تهجير مدينة غزة… عشرات الآلاف ينزحون غرباً لا جنوباً

تهجير مدينة غزة… عشرات الآلاف ينزحون غرباً لا جنوباً

اضطرت آلاف العائلات الفلسطينية إلى ترك منازلها الواقعة قرب مناطق توغل جيش الاحتلال الإسرائيلي في شرق مدينة غزة وشمالها، إلى المناطق الغربية، تحت وطأة التهديد بالقتل.

لم يعد النزوح في قطاع غزة مجرّد انتقال مكاني، بل تحوّل إلى رحلة معاناة يومية، خصوصاً في مدينة غزة، حيث يدفع المدنيون أثماناً باهظة للبقاء على قيد الحياة، وسط حرب تلتهم كل شيء. وينزح الغالبية قسراً إلى مناطق ضيقة للغاية غربي المدينة، بالقرب من شاطئ البحر، بحثاً عن أدنى المقومات من مياه وطعام وأمان.
ورغم أنّ جيش الاحتلال يحاول عبر قنابله وخرائطه دفع الأهالي قسراً نحو مناطق جنوب القطاع ووسطه، يصرّ الآلاف في مدينة غزة وشمالي القطاع على البقاء، رافضين الانصياع لمخططات التهجير القسري التي باتت تمثل إحدى أبرز سمات الحرب، وسياسة ممنهجة ضد سكان القطاع منذ ما يقارب العامين.
وبسبب ضيق المساحة الجغرافية المتاحة للتنقل، وجدت العائلات الفلسطينية ضالتها في الانتقال إلى المناطق الغربية لمدينة غزة، حيث نصبت خيامها في الشوارع، وفوق ركام المباني المدمرة، وفي مناطق غالبيتها خطرة أمنياً، في حين اضطرت أعداد أخرى إلى النزوح إلى المحافظة الوسطى، والبقاء في دير البلح والنصيرات والزوايدة، لكن عدداً من العائلات التي نزحت إلى تلك المناطق لم تجد لها مأوى هناك، فاضطرت للعودة إلى مناطق غربي مدينة غزة مجدداً.
وكشف المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن ما يعيشه هؤلاء النازحون ليس مجرد حوادث فردية، بل جزء من سياسة ممنهجة، إذ ينسف الجيش الإسرائيلي يومياً نحو 300 وحدة سكنية في مدينة غزة ومناطق شمال القطاع، مستخدماً عربات وآليات مفخخة تحمل المتفجرات، وهذه التفجيرات، التي تجري بوتيرة غير مسبوقة، تهدف إلى تدمير الأحياء السكنية بالكامل، وبالتالي إجبار السكان على النزوح.
وأفاد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، بأن الاحتلال فجر خلال الأسابيع الثلاثة الماضية أكثر من 80 روبوتاً مفخخاً وسط أحياء سكنية مكتظة، ما أدى إلى دمار واسع، وعرّض حياة المدنيين للخطر المباشر. ويترافق ذلك مع سياسة تجويع ممنهجة، إذ يمنع الاحتلال دخول الغذاء ومياه الشرب، الأمر الذي أدى إلى استشهاد 330 على الأقل، من بينهم 124 طفلاً، من جراء الجوع وسوء التغذية.
يعيل الفلسطيني أبو محمد حجازي، أسرة من خمسة عشر فرداً، ويتحدث بمرارة عن النزوح الذي عاشه أكثر من مرة خلال الشهور الماضية، قائلاً لـ”العربي الجديد”: “كنا نعيش في منطقة مشروع بيت لاهيا، ونزحنا قبل ثلاثة أشهر إلى منطقة أبو إسكندر شمال شرقي مدينة غزة، ثم اضطررنا قبل عشرة أيام إلى مغادرة المكان بعدما باتت الطائرات المسيّرة تطلق النار عشوائياً، وبات الأطفال يعيشون حالة رعب دائمة”.

في الطريق إلى غربي مدينة غزة، 31 آب 2025 (عبد الحكيم أبو رياش/الأناضول)

في الطريق إلى غربي مدينة غزة، 31 آب 2025 (عبد الحكيم أبو رياش/الأناضول)

ويضيف حجازي: “استقررنا بداية في منطقة الجلاء في خيام بدائية، لكننا لم نجد الماء ولا الطعام، فانتقلنا إلى قرب شاطئ البحر غربي مدينة غزة، وما زلنا نعاني من عدم توفر المياه التي تصلنا مرة كل ثلاثة أيام. رحلة النزوح بالنسبة لي ليست مجرد انتقال، بل تكلفة باهظة، إذ أضطر لدفع مبلغ 500 شيكل أجرة لنقل عائلتي تحت الرصاص المتطاير. رغم كل تلك المخاطر والصعوبات قررت أني لن أنزح إلى الجنوب. أريد أن أبقى في أرضي حتى تنتهي الحرب، أو أستشهد”.
لم يكن الثلاثيني أكرم عياد، وهو أب لطفلين، أفضل حظاً، ويصف قرار مغادرة منزله في منطقة أبو إسكندر، شرقي حي الشيخ رضوان، بمدينة غزة، بأنه كان الأصعب في حياته. يقول لـ”العربي الجديد”: “قبل يوم واحد من نزوحنا، اقتربت الروبوتات المفخخة من بيتنا، وفجّرت عدة منازل مجاورة. شعرت بأن حياتي وحياة عائلتي في خطر، فتركنا المكان، وانتقلنا إلى مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة، مع يقين كامل بأنه لا يوجد مكان آمن. لا أستطيع التوجّه جنوباً حيث الاكتظاظ والفوضى. نعيش بلا أمان، لكننا نرفض مغادرة مدينتنا، ونصر على حقنا في البقاء فيها”.
وتشير تقارير منظمات دولية إلى تعقيدات كبيرة تصاحب إخلاء مدينة غزة، وأن بضعة آلاف من الفلسطينيين غادروا بالفعل، من بين أكثر من مليون نسمة. ويعتبر التهجير القسري جريمة حرب بموجب المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، وينفذه الاحتلال الإسرائيلي تحت القصف، ومن دون أية ضمانات بالعودة.
وبحسب البيانات الرسمية الفلسطينية، يرفض أكثر من مليون فلسطيني في مناطق مدينة غزة وشمال القطاع النزوح نحو الجنوب، إدراكاً منهم أن الهدف الحقيقي هو تفريغ المنطقة من سكانها ضمن سياسة تطهير عرقي ممنهجة.

ينزح الآلاف في غزة تحت التهديد، 1 أيلول 2025 (عبود سلامة/ فرانس برس)

ينزح الآلاف في غزة تحت التهديد، 1 أيلول 2025 (عبود سلامة/ فرانس برس)

وصادقت حكومة الاحتلال على قرار احتلال مدينة غزة، وبدأت التحشيد العسكري واستدعاء الآلاف من جنود الاحتياط، ويتزامن ذلك مع استمرار العمليات العسكرية في المناطق الشرقية من المدينة، وتكثيف الاحتلال القصف والتدمير والتفجيرات للضغط على السكان، وإجبارهم على ترك مدينة غزة والنزوح نحو الجنوب.
وتجسد قصة الفلسطيني أحمد خلّة (43 سنة) مأساة آلاف الأسر التي هجّرها القصف العشوائي من الدبابات والطائرات الحربية، إضافة إلى إطلاق الطائرات المُسيرة، وتحديداً “الكواد كابتر”، النار على كل ما يتحرك، ما دفعه إلى النزوح قسراً من جباليا النزلة إلى خيمة قرب المدينة المصرية شمال غربي مدينة غزة.
يقول خلّة لـ”العربي الجديد”: “كانت الطائرات الحربية تقصف بلا توقف، والمدفعية لا تتوقف عن دكّ بيوتنا، ما اضطرنا إلى المغادرة بحثاً عن مقومات حياة معدومة أصلاً. نعيش الآن وسط مئات الأسر في خيام مزدحمة، لكننا نرفض النزوح جنوباً لأننا نرى في ذلك استسلاماً لمخططات الاحتلال الرامية إلى تهجيرنا”.
بدوره، يروي محمد مهدي (37 سنة) تفاصيل اللحظة المرعبة التي أجبرته على ترك منزله الواقع في شارع أحمد ياسين، شمالي مدينة غزة، إذ اخترقت رصاصات قناص إسرائيلي جدران شقته الكائنة في الطابق السادس. ويقول: “نجونا بأعجوبة، وعندها أدركت أن البقاء بات مستحيلاً، وغادرت مع أسرتي إلى مخيم الشاطئ. أثق أنه لا توجد مناطق آمنة كما يزعم الاحتلال، فالقصف يطاول كل مكان. قرار النزوح كان قاسياً، والرحلة كانت صعبة، إذ خرجنا تحت الرصاص بعدما تقطعت بنا السُّبل، ولم تعد تتوفر لنا أدنى مقومات الحياة من مياه وغذاء. رغم ذلك، لن أنزح إلى جنوبي القطاع مهما كلفني الأمر من ثمن”.
يعيل مهدي سعيد مرزوق (64 سنة) أسرة من ستة أفراد، ويقول بصوت منهك لـ”العربي الجديد”: “نزحت من بيتي القريب من بركة الشيخ رضوان إلى مخيم الشاطئ بعدما اشتدت وتيرة القصف. لم أجد مكاناً لنصب الخيمة بسبب الاكتظاظ، كما بتنا عاجزين عن توفير الماء والطعام. نعيش في انتظار المجهول، ونرجو أن تنتهي هذه الحرب قبل أن تحتل قوات الاحتلال مدينة غزة بالكامل”.

بعد سلسلة من النزوح المتكرر، وجد الفلسطيني إبراهيم المدهون ضالته في البقاء بمدينة دير البلح في المحافظة الوسطى، حيث نصب خيمته على مساحة صغيرة داخل إحدى الأراضي الخالية إلى جانب عشرات النازحين. ويوضح لـ”العربي الجديد”، أنه يواجه صعوبات بالغة في التنقل من منطقة إلى أخرى نتيجة الازدحام في المنطقة، كما يعاني لتوفير احتياجات عائلته. 
يقول المدهون إن “الحياة صعبة للغاية في المحافظة الوسطى، ولا تخلو أيضاً من القصف رغم ادعاء الاحتلال أنها ضمن المناطق الآمنة، كما لا تتوفر المياه الصالحة للشرب، ولا الكميات الكافية من مياه الاستخدام اليومي. انتقلت من معاناة شمالي غزة إلى معاناة أخرى في المحافظة الوسطى، وقد قررت عدم البقاء هنا، والعودة إلى الشمال. السبب الرئيسي الذي دفعني إلى النزوح للمحافظة الوسطى، هو اقتراب موعد ولادة زوجتي، إذ خشيت من تنفيذ الاحتلال خطة احتلال المدينة، وعدم التمكن من الوصول إلى المستشفى عند موعد الولادة. لكن الأوضاع في الوسطى صعبة أيضاً، وسأعود إلى شمال غزة خلال الأيام القليلة القادمة”.
ويدّعي الاحتلال أن مناطق جنوب القطاع تتسع لاستقبال موجات النزوح الجديدة، لكن الحقائق على الأرض تنفي ذلك تماماً. ويؤكد المكتب الإعلامي الحكومي أن محافظتي الجنوب والوسطى مكتظتان بأكثر من 1.25 مليون نسمة، يعيش غالبيتهم في خيام عشوائية تفتقر لأدنى مقومات الحياة، والمناطق التي يشير إليها الاحتلال بأنها “مناطق بديلة”، مثل المواصي وبعض أراضي الوسطى، غير مهيأة ولا آمنة، وجميعها مهددة بالقصف.

الاحتلال يرتكب مجازر في غزة.. غارات جوية وقصف مدفعي وقنابل حارقة

الاحتلال يرتكب مجازر في غزة.. غارات جوية وقصف مدفعي وقنابل حارقة

يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي قصفه المكثّف على مدينة غزة ومناطق أخرى في القطاع، مع استمراره بقتل طالبي المساعدات.

وأفاد مراسل التلفزيون العربي في غزة أحمد البطة باستشهاد 22 فلسطينيًا في القصف الإسرائيلي على قطاع غزة منذ فجر اليوم، بينهم 5 من طالبي المساعدات.

وذكر مراسلنا أنّ 11 فلسطينيًا بينهم أطفال، استشهدوا في قصف إسرائيلي على منزل بحي تل الهوى جنوب غربي مدينة غزة، فيما استشهد 3 آخرون في قصف على شقة سكنية في حي الشيخ رضوان شمالي المدينة.

وأشار إلى أنّ الاحتلال فجّر روبوتًا مفخخًا بين المنازل شرق حي الشيخ رضوان، بينما اشتعلت النيران في خيام النازحين في محيط السوق داخل الحي، بعد إطلاق قوات الاحتلال قنابل حارقة على المنطقة.

وشهدت أحياء الصبرة والزيتون جنوبي المدينة قصفًا مدفعيًا وغارات جوية متواصلة أسفرت عن استشهاد 7 فلسطينيين.

ومنذ أسابيع، يتزايد التصعيد في حي الزيتون، بالتزامن مع نزوح واسع للمواطنين ونسف مبانٍ سكنية.

وتعرّض حيا الشجاعية والتفاح شرقي غزة لقصف مدفعي عنيف، بالتوازي مع إطلاق نار من طائرات مسيّرة إسرائيلية تجاه فلسطينيين عادوا لتفقّد منازلهم المدمرة.

كما شهدت مناطق نهاية شارع الجلاء، وأبو إسكندر، وأبو الأمين شمالي المدينة، إطلاق نار متكرّر من الطائرات المسيّرة، بالتزامن مع انتشار رافعات عسكرية إسرائيلية شرق المنطقة.

وتضمّ هذه الأحياء مراكز إيواء مكتظّة بآلاف النازحين الذين يُواجهون ظروفًا إنسانية بالغة الصعوبة.

شهداء مجوّعون

وفي جنوب القطاع، أشار الإسعاف والطوارئ في غزة إلى سقوط مصابين في قصف إسرائيلي على خيمة نازحين بالمنطقة الجنوبية لمواصي خانيونس.

وأكد مجمع ناصر الطبي في غزة استشهاد 5 من طالبي المساعدات بنيران قوات الاحتلال الإسرائيلي في خانيونس.

وفي شمال القطاع، تُعدّ العملية العسكرية في مناطق الزرقا وجباليا البلد والنزلة الأعنف منذ بدء حرب الإبادة الجماعية في 7 تشرين الأول/ تشرين الأول 2023، حيث تتواصل الغارات الجوية والقصف المدفعي وإطلاق النار من الطائرات المسيّرة، ما أدى إلى تدمير مبانٍ سكنية ونزوح مئات العائلات.

وفي هذا الإطار، نفّذ جيش الاحتلال الإسرائيلي عمليات نسف لمبان في بلدة جباليا.

وأشارت إلى ارتفاع عدد الضحايا من منتظري المساعدات، إلى 2294 شهيدًا، وأكثر من 16839 جريحًا.

كما أفادت الوزارة بارتفاع عدد ضحايا سياسة التجويع التي ينتهجها الاحتلال إلى 349 شهيدًا بينهم 127 طفلًا.