
التوافق السوري ضرورة ممكنة
هل تعتبر الإدارة السورية الجديدة نفسها سلطة انقلابية، تمكّنت من السيطرة بجهودها الذاتية على مقاليد الحكم ومفاصله في غالبية المناطق السورية؟ أم أنها تعتبر ذاتها حصيلة تراكم جهود المعارضين السوريين لحكم حزب البعث، وتجسيداً لانتصار ثورة الشعب السوري العارمة على سلطة آل الأسد المستبدة الفاسدة المفسدة، الثورة التي انطلقت في آذار/ آذار 2011، وعمّت مختلف الجهات السورية، وشارك فيها السوريون من سائر المكونات المجتمعية؟
هذا السؤال المزدوج هو المحوري الذي يطرحه اليوم بقوة السوريون الذين غمرتهم فرحة الانتصار، ولكنهم ما زالوا يتخوّفون مما يمكن أن يحدُث إذا ما تكرّرت الأخطاء التي كانت. وماهية الجواب، من هذا الفريق أو ذاك، هي التي يمكن أن تساعد في تفسير ما حصل، وإلقاء الضوء على ما يحصل راهناً، واستشراف ما يمكن أن يحصل مستقبلاً على المستوى السوري الوطني الداخلي، وعلى الصعيد الإقليمي المجاور؛ وتفاعل ذلك كله مع المصالح والحسابات والمواقف الدولية والإقليمية، وانعكاساتها على الواقع السوري.
في حال الإقرار بالطابع الانقلابي، تكون السلطة منسجمة مع ذاتها حينما تتخذ القرارات الكبرى التي لا يمكن أن تقدم عليها حتى الأنظمة المستقرة التي تستمد مشروعيتها من الشعب، أن تقدم عليها في غياب وجود مرجعية وطنية بأي شكل، فما بالك بسلطة انتقالية مرحلية؟
والمرجعية المطلوبة هي التي تمثل التنوع المجتمعي بمختلف انتماءاته المجتمعية وتوجهاته السياسية؛ مرجعية تضفي حدّاً أدنى على الأقل من الشرعنة على قرارات تتصل بنظام الحكم والصلاحيات التي يتمتّع بها رئيس الدولة وشكل الدولة ونظامها، والقرارات الخاصة بالعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية والمفاوضات مع إسرائيل، وصيغة العلاقة بين الدولة وشعبها على مستوى الجماعات والأفراد. هذا ناهيك عن المناهج التعليمية والسياسات الإعلامية والخطط الاستثمارية؛ فكل هذه القرارات الكبرى المفصلية ستكون لها تأثيرات بنيوية في شكل الدولة السورية، ونظام الحكم فيها، ومستقبلها، كما ستؤثر في موقعها ودورها إقليمياً وعربياً وإسلامياً، ومكانتها الدولية؛ فكل هذه القرارات في حاجة إلى مرجعية وطنية تقطع الطريق أمام التفرّد أو التحكّم من فريقٍ بعينه في شؤون دولة لا تُدار بصورة ناجحة إلا من خلال توافق وطني.
اعتماد شعار “من يحرّر يقرّر” المستلهم من العقلية الانقلابية الاستبدادية التي عانى منها شعبنا في ظل السلطات الانقلابية، خصوصاً سلطة البعث وآل الأسد التي حكمت البلد بالحديد والنار أكثر من ستة عقود؛ أمر لا يطمئن السوريين، بل يثير مخاوف كثيرة لديهم.
ذاكرة الناس في سورية والمنطقة مثقلة بمآسي تجارب الانقلابات العسكرية والدساتير المؤقتة
وفي المقابل، أن نقرّ صراحة بأن التحوّل النوعي الكبير الذي حصل في البلد كان، كما اعترف بعض المسؤولين في الإدارة الجديدة وفي مقدمتهم الرئيس أحمد الشرع نفسه، جاء بفضل تضحيات السوريين والسوريات عقوداً، وبلغت ذروتها في سنوات الثورة الـ14. كما كان هذا التحول نتيجة إرادة السوريين وإصرارهم على القطع النهائي مع سلطة آل الأسد الباغية الفاسدة؛ فهذا فحواه احترام وتقدير تضحيات السوريين والسوريات، وهذا لا يكون بالأقوال والمجاملات العاطفية فحسب، لأن الدول في نهاية المطاف لا تُبنى على أساس الوعود غير الملزمة، وإنما تستوجب وجود مؤسّسات راسخة ينظم عملها دستور حظي على موافقة الشعب بآليات واضحة تمنع القيل والقال. دستور مستمدّ من عقد اجتماعي وطني عام يمثل رؤية السوريين بكل انتماءاتهم وتوجهاتهم. دستور يضع حداً للهواجس بعقود مكتوبة، ويعزّز الثقة المتبادلة بخطوات عملية في ميدان احترام حرية الرأي والنقد، والإقرار بحق التشارك، والقطع مع نزعة الهيمنة والإقصاء.
ذاكرة الناس في سورية والمنطقة مثقلة بمآسي تجارب الانقلابات العسكرية والدساتير المؤقتة، كما أن التجربة الخمينية في إيران ما زالت في الأذهان. فقد تمكّن الخميني من الوصول إلى الحكم بمساعدة قوى سياسية وشخصيات مؤثرة إيرانية من مختلف الاتجاهات والانتماءات؛ وبعد التمكّن من التحكّم بمفاصل الحكم كان الفتك السريع بالخصوم الواقعيين والمحتملين. ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل امتدت التصفيات والإقصاءات لتشمل أقرب المقرّبين من الإسلاميين، حتى الوصول إلى تركيز السلطات جميعها في يد المرشد ولي الفقيه.
وبناء على هذه التوجّسات، تأتي المطالبات بالشفافية والحق المشروع في المشاركة في المناقشات والقرارات المصيرية التي ستكون لها انعكاسات على المستقبل السوري، فعمليات بناء الجيش والمؤسّسات الأمنية وأجهزة الوزارات والهيئات والمؤسّسات العامة لا يمكن أن تسير في الطريق الصحيح إذا كانت عقلية الاستئثار والإقصاء هي المهيمنة.
الدولة في الأساس جهاز إداري، وظيفتها إدارة شؤون المجتمع ضمن المساحة الجغرافية التي تمثل مجال سيادتها باعتراف المجتمع الدولي. والدولة لا يمكن أن تكون للجميع ما لم تكن بالجميع، وعلى مسافة واحدة من جميع مكوّناتها ومواطنيها، لا تعتمد في تعاملها معهم أي مآذارات أو إجراءات تمييزية بالمعنيين السلبي والإيجابي؛ ولكن مع اهتمام خاص بالمناطق التي أُهملت وهُمشت بصورة شبه دائمة.
سورية في مفترق الطرق، فإما التصادم وإما التوافق. سيكون التصادم في حال استمرار التطرف الراهن في الطروحات والشعارات والمطالبات من مختلف الأطراف
سورية هي مفتاح توازن إقليمها واستقراره. وأي اضطراب فيها يؤثر بصورة مباشرة وغير مباشرة في الجوار الإقليمي، ويعكر صفو العلاقات بين القوى الإقليمية، ويخلخل المعادلات، ويفتح المجال أمام التدخلات الدولية التي لا تراعي في معظم الأحيان مصالح شعوب المنطقة. ومفتاح الاستقرار السوري هو التوازن المجتمعي؛ وهذا لن يتحقق من دون وجود إدارة رشيدة حريصة على شعبها ووطنها، إدارة قادرة على التعامل مع التنوّع السوري بعقلية متفاعلة مع الوضع المشخص المُعاش، لا عقلية بروكرست الذي كان يحرص على أن يكون طول كل الأشخاص مطابقاً لمقاس سريره.
لا تكون الإدارة الناجحة للتنوع المجتمعي مجدية بالكلام الجميل وحده، بل بالخطوات العملية، وبالقطع الأكيد مع المنظومة المفهومية والسلوكية التي رسختها سلطة الاستبداد والفساد التي كانت تتستّر على آثامها بالشعارات الكبرى، مثل “الوحدة والحرية والاشتراكية، ومقارعة الإمبريالية والصهيونية والرجعية”.
السوريون بغض النظر عن الدعوات المتطرفة، والمآذارات المستهجنة هنا وهناك، هم في توْق حقيقي إلى الاستقرار والأمان، على أمل النهوض والازدهار. ولكنهم، في الوقت نفسه، يخشون من استنساخ التجارب المريرة مع السلطات السابقة التي أتحفتهم بالوعود المعسولة، لتصبح بعد تمكّنها كابوساً أنهك البلاد والعباد، ويحسبون ألف حساب لعودة الديكتاتورية، وهذا ما يستوجب تفهّم الهواجس؛ وطمأنة أصحابها بعهود مكتوبة، ومآذارات فعلية تعزّز الثقة على أرض الواقع. ويحتاج ذلك كله حواراً حقيقياً بين السوريين بعقلية مفتوحة تحترم الاختلاف، وتركّز على المشتركات.
يخشى السوريون من استنساخ التجارب المريرة مع السلطات السابقة التي أتحفتهم بالوعود المعسولة، لتصبح بعد تمكّنها كابوساً أنهك البلاد والعباد
وسيكون من المفيد المنتج الذي يمكن البناء عليه أن يقود الرئيس الشرع بنفسه هذا الحوار بسلسلة لقاءات مع السياسيين والمفكرين والمثقفين ورجال الأعمال والنخب المجتمعية والنشطاء الشباب من مختلف المناطق والاتجاهات والانتماءات؛ لقاءات يجري فيها تداول كل الموضوعات بذهنية تتجاوز التطرف السائد في الأحكام راهناً لدى الموالين والمعارضين. ذهنية تبحث عن المخارج عبر التوافق على الخطوط العامة، لتكون مشاريع حلول تقدّم إلى المؤتمر الوطني الذي ينبغي أن يقتنع به السوريون أولاً، ويعترفوا بأهليته من جهة التمثيل والكفاءة والصلاحية؛ للخروج بتوافقاتٍ على حلول واقعية ممكنة تأخذ الأولويات السورية الحيوية (وفي مقدمتها وطن الوطن والشعب) بالاعتبار، وتتجاوز المنطلقات الأيديولوجية المتكلّسة التي لم تجلب للسوريين سوى الخيبات المتلاحقة.
التحدّيات التي تواجهها سورية كبيرة وحقيقية، ولا يمكن التعامل معها بحنكة سياسية بعيدة النظر نسغها الصبر والاعتدال من دون وجود توافق سوري سوري، توافق يكون الأساس المرجعي لأي تفاهماتٍ أو اتفاقياتس مع القوى الإقليمية والدولية المؤثرة.
سورية في مفترق الطرق، فإما التصادم وإما التوافق. سيكون التصادم في حال استمرار التطرف الراهن في الطروحات والشعارات والمطالبات من مختلف الأطراف. ولكن التوافق ممكن، بل حظوظه قوية، وقوية جداً، إذا ما كانت هناك إرادة ورغبة في تجاوز النزعات ما قبل الوطنية، وجرى التوجه نحو الفضاء السوري العام الرحب الذي يستوعب الجميع.