هل يمكن كسر دائرة “العمى الأخلاقي” في إسرائيل؟

هل يمكن كسر دائرة “العمى الأخلاقي” في إسرائيل؟

تظهر متابعة السجال الإسرائيلي حول حرب غزة صدمة مفاهيمية لافتة: إذ يهيمن خطاب الأمن وتحرير الرهائن على المشهد العام، فيما تمحى معاناة المدنيين الفلسطينيين أو تزاح إلى هامش أخلاقي وسياسي يكاد يخلو من الوزن.

هذا الانفصال بين الوعي الجمعي والواقع الإنساني لا يمكن اختزاله في حدود الدعاية أو التحيز الإعلامي؛ بل يكشف الحاجة إلى تفكيك البنية الأيديولوجية والذهنية التي تنظم إدراك المجتمع الإسرائيلي للصراع.

ينطلق هذا المقال من قراءة مركبة تتشابك فيها أربعة أبعاد:

  • أطر قومية- إثنوسياسية ترسخ التفوق الجماعي.
  • ذهنية أمنية مشبعة بصدمات تاريخية ممتدة.
  • منظومات تنشئة وإعلام تحول العنف إلى مآذارة مقبولة أخلاقيا.
  • وعقيدة إستراتيجية تطبِع العنف الدوري باعتباره إدارة للصراع لا سبيلا إلى حله.

وفي ضوء ذلك، تطرح مقاربة بديلة ضرورية لتفكيك دائرة “العمى الأخلاقي” وإعادة تركيب الوعي الجماعي على أسس أكثر عدالة وإنسانية.

1- الصهيونية كإطار مؤدلِج للضمير الجمعي

الصهيونية ليست مجرد حركة قومية بالمعنى التقليدي، بل هي أيديولوجية إثنوسياسية أعادت تعريف اليهودية في القرن العشرين باعتبارها قومية لها “حق حصري” في أرض محددة، أي فلسطين.

هذا الإطار يختلف عن قوميات أخرى لأنه يحمل في جوهره بعدا استيطانيا-إقصائيا، يقوم على نفي الآخر الفلسطيني والعربي. بالتالي، يصبح الأمن القومي الإسرائيلي مرادفا لـ “أمن الوجود اليهودي”، بحيث لا ترى حياة الفلسطيني إلا كخطر أمني أو كتفصيل فائض.

البنية القانونية والسياسية: من “الديمقراطية الإثنية” إلى “الإثنوقراطية”

منذ تسعينيات القرن الماضي، لم يقدم الأكاديمي الإسرائيلي سامي سموحا مفهوم “الديمقراطية الإثنية” كتوصيف أكاديمي محايد وحسب، بل كنافذة تكشف التناقض الفج في بنية الدولة الإسرائيلية: دولة تتزين بواجهات تمثيلية وانتخابات ومؤسسات، لكنها تبقي مركز الثقل السياسي والرمزي والقانوني حكرا على جماعة واحدة هي “الأمة اليهودية”.

إعلان

هذا التناقض لم يبقَ في مستوى التنظير، بل وجد ترسيخه الصارخ في قانون أساس: إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي (2018)، الذي أعلن بشكل لا لبس فيه أن تقرير المصير القومي امتياز يهودي صرف، وأن العربية ليست سوى لغة “أدنى منزلة”. هنا لم يعد الفلسطيني “مواطنا” حتى بالمعنى الشكلي، بل “مقيما مشروطا” في وطنه، محاصرا في سردية قانونية ترى وجوده عبئا لا حقّا.

ثم جاء الباحث أورن يفتاحئيل ليصوغ ذلك بما أسماه “الإثنوقراطية”: نظام لا يكتفي بإقصاء الآخر من مراكز القرار، بل يعيد توزيع الأرض والموارد والديمغرافيا كلها لخدمة تفوق إثني طويل الأمد. في هذا المنطق، لا يعود التهميش حادثة استثنائية أو خللا يمكن إصلاحه، بل يتحول إلى “قانون الحياة” اليومية، إلى طبيعة ثانية تعيشها المؤسسات كما يعيشها الأفراد.

إننا إزاء منظومة كاملة تحول الإقصاء إلى قاعدة، وتجمل السيطرة بعبارات “أمن” و”ديمقراطية”، فيما هي في جوهرها مشروع استعماري إثنوسياسي مغلف بشرعية قانونية.

صناعة “الآخر” الفلسطيني: من العدو إلى اللامرئي

تبدو هذه البنى وكأنها قد صمِمت لإنتاج ضمير جمعي مشدود إلى سردية واحدة، لا يرى الفلسطيني جارا أو شريكا محتملا في الحياة، بل تهديدا وجوديا دائما. الإعلام بدوره يعيد تكريس هذا الإطار بتكرار صور الفلسطيني كـ “إرهابي” أو “قنبلة ديمغرافية موقوتة”، ما يجعل الخطر متخيَلا كجوهر هويته.

أما المدرسة فتلقن الأجيال رواية تأسيسية تقدِم قيام إسرائيل بوصفه “تحريرا”، بينما تمحى الذاكرة الفلسطينية وتستأصل من الفضاء المؤسسي للتاريخ.

وفي المآذارة اليومية، يتجلى أثر هذه التنشئة في ترتيب أولويات التعاطف: “الموت الفلسطيني” لا يتجاوز خبرا جانبيا، بينما يضخَم الخوف على الرهائن أو على “أمن الدولة”.

لهذا لم يكن غريبا أن يخرج أكثر من مليون إسرائيلي في مظاهرات صاخبة، ليس للتنديد بإبادة المدنيين في غزة، بل للمطالبة حصريا بتحرير رهائن يهود؛ وكأن المعاناة تصبح مرئية فقط حين تتعلق بالـ”نحن”، فيما يحجب “الآخر” خلف جدار كثيف من اللامبالاة البنيوية.

البعد السيكولوجي: التطبيع مع العنف

يساعدنا علم النفس الاجتماعي على تفكيك هذه اللامبالاة البنيوية. فوفق نظرية “نزع الإنسانية” (Haslam, 2006)، يختزل الآخر في صورة مجردة: “تهديد” أو “رقم”، لا كحياة بشرية كاملة، ما يسهل تبرير العنف الموجه ضده.

في الحالة الإسرائيلية، لم يكن هذا الاختزال حدثا عابرا، بل آلية رسختها التربية والإعلام والسياسة عبر عقود طويلة. الفلسطيني لا يرى كـ “طفل يقتل”، بل كـ “احتمال خطر تمت معالجته”، أي كموضوع أمني أكثر منه ذاتا إنسانية.

إلى جانب ذلك، يقدم ألبرت باندورا مفهوم “فك الارتباط الأخلاقي” (Moral Disengagement) بوصفه آلية تتيح إعادة تأطير الأفعال العنيفة ضمن لغة مبرِرة ومخفَفة.

فالقصف يعاد توصيفه كـ “إجراء وقائي”، والموت الجماعي يدمج تحت خانة “الأضرار الجانبية”. هذه الإستراتيجية اللغوية تنقل اللوم إلى الضحايا أنفسهم (“لأنهم يختبئون خلف المدنيين”)، وتخلق مسافة عاطفية-رمزية تقلل من إدراك الألم الإنساني، بحيث يغدو التناقض الداخلي بين القيم الإنسانية ومآذارة العنف غير وارد أصلا.

إعلان

على المستوى النفسي-الأخلاقي، يحدد باندورا حزمة من آليات التسكين الأخلاقي التي تضعف الإحساس بالذنب، وتسهل تقبل الإيذاء، من أبرزها:

  • التسمية التلطيفية: استبدال كلمات محايدة أو تقنية (مثل “تحييد أهداف”) بتوصيفات واقعية لعمليات القصف التي تقتل مدنيين.
  • المقارنة الفضلى: تبرير الفعل عبر مقارنته بما يقال إنه “أسوأ” يرتكبه الآخرون.
  • تحويل المسؤولية: إلقاء العبء على “قرارات عليا”، أو على “ضرورات الأمن القومي” بدل المسؤول المباشر.
  • إلقاء اللوم على الضحية: تصوير المدنيين كجزء من المشكلة لأن الجماعات المسلحة “تتخذهم دروعا بشرية”.

تكرار هذه الصيغ في الخطاب الرسمي والإعلامي لا يبرر العنف فحسب، بل ينشئ حاجزا لغويا-عاطفيا يطفئ “أجهزة الإنذار الأخلاقي” لدى الجمهور، ويحول المأساة الإنسانية إلى مجرد حدث تقني أو ضرورة أمنية، محروم من أي بعد وجداني أو أخلاقي.

هنا تتجلى خطورة البنية الأيديولوجية: فهي لا تكتفي بتحييد التعاطف، بل تنتج نوعا من “العمى الأخلاقي” الذي يمنع الحدث الإنساني من التحول إلى قضية أخلاقية. ففي اللحظة التي تختزل فيها غزة إلى “مسرح تهديد” لا إلى مجتمع بشري، يصبح الجوع والموت والتدمير نتيجة “منطقية” لمعادلة الأمن.

حتى الاحتجاجات الداخلية التي شهدتها إسرائيل في 2024 و2025 ضد حكومة نتنياهو تكشف عن هذا الانحراف البنيوي: المطلب المركزي لم يكن إنهاء الاحتلال أو وقف المجازر، بل استعادة “الرهائن” بوصفهم الامتداد المباشر لمنطق “الأمن القومي اليهودي”.

بكلمات أخرى، الضمير الجمعي لا يتم تفعيله إلا عندما يكون “اليهودي في خطر”، أما الفلسطيني فيترك خارج معادلة الاستحقاق الأخلاقي.

بهذا المعنى، لا تفهم اللامبالاة على أنها “فشل إنساني فردي” بقدر ما هي منتَج سيكولوجي-أيديولوجي ممنهج، صاغته عقود من التنشئة الإثنوقراطية والإعلام التعبوي، وحولته إلى ما يشبه “الإدراك الافتراضي” الذي يستبطنه الفرد الإسرائيلي، حتى وهو يهتف في الشارع ضد حكومته.

القوة الناعمة للأيديولوجيا: الأمن كمقدس

في إسرائيل، تتحول الأمننة (Securitization) إلى ما يشبه دينا مدنيا يسيطر على كل نقاش سياسي أو أخلاقي، بحيث يعاد تأطير أي مسألة على الفور ضمن سؤال واحد: “هل هذا يهدد أمن إسرائيل؟”.

هذا الإطار يجعل حتى اليسار الإسرائيلي عاجزا عن التعاطف مع الضحايا الفلسطينيين، لأن أي اعتراف بمعاناتهم يفسر على أنه تهديد مباشر لسردية الأمن القومي. النتيجة هي مجتمع متماهٍ مع أيديولوجية تخدره أخلاقيا، وتحول دون رؤية الآخر كذات إنسانية كاملة.

الأيديولوجية الصهيونية أنتجت ضميرا جمعيا يقوم على ثلاثة محاور متداخلة:

  • أولا، تفوق إثنوسياسي مكرس قانونيا ومؤسساتيا.
  • ثانيا، إقصاء الفلسطيني عبر خطاب أمني مستمر ومتواصل.
  • ثالثا، تطبيع العنف واعتبار معاناة الآخر “غير مرئية” أو هامشية أخلاقيا.

ما يرسم هنا ليس مجرد سياسة دولة، بل بنية متكاملة ذهنية ونفسية وقانونية تجعل المجتمع الإسرائيلي، في أغلبيته، عاجزا عن التعاطف مع الإبادة في غزة، بل يرى فيها إجراء أمنيا مشروعا.

2- ذهنية الحصار و”إيثوس الصراع”: صدمة طويلة العمر

تشتغل “ذهنية الحصار” في الوعي الإسرائيلي كعدسة معرفية لا ترى العالم إلا من ثقب التهديد. هذا ما يسميه دانيال بار-تال “إيثوس الصراع”: حزمة معتقدات جاهزة تحدد من نحن، من العدو، ما الذي يعد تهديدا، وكيف تقرأ المعاناة، ثم تصبح – بفعل التكرار المؤسسي والتعليم والإعلام والخبرة العسكرية – بديهة اجتماعية لا تحتاج إلى برهان.

حين تتجذر هذه البديهة، تتحول مشاهد غزة إلى “نتائج مؤسفة ولكن حتمية” ضمن معادلة تقدَس فيها الضرورات الأمنية، وتحذف منها كلفة الآخر الإنسانية. هنا لا يعود السؤال: “ماذا يحدث للفلسطينيين؟” بل “هل ما يحدث يقلل الخطر علينا؟”. هذا الانزياح هو جوهر الذهنية الحصارية: تحويل الأخلاق إلى ملحق للأمن.

إعلان

تتغذى هذه الذهنية بصدمات متراكمة تمتد عبر عقود، تعيد إنتاجها الصهيونية باستمرار: اضطهاد أوروبا، المحرقة، الحروب المتكررة، وكل هذه الأحداث تحوَل إلى “ذاكرة عاملة” تتكرس من خلال طقوس مدنية، ومناهج دراسية، وإعلام يومي، لتصبح جزءا من فهم المجتمع الإسرائيلي لهويته وتهديداته.

في علم النفس السياسي تسمى هذه العملية “إدامة الصراع”؛ إذ تستخرج من الماضي رواية واحدة تفسر الحاضر وتنجز مهمتين في آن: تبرير السياسات الصلبة، وتحصين الجمهور ضد المعلومات المناقضة.

لذلك تقاوم الذهنية الحصارية الحقائق التي لا تتلاءم مع قالبها الإدراكي: صور التجويع تعاد صياغتها كـ “ضغط مشروع”، وقوائم قتلى الأطفال تختزل إلى “أرقام” تلقى مسؤوليتها على “عدو يستخدم المدنيين دروعا”.

إنها آلية نزع إنسانية مركبة: ترى الآخر كناقل محتمل للتهديد، فتنزِل عليه معايير أخلاقية مخففة، وتستبدل التعاطف بـ “حس ضرورة” بارد.

تتجلى هنا ديناميات نفس-اجتماعية واضحة:

  • يتيح مفهوم “الانفصال الأخلاقي” (Moral Disengagement) لأفراد عاديين تبرير أذى جسيم ما دام أنه يغلف بخطاب دفاعي.
  • بينما يدفع “التنافر المعرفي” إلى تجنب الأخبار التي تهز صورة الذات “المدافعة”.
  • في الوقت نفسه، تعمل “الأمننة” على تحويل كل نقاش سياسي إلى اختبار ولاء للأمن القومي.

الخدمة العسكرية الإجبارية تضيف بعدا حسيا وتجريبيا، إذ تصنع خبرة يومية تغلف العالم بمنطق “نحن/هم”، وتبسط الحياة والموت إلى معادلات عملياتية قابلة للتطبيق.

وعندما يواجه الداخل هزة- عمليات عسكرية أو أسر رهائن- يتفعل ما يمكن تسميته “الالتفاف حول العلم”، فيرتفع منسوب الامتثال وتنكمش مساحة الشك الأخلاقي، حتى يعاد تعريف الاحتجاج ذاته كأداة لتحسين الأداء الحربي لا لوقف العنف: أكبر الحشود قد تتظاهر، لكن سقف مطالبتها يظل “تحرير الرهائن” لا “تحرير الأخلاق من أسر الأمن”.

هذا الإيثوس ليس مجرد أفكار في الهواء؛ إنه بنية مؤسسية:

  1. القانون يعيد تعريف الانتماء واللغة والرموز بما يرسخ مركزية “الشعب المهيمن”.
  2. الإعلام العمومي والخاص يشتغل بمنطق “إدارة الإدراك” لا اختبار السردية.
  3. المدرسة تنتج مواطنا محصنا ضد الشك في بداهات الأمن.
  4. المؤسسة الدينية-القومية تمنح الصراع قداسة تحول “القيم المحمية” إلى تابوهات لا تقبل المقايضة (Atran: Sacred Values).

ومع الزمن، تتبلور “أمية أخلاقية انتقائية”: قدرة عالية على رصد ألم الذات مع عطب مزمن في التقاط ألم الآخر. عند هذه العتبة يصبح موت الفلسطيني “ضجيجا خلفيا” لا يقطع البث الرئيسي، ويغدو الانشغال بالرهائن هو الامتحان الأسمى للفضيلة العامة.

ولئن كانت الذهنية الحصارية تبدو عصية على الاختراق، فإن نقاط هشاشتها معروفة:

  • عندما تتخالط دوائر المعرفة (شهادات جنود ومسعفين، تحقيقات حقوقية من مصادر تعد “من داخل الدائرة”، أدلة بصرية موثقة يصعب إنكارها) يبدأ التنافر المعرفي في تقويض يقينها.
  • وعندما تظهر التكاليف الإستراتيجية والاقتصادية والسمعية للحرب أنها تهديد مباشر للأمن نفسه، تتشقق قداسة “الضرورة”.

لكن ذلك لا يحدث تلقائيا؛ يحتاج إلى جسور إبستيمية [معرفية]، وإلى إعلام لا يكتفي بإعادة تدوير خطاب الخطر، وإلى نخب سياسية وثقافية تعيد تدوير الذاكرة الجمعية من “ذاكرة حصار” إلى “ذاكرة تحذير أخلاقي” ترى في أمن الآخر شرطا لازدهار الذات.

ما لم يحدث هذا التحول، سيظل الإيثوس يعمل كجهاز تخدير جماعي: يخفض الإحساس بالذنب، ويرفع عتبة تحمل الأذى الواقع على الآخر، ويحافظ على دائرة مغلقة من العنف المبرَر ذاتيا.

الخلاصة القاسية أن “ذهنية الحصار” ليست وصفا بل برنامج عمل يومي: تنتج سياسة، وتشغل إعلاما، وتعيد تنشئة أجيال. وبقدر ما تحافظ على تماسك المجتمع الإسرائيلي حول أمنه “المقدس”، فإنها تفقِد هذا المجتمع القدرة على رؤية إنسانيته كاملة لأنه لا يرى إنسانية الآخرين.

كسر الحلقة يتطلب اعترافا شجاعا بأن الأمن الذي يعفيك من الأخلاق هو أمن مؤقت، وأن إيثوس الصراع – مهما طال عمر صدمته – لا يستطيع أن يصنع سلاما ولا حتى “أمنا” مستداما؛ إنه يصنع فقط عينا لا تبصر إلا خطرها، وضميرا لا يسمع إلا صدى نفسه.

3- من التنشئة إلى التمثيل: كيف تصبح المعاناة “غير مرئية”؟

يتداخل مساران طويلان- التنشئة المبكرة والتمثيل العام- ليقودا إلى نتيجة واحدة: تحويل معاناة الفلسطينيين إلى “لامرئي”.

إعلان

في المدرسة، تغرس البذرة الأولى. تظهر دراسات تحليل الكتب المدرسية الإسرائيلية أن تقديم الفلسطينيين يجري غالبا عبر محو بصري ودلالي: خرائط بلا أسماء عربية، مفردات تصف المكان كأرض “خالية” أعيد “تحريرها”، وسردية أحادية تجعل حضور الفلسطيني حدثا طارئا لا حاملا لحق ولا لذاكرة.

هذا ما وثقته نوريت بِلِد-إلحانان في قراءتها اللغوية-البصرية للمناهج، حيث تتحول اختيارات الصورة واللغة إلى أداة لتصغير وجود “الآخر” وإبعاده عن أفق التعاطف. نتيجة هذا البناء ليست “معلومة” فحسب، بل عادة نظر تعلِم الأجيال كيف لا ترى.

وحين ينتقل اليافع إلى الفضاء العام، يتلقف الإعلام الخيط من المدرسة لكنه ينسجه بخيوط “أمنية”. يبين دانيال دور، في تحليله تغطية اندلاع الانتفاضة الثانية، كيف صيغ الخبر ضمن قوالب جاهزة تؤطِر الحدث انطلاقا من مصادر أمنية رسمية، وتعيد ترتيب الوقائع بحيث تقدَم القوة على أنها “رد” والضحايا الفلسطينيون على أنهم “أضرار جانبية”، لا يدعي دور سوء نية المراسلين بقدر ما يكشف “اقتصادا سرديا” يجعل زوايا التغطية تضيق كلما ارتفع منسوب الخطر.

وفي منظور أوسع، يظهر غادي ولفسفلِد أن وسائل الإعلام في سياقات الصراع تميل إلى الاصطفاف مع البيئة السياسية السائدة؛ فحين تتقدم رواية الأمن على غيرها، يصبح دور الإعلام في الغالب تعزيز الإجماع لا زعزعته، وتعلو أصوات المؤسسة العسكرية على أصوات الضحايا. بهذه الدينامية، تتشكل “هندسة للمرئي”: ما يعرض، ومَن يقتبس، وكيف تسمى الأشياء.

ويتكفل البحث التجريبي بإظهار الوجه الأكثر صرامة لهذه العملية: إزالة الإنسانية. طور نور كتيلي وإميل برونو وزملاؤهما مقياس “سلم صعود الإنسان” الذي يقيس “التجريد الصريح لصفة الإنسانية” عند النظر إلى جماعات خارجية.

في عينات شملت إسرائيليين وفلسطينيين، تنبأ ارتفاع مستويات هذا التجريد بتأييد عقوبات أقسى وسياسات أقل تسوية، أي إن تراجع الاعتراف بالإنسانية يقترن مباشرة بالقبول بمزيد من الأذى.

وتظهر أعمال لاحقة في سياق “الحرب غير المتكافئة” أن إزالة الإنسانية متبادلة ولكنها متغذية على وقع العنف، ما يجعل كل جولة أشد قسوة من سابقتها؛ لأنها جاءت مهيأة نفسيا بسلسلة من عمليات نزع الاعتراف.

النتيجة العملية: حين يتراجع حضور “الإنسان” في تمثيل الآخر، يهبط معه سقف التعاطف، ويصعد القبول بالإيذاء “بوصفه تدبيرا ضروريا”.

بهذه السلسلة الممتدة من الفصل الدراسي إلى النشرة، ومن التسمية إلى القياس التجريبي، يتحول الألم الفلسطيني إلى حدث “خارجي” لا يخترق الوجدان العام إلا استثناء. ليس لأن الأفراد مولعون بالقسوة، بل لأن البنى المعرفية واللغوية تنظم ما يرى وما لا يرى، ومن يستحق التفهم ومن يعرَف خطرا.

  • المدرسة تنقص رصيد “القابلية للتعاطف” عبر محو مبكر.
  • الإعلام يعيد ترتيب الخبر على محور الأمن.
  • الآليات النفسية تسكن القلق الأخلاقي وتعيد تسمية الفعل.
  • والنتيجة تقاس في المختبر: ارتفاع التجريد الإنساني يساوي دعما أوسع لسياسات أكثر إيذاء.

وحين تشتد التعبئة وتتكرس “ذهنية الحصار”، يصبح أي كسر لهذا النسق مكلفا اجتماعيا – إذ يقرأ التعاطف مع الضحية بوصفه “خيانة للسردية الأمنية”.

لذلك، فإن معالجة “لامرئية” المعاناة لا تبدأ بنداءات أخلاقية عامة، بل بتعديل في مصادر الرؤية نفسها: محتوى المنهاج، قوالب التغطية، لغة الفاعلين الرسميين، وآليات المساءلة التي تمنع اللغة من أن تخدر الحس الأخلاقي.

هذا هو “السر” في تلخيصه العلمي: لا حاجة لرقابة صلبة كي تطفَأ رؤية الألم، يكفي انتظام مؤسسي في إنتاج خطاب يحرك العيون بعيدا – ويقنع الضمير بأن ما لا يرى… غير موجود.

4- “جز العشب”: عقيدة إدارة الصراع بدل حله

“جز العشب” ليس استعارة بل عقيدة أمنية إسرائيلية راسخة خلال العقدين الأخيرين: جولات عسكرية دورية لتقليص قدرة الفاعلين الفلسطينيين على المقاومة، من دون أي مسعى لمعالجة جذور الصراع.

هي إدارة الخطر بدل حله، إستراتيجية تكتيكية قصيرة الأمد تحول الاحتلال إلى روتين من الضرب والتهدئة المؤقتة.

المفهوم صاغه باحثون إسرائيليون مثل إنبار وشامير كخيار واقعي أمام خصوم “غير دولتيين” بلا أفق سياسي قريب. الضربات المتقطعة تهدف إلى كبح السعة القتالية للخصم، تليها هدنة قصيرة ثم جولة جديدة، في دورة مستمرة من العنف تقدَم داخليا كـ “صيانة ردعية” ضرورية لأمن المجتمع.

على الأرض، تتحول هذه الجولات إلى دمار واسع للبنية التحتية، نزوح جماعي، وقتل مدنيين، فيقدَم الفلسطينيون كثمن مقبول في خطاب الأمن. يتحول العنف إلى إجراء روتيني، ويطبع في الوعي بوصفه “قدرا لا بد منه”.

كل دورة تعيد إنتاج مقاومة جديدة، وكل دمار يولد بيئة خصبة للفقر واليأس والرغبة في الانتقام، ما يجعل العنف متكررا ويستنزف الموارد دون أي تغيير جوهري في المعادلة السياسية.

الأثر الميداني والإنساني واضح:

  • انهيار الخدمات الأساسية.
  • تآكل اقتصادي طويل الأمد.
  • صدمات نفسية جماعية.
  • بيئة إقليمية قابلة للاشتعال مع دور متزايد لقوى خارجية.

في المقابل، تمنح هذه المآذارة النخب الإسرائيلية ما يمكن وصفه بـ “مخدر أخلاقي”، إذ تقدَم للجمهور باعتبارها ثمنا أمنيا مقبولا، ما يقلل المساءلة القانونية والسياسية، ويعزز شرعية استخدام القوة بلا حدود.

نقديا، تبدو هذه العقيدة ناجعة تكتيكيا لكنها عقيمة إستراتيجيا: لا تعالج العدالة أو أفق السلام، وتحول الاحتلال إلى صيانة دورية للعنف، وتطبع الحرب كحقيقة طبيعية بدلا من كونها انحرافا عن القانون والأخلاق.

الخروج من هذا الروتين يتطلب كسر منطق العنف الدوري، واستبداله بعملية سياسية شاملة، إقرار كامل بالحقوق الفلسطينية، إعادة إعمار مستدامة تربط بين التنمية والعدالة، وآليات محاسبة صارمة تمنع تحويل القصف إلى روتين بلا ثمن.

“جز العشب” ليس مجرد إستراتيجية أمنية، بل آلية لإعادة إنتاج العنف، والبديل الحقيقي لا يكمن في جولات محسوبة بل في شجاعة سياسية تضمن الأمن عبر العدالة وتحطم العمى الأخلاقي الذي يبرر استمرار الاحتلال.

5- نحو كسر دائرة “العمى الأخلاقي”

إن “العمى الأخلاقي” الذي يطبع المجتمع الإسرائيلي ونخبه السياسية والثقافية ليس عرضا نفسيا فرديا ولا خطأ عاطفيا عابرا، بل هو بنية متكاملة تتضافر فيها المنظومات القانونية-السياسية، والذهنية الصراعية، وآليات التنشئة والتمثيل الثقافي، والعقائد الأمنية المؤدلجة.

هذه البنية تخلق حالة من التمنع البنيوي أمام الاعتراف بالذنب، وتمنح العنف شرعية دائمة عبر سردية الدولة-الأمة، بحيث يتحول الاحتلال والتمييز إلى “إجراءات دفاعية”، ويعاد إنتاج الضحية كمسؤولة عن مأساتها.

لكن السؤال المركزي يبقى: هل هذا قدر محتوم؟

الجواب: لا. العمى الأخلاقي حالة مصنعة يمكن زعزعتها عبر برنامج طويل الأمد، متعدد المستويات، يجمع بين التفكيك الداخلي، واستعادة الحقوق الفلسطينية، وإعادة تشكيل وعي دولي جديد.

1- التفكيك الداخلي: نحو تحرير اليهود من أسر الصهيونية

أي مقاربة إستراتيجية للتغيير تبدأ من الداخل الإسرائيلي، عبر:

  • القانون والسياسة: إخضاع المنظومة القانونية التي تشرعن التمييز لنقد جذري، وربط شرعية إسرائيل الدولية بوقف الاستيطان والالتزام الصارم بالقانون الدولي.
  • تفكيك الذهنية الصراعية: مواجهة خطاب “العدو الدائم” عبر أدوات التعليم البديل والإعلام النقدي، بما يعيد تشكيل العلاقة مع الفلسطيني لا كـ “تهديد وجودي”، بل كشريك في العدالة.
  • النخب الجديدة: لن يتحقق تحول بنيوي دون بروز نخب يهودية- دينية وعلمانية، من الداخل والخارج – مناهضة للصهيونية، تدعو إلى إعادة تعريف الهوية اليهودية خارج منطق الدولة الاستيطانية. هذه النخب يمكنها أن تحرر اليهود من سجن الأيديولوجيا الصهيونية الذي حولهم إلى أدوات احتلال، وتمنحهم فرصة لاستعادة معنى إنساني-أخلاقي لهويتهم.

مبادرة مستقبلية مقترحة: “منتدى اليهود ضد الصهيونية”، شبكة دولية تجمع مثقفين وفنانين ويهودا تقدميين يعيدون صياغة خطاب بديل، يفتح الطريق أمام شراكات عادلة مع الفلسطينيين والعالم.

2- استعادة الحقوق الفلسطينية: العدالة كشرط للسلام

لا معنى لتفكيك العمى الأخلاقي دون إعادة الحقوق الفلسطينية كاملة:

  • الحق في العودة: ليس شعارا عاطفيا، بل هو قاعدة قانونية (قرار 194) وأساس لأي تسوية عادلة.
  • بناء الدولة الفلسطينية المستقلة: بحدود واضحة، وسيادة حقيقية على الأرض والموارد والمعابر.
  • التعويض والعدالة الانتقالية: إنشاء صندوق دولي لتعويض ضحايا الاحتلال والتهجير والدمار، يمول من الدول الداعمة للاحتلال منذ الانتداب البريطاني إلى اليوم، ومن أصول مجمدة، ليكون أداة للإنصاف التاريخي.
  • الاعتراف التاريخي: إلزام إسرائيل والمجتمع الدولي بالاعتراف بالنكبة كجريمة مؤسسة، وبالفلسطينيين كفاعلين تاريخيين كاملين لا مجرد “أزمة إنسانية”.

مبادرة مستقبلية مقترحة: “محكمة الذاكرة الفلسطينية” – هيئة رمزية-أكاديمية-حقوقية توثق جرائم التهجير والقتل وتبني أرشيفا مفتوحا، يفرض سردية بديلة ويقطع مع محاولات محو التاريخ.

3- وعي دولي جديد: من التواطؤ إلى التضامن الفاعل

التحول لا يكتمل دون إعادة تشكيل الوعي العالمي:

  • حركات المقاطعة والتحالفات الشعبية: تعزيز التضامن عبر الجامعات، النقابات، والحركات الشبابية، بما يخلق ضغطا متواصلا على الحكومات.
  • إعادة صياغة الشرعية الدولية: الانتقال من أحادية الهيمنة الغربية إلى تعددية مراكز الشرعية (أميركا اللاتينية، أفريقيا، آسيا)، ما يمنح الفلسطينيين حلفاء أقوياء في مواجهة احتكار القرار.
  • مأسسة المقاومة الرمزية: إدماج المجتمع المدني العالمي في قرارات الشرعية الدولية، عبر آليات استشارية وحملات إعلامية دولية تفضح التواطؤ المستمر.

مبادرة مستقبلية مقترحة: “تحالف العدل العالمي لفلسطين”، تجمع دولي-شعبي يربط بين مناهضة الاستعمار والفصل العنصري في فلسطين وقضايا العدالة في جنوب العالم.

الخلاصة التحليلية

العمى الأخلاقي ليس قدرا مفروضا، بل بنية قابلة للتفكيك. والتحرر منه يتطلب:

  1. تفكيك داخلي يحرر اليهود أنفسهم من أسر الصهيونية ويفتح المجال أمام نخب جديدة.
  2. استعادة الحقوق الفلسطينية كاملة: عودة، دولة، تعويض، اعتراف.
  3. إعادة تشكيل وعي عالمي ينتج شرعية متعددة الأقطاب ويحول التضامن إلى قوة ضاغطة.

إن الحل ليس في ترقيع الإصلاحات ولا في “إدارة” العنف، بل في إعادة بناء حقل الشرعية ذاته: من تعريف الضحية والجاني، إلى تصور جديد للعدالة والسلام، يقوم على الحرية المتبادلة، والاعتراف المتبادل، والخروج من منطق الاستعمار.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

لعبة القط والفأر في البيت الأبيض

لعبة القط والفأر في البيت الأبيض

جاءت محاولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إقالة عضوة مجلس الاحتياط الفدرالي ليزا كوك لتمثل تصعيدا جديدا ضمن مساعيه لإحكام السيطرة على مجريات الأمور في بلاده، على الرغم من تأكيد الكونغرس الأميركي منذ عقود على استقلالية بنك الاحتياط الفدرالي، باعتبارها تمثل أهمية خاصة لاحتفاظ البنك الأميركي بمكانته كبنك مركزي لبنوك العالم المركزية، ولضمان استمرار تبوُّؤ الاقتصاد الأميركي الصدارة بين أكبر اقتصادات العالم.

وبينما تمثل الخطوة منعطفا جديدا، إذ تُثير تساؤلا حول ما إذا كان بإمكان الرئيس الأميركي وحده أن يُقرر إقالة مسؤول في وكالة مستقلة يحمي القانون قادتها من الإقالة التعسفية، تتطلع الأعين في واشنطن والعالم إلى ما ستكون المحاكم الأميركية مستعدة وقادرة على القيام به، إذا رأى قضاتها أن مبررات ترامب ليست سوى ذريعة للسيطرة على البنك المركزي الأكبر في العالم، بعد أن أثبت رئيسه عدم اكتراثه بتهديدات الرئيس الأميركي.

وقرر الكونغرس منذ عقود أن الرئيس الأميركي يمكنه إقالة أي من محافظي البنك الفدرالي فقط إذا كان هناك “سبب وجيه”، وهو ما فسرته عدة محاكم أميركية بأنه تقصير من المحافظ في أداء عمله.

ورغم أن استقلالية البنك كانت تعني بالأساس عدم تدخل الرئيس أو أي من مساعديه، أو أعضاء الإدارة الأميركية في وضع السياسة النقدية للبلاد، لم تتوقف لعبة القط والفأر بين البيت الأبيض وبنك الاحتياط الفدرالي، منذ ما يقارب ثلاثة أرباع القرن.

وخلال فترة الحرب العالمية الثانية والسنوات القليلة التي تلتها، حافظ بنك الاحتياط الفدرالي الأميركي على سياسته القائمة على إبقاء معدلات الفائدة على ديون الحكومة الأميركية عند مستويات منخفضة. لكن مع اقتراب عام 1950 من نهايته، ارتفع التضخم بقوة، ورأى البنك الفدرالي أن الوقت قد حان لإنهاء سياسة الفائدة المنخفضة.

إعلان

تقول بعض المصادر الأميركية إن الرئيس هاري ترومان كتب إلى رئيس البنك الفدرالي متوسلا إياه أن يُرجئ القرار، مستخدما لغة تتعلق بالأمن القومي، وملوحا بخطر الشيوعية السوفياتية والدكتاتور جوزيف ستالين. قال ترومان: “آمل ألا يسمح مجلسكم بانهيار سنداتنا المالية. إذا حدث ذلك، فهذا بالضبط ما يريده ستالين”.

لكن الفدرالي قاوم الضغوط، ليقوم البيت الأبيض بعدها، لأول وآخر مرة في التاريخ الأميركي، باستدعاء أعضاء لجنة تحديد أسعار الفائدة بالكامل إلى البيت الأبيض للاجتماع مع الرئيس، إلا أن تطورات الأحداث بعدها أظهرت ثبات فريق البنك في المواجهة التي كانت محفوفة بالمخاطر.

وخلال أسابيع، توصل البنك الفدرالي وإدارة ترومان إلى تفاهم عُرف بـ”اتفاق وزارة الخزانة – الفدرالي”، حصل البنك المركزي بموجبه على حرية أكبر في تحديد أسعار الفائدة وفق ما يراه مناسبا.

ومثل هذا الاتفاق بداية فترة سلام هش بين البيت الأبيض والبنك المركزي، تعرضت للاختبار مرات عدة خلال نصف القرن اللاحق، لكنها أرست في النهاية قواعد النظام المؤسسي الذي بقي حتى يومنا هذا، حيث يتمتع البنك الفدرالي باستقلالية تشغيلية واسعة في تحديد أسعار الفائدة، واستخدام كافة أدوات السياسة النقدية الأخرى، من أجل تحقيق أهدافه، خاصة ما يتعلق منها بمستويات الأسعار والتشغيل في البلاد، وأيضا تحفيز معدلات نمو النشاط الاقتصادي.

ومنذ فوزه في انتخابات الرئاسة الأميركية 2024، سعى ترامب وفريقه الذي لا يعصي له أمرا لإيجاد مخرج يسمح لهم بالتراجع عن هذه الأعراف، بحسب ما ذكرته وسائل إعلام أميركية، من خلال منح الرئيس مساحة أكبر للتشاور مع رئيس البنك الفدرالي.

وسيكون اختيار ترامب لمن يتولى المنصب بعد انتهاء مدة الرئيس الحالي جيروم باول في أيار/أيار 2026، ومدى استعداد باقي أعضاء مجلس الاحتياط الفدرالي ورؤساء بنوك الاحتياط الـ12 لقبول ذلك، فاصلا في إفساح الطريق لترامب، أو كف يده عن البنك.

ويتكون مجلس محافظي بنك الاحتياطي الفدرالي من سبعة أعضاء يعيّنهم الرئيس لفترات تمتد 14 عاما، ويجب أن يقرّهم مجلس الشيوخ.

وهناك قانون منفصل يتيح للرئيس أن يختار أحد هؤلاء الأعضاء ليكون رئيس البنك الفدرالي لفترة 4 أعوام، أيضا بموافقة مجلس الشيوخ، لكنه لا يحدد بوضوح إن كان يمكن عزله بنفس المعايير.

وعين ترامب جيروم باول رئيسا للبنك الفدرالي في 2018 خلفا للمخضرمة جانيت يلين التي لم تجمعها علاقة ودية بالرئيس الأميركي، إلا أنه سرعان ما انقلب عليه عندما رفض إبقاء الفائدة منخفضة مع تحسن الاقتصاد. وأعاد الرئيس جو بايدن تعيين باول لفترة ثانية في 2022.

وخلال فترة رئاسة ترامب الأولى، وصف باول بالحماقة، وحاول إقالته، لامتناعه عن خفض الفائدة، لكن الأخير أوضح سرا وعلانية أنه لا يعتقد أن الرئيس يملك هذه الصلاحية. قال وقتها: “لن أترك هذا المنصب طوعا أبدا، وتحت أي ظرف، قبل انتهاء ولايتي. لا يخطر ببالي مطلقا أن هناك وضعا قد يمنعني من إكمالها سوى الموت”.

وتحدث باول مرارا عن أهمية الدفاع عن استقلالية الفدرالي لضمان ثقة الناس بأن البنك سيفعل ما يلزم لكبح التضخم، حتى لو كان ذلك مؤلما. وقال الشهر الماضي: “المصداقية في ملف التضخم تعني كل شيء”.

إعلان

وخلال فترة رئاسته الأولى، حاول ترامب الضغط على البنك الفدرالي ورئيسه، من خلال الإعلان عن نيته الإطاحة به، وانتقاد سياساته أمام الشاشات، وترشيح خلفاء له، لكنه لم يمضِ بعيدا على أرض الواقع، إذ جاءت ردة فعل الأسواق سلبية وعنيفة، فارتفعت الفوائد على الديون الحكومية طويلة الأجل، وتراجعت أسعار الأسهم، وهو ما دفع الرئيس الأميركي للتراجع والتركيز على أولوياته الأخرى.

وتاريخيا، لم تمنع استقلالية البنك الفدرالي الرؤساء من محاولة الضغط عليه. ففي 1951، عندما تم التوصل لاتفاق الخزانة – الفدرالي، تم دفع رئيس البنك وقتها إلى الاستقالة، وخلفه وليام مارتن الذي ساهم في ترتيب الاتفاق.

وظن ترومان أن مارتن سينصاع له، لكن الأخير فاجأه في اجتماع بالبيت الأبيض قبل تعيينه رسميا، حين رفض إعطاء ضمانات بعدم رفع الفائدة، وقال إن الأسواق لن تنتظر الملوك أو الرؤساء أو وزراء الخزانة أو حتى محافظي البنك الفدرالي.

قاد مارتن البنك لعقدين كاملين، وعزز استقلاليته، لكنه صنع لنفسه أعداء أقوياء. ففي 1952، التقى مارتن بالرئيس ترومان صدفة في نيويورك، فحيّاه قائلا “مساء الخير سيادة الرئيس”، ليرد ترومان بكلمة واحدة فقط: “خائن!”

وتجدد التوتر في عهد ليندون جونسون أثناء حرب فيتنام، عندما ضغط على البنك الفدرالي لإبقاء الفائدة منخفضة، خلال سعيه لتمويل برنامجه الاجتماعي الطموح. وعندما رفض مارتن، استدعاه جونسون إلى مزرعته في تكساس حيث وبخه بعنف قائلا: “الأولاد يموتون في فيتنام، ومارتن لا يكترث!”

أما خلفه آرثر بيرنز، الذي عينه ريتشارد نيكسون، فقد كان نموذجا سلبيا للاستسلام للضغوط السياسية. ورغم سمعته كخبير اقتصادي قوي، فإن انشغاله بنيل رضا الرئيس أضعف قراراته، ليصبح رمزا لفشل البنك الفدرالي في السيطرة على التضخم.

وعندما جاء بول فولكر 1979، كان التضخم قد انفلت تماما، ما دعاه لإطلاق إستراتيجية جديدة سمحت للفوائد بالارتفاع إلى مستويات قياسية، وأدى ذلك إلى ركودين موجعين في الثمانينيات، إلا أنه نجح في القضاء على التضخم.

ومنذ ذلك الوقت، أصبح مبدأ استقلالية البنك الفدرالي راسخا باعتباره شرطا ضروريا لضبط الأسعار، حتى مع تغير الإدارات الرئاسية وتبدل أولوياتها.

تثبت التجارب التاريخية أن أي محاولة مستقبلية للحد من استقلالية البنك الفدرالي ستواجه ليس فقط قيودا قانونية، بل أيضا مقاومة مؤسساتية وخبرة تراكمت على مدى عقود، أثبتت جميعها أن الأسواق لا ترحم، وأن السياسة النقدية المستقلة تبقى خط الدفاع الأول ضد التضخم، وعدم الاستقرار الاقتصادي.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

مسؤول بإسعاف وطوارئ غزة: استحدثنا نقاطا للتعامل مع أي إخلاء قسري

مسؤول بإسعاف وطوارئ غزة: استحدثنا نقاطا للتعامل مع أي إخلاء قسري

غزة- رفضت اللجنة الوطنية العليا للإسعاف والطوارئ في غزة التهديدات الإسرائيلية باحتلال المدينة، وأكدت التزامها الثابت بأداء واجبها الإنساني والوطني، والاستمرار في تقديم الخدمات الإسعافية رغم جميع المخاطر والتحديات التي تواجه عملها بسبب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.

وعزّزت اللجنة العليا خطط الطوارئ لمنظومة الإسعاف التي أعدتها جميع الجهات المزودة للخدمات، بما يضمن الاستجابة لنداءات الاستغاثة التي تصل من كافة مناطق قطاع غزة.

وقال رئيس اللجنة الوطنية العليا للإسعاف والطوارئ إياد زقوت، في حديث خاص للجزيرة نت، إنه رغم المخاطر المحدقة بعمل طواقم الإسعاف إلا أنها ستواصل أداء رسالتها الإنسانية بأعلى درجات المسؤولية والمهنية.

 استنزاف الطواقم

وأنشأت اللجنة العليا عدة نقاط إسعافية في مدينة غزة في إطار خطة الطوارئ المستحدثة التي تعمل بها، وذلك لتلبية احتياج المواطنين عند الحاجة وتوفير سيارة إسعاف في كل نقطة، للتعامل مع أي إخلاء قسري لسكان مدينة غزة.

وأوضح زقوت أن الضغط الملقى على عاتق مقدمي خدمة الطوارئ كبير جدا نظرا لكثرة الاستهدافات التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على مدار اللحظة، والتي تنتج عنها أعداد كبيرة من الإصابات والشهداء، ما يحتم على الكوادر العمل على مدار الساعة، وهو ما يشكل استنزافا لطاقاتهم وخاصة في ظل التجويع الذي يرافق حرب الإبادة.

وتضم اللجنة العليا جميع الجهات التي تقدم الخدمات الإنسانية في مجال الإسعاف والطوارئ بما يشمل وزارة الصحة، وجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، والخدمات الطبية، والدفاع المدني، إضافة إلى المؤسسات غير الحكومية ذات الصلة.

وتعاني الجهات المقدمة لخدمات الإسعاف والطوارئ من عجز في عدد مركباتها بسبب خروج الكثير منها عن الخدمة، سواء بسبب تدميرها من قبل الجيش الإسرائيلي أو لتكرار تعطلها نظرا لعدم توفر قطع الغيار والوقود الخاص بها.

إعلان

ولفت زقوت إلى التعاون مع بعض الجهات المانحة لمساعدتهم في توريد جزء يسير من الوقود، الذي لا يكفي حاجتهم الحقيقية بالنظر لكثرة المهمات التي تقوم بها سيارات الإسعاف.

رئيس اللجنة الوطنية العليا للإسعاف والطوارئ إياد زقوت يتوسط اجتماعا لها في غزة. المصدر: اللجنة نفسها
من اجتماع لجنة الطوارئ حيث رصد رئيسها معاناة القائمين على الإسعاف (اللجنة الوطنية العليا للإسعاف والطوارئ)

وأشار زقوت إلى أن مقدمي خدمة الإسعاف يواجهون معضلة حقيقية تتمثل في نقص قطع غيار المركبات، وهذا يضطرهم لتشغيل ما يقارب 40 سيارة إسعاف بالدفع اليدوي، ما يعيق تقديم الخدمة الإسعافية ويؤخرها، وذلك نظرا لعدم سماح قوات الاحتلال إدخال بطاريات لتشغيلها.

وبحسب رئيس اللجنة الوطنية العليا، فإن مركبات الإسعاف التي تعمل على مدار الساعة منذ عامين بحاجة لتغيير عجلاتها، ما أخرج 20 سيارة عن الخدمة في الوقت الذي هم فيه بأمس الحاجة لتشغيلها.

وتطرق المسؤول الصحي إلى معاناة القائمين على صيانة مركبات الإسعاف من عدم توفر قطع الغيار الخاصة بها بسبب منع توريدها من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وهذا أخرج عددا منها عن الخدمة.

 استهداف المسعفين

وشرح رئيس اللجنة العليا للإسعاف والطوارئ صعوبة تنقل مركبات الإسعاف في المناطق الخطيرة التي يصنفها الاحتلال الإسرائيلي بالحمراء مع وصول العديد من نداءات الاستغاثة من المصابين تحت الأنقاض.

وأضاف أن تكرر استهداف الجيش الإسرائيلي للكوادر الطبية وسيارات الإسعاف بشكل مباشر، “يصعب علينا العمل والوصول لهذه المناطق، إذ فقدنا عددا كبيرا من المسعفين وضباط الإسعاف، وتعرضت مركبات للتدمير أثناء المحاولة للدخول للمناطق الخطرة لإسعاف بعض الحالات”.

وأكد زقوت أنه يقع على عاتق اللجنة الدولية للصليب الأحمر حماية الكوادر الطبية في مناطق النزاع، ويفترض أن توفر لها الحماية اللازمة لإتمام مهامها الإنسانية، إلا أن دورها غائب في هذا الاتجاه.

وناشد رئيس اللجنة الوطنية العليا للإسعاف والطوارئ جميع الجهات الحقوقية والدولية لتوفير الحماية اللازمة للطواقم الطبية والإسعافية العاملة في الميدان للتمكن من إخلاء الجرحى والشهداء من دون عوائق.

مركبات الإسعاف المدمرة تنطق بأوجاع غزة خلال الحرب (مواقع التواصل)

 احتياجات عاجلة

وسلط زقوت الضوء على أبرز الاحتياجات الخاصة بعمل الجهات المقدمة لخدمات الإسعاف والطوارئ وتشمل:

  •  توفير وقود خاص لسيارات الإسعاف وخاصة البنزين، لأن 60% من المركبات تعمل على البنزين الذي يمنع الاحتلال دخوله إلى قطاع غزة.
  •  الحاجة بشكل عاجل لإدخال بطاريات لتشغيل العدد الكبير من السيارات المتوقفة بالإضافة لعجلات (كوشوك) لجميع السيارات.
  •  إدخال سيارات إسعاف جديدة، لأن السيارات العاملة حاليا منهكة ومهترئة نتيجة العمل المتواصل على مدار سنتين.
  • ضرورة إدخال قطع غيار الصيانة التي تخص سيارات الإسعاف.
  •  العمل على توفير المستلزمات الطبية والإسعافية التي تستخدم للإسعاف الأولي بالميدان.
  • تعزيز صمود العاملين بالإسعاف خاصة في ظل حرب التجويع والإخلاء القصري لعائلاتهم.

وثمّن زقوت “بطولات” ضباط الإسعاف والمسعفين في الميدان وتضحياتهم في خدمة الجرحى والمرضى والمصابين، انطلاقا من قيمهم النبيلة وإنسانيتهم العالية.

إعلان

يذكر أن الاحتلال الإسرائيلي دمر خلال الحرب على غزة 144 سيارة إسعاف، وقتل واعتقل العشرات من المسعفين.

هل تريد إسرائيل ضم الضفة أم مجرد تكتيك لمآرب أخرى؟

هل تريد إسرائيل ضم الضفة أم مجرد تكتيك لمآرب أخرى؟

لم تعد نية الحكومة الإسرائيلية بضم الضفة الغربية المحتلة وفرض السيادة عليها خافية على أحد، وسط تباين في مسألة المدى الجغرافي للخطوة، وتساؤلات إن كانت تكتيكية أو جدية.

واتفق الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية مصطفى البرغوثي ورئيس قسم العلوم السياسية في جامعة الخليل بلال الشوبكي على أن ضم الضفة يجري على قدم وساق، حتى في مناطق تخضع للسيطرة الأمنية للسلطة الفلسطينية.

وترتكز إسرائيل في ذلك على دعم الإدارة الأميركية التي تخلت عن فكرة “حل الدولتين“، إذ لم يتطرق إليها الرئيس دونالد ترامب خلال ولايته الثانية، حسب حديث البرغوثي لبرنامج “ما وراء الخبر”.

وفي هذا السياق، قالت وسائل إعلام إسرائيلية إن وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر أخبر نظيره الأميركي ماركو روبيو نية تل أبيب ضم الضفة، ردا على اعتزام عدد من الدول إعلان الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

“شأن داخلي”

لكن الولايات المتحدة تحاول النأي بنفسها وتصف خطط إسرائيل لضم الضفة بشأن داخلي تعارضه في المجالس الخاصة، كما يقول المحلل الإستراتيجي في الحزب الجمهوري الأميركي أدولفو فرانكو، الذي أقر بأن واشنطن لا تقف على الحياد وأنها تميل كثيرا إلى الجانب الإسرائيلي.

ووفق فرانكو، فإن نتنياهو أقنع ترامب بأنه يستخدم ورقة الضم لفترة من الزمن لكي يضع إسرائيل في موقع يسمح لها بالتهديد لسببين اثنين هما:

  • ضغط إضافي على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) والقضية الفلسطينية.
  • رسالة للدول الغربية مفادها أنه يتعين إبرام صفقة بكل ما يتعلق بقطاع غزة والضفة الغربية وتعزيز الأمن هناك.

وسارع البرغوثي للرد على ذلك، مؤكدا أن الولايات المتحدة عمدت دائما إلى تضليل الشعب الفلسطيني بحديثها عن المفاوضات لإقامة دولة فلسطينية، في وقت رفض فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الجلوس مع رئيس السلطة على مدار عقد كامل.

إعلان

كما توقف البرغوثي عند تصريحات للسفير الأميركي في إسرائيل مايك هاكابي، التي استخدم فيها مصطلح “يهودا والسامرة” بدلا من الضفة الغربية، والتي تعكس رؤية الإدارة الأميركية لمصير الضفة الغربية.

ومع أن المحلل الإستراتيجي فرانكو حاول تبرير ما تفوه به هاكابي بزعم أن الأخير يتحدث من منطلق الطائفة الدينية المسيحية التي يتبعها، فإن تبريره لم يكن مقنعا، إذ يفترض أن يمثل السفير سياسات بلده، لا قناعاته الشخصية.

كذلك رفض الشوبكي ما ذهب إليه فرانكو بشأن نية إسرائيل تجاه الضفة الغربية، مؤكدا أن ما يجري ليس شكلا من أشكال الضغط والتلويح، بل استثمارا في المشهد وتقديم رؤى يمينية صهيونية يتم تبنيها على المستوى الرسمي السياسي.

واستدل بنقل واشنطن سفارتها من تل أبيب إلى القدس، وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في الولايات المتحدة، ومحاولة تقويض عمل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وفرض عقوبات على مجموعات استيطانية وليس إسرائيل.

ومع ذلك، لم يتردد المحلل الإستراتيجي لدى الجمهوريين في تأكيد دعم واشنطن لإسرائيل، وأنها ليست حيادية في هذا الشأن، لكن هناك تباينا في الرؤى بين نية إسرائيل الحصول على منطقة عازلة، في حين لا توجد رغبة أميركية في ضم الضفة.

أما بشأن الخيارات المطروحة في ظل اختلال موازين القوى، شدد البرغوثي على ضرورة تغيير ذلك عبر تعزيز صمود الشعب الفلسطيني وتوحيده على برنامج وطني كفاحي والتخلي عما سماها “أوهام المفاوضات”، إضافة إلى فرض عقوبات عربية وغربية فورية على إسرائيل.

وكذلك طالب الشوبكي بعوامل جديدة تدفع تل أبيب وواشنطن للتراجع عن “إعدام فكرة الدولة الفلسطينية على حدود 1967″، مع تأكيده أن اعتراف بعض الدول الغربية بالدولة الفلسطينية غير كافٍ لردع إسرائيل.

تصالحت مع باكو وتقاربت مع واشنطن.. فهل تبقي أرمينيا القاعدة الروسية على أراضيها؟

تصالحت مع باكو وتقاربت مع واشنطن.. فهل تبقي أرمينيا القاعدة الروسية على أراضيها؟

موسكو- أثارت التحولات الأخيرة في العلاقات بين روسيا وأرمينيا مجموعة من التساؤلات حول آفاق التفاعل اللاحق بين البلدين، في وقت أصبحت فيه أرمينيا موقع تقاطع مصالح لقوى إقليمية ودولية فاعلة ومتناقضة في إقليم جنوب القوقاز.

وأصبحت هذه التساؤلات أكثر جدلية بعد توقيع أرمينيا وأذربيجان اتفاق سلام في الثامن من آب/آب الماضي بعد صراع مرير، تمثل بعدة حروب بين البلدين اندلعت خلال الـ40 عاما الأخيرة بسبب ملف إقليم ناغورني قره باغ قبل أن تستعيد أذربيجان السيطرة عليه عام 2023 بعملية عسكرية خاطفة.

والاتفاق التاريخي الذي وقع في واشنطن تحت رعاية أميركية ثبّت كذلك دورا غير مسبوق للولايات المتحدة في الإقليم الإستراتيجي، من خلال بوابة ممر زنغزور الذي تحوّل إلى “ممر ترامب للازدهار والسلام” بحقوق تطوير وإدارة أميركية تمتد لـ99 عاما، وتربط القوقاز بتركيا وأوروبا بعيدا عن روسيا وإيران.

في قلب هذه العاصفة الجيوسياسية، برز مصير القاعدة العسكرية الروسية في غيومري، ثاني أكبر مدينة في أرمينيا والعنصر الأثقل في الشراكة الأمنية بين يريفان وموسكو.

وإذا ما كان سيتم إغلاق هذه القاعدة بالنظر إلى التصريحات المتزايدة والصريحة للمسؤولين في أرمينيا عن قطع علاقاتهم الأمنية مع روسيا، والتي جاءت خطواتها الأولى في هذا الاتجاه بطرد حرس الحدود الروس الذين كانوا يوفرون الأمن في مطار يريفان الدولي منذ تسعينيات القرن الماضي.

Military vehicles of the Russian peacekeeping force move on the road outside Lachin on تشرين الثاني 29, 2020, after six weeks of fighting between Armenia and Azerbaijan over the disputed Nagorno-Karabakh region. - A Moscow-brokered peace deal was announced on تشرين الثاني 10 after Azerbaijan's military overwhelmed Armenian separatist forces and threatened to advance on Karabakh's main city Stepanakert. (Photo by Karen MINASYAN / AFP) (Photo by KAREN MINASYAN/AFP via Getty Images)
روابط عسكرية واقتصادية وجيوسياسية تاريخية واسعة تربط أرمينيا بروسيا (غيتي)

حالة تردد

ويشير الخبير في السياسة الخارجية الروسية، ديمتري باييتش، إلى أن أرمينيا تمر بحالة من عدم الاستقرار الداخلي والضغوط الخارجية، وأن رئيس الوزراء نيكول باشينيان يسعى إلى الحفاظ على التوازن بين مختلف القوى من دون اتخاذ خطوات حاسمة تستفز الأطراف، بما في ذلك روسيا.

إعلان

ويقول للجزيرة نت، إن الاتفاق الأخير بين أرمينيا وأذربيجان ترك عددا من القضايا من دون حل، ولا تزال التوترات مرتفعة، ما قد يبقي ملف القاعدة العسكرية الروسية في غيومري على حاله.

ووفقا له، من غير الواضح ما إذا كان الاتفاق بين البلدين سيؤدي إلى سلام دائم، أم أن الخلافات المتبقية ستُدمر هذا التوازن الهش، حسب تعبيره. وعليه، فإن القيادة في أرمينيا ليست في عجلة من أمرها للمطالبة بإنهاء الوجود العسكري الروسي على أراضيها.

إضافة لذلك، يُشير المتحدث إلى أن يريفان تُحاول المناورة بين الشرق والغرب، سعيا للحفاظ على الاستقلال والأمن في ظل وضع جيوسياسي مُعقّد، كما أن القاعدة العسكرية لا تزال عنصرا أساسيا في نظام الأمن الأرميني ورمزا للشراكة الإستراتيجية مع روسيا.

 

اعتبارات الأمن القومي

من جانبه، يشير الخبير في شؤون القوقاز، أندريه أريشيف، إلى أن الوظيفة الرئيسية للقاعدة تتجلى بوضوح في موقعها، إذ تقع على الحافة الغربية لغيومري، على بُعد أقل من 10 كيلومترات من الحدود مع تركيا “عدو أرمينيا اللدود”، حسب وصفه.

ويضيف للجزيرة نت أن الأهمية الدفاعية للقاعدة تعود إلى عقود إلى الوراء، إذ كانت تعد واحدة من الأماكن القليلة التي يجاور فيها الاتحاد السوفياتي السابق مباشرةً دولة عضوا في حلف الناتو، وظلت قائمة.

ويتابع بأنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، شعرت أرمينيا الفقيرة والمستقلة مجددا بالضعف في مواجهة جارتها القوية والأكبر حجما؛ تركيا.

وبحسب رأيه، ستبقى القاعدة في غيومري ما دامت الاتفاقية بين روسيا وأرمينيا سارية المفعول، فضلا عن أنه ليس لدى أرمينيا ما يدعوها إلى سحبها، لأن الوجود الروسي سيحافظ على توازن القوى والمصالح هناك.

خلافا لذلك، يؤكد الخبير أريشيف أن انسحاب هذه القاعدة سيؤدي إلى مزيد من تدهور العلاقات مع روسيا، ويريفان تتفهم ذلك ولا ترغب في الدخول في جدال مع موسكو، بل إنه مع مرور الوقت، قد يُطرح السؤال حول ما إذا كانت روسيا نفسها تحتاج إلى هذه القاعدة.

تصميم خاص خريطة أرمينيا
أرمينيا تقع في محيط إقليمي وواقع جيوسياسي معقّد (الجزيرة)

ارتباط واعتماد

تم إنشاء القاعدة العسكرية الروسية رقم (102) في غيومري شمال أرمينيا، عام 1995 بناء على اتفاقية بين البلدين.

وفي عام 2010 وخلال زيارة الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف إلى أرمينيا، مُددت الاتفاقية حتى عام 2044. وبموجبها، يجوز تمديد فترة عمل القاعدة تلقائيا بعد عام 2044 لمدة 5 سنوات، إذا لم يُبدِ أيٌّ من الطرفين رغبة في إنهاء الاتفاقية.

وتضم القاعدة حاميتين عسكريتين: في غيومري ويريفان. ويقع القسم الجوي في مطار إريبوني بالقرب من يريفان ويبلغ عدد أفرادها حوالي 4 آلاف فرد.

أما المعدات فتشمل أنظمة صواريخ مضادة للطائرات ومقاتلات ميغ – 29، ومروحيات مي- 24 بالإضافة إلى معدات عسكرية أخرى، بما في ذلك دبابات ومركبات مشاة قتالية.

وبموجب الاتفاقية بين الدولتين، تُوفر أرمينيا أراضي القاعدة مجانا، وتتحمل نصف تكاليف صيانتها. وتعمل القاعدة في إطار نظام الدفاع الجوي المشترك لرابطة الدول المستقلة، وتلعب دورا محوريا في ضمان أمن أرمينيا، وخاصة على الحدود مع تركيا.

إعلان

ولاعتماد أرمينيا العسكري على روسيا جذور راسخة، تعود إلى الحقبة السوفياتية وتعززت بعد انضمام أرمينيا إلى منظمة معاهدة الأمن الجماعي عام 1992.

وزودت روسيا أرمينيا بمعظم معداتها العسكرية، بما في ذلك خلال حربي قره باغ الأولى والثانية، وهذا ضاعف من اعتمادها على الدعم العسكري الروسي.

ورغم الجهود المبذولة لتنويع علاقاتها العسكرية، بما في ذلك مع فرنسا والاتحاد الأوروبي، لا تزال أرمينيا مرتبطة ارتباطا وثيقا بروسيا من خلال روابط عسكرية واقتصادية وجيوسياسية واسعة. ومن غير المستبعد أن يستمر هذا الاعتماد وأن يؤثر على علاقات أرمينيا الدولية وإستراتيجياتها العسكرية في المستقبل.