إلى متى العبث الإسرائيلي في الجغرافيا السورية؟

إلى متى العبث الإسرائيلي في الجغرافيا السورية؟

عملت إسرائيل، منذ سقط نظام بشار الأسد في صباح 8 كانون الأول/ كانون الأول 2024، على استهداف مواقع عسكرية سورية عديدة، حيث تمكنت من تدمير جل العتاد العسكري المتوفر، ثم تابعت استهدافات مواقع عسكرية أخرى، ووصل بها الأمر إلى ضرب قيادة الأركان العسكرية السورية، ومحيط القصر الجمهوري، وتتابع اليوم ما بدأته من قصف واستهداف ضمن لعبة التدخل المباشر في الواقع السوري، ومآذارة سياسة المفاوضات تحت النار، حتى بات الاستهداف العدواني الإسرائيلي يواكب كل حدث، ويفعل فعله اليومي تدخّلاً سافراً وفاجراً في ديناميات الوضع السوري، بدءاً من المنطقة العازلة التي احتلتها إسرائيل، وصولاً إلى هبوط مروحياتها في محافظة السويداء، دعماً لظاهرة حكمت الهجري ومجموعاته العسكرية، ثم إلى حالات إنزال جوي وزرع كثير من أدوات التجسس الإسرائيلي وتقنّياته في غير مكان من محافظتي القنيطرة وريف دمشق، في حالة تحدٍّ واضح وفاقع لحكومة دمشق، واستمراراً للضغط عليها، كي تقبل بأن توقّع اتفاقاً أمنياً مع إسرائيل، تريده الأخيرة على قدّها ومقاسها، وضمن استراتيجياته العدوانية ضد سورية والمنطقة العربية، وفي أجواء الضعف وقلة الحيلة، التي وجدت حكومة دمشق نفسها ضمنها، وضمن واقع عربي وإسلامي عاجز كل العجز عن إبداء أي دعم لحكومة دمشق، وفي غياب أي مشروع عربي ناهض ومناهض أو انعدامه، قد يتمكّن من إيقاف إسرائيل عند حدّها، وتعويق خططها العدوانية تجاه المنطقة العربية برمّتها. ولأن إسرائيل تعرف مستوى العجز العربي الذي وصل إلى حد غير مسبوق في التاريخ، عندما تُركت غزّة وناسها أمام حرب إبادة جماعية يومية، تجاوز فيها عدد الشهداء الفلسطينيين 63 ألفاً نتيجة القصف العدواني منذ نحو سنتين.

تجد إسرائيل واقعها القوي وفرط القوة لديها وبدعم أميركي غربي، يحفّزها على الاستمرار في استهداف كل شيء في سورية

في سياق هذا الواقع العربي، ومنه السوري بالضرورة، تجد حكومة دمشق نفسها عاجزة عن التصدّي للعدوان الإسرائيلي، كما تجد إسرائيل أن واقعها القوي وفرط القوة لديها وبدعم أميركي غربي، يحفّزها على الاستمرار في استهداف كل شيء في سورية، تهيئة للأجواء نحو اتفاق أمني تريده، وتسعى إليه، تكون فيه هي الرابحة الوحيدة. ولأن الحكومة في سورية واقعاً وعياناً غير قادرة على مواجهة هذا العدوان، وهذه حقيقة لا تخفى على أحد، في الخارج أو في الداخل السوري، وهي تريد وقف هذا العدوان المتواصل، بأي وسيلة، كي تتمكّن من الالتفات إلى واقعها الداخلي بتحدّياته العديدة والمتكاثرة يوميّاً، ثم بناء مؤسّسات الدولة المنهارة، وإعادة الإعمارـ حيث بلغت نسبة الهدم والدمار اللذين ألحقهما بها نظام بشّار الأسد، ما ينوف عن 65% من حجم البنية التحتية في سورية، وتحتاج عملية إعادة الإعمار المقدّرة أمميّاً إلى ما يزيد عن 500 مليار دولار في حدوده الدنيا، كما تحتاج تأمين الخدمات المفتقدة، من كهرباء ودواء ومشاف ومواصلات ومحروقات وتقنيات حديثة، أضحت ضرورية للحياة البشرية، ثم إعادة بناء الدولة الوطنية السورية الحديثة. لذلك تتوجّه، بشكل ضروري وأكيد، نحو وقف للعدوان الإسرائيلي، ضمن صفقة تفاهمات أمنية، قد لا تلبي الغرض الوطني والغاية الوطنية على أكمل وجه في سورية، خصوصاً أن إسرائيل (المنتفخة) كليّاً جرّاء حربها في قطاع غزّة وجنوب لبنان وإيران، إنها تعيش حالة من الانتشاء والتمكّن من المنطقة، فهي على هذا الأساس لن تدخل في أية مفاوضات قد تؤدّي إلى إعادة الجولان المحتل إلى سورية، وهي التي تدرك تمام الإدراك أن اميركا داعمة لها في كل مواقفها، منذ اعترف الرئيس ترامب في ولايته الأولى باحتلال إسرائيل الجولان، وضمّه إلى دولة الكيان.

حكومة دمشق الآن، وأمام تحدّيات كبيرة وكثيرة، تجد نفسها في حالة عجز وفوات

لذلك، ما نحن مقبلون عليه، وقد يكون بعيداً، اتفاق أمني لن يتطرّق إلى الجولان المحتل، بل سيكتفي بترتيبات أمنية وتحديثٍ ما لاتفاق فض الاشتباك الموقع بين حافظ الأسد وإسرائيل، حيث يضمن بأن تبقى المنطقة الجنوبية السورية خالية من السلاح الثقيل. وقد يعيد هذا الاتفاق بعضاً مما احتلته إسرائيل منذ ما بعد 8 كانون الأول، وليس كله، حيث أعلنت أنها لن تتخلى عن قمّة جبل الشيخ الاستراتيجية، التي أعادت احتلالها بعد فرار بشّار الأسد، علاوة على الاستمرار باللعب في ورقة الأقليات، وخصوصاً ورقة الطائفة الدرزية، حتى بات العلم الإسرائيلي (بكل أسف) يرفع في ساحة الكرامة بالسويداء، من دون خجل أو حس وطني، رغم اعتراضات معظم أهل السويداء وجبل العرب على ذلك.

سيبقى التصعيد الإسرائيلي ضد سورية مستمرّاً ومتواصلاً بين فينة وأخرى، وكلما وجدت إسرائيل أن هناك تعثّراً أو تمنّعاً في المفاوضات الجارية بين إسرائيل وحكومة دمشق في أذربيجان، برعاية تركية وأميركية، أو في باريس، وسوف تستمر إسرائيل ببسط يدها القاتلة والمجرمة عبر مآذارة القتل واستخدام السلاح الحديث فوق رؤوس السوريين، حتى تتحقق أهدافها، في منع سورية من القيام دولة قوية، وحتى تبقى حالة الضعف مستمرّة ومتتابعة، وحالة التشظي والتفتّت ماثلة، في سياق فرجة أميركية وعالمية، وكذلك عجز عربي وإسلامي.

حكومة دمشق الآن، وأمام تحدّيات كبيرة وكثيرة، تجد نفسها في حالة عجز وفوات. ورغم العلاقة القوية مع تركيا، ثم الرضى الأميركي عن ما تفعله، إلا أنها لم تعد تجد حلّاً لوقف العدوان، إلا أن توقع اتفاقاً أو تفاهماً مع إسرائيل، قد لا يكون مفيداً للسوريين بقدر ما هو مفيد للإسرائيليين.

تغيّر اسم الجادّة… هل يتغيّر الاتجاه؟

تغيّر اسم الجادّة… هل يتغيّر الاتجاه؟

تستحيل مناقشة صوابيّة قرار حكومة نوّاف سلام في لبنان القاضي بتغيير اسم طريق المطار الجديد، من جادّة الطاغية حافظ الأسد إلى جادّة المبدع زياد الرحباني. هي خطوة صائبة من دون أية مقدمات وتحليلات ولا أي تسويغ أو تبرير. وصوابيّة الأمر لا تتمحور حول لبنانية زياد أو سورية الأسد، أي إنها لا تنبع من الانتماء الوطني أو من حمْل جنسية الدولة، بقدر ما تتمحور حول أمور أخرى، في مقدمها البؤس في أن تحوي مدينة بيروت أسماء بشوارع الطغاة، أن تخلّد ذكراهم في حين أنهم يسقطون في بلادهم، وإن كان سقوطهم ليس على المنوال الذي نحلُم به، لكنها خطوة في اتجاهٍ يفترض أن تكتمل صحتها بتغيير السياق بأكمله، وتغيير السلوكات والمآذارات وصولاً إلى القوانين، بحيث تتأسّس على بث روح المواطنيّة والديمقراطيّة والتعدّديّة وقيم التسامح، بما يخالف ذلك الخليط السائد من الأبوية والذكورية والديكتاتورية والقمعية والبوليسية… إلخ.

لا تقف خطوة تغيير اسم الجادّة، برمزيّتها، على هذا المستوى، ولا تنتهي عنده وعليه، بل تنطلق منه لتدخل في سردية مختلفة جملةً وتفصيلاً. فمن غير المعروف ما إذا كانت الخطوة السابقة خلف إطلاق اسم الطاغية على طريق المطار في لبنان مقصودة، أو نابعة عن قلة إدراك أو عدم انتباه. لكن ما هذا الشرف العظيم القاضي بتخليد اسم الطاغية ارتباطاً بطريق مطار في بلد عانى نزيف الهجرة طوال المرحلة التي هيمن فيها الأسد وعائلته ونظامه وأجهزة مخابراته وضباطه على لبنان وعلى سورية عقوداً؟ أن يكون اسم الطاغية مرتبطاً بطريق الخروج والهجرة من لبنان، والهرب من سورية، كما بطريق سريع ارتبط اسمُه بكثرة الحوادث القاتلة؟ أغلب الظن أنها هفوة، لكنها هفوة ندرك اليوم أنها كانت تصبّ في مقتل.

خطوة لا تكتمل صحّتها إلا بالانتهاء من معايير وقيم ومآذارات كارثية كانت ترسّخ مرحلة ارتبط اسم لبنان وسورية فيها بالمعاناة والخوف والقلق

ليس في الأمر أي تجنٍّ حين نقول إن المرحلة السابقة، مرحلة هيمنة النظام البعثي السابق وأجهزة المخابرات السورية اللبنانية، والطبقات الناهبة سواء في سورية أو في لبنان، كانت تحدّد مجال الهجرة وترسّخه احتمالاً وحيداً ممكناً بين اللبنانيين وبين السوريين كذلك. أما اليوم، ومع تغيير الاسم، فلا بد أن يتغيّر هذا الاتجاه، بحيث يفترض أن يصبح اسم زياد الرحباني مرتبطاً بالعودة إلى البلاد للعيش بأمان، لا بالرحيل عنها في قلق وخوف. علّ اللبنانيين والسوريين يعيشون في أوطانهم وبين أهاليهم وأصدقائهم بعد كل هذا الانسداد. هنا تكمن روحية مسيرة زياد لا مجرّد اسمه، وإلا فما نفع التغيير، وهل هو مجرّد تغيير لمجرد اسم، أم هو رمز جديد لمرحلة جديدة بدأت بعض ملامحها بالظهور بعد مرحلة طويلة جرى إعلان لحظة إقرار الاسم الجديد، وبشكل رسمي، انتهائها؟

على هذا النحو، تصبح المفارقة أكثر وضوحاً وحديّة، وأكثر تعيّناً، أن يرتبط اسم الطاغية بطريق الهجرة والموت، يعني وبالضرورة أن يرتبط اسم الجادّة الجديد، اسم المبدع زياد الرحباني، بطريق العودة. وإن كانت عودة غير متحقّقة بالضرورة، وإن كانت مجرّد احتمال قد يتحقّق ويمكن ألا يتحقق. هذا هو صلب المسألة.

يرتبط اسم الطاغية بطريق الهجرة والموت، يعني وبالضرورة أن يرتبط اسم الجادّة الجديد، اسم المبدع زياد الرحباني، بطريق العودة

وتغيير الاسم، وتغيير الاتجاه، يعني وبالضرورة تغيير البوصلة، لتتحوّل من البوصلة التي لطالما سعى النظامان إلى استخدامها لتعريف الشعبين بمنهجية النفي، وأعدّا هويات اللبنانيين والسوريين من خلال ربطهما بتأكيد العداء للعدو الخارجي حصرًا، بدل أن تكون نحو الداخل، نحو ما قد يجمعهم ويؤكّد تمايزهم وخصوصياتهم، نحو ما يمكن أن يصبح إمكاناً لبنانياً وسوريّاً للمستقبل، إمكان لبلاد تنتهي فيها البوليسية وحملات الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري. مرحلة تطوى فيها الملاحقات والتوقيفات بسبب رأي، وتنتهي فيها حياة تشفّي وسجن وتعذيب الصحافيين والإعلاميين والكتّاب والمواطنين العاديين… إلخ. خصوصاً أن زياد الرحباني تجلى إبداعه في حريته، وقد تمثّل في خطواته المستمرّة التواقّة إلى كسر التابو الاجتماعي الطائفي المقدس، إلى تكسير البديهيات القاتلة، ولو لم يكن حرّاً لما وصل إلى هذا المستوى من التقدير في أنفس اللبنانيين بمجملهم، خصومه في السياسة قبل حلفائه.

هي، إذن، خطوة لا تكتمل صحّتها إلا بالانتهاء من معايير وقيم ومآذارات كارثية كانت ترسّخ مرحلة ارتبط اسم لبنان وسورية فيها بالمعاناة والخوف والقلق النابعين من الإعاقة المستمرّة المانعة من أن تتحوّلا إلى دولتي قانون ومؤسّسات، بل كانتا حتى الآن دولتين تتحالف وتتحكّم فيهما المليشيات والمافيات وتخضع لهما أجهزة الدولة الأمنية. ذلك التحالف الذي تخطى في هيمنته على البلاد، ونهبه لمقدراتها، كل ما يمكن أن يخطر في بال أي مواطن في أية دولة.

زياد اليوم رمزٌ لإعلان مرحلة جديدة، مرحلة يفترض أن تكون مختلفة على كل المستويات، وإن كانت مرحلة ارتبطت بموته، فهو في حياته لطالما كان رمزاً لإمكان، احتمال مرحلة مختلفة ضمن المراحل السائدة، بل حاول أن يرسم سياقاً مختلفاً عن السياقات المفروضة سواء بالحرب والاعتداءات والاحتلال والهجرة من ناحية، أو بالنهب والتسليع والاستهلاك والاستباحة والتعذيب من نواحٍ ثانية.