وصول الباخرة إم جي صوفيا إلى مرفأ طرطوس (غربي سوريا) محمّلة بأكثر من 19 ألف طن من الشعير الروماني عبر شركة إيه دي الأميركية، يمثّل حدثا بارزا في مسار الاقتصاد السوري بعد سنوات من العزلة التجارية الناجمة عن العقوبات.
هذه الخطوة ليست مجرد عملية استيراد روتينية، بل تحمل في طياتها دلالات اقتصادية وسياسية عميقة، تعكس بداية مرحلة جديدة في علاقات سوريا التجارية مع العالم.
فطوال السنوات الماضية اضطرت سوريا للاعتماد على موانئ الدول المجاورة لاستيراد المواد الأساسية، مما زاد من تكاليف النقل وأثقل الأسعار المحلية. أما اليوم، فإن وصول شحنة مباشرة إلى طرطوس يشير إلى انفراجة تجارية محتملة، تفتح الباب أمام تعزيز السيادة الغذائية وتخفيف الضغوط المعيشية.
حدث اقتصادي لافت
وفي تصريح لـ “الجزيرة نت”، قال مدير العلاقات في الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية مازن علوش، إن مرفأ طرطوس استقبل فجر الأربعاء الباخرة إم جي صوفيا، وهي أول سفينة تنقل محاصيل زراعية من أوروبا وأميركا الجنوبية إلى سوريا بعد رفع العقوبات.
وأوضح أن الشحنة، التي تجاوزت 19 ألف طن من الشعير الروماني، دخلت عبر شركة أميركية مباشرة دون المرور بموانئ وسيطة في تركيا أو لبنان. واعتبر أن هذا التطور يمثّل بداية لمرحلة جديدة من الاستيراد المباشر بكفاءة أعلى وتكلفة أقل، مؤكدا أن الهيئة تعمل على خطط لتطوير المرافئ وزيادة قدرتها الاستيعابية بما يسمح باستقطاب خطوط بحرية عالمية.
مرفأ طرطوس على جاهزية تامة لاستقبال المزيد من بواخر القمح (الجزيرة)
تحولات اقتصادية وسياسية
ورأى المستشار الأول في وزارة الاقتصاد السورية الدكتور أسامة قاضي، أن قرار وزارة الخزانة الأميركية برفع العقوبات يشكّل منعطفا في العلاقات الاقتصادية.
وأشار في حديثه لـ “الجزيرة نت” إلى أن هذا القرار شجع بعض الشركات الأميركية على إعادة النظر في السوق السورية، وهو ما قد ينعكس على قطاعات أخرى مثل النفط والغاز والصناعات التحويلية. لكنه أضاف أن الطريق ما يزال محفوفا بعقبات، سواء على صعيد البنية التحتية المتهالكة أو على مستوى الاستقرار السياسي اللازم لجذب الاستثمارات.
بين الاقتصاد والمجتمع
أبعاد الانفتاح لا تقتصر على الاقتصاد وحده، بل تمتد إلى الجانب الاجتماعي والتقني. فقد أوضح بكر غبيس، عضو منظمة “مواطنون لأجل أميركا آمنة”، أن إدخال تقنيات وبرامج أميركية في القطاع المصرفي والأمن السيبراني قد يفتح آفاقا للاستثمار في مجالات الإنترنت والاتصالات والتعليم والتجارة الإلكترونية.
إعلان
وأضاف أن هذا التعاون قد يحمل بعدا ثقافيا، من خلال بناء جسور إنسانية بين الشعبين السوري والأميركي، لكنه حذّر من أن استمرار هذا المسار مرهون بظروف سياسية معقدة قد تؤدي إلى انتكاسات مفاجئة.
تنسيق متكامل بين الجهات المعنية لضمان وصول القمح إلى المطاحن والمراكز المخصصة دون أي تأخير (الجزيرة)
خفض التكاليف وإعادة تنشيط الصناعة
في حين أشار الخبير الاقتصادي أدهم قضيماتي لـ”الجزيرة نت” إلى أن الاستيراد المباشر سيخفض تكاليف النقل بشكل واضح، مما سينعكس على أسعار السلع الغذائية ويخفف الضغوط المعيشية خلال أشهر قليلة.
وتوقع أن يلمس المواطنون تراجعا تدريجيا في أسعار بعض المواد الأساسية، في حين تحتاج السلع الإستراتيجية إلى وقت أطول. وأكد أن سياسة “صفر مشاكل” التي تتبناها الحكومة مع مختلف الدول قد تسهم في توسيع قاعدة التعاون الاقتصادي، مستفيدا من الموقع الإستراتيجي لسوريا الذي يمنحها فرصة لإعادة تأهيل مرافئها ومطاراتها خلال العامين المقبلين.
ويبقى السؤال: هل يمثل وصول إم جي صوفيا بداية مسار انفتاح اقتصادي طويل الأمد، أم خطوة ظرفية مرتبطة بقرار سياسي أميركي؟ ففي حين يرى بعض الخبراء أن الأفق يبدو واعدا، يحذّر آخرون من أن نجاح هذه التجربة يتوقف على قدرة سوريا على معالجة تحدياتها الداخلية، وتأمين بيئة استثمارية مستقرة تضمن استدامة هذا الانفتاح.
في عام 1919، شكل الرئيس الأميركي الأسبق، وودرو ويلسون، لجنة برئاسة تشارلز ريتشارد كراين، مستشاره لقضايا الشرق وهنري تشرشل كينغ، رئيس جامعة أوبرلين الأميركية، بهدف تحديد توجهات ومطالب الشعب السوري حول مستقبل بلدهم ونظام الحكم فيه في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى.
وتعد النتائج التي توصلت إليها اللجنة، أول استطلاع ميداني للرأي العام السوري في التاريخ، وتوصلت اللجنة التي عملت في الفترة بين 10 حزيران/حزيران و21 تموز/تموز 1919 إلى معلومات دقيقة ومحددة عن أوضاع الشعب السوري وتطلعاته ورغباته.
وقالت اللجنة إنها ستساعد الرئيس ويلسون على معرفة الحقائق، من أجل تبني سياسة واضحة إزاء قضايا الشرق الأوسط، سواء في مؤتمر باريس الدولي للسلام -الذي كانت جلساته ما زالت مفتوحة آنذاك- أو في عصبة الأمم لاحقاً.
وأثناء عملها، زارت اللجنة 3 مدن كبرى رئيسية، وهي دمشق والقدس وبيروت، إلى جانب 36 مدينة وبلدة، وأجرت مقابلات مع عدد كبير من الأفراد، والجماعات، والفئات الإثنية والمذهبية، وقرأت مئات العرائض والالتماسات المتعلقة برغبات الشعب ومطالبه.
الأمير فيصل بن الحسين سارع إلى مؤتمر باريس لتأكيد رغبة سوريا بالاستقلال (غيتي)
كيف بدأت القصة؟
في نهاية الحرب العالمية الأولى، بدأ مؤتمر باريس للسلام أعماله يوم 30 كانون الثاني/كانون الثاني 1919 بحضور قادة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، لتحديد شروط سلام مرحلة ما بعد الحرب.
ورغم أن مصير أراضي الدولة العثمانية لم يتمتع بأولوية قصوى على جدول أعمال المؤتمر، فإنه تميز كبند خاص جرت مناقشته، وتم الاتفاق بين المجتمعين على فرض تسوية تفضي إلى تفكيك الإمبراطورية، ودعم استقلال البلاد التي انفصلت عنها.
كانت سوريا -التي استقلت بقيادة الأمير فيصل بعد انسحاب الجيش العثماني من حلب آخر محطاته باتجاه الشمال- قلقة من توجه استعماري تقوده فرنسا وبريطانيا، لاقتسام بلاد الشام، وفق تسريبات أكدت وجود خطة تدارسها وزيرا خارجية البلدين في عام 1916، للسيطرة على سوريا الطبيعية، وتقسيمها إلى مناطق نفوذ، عرفت باتفاقية “سايكس بيكو“.
إعلان
وعلى إثر التسريبات والهواجس، سارع الأمير فيصل لينقل إلى المؤتمر، في 29 كانون الثاني/كانون الثاني 1919 قلق السوريين ومخاوفهم، ويدعو قادة الدول للاعتراف بالشعوب الناطقة بالعربية كشعوب مستقلة ذات سيادة، “على أن يتم تعيين حدود دولها الناشئة بيننا بعد التأكد من رغبات سكانها”، بحسب قوله.
واستند فيصل في طلباته على مبادئ الرئيس الأميركي ويلسون التي أعلنها في مطلع كانون الثاني/كانون الثاني من العام ذاته، وعلى رأسها حق الشعوب في تقرير مصيرها، اعتقادا منه بأهمية الدور المتصاعد للولايات المتحدة في السياسة الدولية، وتأثيره على صياغة سلام ما بعد الحرب في المنطقة.
لكن اصطدام هذا المبدأ مع نظرة فرنسا وبريطانيا لسوريا كغنيمة حرب، ولتفادي صراع سياسي بين القوى الحليفة المنتصرة، دفع ويلسون إلى أن يقترح على مؤتمر باريس تشكيل لجنة دولية، تستطلع وتنقل أوضاع سوريا ورغبات سكانها إلى المؤتمر، غير أن الاقتراح انتهى بعد مراوغة لندن وباريس إلى لجنة أميركية تضم خبراء وأكاديميين على اطلاع واسع بتاريخ الشرق، لتباشر عملها في العاشر حزيران/حزيران.
يرى أستاذ التاريخ في جامعة تنيسي الحكومية، والباحث المتخصص بعلاقة الولايات المتحدة بالشرق الأوسط، أندرو باتريك، في كتابه “مبادرة الشرق الأوسط المنسية”، أن إصرار الرئيس ويلسون على تشكيل اللجنة واقتصارها على العنصر الأميركي، يعود لسببين، الأول: اقتناعه بوجهات نظر كل من الأمير فيصل الذي سبق أن اقترحها ورئيس الكلية البروتستانتية السورية هوارد بليس، والجنرال البريطاني إدموند اللنبي، حيث كانوا يرون في إرسالها أمراً مفيداً، والثاني: قناعة ويلسون بأن تشكيلها يتماشى مع مثله العليا، بما يقف في وجه “الدبلوماسية القديمة” التي لا تزال فرنسا وبريطانيا تتبعانها في تقسيم الأراضي العثمانية.
ويلسون اقترح تشكيل لجنة بشأن سوريا في مؤتمر باريس للسلام (شترستوك)
ماذا طلب السوريون من الأميركيين؟
وصلت اللجنة دمشق قادمة من القدس، في 25 حزيران/حزيران، وكان أهم حدث ترك استحسانا لديها، احتفال دمشق بليلة القدر في اليوم ذاته، حيث دعيت لحضوره مساء في الجامع الأموي.
وصف عضو اللجنة ألبرت هـ ليبير، أستاذ التاريخ بجامعة إلينوي، الاحتفال بالقول “أقيمت الصلاة في الفناء الكبير، ربما كان هناك 3 آلاف أو 4 آلاف شخص، وفي الوسط كانت هناك منصة مرتفعة، كان الأمير فيصل و4 ضباط يؤدون الصلاة فيها”.
وتابع “دعينا إلى تلك المنصة وأعطينا مقاعد ذات وسائد على الجانبين، وكنت على بُعد 4 أقدام تقريباً من الأمير، وكان المسلمون الذين رأيناهم في الغالب جادين للغاية، بعد الصلاة ركع الجميع، وتلا الكهنة (المشايخ) من المنصة العالية أناشيد دينية، بينما كان الجميع يردد على فترات متباعدة، لازمة جميلة “الله .. الله”.
بعد ظهر اليوم التالي، بدأت اللجنة عملها في دمشق بمقابلة قصيرة غير رسمية مع الأمير فيصل ومستشاريه، وأخبر فيصل أعضاء اللجنة أن “الذين يطالبون باستقلال البلاد نسبتهم 100% مع أننا كنا نتوقع أن تكون النسبة 90%”، وبعد مغادرة فيصل، أجرت اللجنة -على ما ذكره ليبير- مقابلة مثيرة للاهتمام للغاية مع العلماء المسلمين، وركزت أجوبتهم بشدة على 4 نقاط:
إعلان
استقلال سوريا التام.
رفض أي تدخل فرنسي في شؤون المنطقة.
رفض الوجود الصهيوني وأنشطته المشبوهة في فلسطين.
اقتراح الولايات المتحدة كقوة منتدبة بديلة عن فرنسا.
لاحقاً، التقت اللجنة بشخصيات وطنية، وأعيان دمشق، وقادة الطوائف الأرثوذكسية اليونانية، والكاثوليكية اليونانية، والدرزية، واليهودية، علاوة على أعضاء المجلس البلدي، وعدد من الأندية السياسية، بما في ذلك النادي العربي، وأجمعوا على النقاط الأربع، باستثناء بطريرك الروم الأرثوذكس، الذي ادعى أنه “غير مهتم” بالمسألة الصهيونية و”لا يستطيع التعبير عن رأيه في هذا الشأن”، كما نقلت اللجنة.
وفد الدروز إلى لجنة كنغ-كراين (أرشيفية)
“نساء الشرق تركن عزلتهن”
كان الوفد الذي أثار دهشة اللجنة هو مجموعة من 12 سيدة مسلمة قيل إنهن من أقارب الشهداء الذين أعدمهم جمال باشا السفاح في ساحة المرجة، وقد أذهلت هؤلاء النسوة أعضاء اللجنة، عندما رفعن حجابهن أثناء إجراء المقابلة، وعلى حد تعبير ليبير، فإن “اثنتين منهن أو 3 كنّ جميلات للغاية”، وأشار ليبير إلى أن النساء كن فصيحات وتوسلن من أجل الاستقلال المطلق دون أي مساعدة خارجية على الإطلاق، لأنهن كن يعتقدن أن مثل هذه المساعدة “ستجعل من رجالهن كسالى”.
من جانبها، رأت المؤرخة إليزابيث ف. تومسون، أستاذة التاريخ في جامعة فرجينيا، والباحثة في المعهد الأميركي للسلام، في رفع الحجاب خطوة سياسية مدروسة من قبل النساء اللاتي تحالفن مع الأمير فيصل وسعين إلى التأكيد على الطموحات السياسية المستنيرة لحكومته.
في حين كتب هنري تشرشل كينغ، رئيس جامعة أوبرلين، يقول إن العبارة البسيطة التي تقول إن نساء الشرق تركن عزلتهن التاريخية، للمثول أمام لجنة من الرجال الأميركيين، هي كشف عن الدور الجديد الذي تلعبه النساء داخل الحركات القومية في الشرق.
برنامج دمشق
وصفت لجنة “كينغ-كراين” رسالة المؤتمر السوري العام، التي تلقتها بعد انتهاء جلساته في الثاني من تموز/تموز، ببرنامج دمشق.
فقد أجرى المؤتمر بحضور ممثلين عن مختلف المناطق والفئات، تقييما للتطورات السياسية الجارية، بما فيها أعمال اللجنة، وتوصل بعد موافقة الجميع، إلى نص عام تضمن رؤية ورغبات السكان في شكل الدولة ومستقبلها، ركز فيه على استقلال سوريا وسيادتها ووحدتها وطبيعة نظامها (ملكي، دستوري، مدني، ديمقراطي، لامركزي).
كما احتج المؤتمر على المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم، التي صنفت الشعب السوري في مرحلة متوسطة من التطور، يحتاج فيها إلى دولة منتدبة، في حين كان الرأي العام يميل إلى أن تكون هذه الدولة في الحالة السورية هي الولايات المتحدة أو بريطانيا، بديلاً عن فرنسا.
قدر تقرير اللجنة عدد سكان سوريا بنحو 3.2 مليون سوري، منهم 2.4 مليون مسلم، و587 ألف مسيحي، و140 ألف درزي، و110 آلاف يهودي، و45 ألف آخرون. وذكر أن اللجنة التقت في سوريا نحو 154 مجموعة سياسية و41 مجموعة اقتصادية واجتماعية، و442 مجموعة دينية.
سوريا خضعت للاحتلال الفرنسي بين الحربين العالميتين رغم رفض السوريين لفرنسا كدولة منتدبة (غيتي)
ماذا يريد السوريون بحسب اللجنة؟
وبلغ عدد الالتماسات التي قدمت للجنة نحو 1863 التماساً، 80.4% منها من أجل سوريا موحدة، و73.5% من أجل استقلال سوريا السياسي، و59.3% من أجل مملكة ديمقراطية وحكومة دستورية، و72.3% من أجل وقف البرنامج الصهيوني.
وفيما يتعلق بالدولة المنتدبة، فقد أوضح التقرير أن 3.75% من السوريين اختاروا بريطانيا كخيار أول للحصول على المساعدة، بينما اعتبرها 55.3% كخيار ثان، أما بالنسبة لفرنسا، فقد بلغت نسبة من اعتبرها خياراً أولاً 14.68% مقابل 0.15% كخيار ثان، في حين بلغت نسبة من اختاروا المساعدة الأميركية كخيار أول نحو 60.1%، وترك 1.23% مهمة تفضيلها للمؤتمر السوري العام.
إعلان
أما بالنسبة لمعاداة الصهيونية في فلسطين، فقد أعلن 85.3% معارضة البرنامج الصهيوني، وهي النسبة الأعلى في المنطقة من حيث النسبة المئوية.
وقال التقرير إن المسلمين أيدوا المساعدة الأميركية أو البريطانية، وفقاً لـ”برنامج دمشق”، بينما أيد الدروز الانتداب البريطاني، أما الموارنة والطوائف الكاثوليكية، فقد أيدوا فرنسا، أما الروم الأرثوذكس والعلويون فقد انقسموا، في حين أيد الإسماعيليون فرنسا.
وأوصت اللجنة في المقام الأول، أن تكون القوة المنتدبة تحت وصاية عصبة الأمم، تراعي رفاهية وتنمية الشعب السوري كأمانة مقدسة، وتعمل على تنفيذ مشاريع تعليمية واقتصادية يرتكز عليها تأسيس الدولة.
كما أوصت بالحفاظ على وحدة سوريا وفقاً للطلب الجاد الذي تقدمت به الغالبية العظمى من الشعب السوري، وعدم تقسيمها إلى ولايات حتى مع الاعتراف بالوحدة الوطنية القائمة، واعتبرت الملكية الدستورية على أسس ديمقراطية، ملائمة بطبيعتها للعرب، لما يتمتعون به من احترام تقليدي لزعمائهم.
مصير تقرير كينغ كراين
في العاشر من تموز/تموز أرسل كينغ وكراين برقية إلى الرئيس ويلسون، قالا فيها: “هناك أمور لا يمكن الخطأ فيها، وهي الرغبة العميقة لدى السوريين في الوحدة والاستقلال”.
وفي 31 آب/آب أرسل كراين برقية أخرى، لفت نظره إلى خطورة الوضع، واضطرار اللجنة للعودة فور انتهائها من تغطية الجوانب الأساسية، وتابع أن تقرير اللجنة هو “تقرير مبني على حقائق إنسانية حيوية، لا تتوافق مع الأمور التي يقوم بها التحالف، أو يخطط للقيام بها”.
لاحقاً، أقر ريتشارد كراين بأن اللجنة التي اجتهد لكي ينقل من خلالها للعالم صوت شعب يرغب في الاستقلال والسيادة والحرية عبر نظام دستوري، ديمقراطي، لا مركزي، يحمي الأقليات، لم تكن سوى قصة بدأت بتوقعات مرتفعة وانتهت بآمال محطمة، نتيجة توجهات غربية استعمارية.
وأضاف “كانت المصالح التي عارضت التقرير، وخاصة الفرنسية واليهودية، قادرة على إقناع الرئيس ويلسون، وبما أن الأميركيين لن يتحملوا أي مسؤولية مستقبلية، فليس من العدل أن ينشر التقرير، ولذا لم ينفذ، وتم الاحتفاظ به في أرشيف وزارة الخارجية الأميركية”.
بعد مرور أكثر من 100 عام على استطلاع لجنة كينغ-كراين، اكتشفت الولايات المتحدة تداعيات تراجعها عن المسار الذي كان من المفترض أن تتبعه في سوريا، لتسوية سلام ما بعد الحرب العالمية الأولى، عملاً بمبادئ الرئيس ويلسون.
فقد كتب توماس باراك، السفير الأميركي لدى تركيا ومبعوث الرئيس دونالد ترامب إلى سوريا، في 27 أيار/أيار الماضي -بعد تعيينه كجزء من سياسة أميركية جديدة بقيادة ترامب للتعامل مع سوريا الجديدة بعد سقوط النظام السابق ونشوء حكومة جديدة فيها- “إن الخطأ الذي ارتُكب قبل قرن، حين فرض الغرب خرائط وانتدابات وحدودا بالقلم، وأخضع الشرق الأوسط لحكم أجنبي لن يتكرر”.
وأضاف باراك أن “عصر التدخل الغربي قد انتهى”، وأن “المستقبل في سوريا سيكون للحلول الإقليمية، والشراكات، ولدبلوماسية تقوم على الاحترام”.
بعد أكثر من ثمانية أشهر على إسقاط النظام السوري السابق، وفتح سجونه وتفريغها، لا يزال مصير آلاف المعتقلين السوريين مجهولاً، خصوصاً من تعرضوا للاختفاء القسري على مدار سنوات.
اختفى آلاف السوريين خلال سنوات الحرب السورية منذ عام 2011، عقب اعتقالهم على الطرقات أو في الحواجز الأمنية أو من أماكن عملهم وسكنهم، من دون مذكرات اعتقال، ومن دون أن يكشف عن أماكن وجودهم، أو يسمح لعائلاتهم بالتواصل معهم، أو معرفة مصيرهم، وتنتظر آلاف العائلات إجابات واضحة عن مصير أبنائها، وتقديم المسؤولين عن اختفائهم القسري إلى العدالة.
ويعرّف القانون الدولي الاختفاء القسري
بأنه توقيف أو احتجاز فرد على يد دولة أو جهة ما، يتبعه اختفاء مصير الشخص أو مكان وجوده، بما يضعه خارج حماية القانون. وتعتبر الشبكة السورية لحقوق الإنسان أنّ المختفي قسرياً هو مُعتقل مضى على احتجازه أكثر من 20 يوماً من دون إقرار الجهة التي اعتقلته بوجوده لديها مع إنكارها معرفة مصيره.
وتقدر الشبكة السورية لحقوق الإنسان عدد المختفين قسرياً بأكثر من 177 ألف شخص حتى 20 آذار/ آذار الماضي، والغالبية العظمى منهم اختفوا على يد أجهزة النظام السابق، مع مسؤولية فصائل وجماعات أخرى عن الاختفاء القسري بدرجات أقل.
فقدت السورية سارة البرهوم زوجها بينما كان متوجهاً إلى عمله سائقَ أجرة في مدينة حلب، في أواخر عام 2013، ولاحقاً فقدت الأمل في معرفة مصيره. تقول النازحة والأم لخمسة أبناء من ريف حلب الغربي لـ”العربي الجديد”: “أين هو؟ أستيقظ كل يوم على السؤال ذاته من أبنائي وأقربائي، لكنه سؤال لا جواب له، ولم يعد الأمل يخفف الألم. صار العذاب الأكبر أن لا تعرف شيئاً عن شخص كان كل شيء في حياتك. إنها قسوة لا توصف”.
تضيف البرهوم: “انقطع الأمل من كل جهة بعدما سألنا كل من يمكن أن يعرف، وقدمنا بلاغات، وسمعنا وعوداً كاذبة كثيرة. النهاية دائماً هي نفسها، صمت مطبق، كأنه اختفى في بطن الأرض. لم نعد نعرف من نسأل، ولم نعد نثق بأحد. الموت له طقوسه المعروفة، وتشمل التشييع، وقبور نزورها ونبكي عليها، أما الاختفاء القسري فهو موت بلا نهاية، وألم بلا عزاء. أشعر بأنني أسير في دائرة لا مخرج منها، واليأس يأكل قلبي وقلوب أبنائي الذين يكبرون وهم يكررون سؤالاً بلا إجابة. منذ التحرير وإفراغ السجون ينتابني يقين بأنه ميت، وإلّا أين هو طوال تلك المدة؟ هل يمكن أن يكون قد فقد الذاكرة؟ أم في سجون قسد؟ أم في إحدى المقابر الجماعية؟ لا شيء مؤكداً، هذه هي حياتنا. جحيم لا ينتهي”.
قبل نحو عشر سنوات، فقدت النازحة المسنة رابعة الشبيب ابنها الذي كان متجهاً إلى جامعته في حمص، وتقول لـ”العربي الجديد”: “هُجّرنا من إدلب حاملين ذكريات البيت الذي هُدم، والممتلكات التي سلبت، لكن أقسى ما حملناه كان عدم معرفة مصير ابني المختفي، ولم تخفف السنوات الألم، بل زادته مرارة، واليأس من أن نعرف الحقيقة صار رفيقاً لنا منذ إفراغ السجون. يأس من أن نجد من يستمع، ويأس من أن يتحقق العدل. العالم يتحدث عن حقوق الإنسان، ونحن لا نملك حتى حق معرفة مصير أبنائنا، وقد سئمنا الانتظار، وسئمنا البحث، وسئمنا الصمت، واستنفدنا كل دموعنا وصبرنا”.
تحمل صورة ابنها المفقود، دمشق، 3 كانون الثاني 2025 (عز الدين قاسم/الأناضول)
وترجح مصادر حقوقية مقتل نحو 112 ألف مختفٍ داخل سجون النظام السابق. يقول الحقوقي السوري أمجد الغريب لـ”العربي الجديد”: “ما حدث بعد سقوط النظام شكل صدمة كبيرة لأهالي المعتقلين والمفقودين الذين كان لديهم بعض الأمل بأن يكون أولادهم في تلك السجون. لكنها كانت أشبه بمسالخ بشرية تُآذار فيها مختلف أنماط التعذيب، وتنتشر بداخلها أخطر أشكال الأمراض والأوبئة، ومن الواضح أن معظم المختفين قسرياً قضوا في السجون عبر سياسة ممنهجة اتبعها نظام الأسد”. يتابع الغريب: “رغم تفشي اليأس من معرفة مصير المختفين قسرياً، لكن قانونياً لا يمكن إغلاق ملف المختفي سوى بإحدى طريقتين، إما إثبات أنه على قيد الحياة عبر العثور عليه، أو إثبات أنه متوفى عبر العثور على جثمانه، وهناك مساران رئيسيان، أولهما العثور على سجون سرية إضافية، وثانيهما اكتشاف مقابر جماعية”.
وسط انتقادات حقوقية تطاول القوى العسكرية المختلفة في شمال وشرق سورية، وأبرزها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والجيش الوطني السوري، لا تزال حالات الاختفاء القسري هاجساً يقلق السكان. وشارك عشرات من أهالي المختفين قسرياً، يوم الخميس الماضي، في وقفة احتجاجية بمدينة القامشلي في ريف الحسكة، للمطالبة بالكشف عن مصير أبنائهم الذين لا يزال مصيرهم مجهولاً.
يعتقد السوري عبد الكريم رشيد عثمان بأنّ ابنه المفقود منذ عام 2019 لا يزال محتجزاً بشكل غير قانوني لدى فصيل “أحرار الشرقية”، ويشير إلى أنّ العائلة لجأت في وقت سابق إلى منظمات حقوقية، من بينها الصليب الأحمر الدولي، لكن تلك الجهات لم تتدخل بحجة أن الملف خارج صلاحياتها، وأن هذه الفصائل كانت تصنف سابقاً إرهابية، لكنها اليوم باتت ممثلة في بعض المناطق، إذ جرى تعيين المسؤول في “أحرار الشرقية” حاتم أبو شقرا ممثلاً عن محافظات الرقة والحسكة ودير الزور من قبل الرئيس السوري أحمد الشرع.
والد مفقود خلال وقفة في دمشق، 3 كانون الثاني 2025 (عز الدين قاسم/الأناضول)
ويضيف عثمان: “نطالب بتدخل عاجل للكشف عن مصير المفقودين، فقضيتنا ليست فردية، بل قضية آلاف العائلات التي فقدت أبناءها وما زال مصيرهم مجهولاً. كان الهدف من وقفتنا الأخيرة هو إيصال الصوت إلى الجهات المعنية ومنظمات حقوق الإنسان باعتبارها قادرة على الضغط من أجل معرفة مصير المفقودين والمخطوفين، سواء الذين اختطفهم تنظيم داعش، أو الذين اعتقلهم النظام السابق. هذه المعاناة هي جرح مشترك يجب أن يتقاسمه الجميع، ونطالب بإنشاء محكمة دولية أو إقليمية في سورية، تكون معنية بكشف مصير المفقودين، وتوضيح الحقائق بعد سقوط النظام ورحيل داعش، وعلى الحكومة الحالية التحرك الجاد، لأنّ استمرار الغموض يزيد حجم الألم الذي يعيشه ذوو المفقودين”.
من جانبه، يقول المحامي معاذ يوسف، وهو عضو المكتب القانوني للمجلس الوطني الكردي في شمال شرقي سورية، لـ”العربي الجديد”، إنّ “القانون الدولي ومختلف الاتفاقيات والمعاهدات تجرّم الاختفاء القسري باعتباره فعلاً منافياً للإنسانية، ومن بينها الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري الصادرة في عام 2006، والتي دخلت حيز التنفيذ عام 2010. ربما يكون ضحايا الاعتقال التعسفي أحسن حالاً من ضحايا الاختفاء القسري، فهؤلاء اعتقلوا لأسباب غير قانونية، لكن السلطة مرتكبة الانتهاك اعترفت بوجودهم في المعتقل، ما يجعل الجريمة أقل وطأة على الضحايا وذويهم، بينما ضحايا الاختفاء القسري يجرى حجز حريتهم من دون أن تعترف السلطة المرتكبة للانتهاك بقيامها بهذا الفعل، ما يحرمهم من أي حماية قانونية أو متابعة من ذويهم”.
يضيف يوسف: “جميع سلطات الأمر الواقع والفصائل المسلحة في كامل الجغرافية السورية ارتكبوا هذا الفعل الإجرامي، وجرى الإفراج عن بعض المختفين، لكن بقي مصير الكثيرين مجهولاً. المطلوب تطبيق قواعد العدالة الانتقالية وفق المعايير الدولية، فتطبيقها هو الكفيل بتضميد جراح السوريين، ومن ثم إصدار قرار على المستوى الوطني ببيان مصير المختفين ومحاسبة جميع مرتكبي هذه الفظائع من أجهزة القمع في النظام البائد وجميع الفصائل وسلطات الأمر الواقع أمام محاكم وطنية نزيهة، وتعويض الضحايا وذويهم”.
وتظهر تقارير حقوقية استمرار جرائم الاعتقال والاختفاء القسري في سورية بعد سقوط النظام السابق، وسجلت الشَّبكة السورية ما لا يقل عن 109 اعتقالات تعسفية في تموز/ تموز الماضي، من بين المعتقلين خمسة أطفال، وكانت 12 حالة منها على يد قوات الحكومة السورية، و36 احتجازاً تعسفياً على يد قوات سوريا الديمقراطية، من بين المعتقلين خمسة أطفال.
وتُظهر البيانات أنَّ العديد من عمليات الاحتجاز تتم من دون مذكرات قضائية أو ضمانات قانونية، ما يشكّل انتهاكاً واضحاً للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي يحظر الاعتقال التعسفي، ويؤكد على حقِّ المحتجزين في معرفة أسباب احتجازهم، والمثول أمام القضاء في أسرع وقت ممكن.
وضع الرئيس السوري أحمد الشرع -اليوم الجمعة- حجر الأساس لمشروعين تنمويين في مدينة حمص (وسط سوريا)، في وقت تسعى فيه السلطات إلى تسريع الإعمار بعد رفع العقوبات الأميركية والأوروبية.
وقالت وكالة الأنباء السورية إن الشرع التقى وجهاء وأعيان حمص، ووضع حجر الأساس لمشروعي “البوليفارد” و”أفينو حمص” بالمدينة.
والبوليفارد مشروع عمراني يوصف بالضخم، ويهدف ليكون منطقة حضرية متكاملة تشمل أماكن سكنية وتجارية وترفيهية، إضافة إلى حديقة عامة وسوق حديث ومرافق بنى تحتية، ولم يذكر الإعلام السوري أي تفاصيل عن مشروع أفينو حمص أو طبيعته.
وزار الرئيس السوري أيضا مدينة حماة (وسط) والتقى مسؤولين محليين ووجهاء المحافظة.
وقالت الوكالة السورية إن الرئيس شدد على الدور الوطني للوجهاء في تعزيز الوحدة والتماسك المجتمعي ودعم مسيرة التنمية والإعمار.
وبعد حمص وحماة، وصل الشرع إلى محافظة إدلب (شمال غرب)، وأظهرت صور نشرتها وكالة سانا استقباله في مدينة سراقب.
يشار إلى أن زيارات الرئيس السوري للمحافظات الثلاث تكتسي أهميتها من كونها إشارة لبدء مرحلة إعادة الإعمار والتنمية في البلاد، خاصة في هذه المناطق التي تعرضت لتدمير واسع جراء الهجمات التي شنتها قوات النظام السوري وحلفاؤها عقب ثورة العام 2011.
وبحسب تقارير صادرة عن الأمم المتحدة، فإن إعادة الإعمار في سوريا تحتاج تقريبا 400 مليار دولار.
أثارت دعوة أحمد موفق زيدان، المستشار الإعلامي للرئيس السوري أحمد الشرع، جماعة الإخوان المسلمين في سوريا إلى حل نفسها، جدلا واسعا بين أوساط من السوريين، وخاصة الإسلاميين، بالنظر إلى توقيت الدعوة، ودلالاتها، والرسائل التي تحملها.
إضافة إلى أنها تلاقي دعوات للحل، تزايدت في الآونة الأخيرة من داخل الجماعة وخارجها. إلى جانب المطالب بضرورة قيامها بمراجعة شاملة للفترة السابقة، الأمر الذي أثار انقسامات داخل صفوفها، وأفضى إلى انسحاب عدد من قيادات الجماعة من التنظيم، وأبرزهم ملهم الدروبي.
التوقيت والحيثيات
الأساس الذي بنيت عليه دعوة الحل هو التضحية بالكيان التنظيمي لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا لصالح مشروع الدولة الجديدة والسياسة التي تنتهجها قيادتها، واعتبار أن تمسك الجماعة بشكلها التنظيمي الحالي يضر بمصالح البلاد، ويعزلها عن الوضع السوري الجديد، حيث إن “إصرار الإخوان على البقاء مغردين خارج السرب، مع تصريحات هنا وهناك تلمح إلى عدم رضاهم عما يجري، يزيد من الشقة والفجوة مع الشارع الداعم للحكومة”.
فضلا عن مسوغات أخرى، تتعلق ببعدها عن المجتمع السوري، نظرا لاضطرار أعضائها إلى الفرار من سوريا منذ ثمانينيات القرن الماضي.
غير أن ثمة أسبابا وحيثيات عديدة تقف وراء دعوة زيدان، أهمها:
أولا: جاءت دعوة زيدان إلى حل الجماعة في توقيت خاص، وذلك بعد أسابيع قليلة من تعيينه في منصبه الاستشاري الرسمي، الأمر الذي يكسبها طابع رسالة سياسية واضحة من السلطة السورية الجديدة إلى الجماعة الإخوانية بألا تعاود العمل داخل سوريا في المرحلة الانتقالية، التي تستلزم وقوف الجميع إلى جانب القيادة الجديدة من أجل تعافي البلاد، وإعادة إعمار ما دمره نظام الأسد البائد.
ثانيا: تلاقي الدعوة مسعى السلطة الجديدة الرامي إلى حل كافة الأحزاب والتشكيلات السياسية والعسكرية، وبما يتسق مع إعلان 18 فصيلا عسكريا حل نفسها، بما فيها هيئة تحرير الشام، في نهاية كانون الأول/كانون الأول 2024، والانضمام إلى وزارة الدفاع.
إعلان
إضافة إلى وقف العمل بالدستور، وحل مجلس الشعب، وحل حزب البعث، ثم جرى حل كل من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة والمجلس الإسلامي السوري.
ثالثا: تريد السلطة السورية الجديدة ملاقاة الاحتضان العربي الخليجي لها عبر منع نشاط الجماعة المحظور في عدد من تلك الدول. ويذهب بعضهم إلى اعتبار أن منع تنظيم الإخوان المسلمين من العمل في سوريا، هو أحد شروط بعض الدول الخليجية مقابل احتضانها السلطة الجديدة ودعمها.
رابعا: يمكن اعتبار دعوة الحل بمثابة رد على بيان مجلس الشورى في الجماعة الذي نشر 7 آب/آب الجاري، وأكد فيه أن خيار الحل غير مطروح، وأنها “ستبقى كما عهدها الشعب السوري جماعة سورية وطنية، مستقلة بقرارها، تسير في نهجها الإسلامي الوسطي”، لكنه لم يَتخذ قرارا بالعودة إلى العمل داخل سوريا، وباتت العودة مؤجلة، ولن تحدث في المدى المنظور.
كان بيان مجلس شورى الجماعة قد أكد موقفها الداعم الناصح الأمين، الحريص على إنجاح عملية بناء الدولة المدنية الحديثة بمرجعية إسلامية، وأنها ستبقى دائما تسدد وتقارب، وتتلمس سد الثغرات، إنجاحا للثورة ومبادئها في بناء دولتنا الوليدة.
لكنه اعتبر أن “الاستقرار يسهل نيله بإشراك جميع المكونات السورية بشكل فعال في تنمية وبناء الدولة ضمن برنامج سياسي تعددي، وأن استشعار الأطراف السورية اليوم واطمئنانها أن الدولة- بعد المرحلة الانتقالية- تبنى على أسس تشاركية تمثيلية، وانتخابات نيابية تعددية حرة، عامل هام في تثبيت الاستقرار”.
يمكن اعتبار البيان بمثابة الرد على دعوات بعض الأصوات داخل الجماعة نفسها لحلها أو تغيير الاسم والتنظيم، لكن دعوة زيدان لا تدخل في باب الدعوة الصادرة من البيت الإخواني الذي كان يستظل فيه، حين كان عضوا سابقا فيها، وذلك على الرغم من اعتماده مقاربة عرض فيها تجارب أخرى للإخوان المسلمين ولجماعات إسلامية أخرى قدمت فيها المصالح الوطنية على المصالح الحزبية والتنظيمية، مثلما حدث مع جماعة الإخوان المسلمين نفسها إبان فترة وحدة سوريا مع مصر 1958.
كما حل الإخوان المسلمون أنفسهم في العراق، وكذلك في قطر، وغيروا اسمهم ثم تنظيمهم في المملكة المغربية. إضافة إلى تجارب حسن الترابي في السودان، وراشد الغنوشي في تونس، و”جبهة العمل الإسلامي” في الأردن وسواهم.
غير أن السؤال المطروح هو هل تستجيب جماعة الإخوان المسلمين في سوريا لدعوات حل نفسها؟
مسار الجماعة
يشير تاريخ الجماعة إلى مسار متعرج عرفته منذ نشأتها، وشهد تقلبات، وتحديات، وتحولات عديدة طرأت على مواقفها وأطروحاتها، وطرحت مؤخرا مجموعة من الأسئلة والتساؤلات بخصوص مستقبل الجماعة ومصيرها في المرحلة المقبلة، بعد أن باتت محظورة في معظم الدول العربية.
تمتلك جماعة الإخوان المسلمين في سوريا سجلا حافلا بالأحداث والمنعرجات، التي ميزت مسيرتها منذ أن أسسها مصطفى السباعي 1954، إثر انضمام عدة منظمات خيرية، ذات برامج اجتماعية، ركزت فيها على التعليم والخدمات الصحية في المدن السورية الكبرى.
وحققت نجاحا سياسيا نسبيا، عندما حصلت على بعض المقاعد في البرلمان السوري في الفترة بين 1946 و1958، وقامت بحل نفسها إبان فترة الوحدة السورية المصرية، لكنها عادت إلى الوجود مجددا بعد الانفصال عن مصر، وجرى حظرها من قبل قادة انقلاب حزب البعث، الذين استولوا على السلطة في سوريا 1963.
إعلان
وبالافتراق عن موقف قيادات الجماعة، قام مروان حديد بقيادة أول تمرد مسلح ضد سلطة البعث القمعية 1976، حين أسس “كتائب محمد”. وفي نهاية سبعينيات القرن الماضي، تشكلت “الطليعة المقاتلة”، التي قادت تمردا على نظام حافظ الأسد الاستبدادي، ورد عليه الأسد بإصدار المرسوم رقم 49 في 1980، الذي يقضي بإعدام أي عضو من جماعة الإخوان المسلمين.
وارتكب نظام الأسد مجازر مروعة في مدينتي حماة وحلب. ثم حاولت الجماعة التفاوض مع النظام بعد توريث الحكم لبشار الأسد، لكن النظام رفض رفع الحظر عنها وأبقى على القانون 49.
قامت جماعة الإخوان المسلمين بمراجعات تكللت بإصدارها “مشروع ميثاق الشرف الوطني للعمل السياسي في سوريا” 2001، أكدت فيه التزامها بالحوار الوطني وبالأدوات السياسية الديمقراطية كوسيلة للعمل، ورفضها أعمال العنف.
ثم أصدرت “المشروع السياسي لسوريا المستقبل” في 2003، قدمت فيه رؤيتها للدولة والمؤسسات، والتحديات الوطنية، وسبل الإصلاح السياسي والاقتصادي.
في 2005 انضمت الجماعة إلى قوى “إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي”، الذي وحد صفوف المعارضة السورية ضد نظام الأسد، لكنها سرعان ما انضمت إلى “جبهة الخلاص الوطني” التي قادها عبدالحليم خدام نائب بشار الأسد بعد انشقاقه 2006، ثم انسحبت منها من أجل جهود تفاوض مع النظام قادها ساسة أتراك في ذلك الوقت.
انتعشت جماعة الإخوان المسلمين بعد اندلاع الثورة السورية منتصف آذار/ آذار 2011، ولعبت دورا هاما في تشكيلات المعارضة السورية، سواء المجلس الوطني السوري، الذي تشكل في بداية آب/آب 2011، أو الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة 2012، وهيئة التفاوض السورية.
وساهمت جماعة الإخوان المسلمين في العمل العسكري، حيث أعلنت الجماعة إنشاء مجموعة عسكرية تحت اسم دروع مجلس الثورة أو “هيئة دروع الثورة”، من أجل حماية المدنيين. كما دعمت عددا من الفصائل العسكرية المعارضة.
فتح النوافذ
شكلت الثورة السورية فرصة لجماعة الإخوان المسلمين كي تلعب دورا كبيرا في صفوف المعارضة السياسية والعسكرية، لكنها بقيت أسيرة الخلافات والتجاذبات مع قوة المعارضة الأخرى، فأصاب تشكيلات المعارضة الشلل لاعتبارات كثيرة.
لذلك لم تتمكن من تحقيق الشعارات التي كانت ترفعها، وفوجئت بالتغير الدراماتيكي والتقدم السريع الذي أحرزته فصائل “ردع العدوان” بقيادة “هيئة تحرير الشام”، وأفضى إلى إسقاط نظام الأسد 8 كانون الأول/كانون الأول 2024.
ليس هناك أي مؤشر على أن جماعة الإخوان المسلمين ستحل نفسها في المدى المنظور، وذلك على الرغم من ضعف ارتباطها بالداخل السوري، ومن سعي السلطة الجديدة للسيطرة على مفاصل الحكم، بعيدا عن الأحزاب والقوى السياسية.
وإن كان الائتلاف الوطني لقوى الثورة ومخرجاته قد حل نفسه، فذلك لأنه تشكل في ظروف معينة، ومن أجل غاية انتهت بسقوط نظام الأسد، والأمر نفسه ينسحب على المجلس الإسلامي السوري، لكنه يختلف في حالة الأحزاب السياسية، كون معظمها تشكل قبل نظام الأسد، وهي عميقة الجذور في المجتمع السوري، لذا فإن حلها يعني حرمان السوريين من نافذة هامة في التنظيم والتعبير.
ولعل المطلوب بعد إسقاط نظام الأسد فتح مزيد من النوافذ أمام جميع السوريين، وعدم تركهم يقبعون خلف أبواب الطوائف المنغلقة على نفسها.
تجادل السلطة الجديدة بأن المرحلة الانتقالية تتطلب الانسجام في القيادة ووحدة الصف، لذلك تعمل على حل التشكيلات العسكرية، وتريد حل الأحزاب السياسية.
وإن كان ما تجادل به يمتلك وجاهة على الصعيد العسكري، لما يقتضي من توحيد السلاح وحصره بيد الدولة، ومنع استمرار ظاهرة انفلاته، تماشيا مع حق الدولة باحتكار وسائل العنف، إلا أنه على الصعيد السياسي يختلف كثيرا، حيث لا يوجد ما يمنع انخراط السوريين في الحياة السياسية وفق قانون أحزاب جديد.
حيث من المفترض أن تصون الدولة الحقوق السياسية، تلك التي تمنح المواطنين القدرة على المشاركة في الحياة السياسية والمدنية للمجتمع والدولة، دون إكراه أو خوف أو تمييز، وتضمن حقهم في التصويت الانتخابي والانضمام إلى الأحزاب السياسية.
إعلان
تسهم الحياة السياسية في تمتين وحدة البلاد، وتشجع الناس على التعبير عن مطامحهم وتطلعاتهم، والأهم هو ضمانها مشاركتهم في بناء مستقبل بلادهم، خاصة أن العمل السياسي سلمي الطابع، تعتمد فيه الأحزاب والتيارات السياسية على طرح برامجها ورؤيتها التي تحاول الاقتراب من مصالح وهموم الناس، ويرتقي عملها السياسي بالانتماء الفردي إلى المستوى المدني، متجاوزا مختلف الانتماءات ما قبل المدنية.
من حق السوريين تشكيل الأحزاب للتعبير عن آرائهم السياسية، وينبغي عدم النظر إليهم بوصفهم كائنات مناطقية أو إثنية، أو طائفية، بل كائنات سياسية أيضا.
ولعله من واجب الدولة ضمان كافة أشكال التعبير عن الرأي، وتنظيم الحياة السياسية والحريات العامة وفق القانون، وذلك كي تتحقق مقولة إن سوريا دولة القانون، حسبما قال الرئيس الشرع نفسه في أكثر من مناسبة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.