فلسطين في الشوارع والموانئ والمدرجات

فلسطين في الشوارع والموانئ والمدرجات

انهار نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا حين غدت صورته أثقل من أن تُحمل في الضمير الغربي. لم يسقط ذلك النظام بطلقة واحدة ولا بمعركة فاصلة، سقط ببطء، تحت ضغط ثقافي وشعبي وسياسي أخذ يتراكم مثل مياه سرّية تنحت الصخر، حتى صاغ خطاباً واحداً، جعل من التضامن قوة ملموسة تُترجم إلى مقاطعة وعزلة وعقوبات. في تلك اللحظة كان المشهد شديد الوضوح: شعب يطالب بمساواة لا لبس فيها، والغرب يجد أمامه لغة أخلاقية صافية تسمح له بإدانة بريتوريا ونزع الشرعية عنها. اليوم تعود فلسطين لتطرح السؤال نفسه على ذاكرة العالم، لكن في سياق أكثر التباسًا. ما كان طويلاً استثناءً محروسًا بسردية الكارثة النازية وبوظيفة استراتيجية في قلب الشرق الأوسط، بدأ يتصدع تحت ضغط آخر: الشوارع التي تفيض من سيدني إلى مدريد، الأساطيل المدنية التي تبحر من الموانئ محمّلة بالمتضامنين، المهرجانات الفنية التي تتحول إلى منصّات احتجاجية، والجامعات الغربية التي تهتز على وقع اعتصامات لا تهدأ. ليست هذه مجرد انفعالات عابرة، بل شبكة اجتماعية جديدة، متشابكة العروق، تعيد كتابة حضور فلسطين في المخيال الكوني، لا بما هي ملف سياسي تفاوضي، بل بوصفها أيقونة للتمييز الممأسس وسؤالا أخلاقيا.

لم تعد فلسطين ملفّاً دبلوماسيّاً يتداول في مكاتب مغلقة أو بنداً عابراً في مفاوضات متعثّرة؛ صارت استعارة مكثفة للتمييز الممأسس في هذا الزمن اللامعقول المنتشر على امتداد البسيطة، حيث تفوز الصورة على البيان، ويعلو صوت الاحتجاج العابر للحدود على حساب لغة الدبلوماسية المترددة. الدم المسكوب الذي يطل عبر الشاشات، الأجساد المحترقة والممزقة، الوجوه الهزيلة المحاصرة، والقرى المعزولة خلف جدران وأسلاك، لم تعد مجرد أرقام في تقارير المنظّمات الحقوقية، لقد تحوّلت إلى مادة يومية تتناقلها الهواتف، تضع المتلقّي في مواجهة سؤال أخلاقي عارٍ: كيف يمكن الدفاع عن نظام يصرّ على فرز البشر وفق هوياتهم، ثم يزعم لنفسه صفة الديمقراطية؟ الحكومات الغربية ما زالت تترنّح في ترددها، أسيرة معايير مزدوجة ترى في إسرائيل وظيفة استراتيجية أكثر منها كياناً سياسيّاً قابلاً للمساءلة. لكن كلفة هذا الموقف تتزايد؛ ما يجري في الشوارع والمهرجانات والجامعات يصوغ كوابح أخلاقية جديدة، حدودًا لما يمكن تبريره علناً. قد لا تكون العقوبات قد طرقت الأبواب بعد بما يكفي، لكن الشرخ في السردية قائم بالفعل، وصورة الاستثناء الإسرائيلي باتت أكثر هشاشة من أي وقت مضى.

مئات الآلاف التي تخرج اليوم من أوسلو إلى سيدني، ومن طوكيو إلى ريو دي جانيرو، ليست مجرّد حشود عابرة، بل علامات على أن التاريخ بدأ يخطّ مقدماته من جديد. ما كان يُنظر إليه قبل عقود كأفق مستحيل، عاد ليطل اليوم احتمالا مطروحا: فأنظمة الفصل لا تسقط حين تُهزم عسكريًا ،لكنها تبدأ تعد خطواتها نحو النهاية، حين يعجز العالم عن تحمّل صورتها في مرآته الأخلاقية، وفلسطين تمضي نحو تلك اللحظة بخطى بطيئة. الشعوب العربية التي تقف اليوم على هامش هذا الحراك العالمي، مثقلة بإرث طويل من القمع والانكسار، محكومة بخرابٍ تركته أنظمة جعلت من العجز سياسة ومن الانكفاء قدراً. ما زالت تنظر إلى فلسطين من مسافة، متذرّعة بحاجة أولى إلى بناء أوطانها الممزّقة، وكأن الحرية قابلة للتجزئة، وكأن العدالة والسيادة قابلة للتفصيل على مقاس الحدود. لكنها ستكتشف، عاجلاً أم آجلاً، أن هذا المنطق كان وهماً؛ أن الابتعاد عن فلسطين لن يحصّن الأوطان، وأن ما يكبّل الفلسطيني عن نيْل حريته هو ذاته ما يعطّل قدرة العربي على تأسيس دولته كما يشتهيها.

لا يكرّر التاريخ نفسه نسخةً مطابقة، بل يعود كصدى متحوّل. كما تحولت جنوب أفريقيا في أواخر القرن الماضي إلى رمزٍ يستحيل على الغرب التعايش معه، تلوح فلسطين الآن مرآةً جديدة تكشف أزمة القيم الكونية ذاتها. القضية ليست في مضاهاة الآلام، بل في قياس العدالة بمعيار واحد. وما يتشكل في الساحات والجامعات والموانئ والمدرّجات ليس سوى الفقرة الأولى في نصّ جديد، يذكّر بأن لا نظام فصل يُكتب له الخلود، وأن لحظة الاختناق الأخلاقي التي أطاحت بريتوريا بدأت تتكثّف، هذه المرة في سماء الشرق الأوسط.

الاختفاء القسري… مصير عشرات آلاف السوريين مجهول

الاختفاء القسري… مصير عشرات آلاف السوريين مجهول

بعد أكثر من ثمانية أشهر على إسقاط النظام السوري السابق، وفتح سجونه وتفريغها، لا يزال مصير آلاف المعتقلين السوريين مجهولاً، خصوصاً من تعرضوا للاختفاء القسري على مدار سنوات.

اختفى آلاف السوريين خلال سنوات الحرب السورية منذ عام 2011، عقب اعتقالهم على الطرقات أو في الحواجز الأمنية أو من أماكن عملهم وسكنهم، من دون مذكرات اعتقال، ومن دون أن يكشف عن أماكن وجودهم، أو يسمح لعائلاتهم بالتواصل معهم، أو معرفة مصيرهم، وتنتظر آلاف العائلات إجابات واضحة عن مصير أبنائها، وتقديم المسؤولين عن اختفائهم القسري إلى العدالة.
ويعرّف القانون الدولي الاختفاء القسري

بأنه توقيف أو احتجاز فرد على يد دولة أو جهة ما، يتبعه اختفاء مصير الشخص أو مكان وجوده، بما يضعه خارج حماية القانون. وتعتبر الشبكة السورية لحقوق الإنسان أنّ المختفي قسرياً هو مُعتقل مضى على احتجازه أكثر من 20 يوماً من دون إقرار الجهة التي اعتقلته بوجوده لديها مع إنكارها معرفة مصيره.
وتقدر الشبكة السورية لحقوق الإنسان عدد المختفين قسرياً بأكثر من 177 ألف شخص حتى 20 آذار/ آذار الماضي، والغالبية العظمى منهم اختفوا على يد أجهزة النظام السابق، مع مسؤولية فصائل وجماعات أخرى عن الاختفاء القسري بدرجات أقل.
فقدت السورية سارة البرهوم زوجها بينما كان متوجهاً إلى عمله سائقَ أجرة في مدينة حلب، في أواخر عام 2013، ولاحقاً فقدت الأمل في معرفة مصيره. تقول النازحة والأم لخمسة أبناء من ريف حلب الغربي لـ”العربي الجديد”: “أين هو؟ أستيقظ كل يوم على السؤال ذاته من أبنائي وأقربائي، لكنه سؤال لا جواب له، ولم يعد الأمل يخفف الألم. صار العذاب الأكبر أن لا تعرف شيئاً عن شخص كان كل شيء في حياتك. إنها قسوة لا توصف”.
تضيف البرهوم: “انقطع الأمل من كل جهة بعدما سألنا كل من يمكن أن يعرف، وقدمنا بلاغات، وسمعنا وعوداً كاذبة كثيرة. النهاية دائماً هي نفسها، صمت مطبق، كأنه اختفى في بطن الأرض. لم نعد نعرف من نسأل، ولم نعد نثق بأحد. الموت له طقوسه المعروفة، وتشمل التشييع، وقبور نزورها ونبكي عليها، أما الاختفاء القسري فهو موت بلا نهاية، وألم بلا عزاء. أشعر بأنني أسير في دائرة لا مخرج منها، واليأس يأكل قلبي وقلوب أبنائي الذين يكبرون وهم يكررون سؤالاً بلا إجابة. منذ التحرير وإفراغ السجون ينتابني يقين بأنه ميت، وإلّا أين هو طوال تلك المدة؟ هل يمكن أن يكون قد فقد الذاكرة؟ أم في سجون قسد؟ أم في إحدى المقابر الجماعية؟ لا شيء مؤكداً، هذه هي حياتنا. جحيم لا ينتهي”.
قبل نحو عشر سنوات، فقدت النازحة المسنة رابعة الشبيب ابنها الذي كان متجهاً إلى جامعته في حمص، وتقول لـ”العربي الجديد”: “هُجّرنا من إدلب حاملين ذكريات البيت الذي هُدم، والممتلكات التي سلبت، لكن أقسى ما حملناه كان عدم معرفة مصير ابني المختفي، ولم تخفف السنوات الألم، بل زادته مرارة، واليأس من أن نعرف الحقيقة صار رفيقاً لنا منذ إفراغ السجون. يأس من أن نجد من يستمع، ويأس من أن يتحقق العدل. العالم يتحدث عن حقوق الإنسان، ونحن لا نملك حتى حق معرفة مصير أبنائنا، وقد سئمنا الانتظار، وسئمنا البحث، وسئمنا الصمت، واستنفدنا كل دموعنا وصبرنا”.

تحمل صورة ابنها المفقود، دمشق، 3 كانون الثاني 2025 (عز الدين قاسم/الأناضول)

تحمل صورة ابنها المفقود، دمشق، 3 كانون الثاني 2025 (عز الدين قاسم/الأناضول)

وترجح مصادر حقوقية مقتل نحو 112 ألف مختفٍ داخل سجون النظام السابق. يقول الحقوقي السوري أمجد الغريب لـ”العربي الجديد”: “ما حدث بعد سقوط النظام شكل صدمة كبيرة لأهالي المعتقلين والمفقودين الذين كان لديهم بعض الأمل بأن يكون أولادهم في تلك السجون. لكنها كانت أشبه بمسالخ بشرية تُآذار فيها مختلف أنماط التعذيب، وتنتشر بداخلها أخطر أشكال الأمراض والأوبئة، ومن الواضح أن معظم المختفين قسرياً قضوا في السجون عبر سياسة ممنهجة اتبعها نظام الأسد”. يتابع الغريب: “رغم تفشي اليأس من معرفة مصير المختفين قسرياً، لكن قانونياً لا يمكن إغلاق ملف المختفي سوى بإحدى طريقتين، إما إثبات أنه على قيد الحياة عبر العثور عليه، أو إثبات أنه متوفى عبر العثور على جثمانه، وهناك مساران رئيسيان، أولهما العثور على سجون سرية إضافية، وثانيهما اكتشاف مقابر جماعية”.
وسط انتقادات حقوقية تطاول القوى العسكرية المختلفة في شمال وشرق سورية، وأبرزها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والجيش الوطني السوري، لا تزال حالات الاختفاء القسري هاجساً يقلق السكان. وشارك عشرات من أهالي المختفين قسرياً، يوم الخميس الماضي، في وقفة احتجاجية بمدينة القامشلي في ريف الحسكة، للمطالبة بالكشف عن مصير أبنائهم الذين لا يزال مصيرهم مجهولاً.
يعتقد السوري عبد الكريم رشيد عثمان بأنّ ابنه المفقود منذ عام 2019 لا يزال محتجزاً بشكل غير قانوني لدى فصيل “أحرار الشرقية”، ويشير إلى أنّ العائلة لجأت في وقت سابق إلى منظمات حقوقية، من بينها الصليب الأحمر الدولي، لكن تلك الجهات لم تتدخل بحجة أن الملف خارج صلاحياتها، وأن هذه الفصائل كانت تصنف سابقاً إرهابية، لكنها اليوم باتت ممثلة في بعض المناطق، إذ جرى تعيين المسؤول في “أحرار الشرقية” حاتم أبو شقرا ممثلاً عن محافظات الرقة والحسكة ودير الزور من قبل الرئيس السوري أحمد الشرع.

والد مفقود خلال وقفة في دمشق، 3 كانون الثاني 2025 (عز الدين قاسم/الأناضول)

والد مفقود خلال وقفة في دمشق، 3 كانون الثاني 2025 (عز الدين قاسم/الأناضول)

ويضيف عثمان: “نطالب بتدخل عاجل للكشف عن مصير المفقودين، فقضيتنا ليست فردية، بل قضية آلاف العائلات التي فقدت أبناءها وما زال مصيرهم مجهولاً. كان الهدف من وقفتنا الأخيرة هو إيصال الصوت إلى الجهات المعنية ومنظمات حقوق الإنسان باعتبارها قادرة على الضغط من أجل معرفة مصير المفقودين والمخطوفين، سواء الذين اختطفهم تنظيم داعش، أو الذين اعتقلهم النظام السابق. هذه المعاناة هي جرح مشترك يجب أن يتقاسمه الجميع، ونطالب بإنشاء محكمة دولية أو إقليمية في سورية، تكون معنية بكشف مصير المفقودين، وتوضيح الحقائق بعد سقوط النظام ورحيل داعش، وعلى الحكومة الحالية التحرك الجاد، لأنّ استمرار الغموض يزيد حجم الألم الذي يعيشه ذوو المفقودين”.
من جانبه، يقول المحامي معاذ يوسف، وهو عضو المكتب القانوني للمجلس الوطني الكردي في شمال شرقي سورية، لـ”العربي الجديد”، إنّ “القانون الدولي ومختلف الاتفاقيات والمعاهدات تجرّم الاختفاء القسري باعتباره فعلاً منافياً للإنسانية، ومن بينها الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري الصادرة في عام 2006، والتي دخلت حيز التنفيذ عام 2010. ربما يكون ضحايا الاعتقال التعسفي أحسن حالاً من ضحايا الاختفاء القسري، فهؤلاء اعتقلوا لأسباب غير قانونية، لكن السلطة مرتكبة الانتهاك اعترفت بوجودهم في المعتقل، ما يجعل الجريمة أقل وطأة على الضحايا وذويهم، بينما ضحايا الاختفاء القسري يجرى حجز حريتهم من دون أن تعترف السلطة المرتكبة للانتهاك بقيامها بهذا الفعل، ما يحرمهم من أي حماية قانونية أو متابعة من ذويهم”.

يضيف يوسف: “جميع سلطات الأمر الواقع والفصائل المسلحة في كامل الجغرافية السورية ارتكبوا هذا الفعل الإجرامي، وجرى الإفراج عن بعض المختفين، لكن بقي مصير الكثيرين مجهولاً. المطلوب تطبيق قواعد العدالة الانتقالية وفق المعايير الدولية، فتطبيقها هو الكفيل بتضميد جراح السوريين، ومن ثم إصدار قرار على المستوى الوطني ببيان مصير المختفين ومحاسبة جميع مرتكبي هذه الفظائع من أجهزة القمع في النظام البائد وجميع الفصائل وسلطات الأمر الواقع أمام محاكم وطنية نزيهة، وتعويض الضحايا وذويهم”.
وتظهر تقارير حقوقية استمرار جرائم الاعتقال والاختفاء القسري في سورية بعد سقوط النظام السابق، وسجلت الشَّبكة السورية ما لا يقل عن 109 اعتقالات تعسفية في تموز/ تموز الماضي، من بين المعتقلين خمسة أطفال، وكانت 12 حالة منها على يد قوات الحكومة السورية، و36 احتجازاً تعسفياً على يد قوات سوريا الديمقراطية، من بين المعتقلين خمسة أطفال.
وتُظهر البيانات أنَّ العديد من عمليات الاحتجاز تتم من دون مذكرات قضائية أو ضمانات قانونية، ما يشكّل انتهاكاً واضحاً للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي يحظر الاعتقال التعسفي، ويؤكد على حقِّ المحتجزين في معرفة أسباب احتجازهم، والمثول أمام القضاء في أسرع وقت ممكن.

واقعة برّاك في بيروت وما بعدها

واقعة برّاك في بيروت وما بعدها

حسناً صنع نقيب الصحافيين المصريين، خالد البلشي، في رميه المبعوث الأميركي إلى سورية ولبنان، توم برّاك، بالوقاحة والجلافة، بعد أن خاطب هذا الرجل بفوقيةٍ، وبلغةٍ مدرسيةٍ مهينةٍ وبالغة الإساءة، صحافيين لبنانيين في القصر الجمهوري في بيروت، كانوا يؤدّون عملهم الطبيعي عندما “أمطروه” (بالتعبير الذائع) بأسئلةٍ عن نتائج مباحثاته. وإذ عَدَّ بيان نقابة محرّري الصحافة اللبنانية فعلتَه أمراً غير مقبول، بل مستنكراً جدّاً، عندما “وصف تصرّف رجال وسيدات الإعلام في القصر الجمهوري بالحيواني”، فإن هذا البيان لزمَه أن يكون أكثر تعييناً في نعت ما تفوّه به برّاك، وإن طالب الأخيرَ ببيان اعتذارٍ علنيٍّ من الجسم الإعلامي، ولوّح بمقاطعة زياراته واجتماعاته، خطوةً أولى إذا لم يفعل. ولسائلٍ أن يستفهم عن عدم سماع رجل الرئيس الأميركي من أيٍّ ممن بلغَهم منه كلامُه الرديء ما يستحقّ أن يسمعَه في باحة القصر الرئاسي. والبيّن أن هذا الشخص ليس في وارد أن يُبادر إلى الاعتذار، فلا تتوطّن لدى المسؤولين الأميركيين هذه الثقافة، بل إنك يحدُث أن تراهم، في عواصم العرب وغير العرب، يشرّقون ويغرّبون، في تصريحاتهم، بخفّةٍ ومن دون أي اكتراثٍ بأي اعتباراتٍ أو لياقاتٍ أو بروتوكولات. وتلك زميلة برّاك، السيدة مورغان أورتاغوس، (مثالاً) تعطي نفسها حقّاً في أن تُحدّث اللبنانيين، أمام الإعلام في بيروت، بعدم وجوب أن يكون حزب الله في حكومتهم (بأي شكل، كما شدّدت القول)، بل وتُشهر امتنانَها لإسرائيل على هزيمتها الحزب عسكرياً.

وبصراحة، قليلاً ما تُصادَف من الصحافيين العرب تلك الأسئلة الواجبة منهم إلى المسؤولين الأميركيين (وغيرهم؟) في المناسبات الإعلامية، ولا نقع منهم على ردودٍ ضروريةٍ على هؤلاء عندما يلزم أن تكون ردود. ومعلومٌ أن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي (مثالاً)، يُسأل من صحافي فرنسي في باريس عن أحوال حقوق الإنسان في بلاده، ولا تلقاه يسمَع عن شيءٍ كهذا في القاهرة أو أي عاصمةٍ عربية. ولئن وجب التنديد بالذي فعله توم برّاك في بيروت، ولزَم أن يقاطعه عموم الصحافيين العرب في أي بلدٍ يزورُه، فإننا، نحن أهل الإعلام العرب، يحسُن بنا أن نسلك السلوك اللازم مع أمثال هذا الرجل، ومع كل صاحب مسؤوليةٍ ومهمّةٍ يزاول مثل التعالي الاستشراقي الذي اقترفه في بيروت، سيّما وأنه تحدّث عن تحضّرٍ غائبٍ في المنطقة العربية. ويحسُن أن نتّصف بالمهنيّة العالية التي تلزمنا بطرح كل سؤال في موضعه، من دون تلعثُمٍ أو تردّد أمام المسؤول العربي، المطالَب بأن يُجيب ويوضح.

أكثر من مسألةٍ تثيرها زوبعة الموفد الأميركي، بخصوص علاقتنا، نحن أهل الإعلام العرب، بمهنتنا، أولاً، وبالتعاطي مع “النموذج” الذي يجسّده هذا الزائر الدوري لدمشق وبيروت (وعمّان)، ليخوض في الشؤون اللبنانية والسورية بمنطق الوصي. ولا يجد حرجاً في نفسه، وهو يلحّ على المسؤولين اللبنانيين بمطالبه، وعنوانها إنهاء سلاح حزب الله، من دون أن يُبلغهم بأي التزامٍ من إسرائيل بوقف اعتداءاتها اليومية على الأراضي اللبنانية. وفي دمشق، لا يجد حاجةً لمُطالبة نفسه وهو يسترسل عن سورية الموعودة، ومشاركة الجميع في السلطة والإدارة، بقول شيءٍ عن تمادي دولة الاحتلال في غاراتها وضرباتها في أرياف دمشق والقنيطرة وأراضٍ سورية تتّسع لشهوة العدوان. وليس بعيداً عن الصحّة رجحان أن انفعال (وتوتّر؟) الدبلوماسي الأميركي، رفيع المنزلة لدى ترامب، الثلاثاء الماضي في بيروت، يعودان إلى عدم سماعه من مراجع الدولة اللبنانية ما أراد أن يسمع، أي الامتثال المطلق لجداوله الزمنية وترتيباته بشأن حزب الله وسلاحه، من دون أي مقابلٍ إسرائيلي، فتلقّى الزملاء الصحافيون ما فاض منه، وقد توهّم أن ثمّة سطوةً لحضوره الشخصي، مرفوقاً بالموظفة أورتاغوس، التي تقيم على جهل واضح بلبنان وشؤونه وتفاصيله.

إنها فرصةٌ للزملاء في الإعلام اللبناني لأن يصعّدوا رفضهم سلوك المستشرق الأميركي، الزحلاوي المنبت، فلا يتساهلوا بشأن قرارهم مقاطعته. كما أن ما جرى مناسبةٌ لإعادة تفكّرنا، نحن العاملين في الصحافات العربية، في كثيرٍ من شؤون مهنتنا، سيّما على صعيد السؤال والجواب في المؤتمرات والمناسبات الإعلامية…

هل النفوذ الإقليمي صناعة سورية؟

هل النفوذ الإقليمي صناعة سورية؟

الحريّة الفاحشة التي أعقبت سقوط نظام الأسد كانت ثمرة انكسارٍ كبيرٍ، لا نتيجة وعي وطني متراكمٍ. كانت حاصلَ ضربٍ للتنوّع السوري عرضَ الحائطِ، في رحلة محمومة للبحث عن تمثيل داخل سلطات محمولة على ضيق الانتماءاتِ، هدفُها قطعُ الطريقِ أمام أي محاولة لتأسيس المواطنة. الجهود العسكريّة غير الوطنيّة، والاستئثار الفردي لجماعة على حساب الجميع، حوّلت مفردات الحوار إلى لغة غريبة، ملوّثة بثقة مفقودة ونعراتٍ باطنيّة، نالت من نُبلِ العمق الديني في سورية، وجرّته إلى التخبّط والتهلكة، حيث تُخاضُ السياسة كمعركة مصالح، لا تعترفُ إلّا بالإقناع القسري لمواطنين فقدوا فرحتَهم بزوالِ النظامِ الشموليِّ، ليولدَ بدلاً منه طيفُ إداراتٍ ذاتيّة، بعضُها يحاربُ فكرة الدولة، وبعضُها الآخر يتغذّى على فشل الدعوات إلى رسم خريطة مشتركة، فيما يُموَّل الباقي من قبَل الدول اللاعبة ليكون ذراعَها في سورية، بعد ستّة عقودٍ من الطغيان وتوريث الديكتاتوريّة إلى أشكال مصغّرة تبدأ من الوعي الذاتي، وتنتهي بانفصالٍ كاملٍ عن طبيعة البلاد وإمكانات الحلّ السلميّ.

لقد كانت الاختبارات الماضية دامية، أنهكت السلطة الحالية وأفقدتها رصيدَها الشعبي بنسب متفاوتة، ورفعت منسوبَ الغضب، لا بين الثوّار التقليديين، بل لدى أصحاب رؤى مغلقة رأَوا في سورية انعكاساً لمقاساتهم فقط. وبينما تراجعت المهارات السياسية وانكفأ الأمن، تحوّلت القيادات الروحية وبعض القيادات القومية إلى بوصلة تحرّك اتجاهات القوة، في ظلّ صعود متشدّدين قبضوا على السلطة، وشرّعوا بانغلاقهم؛ نموّ نزعاتٍ طائفية وقومية تضعف البلاد، وتكاد تمزّق جغرافيتَها الثقافية الممتدة آلافَ السنين.

ثَمّة فرقٌ شاسعٌ بين الخصومة السياسية التي تدار بالعقل والحوار، والخصومة التي تتحوّل إلى كراهية حتى الموت، تدار بالغريزة وتفتح أبواب الخراب للجميع. هذا ما لم تدركه قوى ما بعد السقوط، وهي تعيد إنتاجَ الانقسام أداة حكمٍ، وتحتفظ بعقلية الإقصاء جزءاً من هوية السلطة. التصعيد والاستقطاب والانقسام ليستْ سوى تركات البعث وجيشه، لكنها اليومَ تعود بوجوه جديدة وشعارات ملوّنة، لتعيدَ إنتاج الدمار بأدواتٍ مختلفة.

كلّ طرفٍ خارجي وجد في الجماعات المتناحرة حليفاً جاهزاً، يمنحه شرعية وهمية، ويتيح له أن يمرّر أجندته على أنها حماية أو دعمٌ أو شراكة

والسؤال الأعمق يظلّ: أليست مآذارات اليوم، بكلّ ما تحمله من استقطابٍ وتجييشٍ، مجرّدَ إعادة إنتاجٍ لواقع الاستبداد، ولكن هذه المرة بوجوهٍ وشعاراتٍ جديدة؟ الانقسام الحادّ بين مؤيّدي السلطة الحاكمة في دمشق ومعارضيها، مقروناً بالأخطاء الفادحة التي ارتكبَها ويواصل ارتكابَها الطرفان سياسيّاً وعسكريّاً، يفتح البابَ واسعاً أمام هذا الاحتمال. فالتجارب السياسية للدول التي انهارت أنظمتها تقول إنّه لا توجد وصفة جاهزة لصناعة مشروع الدولة الجديدة، لكن هناك محدّداتٍ أساسية غائبة تجعل من الضروري التوقّفَ طويلاً أمام الواقع الأمني والمعيشيّ، وتحدّيات الأمن الغذائي والاقتصاد، وإعادة الإعمار، وصياغة اتفاقٍ سياسي بين المتخاصمين.

ما نشهده منذ الأسابيع الأخيرة ليس مناخاً صحيّاً للاختلاف السلميّ. التجييش الإعلامي يقابله تجييشٌ مضادٌّ داخل المجتمع، فيما “هيئة تحرير الشام”، التي وصلت إلى الحكم كحزبٍ ذي خلفية دينية، لا يمكن إعفاؤها من النقد، هي ومن يديرها من رجالات كانوا حتى وقتٍ قريبٍ ممنوعين من مغادرة سورية بسبب فكرهم المتطرّف. وبعد أكثر من سبعة أشهرٍ على استلام الحكم، تغلب المشكلات على المشهد أكثرَ مما تحضر الإنجازات، وفقَ شهادات مراقبين محليين. هذا لا يبرّر أن يطلبَ من السوريين الاصطفاف من جديدٍ خلفَ سلطة تستحضر نصوصاً من دستور 1950 الذي يقول: “الحكم للشعب وبالشعب من الشعب”، بينما تآذار واقعاً يقصي المختلفين عنها ويضيّق على حرياتهم.

من حقّ السوريين أن يختلفوا، ويرفضوا، ويحتجّوا، ويتنافسوا على تقديم الرؤى والوسائل التي يرونها أصلحَ لحكم البلاد، خصوصاً أن هيئة تحرير الشام، وسط ما تشهده البلاد من عنفٍ اجتماعي وسلوكياتٍ كارثية متصاعدة في الإعلام، تبدو ضعيفة سياسياً وعاجزة عن تمثيل الجميع. لذلك، الاعتراضَ على سياساتها يجب ألّا يقابل بالاستدعاءات والتضييق ومصادرة الكرامات. شيطنة الخلافات لا تكرّس إلا الانقسامَ الدموي، وتمهّد للتقسيم الاجتماعي وإضعاف البلاد، بينما التخوين الشامل الذي يتغذّى عليه الخطاب العامّ اليوم يغلق أبوابَ الحوار، حتى بات مجرّد انتقاد حكومة الرئيس أحمد الشرع كفيلاً بإثارة ردات فعلٍ عنيفة ومخيفة.

القياس الأخلاقي للأحداث لا ينبغي أن يحيد عن مبادئ حقوق الإنسان المتعارف عليها، ولا أن يتحوّل إلى ذريعة لتبرير الانتهاك تحت شعار “هكذا كنتم في زمن الأسد”. الانتماء يجب أن يكون للشعب باعتباره مصدرَ الشرعية، لا أداة تستخدم لتصفية الحسابات ضدَّ فئاتٍ بعينها. وفي المقابل، يواصل الإعلام تغييبَ الوعي العامّ، منصرفاً إلى تلميع السلطة وحمل رسائلها، دون أن يتيح مساحة حقيقية لتمثيل الأصوات الأخرى أو نقل رؤاها، فالنفوذ الإقليمي لم يهبط على سورية من السماء، بل تمدّد في الشقوق التي فتحتها الانقسامات الداخلية، وأقام لنفسه ركائزَ داخلَ كلّ اصطفافٍ مغلقٍ على ذاته. كلّ طرفٍ خارجي وجد في الجماعات المتناحرة حليفاً جاهزاً، يمنحه شرعية وهمية، ويتيح له أن يمرّر أجندته على أنها حماية أو دعمٌ أو شراكة. من هنا، لم تعد الحدود السياسية ترسمها الخرائط وحدَها، بل خطوط الولاء التي تشبك الداخل بالخارج، وتجعل القرار المحلي رهينة لموازين قوى إقليمية تغذّي الخصومة وتطيل عمرَها.

تواصل إسرائيل توغّلاتها ومسحها الأمني، ما يعزّز من تكوّن بيئة اجتماعيّة قادرة على التعايش مع وجودها

وما كان يمكن لهذه القوى أن تتجذّر لولا أنَّ الانقسام تحوّل إلى بيئة إنتاج دائمة للتبعية؛ الخلافات التي تبدأ بلغة الشعارات تنتهي بإملاءاتٍ من وراء البحار، والهويّات التي ولدت لتكون ثراءً ثقافياً صارت أدوات شدٍّ وجذبٍ في لعبة المحاور. وهكذا صار الخارج شريكاً في صياغة المشهد السوري، لا بسطوة احتلالٍ مباشر، بل بقدرة على التحكّم في إيقاع الانقسام، وضبط سقفه، وتحديد اللحظة التي تنفجر فيها خطوطه أو تجمَّد، وفق ما تقتضيه مصالحه.

ومع أنَّ النسيجَ الاجتماعي السوري كان، عبرَ تاريخه، أوسعَ من أن تحصره الهويّات الضيّقة، فإنَّ الانهيارَ المزدوجَ للأمن والثقة سمحَ للانتماءات الصغرى بأن تصعدَ على أنقاض الانتماء الوطني، وأن تتحوّلَ القرابة أو العقيدة أو الولاء المحلي إلى معيارٍ للحماية والفرصة. وفي غياب وعي إعلامي قادرٍ على تفكيك الخطاب الموجَّه، بقيت نسبة ضئيلة فقط من السوريين تتحقّق ممّا يتداول على الإنترنت، فيما تتضخّم المواقف والانحيازات على شائعاتٍ وأوهامٍ يصعب تصحيحها.

تنذر المؤشّرات الميدانيّة، من الجنوب إلى الشمال، بارتفاع مستوى التهديدات الأمنيّة، وتشي بأنَّ البلادَ مقبلة على مرحلة جديدة من الاضطراب، حيث يلتقي العجز عن إنتاج مشروعٍ وطني جامعٍ مع استعداد الخارج لملء الفراغ. والسؤال الأكثر إلحاحاً هنا: كيف يمكن ترميم الداخل قبل أن يتحوّل إلى ساحة مفتوحة لكلّ نفوذ؟ وكيف يمكن إقناع السوريين بأنَّ السيادة لا تعلَن، بل تمارَس، وأنَّها إن لم تآذار اليوم بإرادة جامعة، فسوف تنتزع غداً بأدواتٍ ناعمة لا تقلّ خطورة عن أي غزو مباشر؟

أخطر ما يمكن أن يحدث في هذه المرحلة هو أن يصدّقَ الناس أنَّ الصراعَ على النفوذ الخارجي هو مشكلتهم الوحيدة

لا يزال خطر تنظيم الدولة الإسلاميّة قائماً، إذ يشهد التنظيم تفكيكاً غير مباشر لمعسكرات الاعتقال، سواء المعلَنة أو السرّية، ما يفتح الباب واسعاً أمام إعادة انتشاره وتنفيذ عمليات جديدة، خصوصاً في غياب الحذر تجاه عودة عناصره الساخطين على أداء الشرع. وفي الجنوب، تواصل إسرائيل توغّلاتها ومسحها الأمني، ما يعزّز من تكوّن بيئة اجتماعيّة قادرة على التعايش مع وجودها، وصولاً إلى احتمال الاحتلال غير المباشر. وفي موازاة ذلك، تفيد تقارير أمنيّة بوجود معسكرات لعناصر قوات الأسد في العراق، وأخرى داخل مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” في الشمال، لتكتمل بذلك خريطة تهديدات متشابكة. غير أن الأخطر بينها يبقى النفوذ الإقليمي، الذي يعيد ترتيب هذه الملفات جميعاً لضمان تمزيق النسيج السوري، وتثبيت واقع التجزئة على المدى البعيد.

لم تعد معركة السوريين اليوم مع سلطة واحدة يمكن إسقاطها، بل مع ثقافة حكمٍ ووعي مشوَّهٍ تراكمَ عقوداً، وها هو يجد لنفسه أشكالاً جديدة يطلّ بها من النوافذ التي تركت مفتوحة. أخطر ما يمكن أن يحدث في هذه المرحلة هو أن يصدّقَ الناس أنَّ الصراعَ على النفوذ الخارجي هو مشكلتهم الوحيدة، فيغفلوا عن أنَّ الانقسام الداخلي هو الوقود الذي يشعل هذه الصراعات ويطيل عمرَها. السيادة، حين لا تصان بإرادة مشتركة ومشروعٍ وطني واضح، تتحوّل إلى سلعة في مزاد المصالح، والمجتمع الذي لا يحرس تعدّدَه وانتماءَه الجامع، يصبح مستباحاً للخرائط التي ترسم في الخارج. وهنا يبدأ الخطر الحقيقي: أن تستبدلَ بدولة الطغيان دول صغيرة متناحرة، وأن تتحوّل الجغرافيا إلى لوحات نفوذ، والثقافة إلى رصيدٍ يتاجر به في صفقات الآخرين.