لم تعد الخصوصية حقا إنسانيا، بل سلعة تباع وتشترى، إذ حولت برامج تلفزيون الواقع تفاصيل الحياة اليومية إلى أرباح هائلة.
فكل لحظة ضعف أو خيانة صغيرة، وكل صراع عائلي أو سر خاص أصبح مادة عرض للجماهير، يشاهدها ملايين الناس وكأنها مسلسل مثير لا ينتهي.
وتقدم هذه البرامج كعروض ترفيهية، حيث يُعرض الأشخاص وهم يواجهون مواقف حياتية صعبة، مما يُثير فضول الجمهور ويزيد من نسب المشاهدة.
برامج تلفزيون الواقع حولت تفاصيل الحياة اليومية إلى أرباح هائلة (شترستوك)
الفضيحة كسلعة إعلامية
في تقريره المعنون بـ”الاتجاهات الرئيسية 2025″، ذكر المركز الأوروبي للوسائط السمعية والبصرية أن الإعلام الأوروبي شهد تحولا جوهريا نحو تقديم الفضائح الاجتماعية كمنتج ترفيهي يُستهلَك جماهيريا.
وأشار التقرير إلى تزايد إنتاج البرامج الواقعية التي تعتمد على كشف الحياة الخاصة للأفراد، مثل الخيانة الزوجية والمشاكل العاطفية والاختلافات الأسرية، وتحويلها إلى مادة إعلامية دسمة تُعرض على الجماهير بهدف جذب الانتباه وزيادة نسب المشاهدة.
وأوضح التقرير أن هذا التحول يعكس مجموعة من العوامل المتشابكة:
أولها التغيرات في سلوكيات المشاهدين الأوروبيين الذين أصبحوا يفضلون متابعة هذا النوع من المحتويات الذي يعرض تفاصيل الحياة الشخصية للأفراد والعائلات، معتبرين ذلك نوعا من “الترفيه الحي”.
ثانيا، الربحية العالية المرتبطة بهذه البرامج تجعلها هدفا إستراتيجيا للقنوات والمجموعات الإعلامية، إذ يسهم الفضول الجماهيري في رفع نسب الإعلانات بشكل ملموس، مما يحول الفضائح إلى سلع اقتصادية لها قيمة سوقية كبيرة.
ثالثا، سهولة إنتاج مثل هذه البرامج، مقارنة بالإنتاجات الدرامية أو الأفلام الطويلة، مما جعلها خيارا مثاليا للقنوات الأوروبية لتقديم محتوى جذاب بسرعة وبتكلفة أقل.
وتعتبر “برامج الواقع”، خصوصا التي تُركز منها على الفضائح العائلية والعاطفية، ذات تأثير متشعب على المجتمع، فهي تسهم في إعادة تشكيل القيم المجتمعية المرتبطة بالخصوصية وحياة الفرد الخاصة.
إعلان
ففي الوقت الذي تحقق فيه ترفيها للجمهور، فإنها تثير جدلا أخلاقيا حول مدى احترام حقوق الأفراد في الحفاظ على حياتهم الخاصة، كما تزيد من ميل المشاهدين إلى الفضول و”الاستهلاك الفضائحي” بطريقة قد تؤثر على العلاقات الاجتماعية التقليدية داخل الأسرة والمجتمع.
ومنذ مدة بدأت بعض القنوات الأوروبية التركيز، بشكل كبير، على إنشاء هذه النوعية من البرامج. ومن بين هذه القنوات تبرز قناة “آر تي إل” الألمانية التي قدمت مجموعة من البرامج الواقعية تستعرض حياة العائلات وعلاقات الأفراد الشخصية.
من ذلك برنامج “واقع العائلة” الذي يعرض الصراعات اليومية والتحديات العائلية، وبرنامج “مزارع يبحث عن زوجة” الذي يسلط الضوء على العلاقات العاطفية في المجتمعات الريفية، وبرنامج “مبادلة العائلة” الذي يعرض تبادل المنازل والمسؤوليات اليومية والتحديات بين عائلات مختلفة خلال فترة محددة، بهدف كشف اختلاف أساليب الحياة وأحيانا كثيرة الفضائح المتعلقة بالإهمال المنزلي.
قناة “آر تي إل” الألمانية تبرز كإحدى القنوات الأوروبية التي تركز بشكل كبير على إنشاء برامج الواقع (شترستوك)
المحتوى الفضائحي اقتصاديا
ويعتمد نجاح هذه البرامج على تقديم توازن بين الإثارة والمصداقية، بحيث يشعر الجمهور بالارتباط بالمواقف المعروضة دون أن تتحول التجارب الشخصية للمشاركين إلى مجرد مواد للتسلية البحتة.
بالإضافة إلى ذلك، يتم توظيف وسائل التواصل الاجتماعي لتعزيز تفاعل الجمهور، حيث يمكن للمشاهدين متابعة الأحداث في الوقت الفعلي والتعليق عليها، مما يزيد من انتشار الفضائح ويجعلها جزءا من النقاش العام، وهو ما يعزز من قوة البرامج ويضاعف أثرها النفسي والاجتماعي على المشاركين والجمهور على حد سواء.
من الناحية الاقتصادية، يوضح تقرير المركز الأوروبي أن الفضائح العائلية والعاطفية تحولت إلى سلعة مربحة بشكل غير مسبوق، إذ لا تُسهم فقط في جذب الإعلانات المدفوعة، بل أيضا في رفع معدلات الاشتراكات في القنوات، وزيادة أعداد المتابعين عبر المنصات الرقمية.
ويؤكد التقرير أن هذا النموذج أصبح إستراتيجية واضحة للربح الإعلامي، حيث تحولت الخصوصية الفردية إلى عنصر من عناصر “السلعة الإعلامية” التي تُسوَّق بشكل منهجي.
وقد أدى التنافس بين القنوات الأوروبية في إنتاج هذه البرامج إلى زيادة مستوى الابتكار في تقديم المحتوى، إذ تحرص القنوات على تقديم أفكار جديدة ومثيرة في كل موسم، مثل دمج العناصر التفاعلية بين الجمهور والمشاركين، أو تنظيم لقاءات خاصة لمناقشة الأحداث بعد عرضها، بحيث يُصبح المشاهد جزءا من العملية التفاعلية الإعلامية.
ويعكس هذا التوجه فهما عميقا للبعد الاجتماعي والنفسي للفضائح، ويُظهر مدى تأثير الإعلام الحديث في تشكيل سلوكيات المجتمع الذي بات ينظر إلى هذه الفضائح كمادة إعلامية واقعية وليس مجرد اتجاه عابر.
ويرى المركز الأوروبي للوسائط السمعية والبصرية أن القنوات التي تنتج مثل هذه البرامج يجب أن تراعي التوازن بين الاقتصاد والمجتمع من خلال جذب الجمهور واحترام الخصوصية الفردية في آن واحد، إذ إن تجاوز الحرية الفردية قد يؤدي إلى عواقب اجتماعية ونفسية خطيرة، وقد يؤثر أيضا على مفهوم الخصوصية نفسه في المجتمعات الأوروبية.
لقطة من برنامج الحياة على الحافة (تلفزيون آر تي إل)
الآثار النفسية والاجتماعية
رغم أن بعض البرامج تستخدم خبراء نفسيين لتقييم قدرة المشاركين على التحمل، فإن معظم التوصيات تطبق شكليا، وغالبا ما يتم تجاهلها أثناء التصوير. وتقلل العقبات العملية، مثل الحفاظ على سرية تفاصيل الإنتاج أو اتخاذ قرارات مفاجئة، من فاعلية التقييم النفسي، مما يجعل المشاركين عرضة للقلق والتوتر بعد انتهاء العرض.
إعلان
فقد كشف تحقيق نشرته صحيفة الغارديان في 2024، مستندا إلى تحذيرات من جمعية علم النفس البريطانية، أن برامج الواقع التلفزيونية في أوروبا تعرّض المشاركين لأضرار نفسية واجتماعية طويلة الأمد.
وعندما يُستخدم ألم العلاقات العائلية أو الخيانة كعرض إعلامي، يخلق لدى المشاهد شعورا يشبه الانفصال، وهو ما ينتج عنه تضاؤل في التعاطف تجاه آلام المشاركين، ويعزز أيضا ثقافة استهلاك الألم كسلعة.
وتؤكد الغارديان أن عرض القصص التي تنطوي على مشاكل ومعاناة إنسانية تجعل المشاركين عرضة لضغوط نفسية مستمرة، بما في ذلك القلق والاكتئاب وفقدان الثقة بالنفس. فالمشاهد الذي كان مجرد متفرج أثناء البث يتحول إلى ناقد مباشر بعد انتهاء العرض، حيث تنتشر التعليقات والانتقادات السلبية على نطاق واسع عبر منصات التواصل الاجتماعي.
كما أن الطبيعة الفورية للتعليقات تجعل المشاركين يشعرون بأن حياتهم الخاصة أصبحت متاحة للتقييم العام بشكل دائم، مما يزيد من شعورهم بالانكشاف والاضطراب النفسي.
وفي ظل غياب متابعة فعلية ودعم مستمر من القنوات المنتجة، تصبح التجربة الإعلامية بالنسبة لهم عبئا طويل الأمد، يتجاوز مجرد لحظة التصوير، ويترك أثرا مستداما على حياتهم اليومية وعلاقاتهم الاجتماعية المستقبلية.
عرض القصص التي تنطوي على مشاكل ومعاناة تجعل المشاركين عرضة للاكتئاب وضغوط نفسية مستمرة (شترستوك)
القناة الرابعة البريطانية نموذجا حيا
تُعد القناة الرابعة البريطانية (Channel 4) من أبرز القنوات التي تعرض برامج تلفزيون الواقع، ومن بين أهم برامجها التي أثارت انتقادات واسعة لهذا العام (2025)، برنامج “العيادة الحميمية” الذي تعرض فيه استشارات علاجية لأشخاص يزعم أنهم يعانون من مشاكل في حياتهم الجنسية.
وتقول الغارديان في تقرير لها نشر في شباط/شباط 2025 إنه رغم تقديم “العيادة الحميمية” كبرنامج توعوي، فقد اعتبر غالبية المشاهدين أنه يتجاوز حدود الخصوصية ويكشف تفاصيل حساسة بشكل علني، وقد أثار جدلا واسعا حول أخلاقيات عرض مثل هذه المواضيع على التلفزيون.
ويركز برنامج “ارجع من حيث أتيت” على القناة البريطانية على الهجرة واللجوء ويهدف إلى تحدي مفاهيم المشاركين حول هاتين المسألتين عبر إرسالهم إلى مناطق تكثر فيها الحروب والنزاعات، لكن أسلوبه الاستفزازي والاعتماد على آراء المشاركين المثيرة للجدل أثار انتقادات من منظمات حقوق الإنسان والجمهور على حد سواء، وبسبب الجدل والتوتر الذي أحدثه البرنامج، تقرر إيقافه بعد موسم واحد فقط.
لقطة من برنامج “ارجع من حيث أتيت” الذي يبث على القناة الرابعة البريطانية (القناة الرابعة)
أما برنامج “جزيرة العذارى” فيرصد أقوال وأفعال 12 فتاة عذراء في جزيرة نائية. ورغم تقديمه كبرنامج يهدف إلى معالجة القضايا الحميمية لدى الشابات الصغيرات، فقد اعتبره العديد من النقاد استغلالا لخصوصياتهن وتعريضهن لمواقف محرجة. ورغم الانتقادات، حقق البرنامج نجاحا جماهيريا ملحوظا، مما دفع القناة إلى الإعلان عن موسم ثان.
قدمت القناة الرابعة البريطانية، في فترات سابقة، برامج ركزت فيها على الخيانات الزوجية والمشاكل العائلية، وأظهرت المشاهد الخاصة للأسر في مواجهة صدمات عاطفية أمام الكاميرات.
وقد نجحت هذه البرامج في زيادة نسب المشاهدة بشكل كبير، وهو ما مكن القناة من جذب فئات جديدة من المشاهدين الذين يتابعون حصريا هذه النوعية من البرامج بانتظام. وأكدت صحيفة الغارديان أن نجاح القناة الرابعة وسرعة انتشارها جاء على حساب القيم الأخلاقية للمجتمع.
ومن اللافت أن الإعلام العربي بدأ يقلد بشكل أعمى هذا النمط من البرامج، مع إعادة صياغتها بنسخ محلية تستهدف الجمهور العربي، مستفيدا من الفضول الجماهيري لتحقيق نسب مشاهدة مرتفعة.
إعلان
ويعكس هذا التقليد ضعفا في الوعي الإعلامي الأخلاقي، ويطرح تساؤلات حول تأثير هذه البرامج على القيم الاجتماعية والنفسية للمجتمعات العربية، إذ تتحول الخصوصية إلى سلعة استهلاكية دون مراعاة للمعايير الأخلاقية أو النفسية.
قال محللون إن الحكومة الإسرائيلية، المدعومة من التيار الديني القومي، تمضي بقوة نحو ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية وعلى رأسها منطقة غور الأردن، مضيفين أن هذه الخطوة تحظى بغطاء أميركي ضمني وتستند إلى دوافع أيديولوجية وأمنية.
وأكدوا في -تصريحات للجزيرة نت- أن الضم يمثل في الوقت نفسه انتهاكا صارخا للقانون الدولي، ويقوّض حل الدولتين، ويضع السلطة الفلسطينية أمام مأزق وجودي، فضلا عن أنه سيلقي بأعباء ثقيلة على المؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
وفي تحركات إسرائيلية، وجّه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو (المطلوب قضائيا لمحكمة العدل الدولية) وزراءه بعدم الحديث عن سعي إسرائيل لفرض السيادة على الضفة الغربية المحتلة، و”التكتم” على الأمر، خوفا من تراجع الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن دعم هذه الخطة.
وقالت صحيفة “معاريف” مساء أمس الثلاثاء إنه “من المتوقع أن يعقد نتنياهو اجتماعا سياسيا أمنيا، يتم فيه بحث إمكانية فرض السيادة في يهودا والسامرة (التسمية اليهودية للضفة الغربية)، وكذلك خطوات ردّ ضد السلطة الفلسطينية والدول الداعمة لهذه الخطوة”.
وكان من المقرر في البداية عقد الاجتماع في مكتب نتنياهو مساء أمس، على خلفية اعتزام عدد من الدول الغربية الاعتراف بدولة فلسطين، لكن لاحقا تقرر تأجيله، وفق المصدر ذاته، دون إبداء أسباب أو إعلان موعد جديد.
ترامب (يمين) يدعم خطة نتنياهو لضم الضفة الغربية (الجزيرة)
ضم مدعوم
ونقل موقع “والا” الإسرائيلي عن مصادر خاصة أن وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر أبلغ نظيره الأميركي ماركو روبيو، خلال لقائهما الأخير في واشنطن أن إسرائيل تتحرك بهدوء نحو فرض سيادتها على الضفة الغربية.
وبناء على هذه التطورات، قال الباحث في الشأن الإسرائيلي عماد أبو عواد للجزيرة نت إن حكومة نتنياهو تسعى لمصادقة مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر (الكابنيت) على قرار ضم غور الأردن الذي يشكل نحو 30% من مساحة الضفة الغربية، موضحا أن “الموافقة الأميركية غير المعلنة تعني سيطرة إسرائيل على 90% من المنطقة إذا تم الضم”.
إعلان
وأضاف أن دوافع هذه الخطوة أيديولوجية وأمنية، إذ ترى إسرائيل في غور الأردن والكتل الاستيطانية الكبرى مناطق إستراتيجية لا يمكن التنازل عنها، مشيرا إلى أن الهدف هو “منع الفلسطينيين من التقاط أنفاسهم أو بناء دولتهم”.
انتهاك للقانون الدولي
وتأتي تحركات الاحتلال الإسرائيلي لمزيد من التوسع على حساب الأراضي الفلسطينية في الوقت الذي يستمر عدوانه على الضفة الغربية، حيث أسفر حتى الآن عن استشهاد أكثر من 1016 فلسطينيا، وإصابة نحو 7 آلاف آخرين، واعتقال ما يزيد على 18 ألفا و500، وفق إحصاءات فلسطينية.
وعن قانونية هذه الانتهاكات، يقول أستاذ القانون الدولي بالجامعة العربية الأميركية رائد بدوية إن الضم يُعد “انتهاكا صارخا لمبدأ عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة وفق ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن، وعلى رأسها القرار رقم 242″.
وفي تصريحات للجزيرة نتو أكد أبو بدوية أن أي خطوة بهذا الاتجاه ستضع إسرائيل في مواجهة التزاماتها الدولية وتعرضها للمساءلة أمام محكمتي العدل الدولية والجنائية الدولية.
وأضاف أستاذ القانون الدولي أن أكثر من 3 ملايين فلسطيني سيجدون أنفسهم في حالة غموض وجودي، مرجحا أن تتوسع إسرائيل في سياسات التهجير القسري، سواء بالقوة العسكرية أو عبر التضييق الاقتصادي والإداري. مشيرا إلى أن الضم سيغلق عمليا الباب أمام أي حديث جدي عن حل الدولتين، ويفرض واقع الدولة الواحدة غير المتساوية.
محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية (مواقع التواصل)
السلطة الفلسطينية
وأجمع المحللون الذين التقهم الجزيرة نت على أن مشروع الضم سيضع السلطة الفلسطينية أمام أزمة وجودية، إذ ستتراجع من كيان سياسي إلى جهاز إداري محدود الصلاحيات ويخدم مصالح الاحتلال فقط.
فالباحث في الشأن الإسرائيلي عماد أبو عواد قال إن السلطة تحولت بالفعل إلى “سلطة إدارية” تتحمل أعباء الاحتلال في مجالات الصحة والتعليم.
في حين أوضح أبو بدوية أنها ستنحصر في إدارة الشؤون المدنية اليومية من دون أي بعد سياسي أو سيادي، الأمر الذي يقوّض مشروعها الوطني.
أما الخبير الأمني والعسكري أسامة خالد فيرى أن السلطة الفلسطينية باتت عمليا “في حكم الكيان المفكك”، وأنها ستعمل تحت إشراف الحاكم العسكري الإسرائيلي في حال المضي قدما بخطط الضم.
الجيش الإسرائيلي يغلق أسواق الخليل قبيل اقتحام المستوطنين (الأناضول)
استنزاف أمني
وعن تداعيات الضم، قال خالد للجزيرة نت إن الضم سيترك تداعيات كبيرة على المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، موضحا أن جيش الاحتلال سيواجه استنزافا في الموارد البشرية والمادية، إلى جانب ضغوط إضافية على خطط الطوارئ وحجم التجنيد، خاصة مع استمرار الحرب على غزة والتصعيد على جبهات أخرى.
وأضاف خالد أن هذه الأعباء تبدو ثانوية في نظر إسرائيل التي تآذار “اللامبالاة السياسية”، مستفيدة من الغطاء الأميركي والغربي وصمت العالمين العربي والإسلامي، بما يتيح لها فرض واقع أمني وسياسي جديد وترجمته إلى شرعية لاحقة.
وفي تموز/تموز الماضي، أقر الكنيست الإسرائيلي مشروع قانون يدعم “فرض السيادة” على الضفة الغربية التي تحتل إسرائيل أجزاء منها، ويوجد فيها نحو 700 ألف مستوطن إسرائيلي.
غزة- توقَّع رئيس نادي الأسير الفلسطيني، عبد الله الزغاري، ارتفاعا في أعداد الشهداء الأسرى داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي، نتيجة السياسات العدائية ضدهم من تجويع وتعذيب، وانتشار واسع للأمراض، خاصة الأمراض الجلدية الناجمة عن الإهمال الطبي والحرمان من العلاج والنظافة الشخصية.
وقال الزغاري إن أعداد الأسرى ارتفعت لأكثر من 10 آلاف و800 أسير، منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وعلى إثرها استشهد 77 أسيرا، نتيجة الظروف المأساوية داخل السجون، التي تفاقمت على نحو خطير خلال العامين الماضيين.
وأشار إلى أن أسرى غزة يعانون ظروفا أشد قسوة، مستدلا بمدير مستشفى الشهيد كمال عدوان في شمال قطاع غزة الدكتور حسام أبو صفية، الذي أصيب بأمراض جلدية، ويعاني من التجويع والإهمال الطبي، وخسر ثلثي وزنه.
وفي الحوار التالي يتحدث الزغاري للجزيرة نت بالتفصيل عن واقع الأسرى في سجون الاحتلال، والسياسة الانتقامية التي طالت حتى قادة الحركة الأسيرة، وآخرها اقتحام الوزير المتطرف إيتمار بن غفير لزنزانة الأسير القائد مروان البرغوثي، وتهديده، مما ينذر بتصفيته جسديا.
بن غفير يشارك فيديو يظهر حراس سجن النقب وهم يقتحمون زنازين أسرى فلسطينيين (مواقع التواصل)
بالنظر إلى تكثيف حملات الاعتقال منذ 7 تشرين الأول/تشرين الأول 2023، كم عدد الأسرى الفلسطينيين لدى الاحتلال؟
وصل عددهم حتى بداية آب/آب الماضي نحو 10 آلاف و800 أسير، علما أن هذا الرقم لا يشمل المعتقلين في المعسكرات التابعة لجيش الاحتلال، ويشكل هذا العدد الأعلى منذ انتفاضة الأقصى عام 2000.
ويبلغ عدد الأسيرات 49 أسيرة، بينهن اثنتان من غزة، أما الأطفال الأسرى (أقل من 18 عاما) يتجاوز عددهم 450 طفلا، في حين بلغ عدد المعتقلين الإداريين (دون تهمة أو محاكمة) حتى بداية تموز/تموز الماضي، 3613 معتقلا.
إعلان
ويبلغ عدد المعتقلين المصنفين كمقاتلين غير شرعيين 2378 معتقلا، ولا يشمل هذا العدد جميع معتقلي غزة المحتجزين في المعسكرات التابعة لجيش الاحتلال، مع الإشارة إلى أن هذا التصنيف يشمل أيضا معتقلين عربا من لبنان وسوريا.
كيف تصف واقع حياة الأسرى في سجون الاحتلال؟
الأوضاع مأساوية وبلغت ذروتها خلال حرب الإبادة الجماعية على غزة بعد “7 تشرين الأول” 2023، ومسَّت كل جوانب الحياة في السجون.
ومع أن هذه الأوضاع المأسوية شملت كل الأسرى، فإن معتقلي غزة، الذين اعتقلوا منذ “7 تشرين الأول” وخلال التوغل البري في القطاع، تعرضوا لظروف أسوأ وأقسى مما تعرض له بقية الأسرى الفلسطينيين، ولا سيما في معسكرات الاعتقال التابعة لجيش الاحتلال.
ورغم أن هذه الأوضاع تفاقمت عقب الحرب، فإنها بدأت مع تولي بن غفير المسؤولية عن مصلحة إدارة السجون ضمن منصبه الحكومي وزيرا للأمن القومي أوائل 2023، حيث رفع شعار العداء للأسرى.
وشكلت السياسات التي فرضت على الأسرى في السجون عقب الحرب على غزة انقلابا شاملا على كل مناحي الحياة الاعتقالية، وما حصل عليه الأسرى من حقوق بنضالاتهم الطويلة ودفعوا ثمنها دما. ووفَّر بن غفير غطاء سياسيا للسجانين ليمعنوا في إجرامهم بحق الأسرى.
بنقاط محددة، ما أبرز ملامح السياسة الانتقامية الإسرائيلية ضد الأسرى عقب الحرب؟
بعد الحرب على غزة، انتهجت إسرائيل سياسة انتقامية قاسية، وتصاعدت الانتهاكات بشكل غير مسبوق، حيث اعتبرت الإجراءات المتخذة بحق الأسرى جزءا من سياسة الانتقام الجماعي، يتلخص أبرزها:
العزل الجماعي والحرمان من الحقوق الأساسية: عزل مئات الأسرى في زنازين انفرادية، بمن فيهم قيادات الحركة الأسيرة، وإغلاق الأقسام ومنع التنقل بين السجون، وحرمان الأسرى من الزيارات العائلية والمحامين لفترات طويلة.
سحب الإنجازات والحقوق المكتسبة: إلغاء العديد من الحقوق الأساسية التي انتزعها الأسرى بنضالات طويلة، مثل تقليص أو منع الفورة (الاستراحة في الساحة)، وتقليص كمية الطعام وتردي نوعيته، ومنع إدخال الملابس والأغطية، ومنع إدخال الكتب والصحف.
العنف والتعذيب وسوء المعاملة: اعتداءات يومية على الأسرى من قبل وحدات القمع الخاصة، واستخدام الكلاب البوليسية والتفتيش العاري المهين، وتعذيب جسدي ونفسي داخل غرف التحقيق وخلال نقل الأسرى، والحرمان من العلاج والرعاية الصحية، بما في ذلك لأصحاب الأمراض المزمنة.
تصعيد حملات الاعتقال الإداري: تصاعد عدد المعتقلين إداريا، وتوسيع استخدام هذا النوع من الاعتقال بشكل تعسفي، وتمديدات متكررة دون أي مسوِّغ قانوني واضح.
حملات اعتقال جماعية في الضفة الغربية شنَّتها إسرائيل بعد “7 تشرين الأول”، طالت 9 آلاف أسير، بينهم ناشطون سياسيون، وطلبة وأسرى محررين.
القوانين والتشريعات العقابية: الدفع نحو تشريعات أكثر تطرفا، كمشروع قانون إعدام الأسرى المدانين بقتل إسرائيليين، وسن قوانين تزيد مدة العزل، وتقيد المحاكمات، وتمنح صلاحيات أكثر لإدارة السجون لقمع الأسرى.
الاستغلال السياسي والإعلامي: تصوير الأسرى على أنهم تهديد أمني دائم لتبرير الانتهاكات، واستخدام الإعلام الإسرائيلي لشيطنة الحركة الأسيرة وكسر الدعم الشعبي لها.
هل يختلف واقع الأسيرات عن الأسرى أم إن السياسة الإسرائيلية واحدة ضدهم؟
إعلان
رغم أن السياسة الإسرائيلية العامة في التعامل مع الأسرى تنبع من المنظومة القمعية نفسها، فإن هناك خصوصية لواقع الأسيرات، تتمثل في عدة نقاط:
الإهمال الطبي والتضييق المزدوج (باعتبارهن نساء): الأسيرات يتعرضن للإهمال الطبي شأنهن شأن الأسرى، لكن مع زيادة في الخطورة نتيجة تجاهل احتياجات المرأة الصحية الخاصة، كالرعاية في فترات الدورة الشهرية، والرعاية في حالات الحمل أو بعد الولادة، ونقص طبيبات مختصات، وهناك حالات لأسيرات أُصبن بأمراض مزمنة أو تعرضن لتعذيب نفسي وجسدي أثناء التحقيق دون توفير العلاج.
ظروف الاحتجاز المزرية: زنازين صغيرة تفتقر للنظافة والتهوية الجيدة، واستخدام الكاميرات داخل الأقسام بشكل يمس بالخصوصية، ومصادرة الأدوات الشخصية والملابس أحيانا، وتأخير إدخالها من الأهل.
العزل والحرمان من الزيارة: الأسيرات أكثر عرضة للعزل الانفرادي لفترات طويلة، ومنع زيارات الأهل بحجج أمنية، أو تأخيرها بشكل متعمد، وقلة توفر الكتب والمواد التعليمية.
التهديد والتحرش: بعض الأسيرات أبلغن عن مضايقات لفظية أو تهديدات ذات طابع جنسي خلال التحقيق، واستخدام الضغط النفسي المرتبط بالأنوثة أو العائلة كـ”التهديد بسحب الحضانة أو إيذاء أفراد الأسرة”.
استهداف الفئة العمرية الصغيرة: إسرائيل تعتقل فتيات قاصرات في سن 14 إلى 17 عاما، وقد تعرضن للتعذيب الجسدي أو النفسي أثناء الاعتقال. فعالية تضامنية مع الأسرى المرضى في سجون الاحتلال حيث تشير المعلومات إلى تدهور أوضاعهم الصحية (الجزيرة)
تحدثت عن تعذيب مضاعف وأشدة قسوة لأسرى غزة، هل من توضيح؟
نعم، يآذار الاحتلال إجراءات قمع وتعذيب أشد قسوة ضد أسرى غزة مقارنة بغيرهم من أسرى الضفة الغربية أو القدس، وتزداد أوضاعهم تدهورا حسب التطورات الميدانية، مثلما هو الواقع حاليا في ظل الحرب، ومن أبرز الإجراءات التمييزية التي يتعرض لها أسرى غزة:
العزل التام وقطع التواصل مع العالم الخارجي، والحرمان من الزيارة العائلية، وزيارة الصليب الأحمر، ومنع المحامين من زيارتهم.
الحرمان من الحقوق الأساسية، ومنها الملابس، والطعام المناسب، وحتى استخدام المرافق الصحية بشكل إنساني، وحرمان من العلاج حتى للحالات المرضية الخطيرة أو الإصابات.
التعذيب وسوء المعاملة، والاستخدام المفرط للعنف الجسدي والنفسي خلال التحقيق، وهناك شهادات عن تعذيب حتى الموت، كالضرب المبرح، والشبح، والحرمان من النوم، والتهديد باعتقال أو قتل الأقارب.
الاعتقال الإداري والتنكيل دون محاكمة، وشمل بعد الحرب آلاف المدنيين المعتقلين من دون لوائح اتهام، واحتجازهم في ظروف غير قانونية، وتسجيلهم محتجزين غير شرعيين، مما يفقدهم أبسط حقوقهم القانونية.
الإذلال الجماعي والعقوبات الجماعية، ويتضمن حلق رؤوس المعتقلين وتعريتهم وإجبارهم على أوضاع مهينة، وقد أظهرت صور وتسريبات معتقلي غزة مكدسين في العراء مكبلي الأيدي ومعصوبي الأعين لفترات طويلة.
أعلنتم أن المجاعة تفتك بالأسرى في السجون، هل من تأكيد؟
نعم، ينتهج الاحتلال سياسة التجويع وتتفشى المجاعة داخل السجون، وأبرز مظاهرها:
تقليص كمية ونوعية الطعام: يقدم الاحتلال وجبات غذائية لا تكفي من حيث الكمية ولا تتوفر فيها القيمة الغذائية اللازمة، مما يؤدي إلى سوء تغذية، خاصة في حالات الإهمال الطبي.
فرض عقوبات جماعية: ومنها سحب “الكانتينا” (دكان السجن)، أو يتم تقليصها، مما يمنع الأسرى من شراء الطعام أو المكملات الغذائية.
الإهمال الطبي المرتبط بالتغذية: بعض الأسرى يعانون أمراضا مزمنة تتطلب نظاما غذائيا خاصا، لكن إدارة السجون لا توفر هذا النوع من الرعاية.
إن هذه السياسة تنتهك اتفاقية جنيف الرابعة التي تنص على ضرورة معاملة الأسرى والمعتقلين معاملة إنسانية، وتوفير الغذاء الكافي من حيث الكم والنوع، وحسب القانون الدولي فإن استخدام التجويع كسلاح يعد جريمة حرب.
يبدو أن هناك تركيزا على الرموز وقادة الحركة الأسيرة، أليس كذلك؟
إعلان
يتخذ الاحتلال جملة إجراءات تنكيلية وعمليات وتعذيب ممنهجة أدت إلى إصابات بين صفوف الأسرى، بما فيهم رموز من غزة وقادة بالحركة الأسيرة.
وصعَّدت إدارة السجون من مستوى الجرائم الطبية التي تجاوزت مفهوم الإهمال المتعمد، الذي شكل على مدار السنوات القليلة الماضية السبب الأساسي في استشهاد العديد من الأسرى.
ونتيجة هذه الإجراءات تنتشر في أوساط الأسرى أمراضا جلدية خطيرة كالجرب (سكابيوس) والدمامل والتهابات شديدة في الجلد، بينهم الأسير الدكتور حسام أبو صفية الذي يحرمه الاحتلال من الاستحمام الكافي الذي لا يتجاوز الدقيقتين، ويمنعه التعرض لأشعة الشمس سوى 30 دقيقة شهريا، وفقد نحو ثلثي وزنه، وسط حرمان من الأدوية والمتابعة الطبية المتخصصة.
وفي السياق، جاء اعتداء بن غفير على الأسير القائد مروان البرغوثي داخل زنزانته، حيث يقبع بالعزل الانفرادي منذ “7 تشرين الأول” 2023، وتهديده، وهذا إعلان صريح بنية الاحتلال تصفيته واغتياله.
وقد سبق ذلك اعتداءات جسدية عليه أعنفها في التاسع من أيلول/أيلول العام الماضي، حيث تعرض لاعتداء شرس في زنزانته، تسبب بإصاباته برضوض، ونزيف في أذنه، وجرح في ذراعه، مع آلام في ظهره، دون حصوله على علاج مناسب.
أسفرت السياسات العدائية عن استشهاد 77 أسيرا في السجون منذ اندلاع الحرب، هل تخشون استشهاد المزيد؟
بكل تأكيد، خاصة في ظل الظروف القاسية التي يعيشها الأسرى، والتدهور الخطير داخل السجون، جراء التعذيب والتجويع والإهمال الطبي المتعمد.
إن استشهاد 77 أسيرا ليس مجرد رقم، بل يعكس واقعا مقلقا من الانتهاكات الممنهجة، مما يزيد من احتمالية سقوط مزيد من الضحايا، ويفاقم من المخاوف على حياة كل الأسرى.
“ليست البراعة أن تنتصر في مئة معركة، بل أسمى درجات البراعة أن تُخضع عدوك دون قتال”.
الفيلسوف والمنظر العسكري صن تزو – من كتاب فن الحرب
في يوم الجمعة الموافق 20 حزيران/حزيران الماضي، وقرب شعاب سكاربورو المتنازع عليها في بحر جنوب الصين، واجهت سفينة حرس حدود صينية سفينة حكومية فلبينية.
ووفقا للرواية الصينية، أُطلق تحذير واضح للسفينة الفلبينية عبر اللاسلكي بمغادرة المنطقة فورا، لكن السفينة الفلبينية تجاهلت النداء، مما دفع السفينة الصينية لإطلاق تيار مياه عالي الضغط، من مدفع المياه على متنها، ليقذف السفينة الأخرى بعيدًا.
لم يكن هذا المشهد سوى فصل جديد في سلسلة متصاعدة من المواجهات، حيث تهاجم سفن صينية قوارب وسفنا تابعة للدول التي تنازعها السيطرة على بحر جنوب الصين، وتدفعها للتراجع باستخدام مدافع المياه.
فقبل تلك الحادثة بأسابيع، شهدت منطقة قريبة من جزيرة “ساندي كاي” (وهي موطن نزاع بين بكين ومانيلا أيضا) حادثًا مشابهًا، حين أطلقت سفينة خفر سواحل صينية مدفع مياه تجاه سفينة أبحاث فلبينية، مما أدى إلى تصاعد التوتر الدبلوماسي بين البلدين.
غالبا ما تعتمد قوات خفر السواحل حول العالم على “القوة غير المميتة”، ومنها مدافع المياه عالية الضغط، لردع المنظمات الإجرامية العابرة للحدود، بمن في ذلك القراصنة ومهربو المخدرات وتجار الأسلحة والمتاجرون بالبشر، مما يسهل عملية إيقاف القطع البحرية المشتبه بها والصعود إليها وتفتيشها.
لكن الصين وحدها توسع استخدام هذا النوع من الأسلحة غير المميتة بما يتجاوز أغراضها الشائعة، إذ يذكر كيفن إديس، المحلل في مجال الأمن البحري، بأنه لا توجد قوة خفر سواحل باستثناء الصين تستخدم مدافع المياه ضد سفنٍ حكومية تابعة لدولٍ أخرى. إذ يعمد خفر السواحل الصيني إلى توجيه مدافع المياه عالية الضغط نحو السفن المعادية، مستهدفًا سفنًا من الفلبين وفيتنام على وجه الخصوص في المناطق المتنازع عليها ببحر جنوب الصين.
إعلان
لفعل ذلك، وضعت الصين إطارا قانونيا خاصا يبرر هذا النوع من العمليات. ففي كانون الثاني/كانون الثاني عام 2021، أقرّت بكين قانونًا لخفر السواحل يمنحه صلاحية اتخاذ جميع التدابير اللازمة، بما فيها استخدام الأسلحة، ضد السفن التي تُصنَّف بأنها “تنتهك السيادة الصينية” عبر الإبحار في المياه المتنازع عليها. ومؤخرًا أصبحت مدافع المياه هي التكتيك المفضل ضمن تكتيكات الحرب الرمادية الصينية، خاصة مع إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين دقة تلك المدافع.
تعرف الحرب الرمادية بأنها ذلك النوع من الصراعات التي تقع في منطقة وسيطة بين الحرب الشاملة والسلام، وتنطوي على عمليات غير عسكرية مثل التجسس والتخريب وتقويض سلاسل الإمداد ومنع الوصول، تماما كما تفعل الصين مع خصومها في البحار.
وتتعامل بكين على نحو متزايد مع أدوات مثل مدافع المياه باعتبارها ضرورية لتعزيز قبضتها على المناطق البحرية المتنازع عليها في بحر جنوب الصين، مع تقليل احتمالات اندلاع اشتباكات مسلّحة.
وبحسب باحثين مطلعين، يُتوقع أن يتصاعد تكرار وشدة استخدام مدافع المياه في بحر جنوب الصين. ويرى هؤلاء أن مدفع مياه قوي –لا سيما حين تدعمه دقة الذكاء الاصطناعي– يمثل الأداة الأنسب لتوفير “قوة محسوبة”، وفي الوقت نفسه “رادعة” للخصوم من دون إيقاع خسائر بشرية، مما يخفض خطر اندلاع النزاعات الكبرى أو الحرب الشاملة.
مدافع مياه بالذكاء الاصطناعي
من الناحية التقنية لا يعد مدفع المياه سلاحا فتاكا، فهو جهاز ثابت أو قابل للتوجيه، موصول بخط الإطفاء الرئيسي على متن السفينة، ومُصمَّم لإطلاق تيارٍ مياه عالي الضغط. ويبلغ معدل التدفق النموذجي للمدفع نحو 20 لترًا في الثانية، وغالبا ما يُستخدم للترهيب والتشتيت والإرباك للسفن المعادية.
ولكن في بعض السيناريوهات، قد يتسبب ارتفاع ضغط الارتطام في تلف المعدات الخارجية أو إلحاق إصابات جسيمة بالأفراد المعرضين لتيار المياه مباشرة.
وبعيدا عن القدرات الميكانيكية التقليدية لمدافع المياه، يستند الجيل الأحدث لخراطيم المياه الصينية إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما يمنحها قدرة دقيقة على التحكم والتصويب. وتتيح هذه الابتكارات لبكين ميزة تقنية نوعية، تجعل استجابتها أسرع وأكثر فاعلية مقارنة بمنافسيها.
وفي نيسان/نيسان عام 2024، أعلن باحثون في معهد ووهان لأبحاث الدفع الكهربائي البحري عن تطوير “أول مدفع مياه ذكي في العالم بالذكاء الاصطناعي”، ويُعدّ المعهد البحثي أبرز مورّد لمعدات الدفع الكهربائي المخصصة للسفن الحربية في الأسطول البحري الصيني، ويتولى إدارة مجموعة من المختبرات الرائدة في تطوير التكنولوجيا البحرية المتقدم.
يهدف النظام الذكي إلى زيادة دقة وفعالية هذه الاشتباكات غير القاتلة، وهو مزوّد بكاميرا كهروضوئية ومستشعرات حركة، تمكّنه من تتبع السفن واستهدافها تلقائيًا وسط الأمواج المتلاطمة، مع القدرة على تثبيت خرطوم المياه على الهدف وضبط قوة واتجاه تدفق المياه في الوقت الفعلي وفق حركة السفينة المعادية.
إعلان
ويطلق المدفع تيار مياه عالي الضغط بمدى يتجاوز 100 متر، خالقا ضغطا (الضغط فيزيائيا هو مقدار القوة العمودية المؤثرة على مساحة ما) يتجاوز 1.2 ميغاباسكال. للتقريب فإن ذلك يشبه أن يتعرض شخص للدهس بكتلة تعادل 9 أطنان، وهو وزن فيل أفريقي ضخم، مما يعني أن المدفع قادر -في أدنى الأحوال- على إيقاف أو دفع أي جسم أو شخص يعترض طريقه.
وأظهرت التجارب الصينية أن المدفع أصاب أهدافه بهامش خطأ لا يتجاوز مترين، حتى في ظروف صعبة تشمل رياحًا عاتية وأمواجًا بارتفاع 4 أمتار. ووفقًا للفريق البحثي الصيني، تمثل تلك النتيجة تحسنًا في الدقة بنسبة تتراوح بين 33% و54% مقارنة بمدافع المياه التقليدية.
ومن خلال تحسين الدقة، خصوصًا في البحار المتقلبة التي تقوّض فاعلية مدافع المياه التقليدية، يهدف النظام الذكي إلى تمكين السفن الصينية من إصابة أهدافها بدقة من دون اللجوء إلى استخدام الرصاص.
نتيجة لذلك، خلص تقرير أعدّه فريق الباحثين بأكاديمية الشرطة البحرية الصينية، أن نشر هذه المدافع الذكية يرسّخ حضور الصين في المناطق المتنازع عليها، بوصفها أدوات حاسمة تمنح قواتها البحرية تفوّقًا ميدانيًا وقدرة على “إخضاع العدو دون قتال”، انسجامًا مع إستراتيجيات الجنرال والفيلسوف العسكري التاريخي صن تزو -مؤلف كتاب فن الحرب- التي تهدف إلى تحقيق النصر من دون خوض حرب شاملة.
تصاعد المواجهات
ولأن كافة الأطراف المتنازعة “تتمسك بكل شبر من أراضيها وترفض التنازل عنه”، حذّر التقرير الصيني السابق الإشارة إليه من أن اللجوء إلى الأسلحة التقليدية المميتة في مناوشات محدودة قد يدفع نحو تصعيدها إلى نزاعات مسلّحة واسعة النطاق، وهو سيناريو لا ترغب الصين، ولا سائر دول الجوار في بحر جنوب الصين، في حدوثه.
خريطة لتايوان والبر الرئيسي للصين و”خط الوسط” بينهما (الجزيرة)
وذكر التقرير أن “الأسلحة غير المميتة لا تؤدي مباشرةً إلى وفاة الأفراد أو تدمير المعدات أو الإضرار بالبيئة، بل تعتمد وسائل تقنية محددة لحرمان الأفراد أو المعدات لدى الطرف الآخر من الفاعلية القتالية، محققة هدف قهر العدو دون قتال”، وهو ما يمكن الصين من تحقيق أهدافها في السيطرة البحرية خاصة في بحر جنوب الصين.
تشهد هذه المنطقة توترا متصاعدا منذ عام 2012، حين سيطرت الصين على شعاب سكاربورو –الغنية بمصائد الأسماك والواقعة على بعد 120 ميلا بحريًا من الفلبين. وبحلول عام 2014، كانت بكين تعمل على ترسيخ سيطرتها من خلال إبعاد الصيادين الفلبينيين فعليًا عن المنطقة.
وفي 27 كانون الثاني/كانون الثاني 2014، طردت سفينة تابعة لخفر السواحل الصيني مجموعة صيادين فلبينيين احتموا بشعاب سكاربورو، بعدما رشّت قواربهم الصغيرة بتيارات مياه عالية الضغط. أثار الحادث احتجاجًا رسميًا من مانيلا، التي حذرت من أن هذا النوع من المضايقات “يؤجج التوتر في المنطقة ويهدد السلام والاستقرار”، كما أوردت وكالة رويترز حينها.
من جانبها، رفضت وزارة الخارجية الصينية تلك الشكوى بصورة قاطعة، قائلة إن السفن الصينية كانت تطبق القوانين الوطنية في مياه تقع ضمن “الولاية القضائية الصينية”. وقد شكّل حادث مدفع المياه في سكاربورو إحدى أوائل حالات الاستخدام البارز للقوة غير المميتة في هذا النزاع، مرسلا رسالة واضحة مفادها أن الصين عازمة على فرض سيادتها على هذه المياه بصورة نهائية.
إعلان
وفي 16 تشرين الثاني/تشرين الثاني عام 2021، وبعد فترة من الهدوء النسبي، أعادت الصين تفعيل تكتيك مدافع المياه ضد الفلبين، بعدما اعترضت 3 سفن تابعة لخفر السواحل الصيني قاربين فلبينيين مدنيين، مستأجرين لنقل الغذاء والماء إلى وحدة بحرية فلبينية عند شعاب توماس الثانية، وأطلقت عليهما تيارات مياه عالية الضغط أجبرتهما على التراجع. ورغم أن الحادثة لم تسفر عن إصابات، فإنها مثلت تصعيدًا لافتًا في مساعي بكين لعرقلة وصول الإمدادات إلى الموقع العسكري الفلبيني.
تسارعت وتيرة المواجهات لاحقا، وفي آب/آب 2023، أطلقت سفينة خفر سواحل صينية مدفع مياه على قارب إمداد فلبيني متجه إلى شعاب توماس الثانية، فمزقت قوة المياه هيكل القارب الخشبي وأغرقت أجهزة الملاحة، مما أجبره على التراجع. وصفت الحكومة الفلبينية الحادثة بأنها غير قانونية وخطرة، فيما سارعت الولايات المتحدة لإدانة “تصرفات بكين الخطرة” وتأكيد التزامها بدعم مانيلا.
مع اقتراب عام 2023 من نهايته، بلغت المواجهات البحرية بين الصين والفلبين مستوى لم يشهد مثله منذ سنوات. ففي 22 تشرين الأول/تشرين الأول، وقعت أخطر الحوادث قرب شعاب توماس الثانية، حين اصطدمت سفن الطرفين بشكل مباشر. أظهر مقطع مصوّر لخفر السواحل الفلبيني سفينة صينية وهي تعترض مسار قارب إمداد فلبيني أصغر بكثير، مما أدى إلى تمزيق أجزاء من ذراع التوازن وهيكل القارب، وفقًا لوكالة أسوشيتد برس.
وفي آذار/آذار عام 2024، وفي نفس المنطقة السابقة، استخدمت سفن خفر السواحل الصيني مدافع المياه واصطدمت بمهمة إمداد فلبينية متجهة إلى السفينة “سييرا مادري”، مما أدى إلى إصابة بعض أفراد طواقم السفن الفلبينية وألحق بها أضرارًا واضحة.
تشير هذه الوقائع، وغيرها أن مدافع المياه أصبحت تكتيكا صينيا مفضلا في هذا النوع من المواجهات وأن بكين تستخدمه بجرأة ملحوظة، أحد أسباب ذلك هو القانون الدولي لا يعدّ هذا النوع من الهجمات “هجوما مسلحا” وهو ما يقلل من تكاليف هذه الأنشطة دبلوماسيا على بكين ويقلص كذلك من الاهتمام الإعلامي بها.
والأهم من ذلك، أن هذه الهجمات تظل منخفضة المستوى بشكل لا يسمع بتفعيل المعاهدات الدفاعية خاصة معاهدة الدفاع المتبادل بين الولايات المتحدة والفلبين “MDT” واتفاقية التعاون الدفاعي المعزز “EDCA” المكملة لها.
تكتيكات الحرب الرمادية
يشير المحلل كيفن إديس في تقريره لموقع “سي لايت” المتخصص في رصد الصراعات البحرية إلى أن استخدام الصين لمدافع المياه يندرج ضمن “تكتيكات حرب المنطقة الرمادية” التي توفر وسيلة فعّالة لفرض سيادتها البحرية، مع تقليل التكاليف السياسية والدبلوماسية.
كما أنها تضع خصومها أمام معضلة في الرد. ومن خلال الاعتماد على سفن خفر السواحل و”المليشيات البحرية” -أي السفن غير النظامية- بدلا من القطع الحربية، تمضي بكين في فرض مطالبها وهي تحافظ على هامش الإنكار وتتجنب الظهور بمظهر المعتدي العسكري المباشر، وفق التقرير.
تستثمر الصين بشكل ملحوظ في هذا النوع من القدرات. يشير تقرير صادر عام 2024 من مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) إلى أن “خفر السواحل الصيني يظل الفاعل الحكومي المهيمن في المياه المتنازع عليها ببحر جنوب الصين” مشيرًا إلى الدور المحوري لهذه القوة في عمليات الصين السلمية لبسط سيطرتها على تلك المناطق. ووفق التقرير، غالبا ما ترافق تلك السفن أساطيل من قوارب الصيد المدنية التي تعمل كـ”مليشيات بحرية”، لتشكّل معًا خط المواجهة الأول في مناطق مثل شعاب سكاربورو وجزر سبراتلي.
لفعل ذلك، عززت بكين القدرات الميدانية لخفر سواحلها، من خلال إدخال سفن جديدة ضخمة قادرة على إزاحة ما بين 10 آلاف و12 ألف طن من المياه (وهو رقم هائل وغير مسبوق عالميا على صعيد قدرات خفر السواحل) بجانب أسطولها الحالي من سفن الدوريات الصغيرة والمتوسطة. ففي عام 2016، أطلقت الصين السفينة “سي سي جي – 3901” بوزن يتجاوز 12 ألف طن، لتصبح أكبر سفينة خفر سواحل في العالم، متفوقة على الطرّاد الأميركي من فئة “تيكونديروجا”.
إعلان
تزود هذه السفن الصينية بمدافع مياه ثقيلة وهياكل مدعمة للاصطدام، تمنحها تفوقًا ميدانيًا واضحًا، إذ لا تملك القوارب الفلبينية أو الفيتنامية الصغيرة سوى خيار الانسحاب أو المخاطرة بالغرق أمام سفينة عملاقة. وتشير التقارير إلى امتلاك الصين لأكثر من 150 سفينة خفر سواحل كبيرة، يتجاوز وزن الكثير منها ألف طن، مما يضمن سيطرة واسعة على الشعاب والمياه المتنازع عليها.
في الوقت الراهن، تبدو الصين عازمة على توظيف كل أداة متاحة في ترسانتها، من دون الانزلاق إلى استخدام القوة القاتلة، لترسيخ نفوذها في بحر جنوب الصين. وتحتل مدافع المياه القوية، المزودة حديثا بتقنيات الذكاء الاصطناعي، موقعًا محوريًا في هذه الترسانة. تعتمد الإستراتيجية على مبدأ الترهيب، عبر رفع كلفة المقاومة إلى حد يدفع الخصوم إلى الإذعان دون مواجهة مباشرة، تجسيدًا لما قاله صن تزو حول البراعة التي تعني إخضاع العدو دون قتال.
في غمرة احتفائه بما يعتقد أنه انتصارات تاريخية، لم يتردد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، باعتبار نفسه في “مهمة تاريخية وروحية”، معلنا أنه متمسك “جدا” برؤية إسرائيل الكبرى، التي تشمل الأراضي الفلسطينية، وربما أيضا مناطق من الأردن، ومصر، بحسب صحيفة تايمز أوف إسرائيل.
وذكرت الصحيفة أن محاوِر قناة i24 الإسرائيلية، شارون غال، الذي كان لفترة وجيزة عضوا يمينيا في الكنيست، أهدى نتنياهو تميمة على شكل “خريطة الأرض الموعودة”، وعندما سئل عن مدى ارتباطه “بهذه الرؤية” لإسرائيل الكبرى، أجاب نتنياهو: “بالتأكيد”.
فكرة أو مصطلح “إسرائيل الكبرى” استخدم بعد حرب 1967، أو ما يعرف بـ”النكسة” للإشارة إلى إسرائيل والمناطق التي احتلتها آنذاك والتي تضم القدس الشرقية، والضفة الغربية، وقطاع غزة، وشبه جزيرة سيناء، ومرتفعات الجولان.
تأتي تصريحات نتنياهو لا لتؤكد فقط عقيدته الصهيونية المتطرفة التي تعبر عنها تركيبة وسياسات حكومته بشكل واضح، وإنما أيضا حجم الرهانات الشخصية التي تضخمت حد التورم لدى نتنياهو، لا سيما لما اعتبره إنجازات عسكرية مهمة في غزة، ولبنان، وسوريا، وإيران، وحتى في اليمن، والعراق.
هذه المكاسب العسكرية التي يتباهى نتنياهو بتحقيقها، لا تبدو على المستوى الإستراتيجي كنصر حقيقي، يمكن أن يوفر لإسرائيل ضمانات الأمن وتأمين الوجود. بل قد يتحول بعضها إلى معادلات أشبه بالهزيمة لنتنياهو ولإسرائيل.
أولا: لا يستطيع نتنياهو اليوم إعلان هذا الانتصار الذي يزعم أنه حققه، لأنه بالقياس إلى الأهداف التي أعلنها في بداية الحرب منذ حوالي 22 شهرا، لم يستعد الأسرى كأحد أهدافه المعلنة، ولم ينهِ حركة المقاومة الإسلامية حماس، بل فضلا عن تلقي جيش الاحتلال ضربات موجعة بكمائن نوعية من كتائب عز الدين القسام، التابعة لحماس، يعود نتنياهو في كل مرة للدخول في مفاوضات مع الحركة. بل ونجحت الحركة في فرض نفسها مفاوضا مع الولايات المتحدة الأميركية، ما يبدد فكرة القضاء عليها، مثلما خطط لذلك نتنياهو.
إعلان
والحقيقة أنه ومنذ الأشهر الأولى للحرب على غزة، تواترت التصريحات من قادة جيش الاحتلال الإسرائيلي، ومن رموز المعارضة، ومن العديد من زعماء العالم بمن في ذلك الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، بأنه لا يمكن هزيمة حركة حماس، لسبب بسيط لأنها ليست مجرد جماعة مسلحة، وإنما هي فكرة.
ثانيا: لا يستطيع نتنياهو أن يزعم أنه نجح بشكل نهائي، في إسكات جبهات المواجهة الأخرى، التي فتحها على نفسه، بعد 7 تشرين الأول/تشرين الأول 2023، سواء مع لبنان، أو اليمن، أو إيران، التي تشير التقديرات إلى أن مشروعها النووي لم يدمَر، وإنما تعرض لأضرار جزئية، قد تجعل سيناريو تسريعه أرجح من سيناريو إنهائه.
ولا تزال المنطقة كلها تنبثق عن أوضاع تنذر بحالة من التوتر والاضطراب، وليس بحالة من الاستقرار لصالح إسرائيل.
كما لا تزال الجبهة الأساسية وهي غزة تلوح كمستنقع يستدرج إليه نتنياهو فيما يشبه “المصيدة الإستراتيجية” بحسب توصيف رئيس أركان جيش الاحتلال إيال زامير، الذي عبر في اجتماعات داخلية عن اعتراضه على فكرة احتلال غزة.
ثالثا: يتوهم نتنياهو أن حجم الدمار والقتل والإبادة الذي ارتكبه في غزة يمثل عنوان انتصاره، ونجاحه، بينما يرى العالم اليوم حجم الدمار غير المسبوق في قطاع غزة باعتباره جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وهي جرائم حولت إسرائيل إلى كيان بغيض ومنبوذ، يعاني من عزلة، ويفقد دائرة أصدقائه وداعميه تباعا. وتمثل التحولات المعتبرة في مواقف القادة الغربيين باستثناء الولايات المتحدة الأميركية، حجم الضرر الدبلوماسي والسياسي الذي لحق بإسرائيل بسبب ما يرتكبه نتنياهو من إبادة في غزة.
فالرأي العام العالمي يتظاهر بعشرات الملايين أسبوعيا تضامنا مع غزة ورفضا للجرائم المروعة ضد الأطفال والنساء والنازحين. وقد رُفع العلم الفلسطيني في أنحاء العالم خلال العامين الماضيين، كما لم يرفع أي علم بلد في التاريخ.
وتحولت القضية الفلسطينية إلى قلب الاهتمام الدولي، شعبيا ورسميا. وتمثل خطوة العديد من دول العالم الاعتراف بالدولة الفلسطينية أو إعلان نية الاعتراف، تحولا نوعيا في المواقف الدولية في العلاقة بالقضية الفلسطينية.
وتزداد أهمية هذه التحولات عندما تعلن دول من الوزن الثقيل وأعضاء دائمون في مجلس الأمن الدولي، على غرار فرنسا وبريطانيا، نية الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
وهو زخم بقدر ما أعاد الاعتبار للقضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني، بقدر ما أربك القادة الإسرائيليين بشكل لافت، جعلهم يهاجمون تلك الدول ويعتبرونها تصطف إلى جانب حركة حماس.
وفضلا عن كل هذه العزلة الدبلوماسية، يواجه قادة إسرائيل اليوم ملاحقة من القضاء الدولي في مختلف أنحاء العالم، لا سيما محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية.
رابعا: اعتبر خبراء أميركيون وغربيون أن نتنياهو بعناده وتماديه في الحرب على غزة، بل ومغامراته العسكرية على الجبهات الأخرى، إنما يورط إدارة ترامب في مستنقع مواجهات عسكرية وحروب هو لا يريدها.
وفي الوقت الذي يكافح ترامب من أجل نحت صورة له كرجل سلام وضد الحروب، واضعا نصب عينيه هدف نيل جائزة نوبل للسلام، يعمل نتنياهو عكس هذا الهدف تماما، من خلال جر ترامب لمستنقع الحرب مع إيران، بل وجر الولايات المتحدة للتورط في المنطقة وإشعال فتيل عدم الاستقرار فيها. وإذ يفعل نتنياهو ذلك يشتت تركيز واشنطن باتجاه الصين عدوا إستراتيجيا، وروسيا خطرا إستراتيجيا.
إعلان
ولقد ارتفعت أصوات عديدة في الولايات المتحدة الأميركية تحذر ترامب، وتدعوه لعدم الانجرار وراء ألاعيب نتنياهو وعناده، وضرورة النأي بنفسه عن سياسات إسرائيلية باتت اليوم قرينة الإبادة وجرائم الحرب والتجويع والتهجير.
خامسا: بدد نتنياهو ما كان يمكن أن يعتبر مكاسب عسكرية، عندما فشل في استثمارها سياسيا، مصرا بدل ذلك على التمادي في حرب تحصد أرواح الأبرياء من المدنيين، وتخلف دمارا واسعا، لا يبدو الهدف منه واضحا ولا ممكنا.
وبدا الانتشاء بتلك المكاسب العسكرية فخا ورط القادة الإسرائيليين لا سيما نتنياهو وفريق حكومته في تصريحات خطيرة، تقوض أي فرص للبناء على تلك المكاسب العسكرية والاستثمار فيها سياسيا. فقد تورط قادة إسرائيليون انتشاء بتلك المكاسب في التنظير للإبادة والتهجير القسري، واستعمال النووي ضد أهل غزة.
كما تفاخر نتنياهو بالحديث دون اعتبار لدول المنطقة، عن هدف إسرائيل في إعادة تشكيل المنطقة، وهندسة الشرق الأوسط. ومضى في أكثر من مرة إلى حد استدعاء وهْم “إسرائيل الكبرى” التي تشمل أجزاء من دول عربية كثيرة، بعضها مطبِع مع تل أبيب.
وقد أثار هذا الموقف الإسرائيلي حفيظة وغضب دول المنطقة، ووضع حظوظ إسرائيل في إقامة علاقات طبيعية مع هذه الدول محل شك وتساؤل. بيد أن الغرور الإسرائيلي لا يزال يتمادى، حتى إنه نقل عن نتنياهو في أحد اجتماعات حكومته قوله إن دولا عربية ستطبع مع إسرائيل دون الحاجة لأن توقف إسرائيل حربها.
سادسا: ثمة وهم يسكن عقول وأطماع القيادة الإسرائيلية المتطرفة اليوم، سيساهم مساهمة كبيرة في تعميق أزمتها، وتبديد ما حققته مما يبدو مكاسب عسكرية وأمنية، وهي فكرة الهيمنة على المنطقة وإعادة تشكيلها على مزاجها.
فالتفوق العسكري الذي تعمل الولايات المتحدة الأميركية بالتعاون مع دول غربية على تأمينه لإسرائيل، باتت القيادات الإسرائيلية الأخيرة تقرؤه بشكل خاطئ، وتفهمه باعتباره فرصة للهيمنة على المنطقة وصاحبة القول الفصل فيها وعليها.
وبرزت هذه النزعة في التصريحات الكثيرة التي تصدر عن نتنياهو وشخصيات إسرائيلية أخرى بما يفيد هذا الموقف. فسمعنا كثيرا من القيادات الإسرائيلية كلاما عن: إعادة تشكيل المنطقة، الاتفاقيات الأبراهامية، إسرائيل الكبرى.
وصاحب هذه المواقف والتصريحات عدوانية إسرائيلية جامحة، تستبيح دول المنطقة بهجمات عسكرية، في فلسطين، ولبنان، والعراق، وإيران، وسوريا، وشبكات تجسس نشطة. وإذ يندفع الإسرائيليون بهذا الجموح الهيمني، منتشين بالحملات العسكرية التي يستهدفون بها دول المنطقة، بما في ذلك إيران، يتناسون حقائق صلبة لا يمكن القفز عليها ولا تجاهلها في التاريخ والديمغرافيا والجغرافيا والسياسة والإستراتيجية.
فحلم التحول إلى القوة المهيمنة إقليميا، لا تكفي فيه المكاسب العسكرية الإسرائيلية المرفوعة والمدعومة بالكامل من الولايات المتحدة الأميركية، وإنما يقتضي شروطا أخرى أهم، لا يبدو أن إسرائيل في وارد توفيرها، لا حاضرا ولا مستقبلا.
فإسرائيل التي لا يزيد عدد سكانها عن 10 ملايين نسمة، منهم 25% من العرب، لا يمكنها أن تجعل من نفسها القوة المهيمنة في منطقة تعد حوالي 450 مليون عربي، و90 مليون إيراني، وحوالي 90 مليون تركي، مع مساحة جغرافية تزيد عن 15 مليون كيلومتر مربع، بينما لا تزيد المساحة المحتلة التي تقع عليها إسرائيل عن 23 ألف كيلومتر مربع.
ولا تبدو إسرائيل تملك من مقومات قوة إقليمية مهيمنة، وهي بطبعها، باعتبارها قوة احتلالية، تواجه إعاقة حتى في طبيعتها، وعدم قابلية اندماجها في المنطقة، وعدم قبول مكونات المنطقة بالتسليم لها كقوة إقليمية مهيمنة، كل ذلك يبدد التطلعات الإسرائيلية بالهيمنة على المنطقة، ويجعل منها مجرد أوهام.
إعلان
ففضلا عن المزاج الشعبي العام في المنطقة الرافض، بل والمعادي بشدة لإسرائيل، لا تبدو الأخيرة قادرة على القضاء أو إخضاع من تعتقد أنهم يقفون في وجهها لتنفيذ مخططها، فلا تركيا الناهضة، ولا إيران العنيدة، ولا مصر الباحثة عن نفسها، ولا سوريا القادمة من بعيد، ستقبل بمشهد إقليمي، تشكله إسرائيل، وتتحكم فيه، وتهيمن من خلاله على المنطقة.
بل ستواجه إسرائيل رغم ما تبديه من علو كعبها اليوم، تحديات داخلية وإقليمية ودولية كبيرة، لن تدفعها فقط إلى الانكفاء والانحسار، وإنما ستجدد السؤال الذي يؤرقها ويلاحقها منذ القيام إلى اليوم، وهو سؤال الوجود نفسه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.