الأردن … أزمة تعليم مركّبة

الأردن … أزمة تعليم مركّبة

مع بداية كل عام دراسي، تتزايد شكاوى عائلات أردنية: “أين نضع أبناءنا؟”… لم يعد السؤال عن نوع المدرسة أو مستواها، بل عن مقعد شاغر في غرفة صفّية مكتظة أصلاً، والعائلات التي كانت تشعر بالرضا والاطمئنان على البيئة والعملية التعليمة في المجمل بإرسال أبنائها إلى مدرسة خاصة “معتبرة”، اضطر عديدون منها هذا العام إلى إلحاقهم بمدارس حكومية. وقد باتت الهجرة العكسية من التعليم الخاص إلى الحكومة تتزايد في السنوات الخمس الأخيرة، فيما تئنّ المدارس الحكومية أصلاً من ضغوط ومشكلات بنيوية وأكاديمية واضحة، في وقت بات التعليم الخاص رفاهية لأردنيين كثيرين، بسبب الأعباء الاقتصادية المتزايدة المعروفة. وأصبح هذا ضغطاً غير مسبوق على المدارس الحكومية (وخصوصاً في العاصمة عمّان)، بسبب النمو السكاني المتزايد فيها، ما اضطرّ الحكومات المتعاقبة إلى اللجوء إلى المباني المستأجرة التي تشكل 15% من إجمالي المدارس الحكومية في الأردن! والتي إن أردت تقييمها فإنها لا تتمتّع بمواصفات متوسّطة للمدارس في أفضل الأحوال: أغلبها بيوت سكنية متهالكة، في أحياء مزدحمة، بعضها بجانب شوارع خطرة، لا ساحات فيها ولا بيئة تعليمية صحية، وهنا كيف نطلب من طفل أن يحلم أو يبدع وهو محشور في غرفة صفية تضم 45 طالباً، بلا مساحة للتفكير ولا حتى للحركة؟

تتحدّث الحكومة عن ضخ القطاع بمدارس جديدة بتمويل دولي، قروض ومنح ومبادرات مجتمعية، وهذا جهدٌ لا يُنكر، لكن الواقع يقول شيئاً آخر: ما زالت الفجوة كبيرة، وما زال الأهالي يشعرون بأن التعليم العام يفقد مكانته حاضنة للتنمية وصانعاً للفرص، رغم وجود أمثلة مشرقة في هذا القطاع، إلا أنها ليست متاحة لجميع الأردنيين، ولا حتى لجميع المناطق، وبخاصة التي تعاني من اكتظاظ في المدن الكبرى.

لا تقف المعضلة عند المباني، على أهميتها، بل عند ركن أساسي في العملية التعليمية؛ المعلّم الذي يئن تحت عبء ضعف الرواتب وثقل الروتين الإداري. تعكس مدارس الذكور تحديداً أزمة أعمق في السنوات الأخيرة، إذ أصبح التعليم مهنة طاردة للرجال بسبب تدنّي الرواتب، وغياب الحوافز، وثقل الأعباء الإدارية، مقابل فرصٍ أفضل في قطاعات أخرى، فالمعلمون يتركون المهنة بحثاً عن فرص أفضل، والنتيجة أن مدارس الذكور تعاني من نسب تسرّب عالية، وعنف متبادل، وتراجع خطير في التحصيل العلمي، وهو ما يفسّر قرار كثير من الأسر بإبقاء أبناءها الذكور في التعليم الخاص، بحثاً عن بيئة وليس عن تعليم أفضل فقط، والتضحية بفرص مماثلة لبناتها، بسبب التفوق النسبي لمدارس الإناث الحكومية من جهة الانضباط والتعليم والالتزام.

التعليم الحكومي ليس مجرد خدمة، إنه “الحصن الأخير” للمساواة الاجتماعية، ولا مجال للتفريط فيه

ومن هنا، جاء القرار أخيراً بتكليف معلماتٍ بتدريس الذكور في المراحل الأساسية خطوة واقعية وذكية، بل هو حل يمكن وصفه بأنه إسعافي، لكنها ليست حلاً جذريّاً يعالج أصل المشكلة: غياب استراتيجية تجعل التعليم مهنة جاذبة تقوم على التدريب المستمر، والتقدير الاجتماعي، والفرص المهنية الحقيقية، نحن بحاجةٍ إلى بيئة تجعل التعليم مهنة مرغوبة لا مهنة “اضطرارية”.

التعليم الخاص الذي يفترض أن يكون أكثر جودة، على الأقل في المنظور الأردني في العقود الثلاثة الأخيرة، وهو منظور دقيق في عدة مدارس خاصة تنافس الجامعات في جودة تعليمها، ولكن من المعروف لأي طبقة اجتماعية واقتصادية هي متاحة! إلا أنه يعاني، هو الآخر، من شروط عمل مجحفة بحق المعلمين: ساعات طويلة، ورواتب متدنّية، وغياب الضمانات، والعامل الأبرز الذي يجذب بعض الكفاءات إليه هو الحرية الإدارية ومرونة بيئة العمل مقارنة بـ البيروقراطية الثقيلة في التعليم الحكومي. تكشف هذه المقارنة أن المشكلة لا تتعلق فقط بالمال، بل أيضاً بالحوكمة والإدارة والقدرة على التحفيز.

أصبح التعليم مهنة طاردة للرجال بسبب تدنّي الرواتب، وغياب الحوافز، وثقل الأعباء الإدارية

في المقابل، قد يبدو التفكير في خصخصة التعليم الحكومي أو فتحه للاستثمار الخاص (كما تردّد أخيراً) حلاً سريعاً، لكنه، في الحقيقة، يخدم مصلحة جهات مستفيدة على أكثر من صعيد، ويجب الانتباه إلى ألّا تتعدّى هذه الفكرة أبواب الغرف المغلقة، فذلك بالتأكيد يهدّد بتقويض الركيزة الأساسية للتنمية الوطنية، فالتعليم، دستورياً وأخلاقياً، مسؤولية الدولة. ومن دون إصلاح جدّي للتعليم العام، يخاطر الأردن بفقدان إحدى أهم أدوات الصعود الاجتماعي والحراك الاقتصادي، ويترك أجياله المقبلة في مواجهة مستقبل أكثر قتامة.

يبدأ الحل بالاعتراف بأن المعلم، والمنهاج، والبيئة المدرسية هي أضلاع مثلث العملية التعليمية، أي خلل في أحدها كفيل بإفشال البقية. المطلوب اليوم ليس فقط زيادة عدد المدارس، بل إعادة الاعتبار لمهنة التعليم نفسها، والاستثمار في تدريب الكوادر وتأهيلها، وتخفيف الأعباء الإدارية عن المعلمين ليتفرّغوا لدورهم التربوي. وإصلاح التعليم لا يعني بناء مدارس جديدة أو ترميم القائم منها فقط، بل إعادة الاعتبار للمعلم، وإصلاح بيئة العمل، وتقليص الاكتظاظ الذي يقتل روح التعلّم، وكل تأجيل في هذا الملف هو رصاصة إضافية، لا سمح الله، في قلب الحلم الأردني بمستقبل أفضل لأجيال بأكملها.

كان الأردنيون يفاخرون دوماً باستثمارهم في تعليم أبنائهم على مستوى المنطقة، حتى لو اضطرّوا للاستدانة، اليوم، يواجهون خياراً قاسياً: التخلي عن هذا “الاستثمار” لصالح متطلبات الحياة الأساسية، وهنا الخطر: فالتعليم الحكومي ليس مجرد خدمة، إنه “الحصن الأخير” للمساواة الاجتماعية، ولا مجال للتفريط فيه.

دول عربية تشتعل… موجات الحر تهدد الاقتصاد والصحة

دول عربية تشتعل… موجات الحر تهدد الاقتصاد والصحة

تشهد دول عربية موجات حر استثنائية هذا الصيف، ما يعيد إلى الواجهة التحذيرات المتكررة التي أطلقتها مؤسسات دولية بشأن التداعيات الخطيرة للتغير المناخي على اقتصادات المنطقة وسكانها. ورغم أن التقرير الأخير الصادر عن منظمة الصحة العالمية والمنظمة العالمية للأرصاد الجوية تناول التحديات الصحية التي تواجه العمال حول العالم بسبب الحرارة الشديدة دون التطرق إلى مناطق بعينها، إلا أن ما ورد فيه يسلط الضوء على واقع العمالة في العالم العربي.

وأشار التقرير إلى أن “تغير المناخ يؤدي إلى موجات حر أكثر تواتراً وشدة، مما يؤثر على صحة العمال، خصوصاً اليدويين في قطاعات الزراعة والبناء ومصائد الأسماك”. كما نبّه إلى أن “موجات الحر المتزايدة تؤدي إلى مشاكل صحية للفئات الضعيفة في البلدان النامية، مثل الأطفال وكبار السن وذوي الدخل المحدود”. وأكد التقرير أن “العمل في الهواء الطلق أو في أماكن مغلقة معرض للحرارة الشديدة، ما يؤدي إلى انخفاض إنتاجية العمال بنسبة تتراوح بين 2 و3% لكل درجة حرارة تتجاوز 20 مئوية”.

وتدفع هذه التحذيرات إلى استحضار موجات الحر التي بدأت مبكراً هذا العام في المنطقة العربية، حيث سجلت درجات حرارة قياسية منذ نهاية إبريل/نيسان، مع ارتفاع ملحوظ في الرطوبة، ما يزيد من الضغط الليلي على السكان. ويعاني العديد من سكان المنطقة من عدم القدرة على توفير وسائل التبريد، ما يضاعف المخاطر الصحية، خاصة للعمال في الأماكن المكشوفة.

وكان تقرير للبنك الدولي قد أشار إلى أن ارتفاع درجات الحرارة وشح المياه وتراجع المحاصيل الزراعية وارتفاع مستوى البحر، هي من أبرز مظاهر التغير المناخي في العالم العربي. وتوقعت المؤسسة أن تتعرض موارد المياه الشحيحة لضغوط متزايدة، ما يهدد الأمن الغذائي وحياة السكان. كما رجّح التقرير انخفاض المحاصيل الزراعية في دول مثل الأردن ومصر وليبيا بنسبة تصل إلى 30% بحلول عام 2050، إذا ارتفعت درجات الحرارة بين 1.5 و درجتين مئويتين.

وتوقعت تقارير أخرى أن تشهد العواصم العربية موجات حر أشد عامًا بعد عام، ما يجعل المنطقة من أكثر المناطق عرضة لهذه الظاهرة مقارنة بباقي أنحاء العالم. وفي السياق ذاته، أشار صندوق النقد الدولي إلى أن الكوارث المناخية تخفض النمو الاقتصادي السنوي في المنطقة بما بين نقطة ونقطتين مئويتين على أساس نصيب الفرد، متوقعاً أن تصبح هذه الظواهر أكثر شدة وتكراراً.

وفي مقال مشترك، لاحظ مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي جهاد أزعور ومنسق العمل المناخي كريستوف دوينوالد أن درجات الحرارة في المنطقة ارتفعت 1.5 درجة مئوية خلال العقود الثلاثة الماضية، أي ضعف المعدل العالمي البالغ 0.7 درجة. وأشارا إلى أن “ارتفاع الحرارة بدرجة واحدة في خمس من أكثر الدول حرارة (البحرين، جيبوتي، موريتانيا، قطر، الإمارات) يؤدي إلى انخفاض فوري في نصيب الفرد من النمو الاقتصادي بنحو نقطتين مئويتين”.

كما أكدا أن “الاحترار العالمي يؤدي إلى تفاقم التصحر والإجهاد المائي وارتفاع مستويات البحار، ويجعل الأمطار أكثر تقلباً والكوارث المناخية أكثر تواتراً، بما يهدد حياة الناس وسبل عيشهم”. وخلصت دراسة لصندوق النقد الدولي إلى أن “الاضطرابات الاقتصادية الناتجة عن تغير المناخ لا تهدد الأمن الغذائي فحسب، بل تضعف أيضاً الصحة العامة، وتؤدي إلى تفاقم الفقر وعدم المساواة والنزوح وعدم الاستقرار السياسي وحتى الصراعات”.

وفي تصريح حديث، دق الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس ناقوس الخطر، قائلاً: “إذا كان هناك شيء يوحد عالمنا المنقسم، فهو أننا جميعًا نشعر بالحرارة المتزايدة. لقد أصبحت الأرض أكثر سخونة وخطورة على الجميع، ويجب علينا أن نرتقي إلى مستوى التحدي، ونُعزز حماية العمال، على أساس حقوق الإنسان”.