
أكثر من مليون غزي بلا خيارات: لا شبر متبقّياً لاستيعاب المهجرين
يعيش أهالي مدينة غزة والنازحون فيها حالة استثنائية من الحيرة والقلق الجماعي، بفعل إعلان الجيش الإسرائيلي أمس الجمعة مدينة غزة “منطقة قتال خطيرة” وأنه بدأ العمليات التمهيدية والمراحل الأولية للهجوم على المدينة مضيفاً أنه يعمل حالياً بقوة كبيرة على مشارف المدينة، ما يعيد إلى الأذهان سيناريو النزوح الأكبر بداية العدوان قبل 22 شهراً. وتبدو حركة الناس في شوارع مدينة غزة المهددة بالاقتحام بطيئة ومثقلة بالأسئلة، فلا أحد يعرف إلى أين يسير، ولا إلى أي جهة يمكن أن يتجه في حال بدأ الاجتياح البري الشامل للمدينة. وتحولت التهديدات الإسرائيلية إلى هاجس يومي يثقل صدور الأهالي، ويضعهم أمام سؤال وجودي “إلى أين يمكن أن نذهب بعد أن امتلأ الجنوب عن آخره؟”. الجنوب الذي كان يمثل لآلاف العائلات “الملاذ الأخير”، لم يعد يتسع لاستقبال أي أسرة جديدة، بعدما تعرضت رفح وخانيونس لدمار واسع، وتكدست مئات آلاف الأسر في أحياء مهدمة أو مخيمات نزوح مكتظة، ومع تهديد دير البلح والمناطق الوسطى بالقصف والاقتحام، تلاشت آخر المساحات التي كان الناس يأملون التوجه إليها.
لا مكان لنصب خيمة في غزة
وشهدت الأيام الأخيرة محاولات عائلات من مدينة غزة للنزوح نحو المحافظات الوسطى أو الجنوب، لكنهم اصطدموا بالواقع القاسي، لا مكان لنصب خيمة جديدة، ولا ساحة تتسع حتى لأسرة واحدة، البعض قضى ليالي في العراء أو على الطرقات، وآخرون اضطروا للعودة مجدداً إلى بيوتهم المهددة بالقصف، في مشهد يجسّد انسداد الأفق وانعدام البدائل. هذا الواقع فاقم مشاعر الرعب والضغط النفسي، إذ بات الغزيون يعيشون بين خيارين أحلاهما مر: البقاء تحت خطر الاحتلال والقصف في مدينة غزة، أو المحاولة المستحيلة للنزوح نحو مناطق لم تعد تتسع لأي قادم جديد، وبين هذين الخيارين، يعيش الناس في حالة انتظار خانق يختلط فيه الخوف من المستقبل مع العجز عن اتخاذ أي قرار آمن. وفي ظل استمرار الغارات والقصف على كل مكان، تزداد مخاوف السكان من أن يتحول النزوح القسري، إذا ما فرض، إلى مأساة مفتوحة بلا أفق، خصوصاً في وقت لم يعد فيه الجنوب سوى صورة أخرى من الجوع والاكتظاظ والموت البطيء.
سمية بدوي: هذه أول مرة أشعر بأن غزة تُدفع دفعاً نحو التهجير القسري
في السياق، تقول الفلسطينية سمية بدوي (42 عاماً)، وهي أم لخمسة أطفال، إنها أعدت بعض الحقائب الصغيرة حتى يكونوا جاهزين في أي لحظة، لكن الحقيقة أنها لا تعرف إلى أين ستذهب، وهو ما بات يشعرها بأنها وأسرتها باتوا بين فكي كماشة. وتضيف في حديثٍ لـ”العربي الجديد”: “حاولنا الأسبوع الماضي النزوح إلى (المنطقة) الوسطى، وعندما وصلنا إلى مشارف دير البلح اكتشفنا أن لا مكان، ولا حتى متراً واحداً لنضع خيمة فيها. الناس هناك يفترشون الشوارع والطرقات، عدنا إلى منطقتنا المهددة بالقصف وكأننا لم نفعل شيئاً”. وتضيف بدوي: “عشت كل جولات التصعيد السابقة، لكن هذه أول مرة أشعر بأن غزة تُدفع دفعاً نحو التهجير القسري، الجنوب لم يعد موجوداً، رفح وخانيونس أصبحتا أنقاضاً، والوسطى مهددة كل يوم بالقصف، لم يبقَ أمامنا سوى أن نعيش هنا وننتظر قدرنا”.
ولم يختلف الواقع كثيراً عند الفلسطيني أدهم السمري (33 عاماً) الذي نزح مرتين سابقاً من الشجاعية إلى مدارس غزة، حيث كان يأمل في كل نزوح أن يجد مكاناً جديداً أكثر أماناً، بينما لم يجد الآن أي مكان بعد امتلاء المدارس ومخيمات النزوح المعتمدة والعشوائية وحتى الطرقات والمفترقات. ويوضح السمري، في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، أنه بات يشعر بالرعب الحقيقي من كلمة “أخلوا مناطق سكنكم”، ليس لأنها جيدة أو تنعم بالخدمات والبنية التحتية التي جرى تدميرها بشكل كامل، وإنما لعدم توفر أماكن، حتى وإن كانت بلا خدمات “لا يوجد شبر واحد يمكنه استيعاب أسرة صغيرة”. ويشير السمري إلى أنه عاد من نزوح طويل في المحافظات الجنوبية، ذاق خلاله كل أصناف العذاب، ونزح مجدداً بعد عودته إلى مدينة غزة، ولا يزال يشعر بالعذاب ذاته بعد فقدان بيته، لكن الهاجس الأكبر يتمثل في معاودة النزوح نحو الجنوب، معتبراً أن صدور مثل هذا الأمر لا يمكن اعتباره سوى “حكم بالإعدام الجماعي”.
أما الفلسطيني عدي حبيب (28 عاماً) فيقول: “لم يبقَ لنا سوى الانتظار، نزحنا سابقاً إلى عدة أماكن، لكن لم نجد مكاناً حتى في الساحات، عدنا إلى بيتنا رغم أنه نصف مهدم”. ويلفت حبيب في حديثٍ لـ”العربي الجديد” إلى أن النزوح مجدداً في مثل هذه الظروف التي تنعدم فيها كل سبل الحياة ومقوماتها، إلى جانب انعدام وجود أماكن لاستقبال النازحين حتى وإن كانت أماكن بلا مقومات، يعني “التشرد في العراء، والنوم على الأرصفة أو بين الركام”. وتنتشر الأحاديث داخل البيوت والخيام عن الأخبار المتداولة باحتمال اجتياح المدينة، وكثير من الأسر تبيت بثياب جاهزة للنزوح، لكن من دون وجهة، البعض ينام بجانب حقائب صغيرة تحوي وثائق وأدوية وبعض الملابس، بينما يتناوب الكبار على طمأنة الصغار الذين يسألون: “وين رح نروح؟”.
أدهم السمري: لا يوجد شبر واحد يمكنه استيعاب أسرة صغيرة
مآسي المدينة
وبعد تدمير مدينتي رفح وخانيونس لم يعد أي متسع لاستقبال نازحين جدد، لدرجة أن بعض العائلات تسكن داخل هياكل مدمرة أو بين الركام، في الوقت الذي لم تعد المحافظات الوسطى آمنة ولا متاحة، فهي مهددة بالقصف والاقتحام، وتفتقر أصلاً لأي قدرة على استقبال مزيد من الأسر، في الوقت الذي يعيش أهالي مدينة غزة بين حيرة البقاء في مواجهة التهديد المباشر بالاحتلال أو البحث عن ملاذ غير موجود. حول ذلك، يقول الباحث السياسي جميل مازن شقورة لـ”العربي الجديد” إن سياسات جيش الاحتلال على الأرض من خلال التطويق والتدمير الممنهج، تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع الميداني في القطاع، لا سيما مدينة غزة، من خلال خلق ظروف معيشية غير قابلة للاستدامة، ما يؤدي فعلياً إلى تفريغ مناطق واسعة من سكانها ومن ثم احتلالها.
ويحذّر من أن ما يفعله الاحتلال يهدف إلى التهجير القسري، لكنه يغلف هذا الأمر بمصطلح الهجرة الطوعية من خلال ما يقوم به وما يآذاره على الأرض. وينبّه كذلك إلى أن ذلك بات سياسة متعمدة، وليست نتيجة اعتباطية للحرب، إذ اعتبر إيلي باخر، المستشار القانوني السابق لجهاز الشاباك، أن الحرب تجاوزت أهدافها العسكرية لتصبح أداة سياسية لإفراغ غزة تدريجياً من سكانها، تمهيداً لمشاريع ضم واستيطان مستقبلية، وهو ما يصفه بـ”خطة الحسم”. ويلفت شقورة إلى أنه في ظل غياب أي أفق واضح لإنهاء الحرب والحصار المفروض على مدينة غزة وتدمير المساحات المدنية، لم يعد المكان في غزة قابلاً لحياة السكان، وسيدفعهم الاحتلال بشتى الطرق للنزوح جنوباً من أجل تنفيذ مخططاته الرامية لاحتلال المدينة.