خط زمني لتواطؤ مايكروسوفت مع الاحتلال الإسرائيلي

خط زمني لتواطؤ مايكروسوفت مع الاحتلال الإسرائيلي

منذ اندلاع حرب الإبادة على غزة، تحوّل اسم مايكروسوفت إلى علامة متكرّرة في تقارير تربط بين عوالم الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي وبين آلة الحرب الإسرائيلية. على امتداد عام 2025، تكشّفت سلسلة وقائعَ متتابعة: تسريبات تُظهر عمق الشراكة التقنية، ومراجعات داخلية متأخّرة ومربكة، وقراراتٌ قمعية بحق الموظفين المعترضين، واحتجاجاتٌ تنتهي أحياناً بالاعتقال. هذا الخط الزمني يرصد أبرز المحطات وفق تسلسلها:

24 كانون الثاني/كانون الثاني 2025: دعم عملياتي مباشر

في أولى المحطات المفصلية، كشفت وثائق داخلية ــ استعرضتها صحيفة ذا غارديان البريطانية بالتعاون مع مجلة 972+ وموقع لوكال كول ــ أنّ اعتماد جيش الاحتلال على خدمات منصة أزور وأدوات الذكاء الاصطناعي من مايكروسوفت ارتفع بشكلٍ حاد بعد 7 تشرين الأول/تشرين الأول 2023. لا تتحدث التسريبات عن أدوات إدارية فحسب، بل توضح إسناداً تقنياً لعمليات قتالية واستخبارية، بما في ذلك تقديم آلاف الساعات من الدعم الهندسي، وصفقات لا تقل قيمتها عن عشرة ملايين دولار، وإتاحة نطاق واسع للوصول إلى نموذج GPT-4 عبر “أزور”. هذه الصورة المبكرة أسست لفهم الشراكة بوصفها بنية تحتية لحربٍ مستمرة. 

26 شباط/شباط 2025: طرد تأديبي أوّل

خلال اجتماع داخلي في ريدموند، وقف موظفون على بُعد أمتار من  الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت ساتيا ناديلا مرتدين قمصاناً تسأل: “هل يقتل كودنا الأطفال يا ساتيا؟”. لم تتسامح الشركة مع المشهد: طردت خمسة موظفين على خلفية الاحتجاج، فيما أعادت تقارير إخبارية التذكير بدور منتجات مايكروسوفت وأدوات أوبن إيه آي ضمن برنامج عسكريّ لاختيار الأهداف خلال الحربين على غزة ولبنان، وما ترتّب على أخطاء خوارزمية من “وفيات غير عادلة”. 

9 إبريل/نيسان 2025: تصاعد احتجاجاتٍ وعقوبات

مع اقتراب الربيع، أخذ الاحتقان داخل مايكروسوفت منحى تصاعدياً، مزج من التنديد العمالي والدعوات العلنية لوقف التعاون العسكري، بالتوازي مع إجراءات عقابية ضد موظفين معارضين. كما كشفت تسريبات عن توسّعٍ في استخدام الذكاء الاصطناعي لدى الجيش الإسرائيلي.

22–23 أيار/أيار 2025: قمع رقميّ لموظفي مايكروسوفت

في أيار، ظهرت سياسةٌ داخلية مثيرة للجدل: حظر رسائل البريد الإلكتروني التي تتضمن كلمات مثل “فلسطين” و”غزة” و”إبادة جماعية”. فسّرت الشركة ذلك بالرغبة في الحدّ من “الرسائل السياسية” على نطاق واسع داخلياً، لكن شهادات موظفين ومنسّقي حملة “لا أزور للفصل العنصري” قرأت في الإجراء قمعاً لحرية التعبير وتمييزاً ضد الموظفين الفلسطينيين والمتضامنين. وخلال أسبوعٍ واحد، طُرد موظفون قاطعوا كلمات قياديين في مؤتمرات عامة، فيما أكّدت مايكروسوفت رسمياً أنها توفّر للحكومة الإسرائيلية خدمات سحابية وذكاءً اصطناعياً، مع نفي استخدامها “لإيذاء المدنيين”. 

9 آب/آب 2025: “التدقيق” المتأخر

بعد نشر تحقيقٍ مشترك يُظهر أن الوحدة 8200 خزّنت تسجيلات ملايين مكالمات الفلسطينيين في غزة والضفة على بيئةٍ معزولة داخل “أزور”، أعلنت مايكروسوفت أنها “تدقق” في كيفية استخدام جيش الاحتلال الإسرائيلي لمنصتها، وسط شكوكٍ داخلية في أن بعض موظفي فرع إسرائيل قدّموا معلومات “غير دقيقة” عن مشاريع حسّاسة. الشركة نفت علمها باستخدام “أزور” لتخزين محتوى المكالمات، لكن مصادر داخلية أشارت إلى معرفةٍ مؤسسية بعزم الوحدة نقل بياناتٍ استخبارية إلى “أزور” منذ 2021.

20 آب 2025: الاعتصام في ريدموند

صعّد موظفون حاليون وسابقون تحركاتهم باعتصامٍ استمر يومين داخل حرم الشركة في ريدموند. أعلن المحتجون الساحة “منطقة محرّرة”، رافعين مطالب واضحة: قطع العلاقة فوراً مع جيش الاحتلال، وإنهاء الإبادة والتجويع، وتعويض المتضررين، ووقف التمييز. لم تكن الوقفة استعراضاً رمزياً، بل تصعيد منظّم يعكس تبلور حركة عمالية ـ أخلاقية داخل الشركة تطالب بوقف التربّح من الحرب. 

21 آب 2025: الاعتقالات

في اليوم التالي، تدخّلت شرطة ريدموند واعتقلت 18 محتجاً اتُّهم بعضهم بالتعدّي و”التسبّب بأضرار” بعد إلقاء طلاءٍ أحمر على لافتة مايكروسوفت. ربط المحتجون تحرّكهم بتقارير التجسّس عبر “أزور”، وباغتيال صحافيين في غزة، مؤكدين رفض التواطؤ في الإبادة. ردّ الشركة كان أمنياً بامتياز: استدعاء الشرطة وإقفال مبانٍ، فيما تواصل الخطاب الرسمي والتمسك بمراجعاتٍ داخلية تنفي حصول استخدامٍ يستهدف المدنيين. 

27 آب 2025: وعود وعود وعود

بعد اقتحام المحتجين مجمّعاً يضم مكاتب كبار التنفيذيين، عقد رئيس شركة مايكروسوفت براد سميث مؤتمراً صحافياً استعجل فيه التعهّد بالحفاظ على “معايير حقوق الإنسان” ومواصلة الحوار مع الموظفين. تعهّدت الشركة بمراجعات قانونية خارجية جديدة، واعتبرت ما كُشف “مزاعم دقيقة تستحق مراجعة عاجلة”، من دون أن تُظهر شفافيةً فعلية حيال نتائج تحقيقاتها السابقة التي نفت “إيذاء المدنيين”. الواقع بقي على حاله: احتجاجات تتسع، وسمعةٌ دولية تتآكل، وشبه إقرارٍ بأن استخدامات “أزور” الحكومية تبقى خارج الرؤية المباشرة للشركة.

28 آب 2025: فصل موظفَين

بعد عشرة أيام من موجة الاعتقالات، فصلت مايكروسوفت موظفَين نظّما وقفة تضامنٍ داخل مقر الشركة بواشنطن. الرسالة الإدارية تواصلت على المنوال ذاته: بدلاً من التفاعل الجاد مع أسئلة المسؤولية الأخلاقية، تَغلبُ مقاربةٌ بوليسية داخلية تُصنّف الاحتجاج “تعطيلاً للأعمال”.

29 آب 2025: طرد أربعة موظفين

بعد 24 ساعة فقط، أعلنت تقارير جديدة طرد أربعة موظفين إضافيين على خلفية احتجاجهم على عقود الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية مع الجيش الإسرائيلي. بهذا انتقلنا من طردٍ فرديّ/محدود إلى سياسةٍ شبه ممنهجة، تثبّت خط الشركة: حماية التعاقدات أولاً، ثم إدارة “الضرر” الاتصالي، ولو على حساب أصواتٍ داخلية تحذّر من تعميق التواطؤ التقني مع آلة الحرب.

لماذا “أزور” مركز الجدال؟

من خلال كل التسريبات التي نشرت منذ مطلع هذا العام يبدو واضحاً أن البنية السحابية لـ”أزور” ليست صندوق بريدٍ أو تخزيناً إدارياً فحسب، بل عدّةُ عملٍ عملياتية: تفريغ وترجمة ومعالجة كمٍّ ضخم من بيانات المراقبة الجماعية (مكالمات، نصوص، بريد صوتي)، والبحث السريع داخل النصوص لرصد أنماط وتحديد مواقع. تُظهر الوثائق المسربة نمواً هائلاً في استهلاك أدوات التعلّم الآلي من “أزور” بعد تشرين الأول 2023، وارتفاعاً كبيراً في التخزين والاستخدام خلال الأشهر التالية، وهو ما يفسّر ضغط الموظفين الرافضين لأن تصبح منصتهم العمود الفقري لخرائط القتل الذكية.

 

أكثر من مليون غزي بلا خيارات: لا شبر متبقّياً لاستيعاب المهجرين

أكثر من مليون غزي بلا خيارات: لا شبر متبقّياً لاستيعاب المهجرين

يعيش أهالي مدينة غزة والنازحون فيها حالة استثنائية من الحيرة والقلق الجماعي، بفعل إعلان الجيش الإسرائيلي أمس الجمعة مدينة غزة “منطقة قتال خطيرة” وأنه بدأ العمليات التمهيدية والمراحل الأولية للهجوم على المدينة مضيفاً أنه يعمل حالياً بقوة كبيرة على مشارف المدينة، ما يعيد إلى الأذهان سيناريو النزوح الأكبر بداية العدوان قبل 22 شهراً. وتبدو حركة الناس في شوارع مدينة غزة المهددة بالاقتحام بطيئة ومثقلة بالأسئلة، فلا أحد يعرف إلى أين يسير، ولا إلى أي جهة يمكن أن يتجه في حال بدأ الاجتياح البري الشامل للمدينة. وتحولت التهديدات الإسرائيلية إلى هاجس يومي يثقل صدور الأهالي، ويضعهم أمام سؤال وجودي “إلى أين يمكن أن نذهب بعد أن امتلأ الجنوب عن آخره؟”. الجنوب الذي كان يمثل لآلاف العائلات “الملاذ الأخير”، لم يعد يتسع لاستقبال أي أسرة جديدة، بعدما تعرضت رفح وخانيونس لدمار واسع، وتكدست مئات آلاف الأسر في أحياء مهدمة أو مخيمات نزوح مكتظة، ومع تهديد دير البلح والمناطق الوسطى بالقصف والاقتحام، تلاشت آخر المساحات التي كان الناس يأملون التوجه إليها.

لا مكان لنصب خيمة في غزة

وشهدت الأيام الأخيرة محاولات عائلات من مدينة غزة للنزوح نحو المحافظات الوسطى أو الجنوب، لكنهم اصطدموا بالواقع القاسي، لا مكان لنصب خيمة جديدة، ولا ساحة تتسع حتى لأسرة واحدة، البعض قضى ليالي في العراء أو على الطرقات، وآخرون اضطروا للعودة مجدداً إلى بيوتهم المهددة بالقصف، في مشهد يجسّد انسداد الأفق وانعدام البدائل. هذا الواقع فاقم مشاعر الرعب والضغط النفسي، إذ بات الغزيون يعيشون بين خيارين أحلاهما مر: البقاء تحت خطر الاحتلال والقصف في مدينة غزة، أو المحاولة المستحيلة للنزوح نحو مناطق لم تعد تتسع لأي قادم جديد، وبين هذين الخيارين، يعيش الناس في حالة انتظار خانق يختلط فيه الخوف من المستقبل مع العجز عن اتخاذ أي قرار آمن. وفي ظل استمرار الغارات والقصف على كل مكان، تزداد مخاوف السكان من أن يتحول النزوح القسري، إذا ما فرض، إلى مأساة مفتوحة بلا أفق، خصوصاً في وقت لم يعد فيه الجنوب سوى صورة أخرى من الجوع والاكتظاظ والموت البطيء.

سمية بدوي: هذه أول مرة أشعر بأن غزة تُدفع دفعاً نحو التهجير القسري

في السياق، تقول الفلسطينية سمية بدوي (42 عاماً)، وهي أم لخمسة أطفال، إنها أعدت بعض الحقائب الصغيرة حتى يكونوا جاهزين في أي لحظة، لكن الحقيقة أنها لا تعرف إلى أين ستذهب، وهو ما بات يشعرها بأنها وأسرتها باتوا بين فكي كماشة. وتضيف في حديثٍ لـ”العربي الجديد”: “حاولنا الأسبوع الماضي النزوح إلى (المنطقة) الوسطى، وعندما وصلنا إلى مشارف دير البلح اكتشفنا أن لا مكان، ولا حتى متراً واحداً لنضع خيمة فيها. الناس هناك يفترشون الشوارع والطرقات، عدنا إلى منطقتنا المهددة بالقصف وكأننا لم نفعل شيئاً”. وتضيف بدوي: “عشت كل جولات التصعيد السابقة، لكن هذه أول مرة أشعر بأن غزة تُدفع دفعاً نحو التهجير القسري، الجنوب لم يعد موجوداً، رفح وخانيونس أصبحتا أنقاضاً، والوسطى مهددة كل يوم بالقصف، لم يبقَ أمامنا سوى أن نعيش هنا وننتظر قدرنا”.

ولم يختلف الواقع كثيراً عند الفلسطيني أدهم السمري (33 عاماً) الذي نزح مرتين سابقاً من الشجاعية إلى مدارس غزة، حيث كان يأمل في كل نزوح أن يجد مكاناً جديداً أكثر أماناً، بينما لم يجد الآن أي مكان بعد امتلاء المدارس ومخيمات النزوح المعتمدة والعشوائية وحتى الطرقات والمفترقات. ويوضح السمري، في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، أنه بات يشعر بالرعب الحقيقي من كلمة “أخلوا مناطق سكنكم”، ليس لأنها جيدة أو تنعم بالخدمات والبنية التحتية التي جرى تدميرها بشكل كامل، وإنما لعدم توفر أماكن، حتى وإن كانت بلا خدمات “لا يوجد شبر واحد يمكنه استيعاب أسرة صغيرة”. ويشير السمري إلى أنه عاد من نزوح طويل في المحافظات الجنوبية، ذاق خلاله كل أصناف العذاب، ونزح مجدداً بعد عودته إلى مدينة غزة، ولا يزال يشعر بالعذاب ذاته بعد فقدان بيته، لكن الهاجس الأكبر يتمثل في معاودة النزوح نحو الجنوب، معتبراً أن صدور مثل هذا الأمر لا يمكن اعتباره سوى “حكم بالإعدام الجماعي”.

أما الفلسطيني عدي حبيب (28 عاماً) فيقول: “لم يبقَ لنا سوى الانتظار، نزحنا سابقاً إلى عدة أماكن، لكن لم نجد مكاناً حتى في الساحات، عدنا إلى بيتنا رغم أنه نصف مهدم”. ويلفت حبيب في حديثٍ لـ”العربي الجديد” إلى أن النزوح مجدداً في مثل هذه الظروف التي تنعدم فيها كل سبل الحياة ومقوماتها، إلى جانب انعدام وجود أماكن لاستقبال النازحين حتى وإن كانت أماكن بلا مقومات، يعني “التشرد في العراء، والنوم على الأرصفة أو بين الركام”. وتنتشر الأحاديث داخل البيوت والخيام عن الأخبار المتداولة باحتمال اجتياح المدينة، وكثير من الأسر تبيت بثياب جاهزة للنزوح، لكن من دون وجهة، البعض ينام بجانب حقائب صغيرة تحوي وثائق وأدوية وبعض الملابس، بينما يتناوب الكبار على طمأنة الصغار الذين يسألون: “وين رح نروح؟”.

أدهم السمري: لا يوجد شبر واحد يمكنه استيعاب أسرة صغيرة

مآسي المدينة

وبعد تدمير مدينتي رفح وخانيونس لم يعد أي متسع لاستقبال نازحين جدد، لدرجة أن بعض العائلات تسكن داخل هياكل مدمرة أو بين الركام، في الوقت الذي لم تعد المحافظات الوسطى آمنة ولا متاحة، فهي مهددة بالقصف والاقتحام، وتفتقر أصلاً لأي قدرة على استقبال مزيد من الأسر، في الوقت الذي يعيش أهالي مدينة غزة بين حيرة البقاء في مواجهة التهديد المباشر بالاحتلال أو البحث عن ملاذ غير موجود. حول ذلك، يقول الباحث السياسي جميل مازن شقورة لـ”العربي الجديد” إن سياسات جيش الاحتلال على الأرض من خلال التطويق والتدمير الممنهج، تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع الميداني في القطاع، لا سيما مدينة غزة، من خلال خلق ظروف معيشية غير قابلة للاستدامة، ما يؤدي فعلياً إلى تفريغ مناطق واسعة من سكانها ومن ثم احتلالها.

ويحذّر من أن ما يفعله الاحتلال يهدف إلى التهجير القسري، لكنه يغلف هذا الأمر بمصطلح الهجرة الطوعية من خلال ما يقوم به وما يآذاره على الأرض. وينبّه كذلك إلى أن ذلك بات سياسة متعمدة، وليست نتيجة اعتباطية للحرب، إذ اعتبر إيلي باخر، المستشار القانوني السابق لجهاز الشاباك، أن الحرب تجاوزت أهدافها العسكرية لتصبح أداة سياسية لإفراغ غزة تدريجياً من سكانها، تمهيداً لمشاريع ضم واستيطان مستقبلية، وهو ما يصفه بـ”خطة الحسم”. ويلفت شقورة إلى أنه في ظل غياب أي أفق واضح لإنهاء الحرب والحصار المفروض على مدينة غزة وتدمير المساحات المدنية، لم يعد المكان في غزة قابلاً لحياة السكان، وسيدفعهم الاحتلال بشتى الطرق للنزوح جنوباً من أجل تنفيذ مخططاته الرامية لاحتلال المدينة.

هل خسرت إسرائيل أخيراً حرب الصورة؟

هل خسرت إسرائيل أخيراً حرب الصورة؟

مطلع هذا الأسبوع، ومع تصاعد موجة الغضب إثر قتل الاحتلال خمسة صحافيين (مريم أبو دقة، ومحمد سلامة، وحسام المصري، ومعاذ أبو طه، وأحمد أبو عزيز) باستهداف مباشر لمجمع ناصر الطبي في مدينة غزة، خرج رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو ليقول: “نشعر بالأسف العميق بسبب الحادث المأساوي الذي وقع في مستشفى ناصر في غزة”. تصريح نتنياهو جاء في محاولة لتخفيف موجة الغضب الإعلامية الدولية التي تلت المجزرة.
المجزرة وتصريح نتنياهو لم يكونا منفصلين عن معركة الصورة التي تخوضها إسرائيل منذ السابع من تشرين الأول/تشرين الأول 2023. فبينما تواصل الحكومة حربها الدموية في غزة تحت شعار “القضاء على حركة حماس”، تواجه إسرائيل خسارة متسارعة في الرأي العام العالمي، حيث تبدو الدعاية الرسمية ـ أو ما يُعرف في العبرية بـ”الهاسبارا” ـ عاجزة عن مواجهة صور المجاعة والدمار والضحايا المدنيين التي تتدفق يومياً عبر شاشات العالم.

صور غزة تهزم الدعاية

مع دخول حرب الإبادة شهرها الثالث والعشرين، تزداد الصور القادمة من غزة قوة وتأثيراً: أطفال يعانون سوء تغذية حاداً، رضّع بارزة أضلاعهم، أمهات يحملن أبناءهن الميتين أو الجائعين، ومشاهد لأشخاص يتقاتلون على عبوات مياه أو كيس طحين في مناطق الإغاثة.
حتى داخل إسرائيل، كسرت بعض وسائل الإعلام السائدة حاجز الصمت. فقد بثّت قناة 12 الإسرائيلية تقريراً مصوّراً نادراً عن الأزمة الإنسانية في غزة، أظهر أطفالاً يتسابقون للحصول على الطعام ونساءً يحدّقن في الفراغ وسط الخراب. رغم ذلك، قدّمت القناة هذه المشاهد ضمن سردية مختلفة: المأساة الإنسانية بكونها جزءاً من “حرب دعائية” تقودها “حماس”.

انهيار سردية إسرائيل

في بداية 2025، خصصت الحكومة الإسرائيلية 150 مليون دولار إضافية في موازنتها لتمويل ما تسميه “حملات شرح الموقف الإسرائيلي للعالم”، مبلغ يعادل 20 ضعفاً مما كان مخصصاً في السنوات السابقة.
وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، وصف هذه الجهود بأنها جزء من “حرب الوعي”، مؤكداً أن الحكومة ستوظف الميزانية في حملات إعلامية دولية، ونشاط مكثف على منصات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى برامج خاصة في الجامعات الأميركية لمواجهة المدّ المتزايد من التضامن مع الفلسطينيين.
لكن النتائج حتى الآن جاءت عكسية؛ فقد أظهرت تقارير متعددة أن الخطاب الإسرائيلي فقد فعاليته عالمياً. وأوضح مات ليب، مقدم بودكاست Bad Hasbara، أن الاستراتيجية الإسرائيلية تعاني مأزقاً جوهرياً: “يمكنك أن تقنع الحكومات الغربية بدعم إسرائيل، لكنك لا تستطيع أن تقنع الناس العاديين الذين يرون المجازر بأعينهم. كلما حاولت إسرائيل تبرير الفظائع، زاد إدراك الجمهور أنها مجرد دعاية صرفة”.
وبينما تراهن الحكومة على المشاهير والمؤثرين لدعمها، يصف ليب هذه المحاولات بأنها عقيمة: “الناس لا يبنون قناعاتهم الأخلاقية أو السياسية بناءً على ما يقوله المشاهير”.

تآكل الدعم الغربي

انعكس الفشل الإسرائيلي في “حرب الصورة” على العلاقات الدولية، حتى مع أقرب الحلفاء. فعدد من الدول التي طالما دعمت إسرائيل – بينها بريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا – بات يطالب علناً بـ وقف إطلاق النار، تأثراً بالصور المتدفقة من غزة والضغط الشعبي المتزايد في شوارع تلك الدول.
وفي فرنسا، أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون أن بلاده ستصبح أول دولة ضمن مجموعة السبع تعترف رسمياً بالدولة الفلسطينية خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ أيلول المقبل. وفي خطوة غير مسبوقة، غيّرت حكومة أنتوني ألبانيز في أستراليا موقفها التقليدي، وصوّتت العام الماضي لصالح قرار يعترف بالسيادة الدائمة للفلسطينيين على أراضيهم المحتلة.
لكن ألبانيز، شأنه شأن قادة غربيين آخرين، ما زال يمسك العصا من الوسط؛ فبينما يدعم “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، يعتبر أن الاعتراف المبكر بفلسطين قد يكون مجرد “إيماءة رمزية” إذا لم يُبنَ على رؤية سياسية واضحة لحل الدولتين.

التحولات في الرأي العام العالمي

التأثير الأعمق ظهر في المزاج الشعبي عالمياً، لا في المواقف الرسمية فقط. في أوروبا، تعززت موجات المقاطعة الأكاديمية والثقافية والرياضية لإسرائيل. وفي الولايات المتحدة، حيث كان اللوبي الإسرائيلي تاريخياً في أوج قوته، يكشف طارق كيني-شوا، الباحث في الشبكة الفلسطينية للسياسات، في حديث مع موقع ذا نيو أراب، عن تغير جذري، قائلاً: “انتقلت إسرائيل في نظر كثير من الأميركيين من كونها حليفاً طبيعياً إلى دولة ترتبط بسمعة سلبية وصور إبادة جماعية”.
ويضيف أن أوامر الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية شكّلت نقطة تحول غير مسبوقة؛ إذ كانت المرة الأولى التي يُتهم فيها حليف غربي بهذه الجرائم.
هذه التطورات دفعت الحكومة الإسرائيلية إلى تعميق حملاتها الدعائية ومحاولة تشويش الصورة عبر “خلط الأوراق”، لكن بحسب كيني-شوا: “ما تفعله إسرائيل هو جعل القضية معقدة إلى درجة تدفع الناس إلى الابتعاد عن انتقادها. وهذا هو الخطر الحقيقي”.

نتنياهو بين الداخل والخارج

في الداخل، ما زال نتنياهو يعتمد على اليمين المتطرف للبقاء في الحكم، حتى وهو يخسر دعم قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي. في المقابل، يُصوّر نتنياهو نفسه باعتباره “الرجل القوي” القادر على حماية إسرائيل في مواجهة “المؤامرات الدولية” والضغط الشعبي العالمي المتزايد.
لكن هذه الاستراتيجية محفوفة بالمخاطر؛ فكلما طال أمد الحرب، ازدادت الضغوط الدولية، وتصاعدت المطالب بالاعتراف بدولة فلسطينية. ومع أن أكثر من 140 دولة عضواً في الأمم المتحدة تعترف بالفعل بالدولة الفلسطينية، فإن موجة الاعترافات القادمة من دول غربية كبرى قد تشكّل هزيمة سياسية مدوية لنتنياهو ولروايته عن “القضاء على حماس”.

حرب الصورة لم تعد لصالح إسرائيل

باختصار، بعد نحو عامين من القصف والقتل والدمار، تبدو إسرائيل على أعتاب خسارة في معركة السردية. فقد انقلبت صور غزة عليها: أطفال جياع، أمهات يبكين، مبانٍ مدمّرة، وشعب كامل يعيش تحت الحصار.
ورغم مليارات الدولارات التي تُنفقها الحكومة على حملات “الهاسبارا”، تكشف استطلاعات الرأي أن الإدراك العالمي يتغيّر جذرياً. لم يعد بالإمكان إخفاء الحقائق خلف بيانات العلاقات العامة، ولا تجميل صور الحرب عبر المؤثرين والمشاهير.
لقد نجحت غزة، ولو دون قصد، في تفكيك الخطاب الإسرائيلي أمام العالم، ووضعت إسرائيل أمام معضلة وجودية في حرب الصورة: فكلما حاولت الدفاع عن نفسها، ازدادت الرواية الرسمية هشاشةً، وتراجعت مكانتها الأخلاقية والسياسية.
ربما لم تخسر إسرائيل الحرب عسكرياً، لكن في المجال الرمزي، في حرب الصورة والرواية، تبدو الخسارة أقرب من أي وقت مضى.

هل خسرت إسرائيل أخيراً حرب الصورة؟

هل خسرت إسرائيل أخيراً حرب الصورة؟

مطلع هذا الأسبوع، ومع تصاعد موجة الغضب إثر قتل الاحتلال خمسة صحافيين (مريم أبو دقة، ومحمد سلامة، وحسام المصري، ومعاذ أبو طه، وأحمد أبو عزيز) باستهداف مباشر لمجمع ناصر الطبي في مدينة غزة، خرج رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو ليقول: “نشعر بالأسف العميق بسبب الحادث المأساوي الذي وقع في مستشفى ناصر في غزة”. تصريح نتنياهو جاء في محاولة لتخفيف موجة الغضب الإعلامية الدولية التي تلت المجزرة.
المجزرة وتصريح نتنياهو لم يكونا منفصلين عن معركة الصورة التي تخوضها إسرائيل منذ السابع من تشرين الأول/تشرين الأول 2023. فبينما تواصل الحكومة حربها الدموية في غزة تحت شعار “القضاء على حركة حماس”، تواجه إسرائيل خسارة متسارعة في الرأي العام العالمي، حيث تبدو الدعاية الرسمية ـ أو ما يُعرف في العبرية بـ”الهاسبارا” ـ عاجزة عن مواجهة صور المجاعة والدمار والضحايا المدنيين التي تتدفق يومياً عبر شاشات العالم.

صور غزة تهزم الدعاية

مع دخول حرب الإبادة شهرها الثالث والعشرين، تزداد الصور القادمة من غزة قوة وتأثيراً: أطفال يعانون سوء تغذية حاداً، رضّع بارزة أضلاعهم، أمهات يحملن أبناءهن الميتين أو الجائعين، ومشاهد لأشخاص يتقاتلون على عبوات مياه أو كيس طحين في مناطق الإغاثة.
حتى داخل إسرائيل، كسرت بعض وسائل الإعلام السائدة حاجز الصمت. فقد بثّت قناة 12 الإسرائيلية تقريراً مصوّراً نادراً عن الأزمة الإنسانية في غزة، أظهر أطفالاً يتسابقون للحصول على الطعام ونساءً يحدّقن في الفراغ وسط الخراب. رغم ذلك، قدّمت القناة هذه المشاهد ضمن سردية مختلفة: المأساة الإنسانية بكونها جزءاً من “حرب دعائية” تقودها “حماس”.

انهيار سردية إسرائيل

في بداية 2025، خصصت الحكومة الإسرائيلية 150 مليون دولار إضافية في موازنتها لتمويل ما تسميه “حملات شرح الموقف الإسرائيلي للعالم”، مبلغ يعادل 20 ضعفاً مما كان مخصصاً في السنوات السابقة.
وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، وصف هذه الجهود بأنها جزء من “حرب الوعي”، مؤكداً أن الحكومة ستوظف الميزانية في حملات إعلامية دولية، ونشاط مكثف على منصات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى برامج خاصة في الجامعات الأميركية لمواجهة المدّ المتزايد من التضامن مع الفلسطينيين.
لكن النتائج حتى الآن جاءت عكسية؛ فقد أظهرت تقارير متعددة أن الخطاب الإسرائيلي فقد فعاليته عالمياً. وأوضح مات ليب، مقدم بودكاست Bad Hasbara، أن الاستراتيجية الإسرائيلية تعاني مأزقاً جوهرياً: “يمكنك أن تقنع الحكومات الغربية بدعم إسرائيل، لكنك لا تستطيع أن تقنع الناس العاديين الذين يرون المجازر بأعينهم. كلما حاولت إسرائيل تبرير الفظائع، زاد إدراك الجمهور أنها مجرد دعاية صرفة”.
وبينما تراهن الحكومة على المشاهير والمؤثرين لدعمها، يصف ليب هذه المحاولات بأنها عقيمة: “الناس لا يبنون قناعاتهم الأخلاقية أو السياسية بناءً على ما يقوله المشاهير”.

تآكل الدعم الغربي

انعكس الفشل الإسرائيلي في “حرب الصورة” على العلاقات الدولية، حتى مع أقرب الحلفاء. فعدد من الدول التي طالما دعمت إسرائيل – بينها بريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا – بات يطالب علناً بـ وقف إطلاق النار، تأثراً بالصور المتدفقة من غزة والضغط الشعبي المتزايد في شوارع تلك الدول.
وفي فرنسا، أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون أن بلاده ستصبح أول دولة ضمن مجموعة السبع تعترف رسمياً بالدولة الفلسطينية خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ أيلول المقبل. وفي خطوة غير مسبوقة، غيّرت حكومة أنتوني ألبانيز في أستراليا موقفها التقليدي، وصوّتت العام الماضي لصالح قرار يعترف بالسيادة الدائمة للفلسطينيين على أراضيهم المحتلة.
لكن ألبانيز، شأنه شأن قادة غربيين آخرين، ما زال يمسك العصا من الوسط؛ فبينما يدعم “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، يعتبر أن الاعتراف المبكر بفلسطين قد يكون مجرد “إيماءة رمزية” إذا لم يُبنَ على رؤية سياسية واضحة لحل الدولتين.

التحولات في الرأي العام العالمي

التأثير الأعمق ظهر في المزاج الشعبي عالمياً، لا في المواقف الرسمية فقط. في أوروبا، تعززت موجات المقاطعة الأكاديمية والثقافية والرياضية لإسرائيل. وفي الولايات المتحدة، حيث كان اللوبي الإسرائيلي تاريخياً في أوج قوته، يكشف طارق كيني-شوا، الباحث في الشبكة الفلسطينية للسياسات، في حديث مع موقع ذا نيو أراب، عن تغير جذري، قائلاً: “انتقلت إسرائيل في نظر كثير من الأميركيين من كونها حليفاً طبيعياً إلى دولة ترتبط بسمعة سلبية وصور إبادة جماعية”.
ويضيف أن أوامر الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية شكّلت نقطة تحول غير مسبوقة؛ إذ كانت المرة الأولى التي يُتهم فيها حليف غربي بهذه الجرائم.
هذه التطورات دفعت الحكومة الإسرائيلية إلى تعميق حملاتها الدعائية ومحاولة تشويش الصورة عبر “خلط الأوراق”، لكن بحسب كيني-شوا: “ما تفعله إسرائيل هو جعل القضية معقدة إلى درجة تدفع الناس إلى الابتعاد عن انتقادها. وهذا هو الخطر الحقيقي”.

نتنياهو بين الداخل والخارج

في الداخل، ما زال نتنياهو يعتمد على اليمين المتطرف للبقاء في الحكم، حتى وهو يخسر دعم قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي. في المقابل، يُصوّر نتنياهو نفسه باعتباره “الرجل القوي” القادر على حماية إسرائيل في مواجهة “المؤامرات الدولية” والضغط الشعبي العالمي المتزايد.
لكن هذه الاستراتيجية محفوفة بالمخاطر؛ فكلما طال أمد الحرب، ازدادت الضغوط الدولية، وتصاعدت المطالب بالاعتراف بدولة فلسطينية. ومع أن أكثر من 140 دولة عضواً في الأمم المتحدة تعترف بالفعل بالدولة الفلسطينية، فإن موجة الاعترافات القادمة من دول غربية كبرى قد تشكّل هزيمة سياسية مدوية لنتنياهو ولروايته عن “القضاء على حماس”.

حرب الصورة لم تعد لصالح إسرائيل

باختصار، بعد نحو عامين من القصف والقتل والدمار، تبدو إسرائيل على أعتاب خسارة في معركة السردية. فقد انقلبت صور غزة عليها: أطفال جياع، أمهات يبكين، مبانٍ مدمّرة، وشعب كامل يعيش تحت الحصار.
ورغم مليارات الدولارات التي تُنفقها الحكومة على حملات “الهاسبارا”، تكشف استطلاعات الرأي أن الإدراك العالمي يتغيّر جذرياً. لم يعد بالإمكان إخفاء الحقائق خلف بيانات العلاقات العامة، ولا تجميل صور الحرب عبر المؤثرين والمشاهير.
لقد نجحت غزة، ولو دون قصد، في تفكيك الخطاب الإسرائيلي أمام العالم، ووضعت إسرائيل أمام معضلة وجودية في حرب الصورة: فكلما حاولت الدفاع عن نفسها، ازدادت الرواية الرسمية هشاشةً، وتراجعت مكانتها الأخلاقية والسياسية.
ربما لم تخسر إسرائيل الحرب عسكرياً، لكن في المجال الرمزي، في حرب الصورة والرواية، تبدو الخسارة أقرب من أي وقت مضى.

هل خسرت إسرائيل أخيراً حرب الصورة؟

هل خسرت إسرائيل أخيراً حرب الصورة؟

مطلع هذا الأسبوع، ومع تصاعد موجة الغضب إثر قتل الاحتلال خمسة صحافيين (مريم أبو دقة، ومحمد سلامة، وحسام المصري، ومعاذ أبو طه، وأحمد أبو عزيز) باستهداف مباشر لمجمع ناصر الطبي في مدينة غزة، خرج رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو ليقول: “نشعر بالأسف العميق بسبب الحادث المأساوي الذي وقع في مستشفى ناصر في غزة”. تصريح نتنياهو جاء في محاولة لتخفيف موجة الغضب الإعلامية الدولية التي تلت المجزرة.
المجزرة وتصريح نتنياهو لم يكونا منفصلين عن معركة الصورة التي تخوضها إسرائيل منذ السابع من تشرين الأول/تشرين الأول 2023. فبينما تواصل الحكومة حربها الدموية في غزة تحت شعار “القضاء على حركة حماس”، تواجه إسرائيل خسارة متسارعة في الرأي العام العالمي، حيث تبدو الدعاية الرسمية ـ أو ما يُعرف في العبرية بـ”الهاسبارا” ـ عاجزة عن مواجهة صور المجاعة والدمار والضحايا المدنيين التي تتدفق يومياً عبر شاشات العالم.

صور غزة تهزم الدعاية

مع دخول حرب الإبادة شهرها الثالث والعشرين، تزداد الصور القادمة من غزة قوة وتأثيراً: أطفال يعانون سوء تغذية حاداً، رضّع بارزة أضلاعهم، أمهات يحملن أبناءهن الميتين أو الجائعين، ومشاهد لأشخاص يتقاتلون على عبوات مياه أو كيس طحين في مناطق الإغاثة.
حتى داخل إسرائيل، كسرت بعض وسائل الإعلام السائدة حاجز الصمت. فقد بثّت قناة 12 الإسرائيلية تقريراً مصوّراً نادراً عن الأزمة الإنسانية في غزة، أظهر أطفالاً يتسابقون للحصول على الطعام ونساءً يحدّقن في الفراغ وسط الخراب. رغم ذلك، قدّمت القناة هذه المشاهد ضمن سردية مختلفة: المأساة الإنسانية بكونها جزءاً من “حرب دعائية” تقودها “حماس”.

انهيار سردية إسرائيل

في بداية 2025، خصصت الحكومة الإسرائيلية 150 مليون دولار إضافية في موازنتها لتمويل ما تسميه “حملات شرح الموقف الإسرائيلي للعالم”، مبلغ يعادل 20 ضعفاً مما كان مخصصاً في السنوات السابقة.
وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، وصف هذه الجهود بأنها جزء من “حرب الوعي”، مؤكداً أن الحكومة ستوظف الميزانية في حملات إعلامية دولية، ونشاط مكثف على منصات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى برامج خاصة في الجامعات الأميركية لمواجهة المدّ المتزايد من التضامن مع الفلسطينيين.
لكن النتائج حتى الآن جاءت عكسية؛ فقد أظهرت تقارير متعددة أن الخطاب الإسرائيلي فقد فعاليته عالمياً. وأوضح مات ليب، مقدم بودكاست Bad Hasbara، أن الاستراتيجية الإسرائيلية تعاني مأزقاً جوهرياً: “يمكنك أن تقنع الحكومات الغربية بدعم إسرائيل، لكنك لا تستطيع أن تقنع الناس العاديين الذين يرون المجازر بأعينهم. كلما حاولت إسرائيل تبرير الفظائع، زاد إدراك الجمهور أنها مجرد دعاية صرفة”.
وبينما تراهن الحكومة على المشاهير والمؤثرين لدعمها، يصف ليب هذه المحاولات بأنها عقيمة: “الناس لا يبنون قناعاتهم الأخلاقية أو السياسية بناءً على ما يقوله المشاهير”.

تآكل الدعم الغربي

انعكس الفشل الإسرائيلي في “حرب الصورة” على العلاقات الدولية، حتى مع أقرب الحلفاء. فعدد من الدول التي طالما دعمت إسرائيل – بينها بريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا – بات يطالب علناً بـ وقف إطلاق النار، تأثراً بالصور المتدفقة من غزة والضغط الشعبي المتزايد في شوارع تلك الدول.
وفي فرنسا، أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون أن بلاده ستصبح أول دولة ضمن مجموعة السبع تعترف رسمياً بالدولة الفلسطينية خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ أيلول المقبل. وفي خطوة غير مسبوقة، غيّرت حكومة أنتوني ألبانيز في أستراليا موقفها التقليدي، وصوّتت العام الماضي لصالح قرار يعترف بالسيادة الدائمة للفلسطينيين على أراضيهم المحتلة.
لكن ألبانيز، شأنه شأن قادة غربيين آخرين، ما زال يمسك العصا من الوسط؛ فبينما يدعم “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، يعتبر أن الاعتراف المبكر بفلسطين قد يكون مجرد “إيماءة رمزية” إذا لم يُبنَ على رؤية سياسية واضحة لحل الدولتين.

التحولات في الرأي العام العالمي

التأثير الأعمق ظهر في المزاج الشعبي عالمياً، لا في المواقف الرسمية فقط. في أوروبا، تعززت موجات المقاطعة الأكاديمية والثقافية والرياضية لإسرائيل. وفي الولايات المتحدة، حيث كان اللوبي الإسرائيلي تاريخياً في أوج قوته، يكشف طارق كيني-شوا، الباحث في الشبكة الفلسطينية للسياسات، في حديث مع موقع ذا نيو أراب، عن تغير جذري، قائلاً: “انتقلت إسرائيل في نظر كثير من الأميركيين من كونها حليفاً طبيعياً إلى دولة ترتبط بسمعة سلبية وصور إبادة جماعية”.
ويضيف أن أوامر الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية شكّلت نقطة تحول غير مسبوقة؛ إذ كانت المرة الأولى التي يُتهم فيها حليف غربي بهذه الجرائم.
هذه التطورات دفعت الحكومة الإسرائيلية إلى تعميق حملاتها الدعائية ومحاولة تشويش الصورة عبر “خلط الأوراق”، لكن بحسب كيني-شوا: “ما تفعله إسرائيل هو جعل القضية معقدة إلى درجة تدفع الناس إلى الابتعاد عن انتقادها. وهذا هو الخطر الحقيقي”.

نتنياهو بين الداخل والخارج

في الداخل، ما زال نتنياهو يعتمد على اليمين المتطرف للبقاء في الحكم، حتى وهو يخسر دعم قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي. في المقابل، يُصوّر نتنياهو نفسه باعتباره “الرجل القوي” القادر على حماية إسرائيل في مواجهة “المؤامرات الدولية” والضغط الشعبي العالمي المتزايد.
لكن هذه الاستراتيجية محفوفة بالمخاطر؛ فكلما طال أمد الحرب، ازدادت الضغوط الدولية، وتصاعدت المطالب بالاعتراف بدولة فلسطينية. ومع أن أكثر من 140 دولة عضواً في الأمم المتحدة تعترف بالفعل بالدولة الفلسطينية، فإن موجة الاعترافات القادمة من دول غربية كبرى قد تشكّل هزيمة سياسية مدوية لنتنياهو ولروايته عن “القضاء على حماس”.

حرب الصورة لم تعد لصالح إسرائيل

باختصار، بعد نحو عامين من القصف والقتل والدمار، تبدو إسرائيل على أعتاب خسارة في معركة السردية. فقد انقلبت صور غزة عليها: أطفال جياع، أمهات يبكين، مبانٍ مدمّرة، وشعب كامل يعيش تحت الحصار.
ورغم مليارات الدولارات التي تُنفقها الحكومة على حملات “الهاسبارا”، تكشف استطلاعات الرأي أن الإدراك العالمي يتغيّر جذرياً. لم يعد بالإمكان إخفاء الحقائق خلف بيانات العلاقات العامة، ولا تجميل صور الحرب عبر المؤثرين والمشاهير.
لقد نجحت غزة، ولو دون قصد، في تفكيك الخطاب الإسرائيلي أمام العالم، ووضعت إسرائيل أمام معضلة وجودية في حرب الصورة: فكلما حاولت الدفاع عن نفسها، ازدادت الرواية الرسمية هشاشةً، وتراجعت مكانتها الأخلاقية والسياسية.
ربما لم تخسر إسرائيل الحرب عسكرياً، لكن في المجال الرمزي، في حرب الصورة والرواية، تبدو الخسارة أقرب من أي وقت مضى.