول 2024
في 27 آب/آب الماضي، حضر الرئيس التركي أردوغان مراسم تسليم الدفعة الأولى من منظومة الدفاع الجوي “القبة الفولاذية” إلى الجيش التركي، وتشمل 47 مركبة مجهزة بنظامي حصار وسيبر، وهما أول نظامين صاروخيين قصيري وطويلي المدى تُنتجهما تركيا محليًا، بتكلفة 460 مليون دولار.
طرحت تركيا مشروع “القبة الفولاذية” في 6 آب/ آب 2024 بوصفها منظومة دفاع جوي متكاملة، تعتمد على شبكة متعددة الطبقات قادرة على التعامل مع طيف واسع من التهديدات.
وكانت بعض المكونات التي أُدمجت ضمن مشروع القبة قد بدأ العمل عليها في 2018، مثل منظومات KORKUT و HİSAR. وبخلاف “القبة الحديدية” الإسرائيلية، التي تركز على اعتراض الصواريخ قصيرة المدى، فمن المخطط له أن يغطي المشروع التركي المجال الجوي بمختلف تهديداته، من المسيّرات منخفضة الارتفاع إلى المقاتلات الهجومية، مرورًا بالصواريخ الباليستية، وعلى امتداد الأراضي الوطنية.
تعمل المنظومة على دمج أسلحة متنوعة مع منظومات استشعار متطورة في بنية واحدة أشبه بدرع شبكي. كل طبقة تؤدي وظيفة محددة، لتواجه نوعًا معينًا من المخاطر. وعندما تعمل تلك الطبقات معًا، تشكّل مظلة متكاملة للحماية، أقرب إلى شبكة متراصة تلتقط مختلف التهديدات بدلًا من الاعتماد على حل واحد محدود الفاعلية.
إستراتيجيًا، تعزّز تلك المنظومة المتطورة سيادة تركيا العسكرية، وتقلّص من اعتمادها على أسلحة الحلفاء الدفاعية، وتضع أنقرة في موقع فاعل رئيسي ضمن أسواق السلاح العالمية، بحسب تقرير منصة ناشونال إنترست. فما القبة الفولاذية، وما طبقاتها المتعددة للدفاع الجوي؟ وكيف تستفيد تركيا منها عسكريًا ودبلوماسيًا؟
حضر الرئيس التركي أردوغان مراسم تسليم الدفعة الأولى من منظومة الدفاع الجوي “القبة الفولاذية” (وكالة الأناضول)
ولادة الدرع الوطني
في 6 آب/آب 2024، اتخذت اللجنة التنفيذية للصناعات الدفاعية (SSİK) قرار إطلاق مشروع “القبة الفولاذية”، وأوضحت التصريحات السياسية اللاحقة أن المشروع سيُنفذ على أساس “محلي ووطني”، أي أن تصميم وتصنيع المواد بالكامل سيجري داخل تركيا من شركات وطنية. تعتمد الشركات الرئيسية المختارة للمشروع، وهي أسيلسان، وروكيتسان، وتوبيتاك ساجي، وMKE، على مقاولين محليين من الباطن، لكنها قد تلجأ إلى موردين أجانب عند الضرورة، مع الحفاظ على مشاركتهم في أدنى مستوى ممكن لإبراز الهوية التركية للمواد.
إعلان
قبل ذلك، وخلال أعوام 2019–2022، دخلت منظومات HİSAR وKORKUT إلى الخدمة تدريجيًا بوصفها اللبنات الأولى للطبقات القصيرة والمتوسطة، قبل دمجها في الشبكة الموحدة المدعومة بخوارزميات ذكاء اصطناعي، ضمن المشروع الجديد.
وكانت قد أعلنت تركيا أخيرًا عن مشروع ضخم بقيمة 1.5 مليار دولار، وُصف بأنه “أكبر استثمار في تاريخ الصناعة العسكرية التركية”، وهي قاعدة “أوغول بي” للتكنولوجيا، قاعدة عسكرية ضخمة تهدف إلى مضاعفة القدرة الإنتاجية لمكوّنات منظومة “القبة الفولاذية”.
ومن المفترض أن تبدأ قاعدة “أوغول بي” عملها في منتصف عام 2026، غير أن شركة “أسيلسان” أكدت أنها شرعت فعلًا في تزويد القوات المسلحة التركية بمكوّنات المنظومة. الصحفيون الذين زاروا الموقع، قبل يوم من الإعلان الرسمي عن المنظومة، شاهدوا 47 منصة متنقلة جاهزة للتسليم، تتعلق بالقبة الفولاذية ومزوّدة برادارات وأنظمة مرافقة. وشملت هذه الدفعة منظومات “سيبر” (SİPER) للدفاع الصاروخي بعيد المدى، ومنظومة “حصار” (HİSAR) متوسطة المدى، و”كوركوت” (KORKUT) قصيرة المدى، إضافة إلى رادارات الاستطلاع الجوي وأنظمة الاتصالات والحرب الإلكترونية.
طبقات حماية متعددة
تبدأ أولى مستويات الحماية بالطبقة قصيرة المدى، ومهمتها التصدي للتهديدات القريبة والمنخفضة، مثل المسيّرات الهجومية أو قذائف الهاون والصواريخ الموجهة نحو أهداف مدنية أو عسكرية. وتعتمد تركيا في هذا المستوى على مدافع “كوركوت” عيار 35 ملم المثبتة على عربات مدرعة، إلى جانب صواريخ “سونغور” (Sungur) المحمولة على الكتف، فضلا عن أنظمة أخرى. وتتيح هذه الأسلحة تحييد المسيّرات والمروحيات والصواريخ ضمن مجال بضعة كيلومترات، ما يوفر الحماية اللازمة للقواعد العسكرية والمدن.
ثاني طبقة هي الطبقة متوسطة المدى، مستهدفة الطائرات الهجومية المقاتلة وصواريخ الكروز والأهداف الأسرع والأعلى ارتفاعًا. وتضطلع منظومات “حصار” بهذا الدور، بنسختيها البرية والبحرية. وتتمتع هذه المنظومات بقدرة إصابة أهداف على ارتفاعات ومسافات متوسطة تصل إلى عشرات الكيلومترات، ما يجعلها قادرة على حماية مساحات واسعة ووحدات قتالية متحركة.
أما الثالثة؛ فهي الطبقة بعيدة المدى، وهنا تعتمد القبة على المنظومة الدفاعية التركية “سيبر” (Siper)، المصممة للتعامل مع التهديدات البعيدة والمعقدة، من مقاتلات تحلق في طبقات الجو العليا إلى المسيّرات الثقيلة والصواريخ الباليستية في مراحلها النهائية. وقد بدأت القوات المسلحة التركية فعلًا في تسلم النسخ الأولى، بينما يجري تطوير إصدارات أكثر تطورًا يُتوقع أن يصل مداها إلى 100 كيلومتر أو أكثر. وتمنح منظومة “سيبر” تركيا قدرات دفاعية مقاربة لمنظومتي “باتريوت” الأميركية و”إس-400″ الروسية، مع هدف أساسي هو حماية المدن والبنى التحتية الحيوية من التهديدات الكبرى.
المنظومة الدفاعية التركية “سيبر” (الأناضول)
القبة الفولاذية.. ابتكار يطارد التهديدات
رغم أن كل طبقة دفاعية في “القبة الفولاذية” تمتلك قدراتها الخاصة، فإن القوة الحقيقية للنظام تتجلى عند ربطها جميعًا ضمن شبكة موحدة متطورة. فالرادارات، ومنصات الإطلاق، ووحدات الاعتراض تحتاج إلى العمل بتكامل عبر نظام مركزي للقيادة والسيطرة.
إعلان
ولأن أساليب الهجوم الجوي الراهنة لم تعد تقتصر على هدف منفرد يسهل رصده واعتراضه، بل تطورت إلى مواجهة أسراب من المسيّرات منخفضة التكلفة أو وابل من الصواريخ يُطلق دفعة واحدة، فمثل تلك التهديدات تتجاوز قدرة أي مشغّل بشري على الاستجابة السريعة والفعالة. من هنا جاء الدور الحاسم للذكاء الاصطناعي في منظومة القيادة والسيطرة، إذ يتولى معالجة كميات هائلة من البيانات لحظة بلحظة، ويُنسّق بين مختلف طبقات الدفاع سريعًا.
وهنا يأتي دور منظومة “حكيم”؛ مركز قيادة وسيطرة يعتمد على برمجيات متطورة وتقنيات الذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال؛ تشير معلومات شركة “أسيلسان” إلى أن منظومة “حكيم” يمكنها ربط الرادارات ومنظومات الدفاع الجوي المحلية بمصادر خارجية، مثل طائرات الناتو والسفن الحربية ومنظومة “إس-400” الروسية، لتؤسس شبكة موحّدة عابرة للأنظمة.
تدمج المنظومة البيانات الفورية من مختلف المستشعرات لإنتاج صورة جوية موحّدة، تمنح القادة رؤية شاملة ودقيقة للموقف في السماء. إذ تعتمد على خوارزميات متطورة لتقييم طبيعة التهديدات وترتيب أولوياتها، ثم توزيع مهام الاعتراض على المنظومات المناسبة، بما يضمن سرعة الاستجابة ودقة القرار في مواجهة أي هجوم جوي.
ومن الابتكارات اللافتة في فكرة “القبة الفولاذية” دخول الأنظمة غير المأهولة إلى ميدان الدفاع الجوي. ومن أبرزها منصة “غورز” (Gürz) وهي مركبة دفاعية يمكن تشغيلها من بُعد أو الاعتماد على عملها الذاتي بالكامل. فعلى عكس البطاريات الصاروخية التقليدية التي تتطلب طاقم تشغيل بشري، صُممت “غورز” لتعمل بحد أدنى من الإشراف البشري، فبإمكانها إعادة التموضع ذاتيًا، والتعامل مع التهديدات ضمن الشبكة الدفاعية فور ظهورها، وفقًا لما تذكره شركة أسيلسان.
بذلك تمثل منصة “غورز” جيلًا جديدًا من وحدات الدفاع الجوي القصيرة المدى الآلية بالكامل، وتكشف عن توجه أوسع لتوظيف الأنظمة غير المأهولة في عملية الدفاع، ولا تقتصر على الهجوم فحسب كما هو الحال مع استخدام المسيّرات. إذ يمكن نشر المنصة في مناطق عالية الخطورة دون تعريض الجنود للمخاطر المباشرة، مع الاستفادة من سرعة استجابتها بفضل ارتباطها المباشر بشبكة القيادة والسيطرة الموحدة المدعومة بالذكاء الاصطناعي.
منصة “غورز” (أرمي ريكوجنشن)
منظومة متكاملة
وفقا لتصريحات المدير العام لشركة أسيلسان فإن “التكامل بين المكونات التقليدية والأنظمة المستحدثة يجعل من القبة الفولاذية منظومة ديناميكية قابلة للتطوير والتحديث المستمر، وقادرة على مواجهة أخطر التهديدات الحديثة في بيئة جغرافية وأمنية معقدة بما فيها الطائرات المسيرة الصغيرة والصواريخ الجوالة والصواريخ الباليستية التكتيكية والهجمات السيبرانية”.
إذ لا تقتصر فكرة “القبة الفولاذية” على الصواريخ الاعتراضية وحدها، بل تُجهز أيضًا لمواجهة التهديد المتسارع للطائرات المسيّرة، ولهذا تُدمج تقنيات الحرب الإلكترونية مع الأسلحة الموجّهة بالطاقة. في تموز/تموز الماضي، كشفت شركة “أسيلسان” عن إدخال جيل جديد من الأنظمة الدفاعية ضمن منظومة “القبة الفولاذية”، وذلك استجابةً لتغير طبيعة التهديدات، وعلى رأسها “أسراب المسيّرات الصغيرة” و”الهجمات المتزامنة المعقدة”. ومن أبرز تلك الإضافات نظام “أجدرها”، وهو سلاح ليزري محلي الصنع يعتمد على الموجات الدقيقة لتحييد المسيّرات الصغيرة والطائرات الانتحارية بدقة وسرعة، خصوصا في المسافات القصيرة، مما يعزز قدرة حماية المنشآت الحيوية.
تدعم تلك المنظومات السابقة رادارات متطورة متعددة المهام، وتتميز بقدرتها على تتبع مئات الأهداف المختلفة، سواء كانت جوية أم برية أم بحرية، مع دقة عالية في الرصد والتصنيف. بالإضافة إلى أنظمة الحرب الإلكترونية “إخطار”، المصممة للكشف والتشويش على إشارات التحكم والتوجيه الخاصة بالطائرات المسيرة والصواريخ الموجهة، مما يعطل قدرتها على إصابة الأهداف. كما تتوافر البنية السيبرانية الدفاعية اللازمة لتأمين حماية إلكترونية شاملة لبنية المنظومة، وتضمن استمرارية التشغيل عند التعرض لهجمات سيبرانية معقدة.
إعلان
هذا النمط من الدفاع الجوي يوازي ما يُعرف في الولايات المتحدة وحلف الناتو بالدفاع الجوي والصاروخي المتكامل، لكنه قد يكتسب في الحالة التركية دلالة خاصة، إذ يجري تطويره بالاعتماد على تقنيات محلية في المقام الأول، وبذلك يشكّل هذا المشروع محطة مفصلية في مسار أنقرة نحو بناء قدرات دفاعية مستقلة.
المقاتلة الشبحية الأميركية “إف-35” (غيتي إيميجز)
درع السيادة ورسائل التوقيت
قبل أقل من شهر على تسليم الدفعة الأولى من منظومة “القبة الفولاذية”، صدر تقرير عن أكاديمية الاستخبارات التركية تناول بالتفصيل وقائع حرب الاثني عشر يومًا بين إسرائيل وإيران، وهي المواجهة التي شكّلت اختبارًا عمليًا لنظم الدفاع والهجوم في المنطقة. وقد انتهى التقرير بجملة توصيات أبرزها ضرورة أن تعمل أنقرة على بناء منظومة دفاع جوي متعددة الطبقات، تحسبًا لأي مواجهة عسكرية محتملة مع تل أبيب، ولضمان سد الثغرات التي أظهرتها تلك الحرب في موازين القوى الدفاعية.
ورغم أن مشروع “القبة الفولاذية” كان قد قررته أنقرة منذ آب/ آب 2024، وقبل ذلك بدأ العمل في بعض المكونات التي أدمجت فيه منذ عام 2018، إلا أن توصيات الدراسة الأخيرة تطابقت مع أهداف القبة الفولاذية واعتبرتها أحد أهم الأركان الدفاعية التي يجب أن تمتلكها تركيا استعدادا لأي تدهور أمني وعسكري في الإقليم أو أي مواجهة قد تقع مع اسرائيل.
بيد أن مشروع “القبة الفولاذية” لا يتوقف عند بعده العسكري أو التقني، بل يتجاوز ذلك ليحمل أبعادًا دبلوماسية وإستراتيجية أوسع. فمشاركة تركيا في مبادرة “الدرع الجوي الأوروبي” –وهو إطار تعاون متعدد الجنسية لتطوير قدرات دفاع جوي مشتركة– تعكس رغبة أنقرة في الانخراط ضمن مشاريع الأمن الجماعي، والاستفادة من خبرات الحلفاء، وفي الوقت نفسه الإسهام في صياغة مفاهيم دفاعية جديدة داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو). وقد حرص الرئيس رجب طيب أردوغان على التأكيد أن بلاده تعمل على إتاحة أنظمتها الدفاعية لحلفائها وأصدقائها، معتبرًا أن ذلك يعزز النشاط الدبلوماسي التركي ويضيف إلى نفوذها السياسي.
في المقابل، فإن امتلاك تركيا درعًا متكاملًا خاصًا بها يمنحها قدرًا أكبر من الاستقلالية، ويقلّص اعتمادها الكامل على قدرات الناتو في بعض السيناريوهات الحساسة. فالتجربة التاريخية لا تزال حاضرة في ذاكرة صانعي القرار؛ ففي العقد الأول من الألفية، حاولت أنقرة مرارًا شراء بطاريات الدفاع الصاروخي الأميركية “باتريوت” لتأمين أجوائها، لكنها قوبلت بالرفض بسبب خلافات جيوسياسية عميقة مع واشنطن. هذا الرفض دفع تركيا عام 2019 إلى اتخاذ خطوة مثيرة للجدل بشراء منظومة الدفاع الصاروخي الروسية “إس-400″، وهو القرار الذي ترتب عليه استبعادها من برنامج المقاتلة الشبحية الأميركية “إف-35” كإجراء عقابي، ما شكّل ضربة إستراتيجية لطموحاتها الجوية.
تلك التجربة رسخت لدى القيادة التركية قناعة راسخة مفادها أنه إذا أرادت أنقرة درعًا جويًا موثوقًا يضمن حمايتها في بيئة إقليمية معقدة، فلا بد أن تبنيه بقدراتها الذاتية. من هنا، جاء تطوير “القبة الفولاذية” بوصفه خطوة فارقة تضع تركيا في موقع مختلف، إذ تمنحها استقلالية أكبر في إطار الناتو، وتمكّنها ليس فقط من تقليل اعتمادها على المنظومات الغربية، بل من أن تكون مصدّرًا للأمن الدفاعي داخل الحلف. وفي هذا السياق، سعى المسؤولون الأتراك إلى طمأنة الحلفاء بأن المنظومة الجديدة ستكون متوافقة مع أنظمة الناتو الدفاعية، وقابلة للتشغيل البيني، بما يضمن تكاملها ضمن بنية الأمن الجماعي للحلف، ويجنّب أنقرة أي اتهامات بتكرار سيناريو “إس-400”.
الصورة الأوسع للصعود العسكري التركي
في نهاية شهر آب/آب الماضي، عقد في أنقرة مؤتمر دولي حمل عنوان “من الجذور إلى الآفاق: قصة صعود الصناعات الدفاعية التركية”، نظمته دائرة الاتصال في رئاسة الجمهورية التركية. وقد شكّل المؤتمر مناسبة لاستعراض الإنجازات التي حققتها أنقرة في بناء قاعدة صناعية عسكرية متكاملة، ولإبراز التحول الإستراتيجي الذي نقلها من خانة المستورد إلى خانة المنتج والمصدّر الفاعل في أسواق السلاح العالمية. حضر المؤتمر مسؤولون حكوميون بارزون إلى جانب قادة كبرى الشركات العاملة في قطاع الصناعات الدفاعية، في إشارة واضحة إلى أن المشروع لم يعد مجرد بعد اقتصادي أو أمني، بل صار ركيزة من ركائز رؤية تركيا لمكانتها الدولية.
إعلان
أكد المسؤولون الأتراك خلال جلسات المؤتمر أن نسبة الاكتفاء الذاتي في قطاع الصناعات الدفاعية وصلت إلى نحو 83%، وهو رقم يعكس حجم القفزة مقارنة بالعقود الماضية. ويستند هذا النجاح إلى شبكة وطنية واسعة تضم أكثر من 3500 شركة توظف ما يقارب 100 ألف موظف من مهندسين وفنيين وخبراء، يعملون في تنفيذ وتطوير ما يزيد على 1380 مشروعًا محليًا.
وفي جانب الصادرات، أشار المشاركون إلى أن صادرات الدفاع والطيران التركي تجاوزت 7.1 مليارات دولار في عام 2024، مسجلة زيادة بلغت 29% مقارنة بالعام السابق. وتُعزى هذه الطفرة –بحسب الخطاب الرسمي– إلى الاعتماد المتزايد على حلول وطنية متقدمة تشمل تقنيات الذكاء الاصطناعي، أنظمة الحرب الإلكترونية، الهندسة عالية المستوى، إضافة إلى برامج الفضاء. هذه العوامل مجتمعة عززت قدرة الشركات التركية على المنافسة في الأسواق العالمية التي تبحث عن بدائل أقل تكلفة وأكثر مرونة من المنظومات الغربية.
أما على صعيد تطوير الأسلحة النوعية، فقد أوضح المدير العام لشركة “توساش” أن مشروع المقاتلة الشبح “قآن” يواصل تقدمه بخطوات ثابتة، مع خطة لتحليق النموذج الثاني في نيسان/نيسان 2026، بما يمثّل نقلة كبرى في مسار الصناعات الجوية التركية. كما استعرض مشروع الطائرة المسيّرة النفاثة “عنقاء-3″، مشيرًا إلى خصوصية تصميمها الذي تطلّب تجاوز تحديات هندسية بالغة التعقيد. ووفق ما طرحه مسؤولو الشركة، فإن هذه المشاريع تضع تركيا على مسار الانضمام إلى نادي الدول الرائدة في تطوير مقاتلات الجيل السادس، وهو ما سيساهم في سد الفجوة القائمة مع القوى الكبرى في مجال الطيران الحربي.
من جانبه، أعلن المدير العام لشركة “روكيتسان” أن شركته أنتجت الصواريخ الأساسية لمنظومة “القبة الفولاذية”، إلى جانب تطوير الصاروخ الباليستي بعيد المدى “طيفون”، وهو ما يشكل نقلة في قدرات الردع بعيدة المدى لتركيا.
أما شركة “بايكار” فقد استعرضت سلسلة من إنجازاتها التي رسخت حضورها عالميًا، بدءًا من المسيرة “بيرقدار تي بي 2” التي أصبحت رمزًا للتكنولوجيا التركية الحديثة، وصولًا إلى المسيرة الثقيلة “آقنجي” التي أثبتت فعاليتها في أكثر من ساحة حرب، بما فيها أوكرانيا. كما جرى تسليط الضوء على المقاتلة النفاثة “قزل إلما” التي يُنتظر أن تدخل الخدمة على متن السفينة البرمائية “أناضولو”، لتمنح تركيا قدرة إسقاط قوة بحرية وجوية متقدمة. وأكد مسؤولو الشركة أن النجاحات العملياتية لهذه المسيرات –من الشرق الأوسط إلى أوروبا الشرقية– رسخت مكانة تركيا كأحد أبرز مصدّري الطائرات المسيرة عالميًا، مشيرين إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي لتنسيق أسراب من المسيّرات في مهام قتالية مشتركة.
وبالعودة إلى المشهد العام، فإن العقدين الماضيين شهدا تحولًا جذريًا في مسار الصناعات الدفاعية التركية. فبعد أن كانت أنقرة تعتمد بصورة شبه كاملة على الاستيراد الخارجي لتلبية احتياجاتها العسكرية، أصبحت اليوم في موقع المصدّر الذي تنافس منتجاته في أسواق متعددة. ويؤكد مسؤولو الدفاع أن تركيا صارت الأولى عالميًا في تطوير ذخائر المسيّرات الذكية، بفضل قدرتها على تزويد طائراتها بمجموعة متنوعة من الأسلحة، تشمل الصواريخ المضادة للدروع، وصواريخ جو–جو، وصواريخ كروز فرط صوتية.
وصورة عامة؛ تؤشر هذه التطورات إلى رؤية إستراتيجية أوسع تسعى منها أنقرة إلى تعزيز استقلالها العسكري وتقليص اعتمادها على شركاء الخارج، مع تحويل الصناعات الدفاعية إلى رافعة للنفوذ السياسي والاقتصادي. فالصادرات العسكرية لم تعد تدر أرباحًا مالية فحسب، بل باتت أداة دبلوماسية تمنح تركيا قدرة على التغلغل في أسواق وتحالفات جديدة، وتفتح أمامها مساحات أوسع للمناورة على الخريطة الجيوسياسية العالمية.