كمال جنبلاط زعيم سياسي لبناني تولى 3 وزارات دفعة واحدة

كمال جنبلاط زعيم سياسي لبناني تولى 3 وزارات دفعة واحدة

مفكر وسياسي وكاتب لبناني بارز وُلد عام 1917، دخل معترك الحياة السياسية في سن الـ25، وتمكّن من الفوز بمقعد في مجلس النواب اللبناني، عُرف بفكره الإصلاحي وجهوده في إرساء مبادئ العدالة الاجتماعية وتعزيز التنمية في لبنان بعد الاستقلال، وفي عام 1946 تولى في وقت واحد 3 حقائب وزارية هي: الاقتصاد الوطني، والزراعة، والشؤون الاجتماعية، لكن مسيرته انقطعت باغتياله في 16 آذار/آذار 1977 إثر عملية مسلحة وقعت في بلدة دير دوريت بوسط لبنان.

المولد والنشأة

وُلد كمال جنبلاط يوم 6 كانون الأول/كانون الأول 1917 في بلدة مختارة بجبل لبنان، وسط عائلة درزية عريقة ذات مكانة سياسية واجتماعية بارزة، فقد والده فؤاد جنبلاط إثر عملية اغتيال، فتولت والدته نظيرة جنبلاط رعايته وتعليمه، وكان لها أثر عميق في تكوين شخصيته ومساره.

نشأ في كنف عائلة صغيرة، كان له شقيقتان: ليلى التي رحلت مبكرا في سن الرابعة بسبب الحمى، وليندا التي تزوجت من حكمت جنبلاط قبل أن تُغتال في منزلها بالعاصمة اللبنانية بيروت يوم 27 أيار/أيار 1976.

عام 1948 تزوج كمال جنبلاط من مي أرسلان ابنة الأمير شكيب أرسلان، والتي عُرفت بثقافتها الواسعة، ورُزقا بعد عام بابنهما الوحيد وليد.

الدراسة والتكوين

تلقى تعليمه على يد المربية الخاصة ماري غريب، وهي خريجة مدرسة كاثوليكية من بلدة الدامور، ثم التحق بمدرسة عينطورة في كسروان، والتي درس فيها طلاب من مختلف المناطق والطوائف، وهناك لمع نبوغه فاشتهر بتفوقه الأكاديمي وحبه للمطالعة، ووفقا لشهادات زملائه وأساتذته فقد كان يواصل القراءة على ضوء الشموع بعد انطفاء المصابيح.

كانت عائلته ميسورة، وعُرف بسخائه وحسه الاجتماعي، إذ كان يخصص -سرا- جزءا من مصروفه لمساعدة زملائه الفقراء في تغطية نفقات دراستهم، وظنت والدته أنه كان ينفق المال على رفاهيته، لكنها سرعان ما اكتشفت مبادرته الإنسانية، فزاد اعتزازها به.

وإلى جانب دراسته اهتم منذ صغره بالقضايا القومية، ففي عام 1936 تقدم إلى إدارة المدرسة مطالبا باعتبار يوم استقلال مصر عطلة رسمية تكريما لأول دولة عربية تتحرر من الاستعمار البريطاني، وقوبل طلبه حينها بالموافقة.

تميز جنبلاط بقدرات لغوية لافتة، فقد أتقن اللغات العربية والفرنسية والإنجليزية، كما كان ملما باللغات الهندية واللاتينية والإسبانية والإيطالية.

بعد إنهائه الدراسة الثانوية كان كمال جنبلاط ميالا إلى دراسة الهندسة لانسجامها مع اهتماماته العلمية، لكن والدته رغبت في أن يسلك طريق القانون، ليواصل نهج العائلة السياسي العريق المرتبط بزعامة الطائفة الدرزية.

إعلان

استجاب لرغبتها فسافر إلى العاصمة الفرنسية باريس، حيث التحق بجامعة السوربون لدراسة الحقوق، وفي الوقت نفسه تابع مقررات في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع، مما أسهم في بلورة رؤيته الفكرية المتنوعة.

Walid Jumblatt, the former leader of Lebanon's Progressive Socialist Party (PSP), attends a ceremony marking the 48th anniversary of his father Kamal Jumblatt's assassination, at the El-Moukhtara palace in Lebanon's Shouf mountains on آذار 16, 2025. (Photo by Fadel ITANI / AFP)
وليد جنبلاط الابن الوحيد لكمال جنبلاط (الفرنسية)

ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية اضطر للعودة إلى لبنان واستكمل دراسته في الجامعة اليسوعية ببيروت، انعكست ظروف الحرب على الحياة المعيشية في البلاد، إذ عانى اللبنانيون من نقص حاد في المواد الغذائية وارتفاع كبير في الأسعار، الأمر الذي دفعه إلى التحرك من أجل مواجهة هذا الوضع.

أسس كمال جنبلاط مع مجموعة من زملائه جمعية تعاونية استهلاكية عملت على استيراد القمح من منطقة حوران السورية وتوزيعه على القرى اللبنانية بسعر التكلفة، وهي مبادرة حظيت بترحيب واسع بين الأهالي.

التجربة السياسية

كان جنبلاط في الـ25 من عمره حين خاض انتخابات مجلس النواب اللبناني عام 1943 وفاز بمقعده البرلماني، معلنا دخوله الرسمي إلى الساحة السياسية.

وفي خطابه الأول تحت قبة البرلمان أكد دعمه المطلق لاستقلال لبنان كله، داعيا إلى وحدة الجهود بين الشعب والحكومة لتحقيقه.

وعقب استقلال لبنان عن الانتداب الفرنسي في العام نفسه بدأ جنبلاط يتابع أداء الحكومات الجديدة، مركزا على قضايا التنمية والإصلاح الاجتماعي، لكن ضعف الإدارة وغياب التوجهات الشعبية الداعمة للتغيير سرعان ما دفعاه إلى الانتقال من موقع الموالاة إلى صفوف المعارضة، متخذا مواقف ناقدة للسلطة.

وفي عام 1946 شارك كمال جنبلاط مع عدد من الشخصيات السياسية البارزة في توقيع عريضة وُجهت إلى رئيس الجمهورية بشارة الخوري دعت فيها إلى تشكيل حكومة من شخصيات مشهود لها بالنزاهة والكفاءة، لحماية استقلال البلاد الذي اعتبرته مهددا بالضياع.

ومع نهاية العام شُكّلت حكومة جديدة أسندت إليه فيها 3 حقائب وزارية دفعة واحدة: الاقتصاد الوطني والزراعة والشؤون الاجتماعية في أول تجربة وزارية له.

Late Lebanese Druze leader Kamal Jumblatt of the Progressive Socialist Party, confers with his fighters in the montainous Chouf region during the lebanese internal strifein Lebanon after failing to win in a Parliamentary elections and seized control of Chouf region. He then tried to violently unite Lebanon with Syria and Egypt to make one country. The revolt was quickly put down. By 1975, he had become the leader of the National Movement whose members fought alongside Palestinian fighters against lebanese christian forces. He was assasinated by alleged Syrian agents 16 march 1977. He was the father of the current lebanese pro-independence opposition leader Walid Jumblatt. AFP PHOTO
كمال جنبلاط (وسط) أثناء مشاوراته مع مقاتليه في منطقة الشوف الجبلية إثر الاضطرابات الداخلية في لبنان (الفرنسية)

في الفترة التي تولى فيها تلك المناصب خاض معركة شرسة ضد الفساد الإداري، ووصل به الأمر إلى التنكر لزيارة المرافق الحكومية والجمارك بنفسه لكشف التجاوزات، لكن تجربته أظهرت له أن الفساد عميق ومتجذر، وأن معالجته تحتاج إلى إصلاحات جذرية لا تقتصر على ملاحقة فردية، مما دفعه إلى تقديم استقالته.

أحدثت تلك الاستقالة توترا حادا في علاقته بالرئيس بشارة الخوري، وبلغ الخلاف بينهما ذروته في مهرجان دير القمر التاريخي الذي مثّل محطة حاسمة أسهمت في نهاية عهد الخوري وسقوطه عام 1952.

الحزب التقدمي الاشتراكي

بين عامي 1947 و1949 عمل كمال جنبلاط مع نخبة من المفكرين والسياسيين اللبنانيين -من بينهم فؤاد رزق وعبد الله الحاج وسعيد فريحة وأنور الفطايري- على صياغة الأسس الفكرية والبرنامج السياسي لمشروع جديد تمخض عن تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي الذي وضع جنبلاط بنفسه مبادئه ورؤيته.

وفي الأول من أيار/أيار 1949 أعلن رسميا عن تأسيس الحزب، وألقى جنبلاط خطابا أمام العمال والفلاحين وأصحاب الحرف قال فيه “في يوم العمال، بين الفلاحين والصناع وأرباب الحرف القابضين بأيديهم على القوى الكامنة في الشعب نعلن عن ولادة الحزب التقدمي الاشتراكي، نعم سيكون لنا أعداء، لكنهم أيضا أعداء التقدم والتطور والحياة الإنسانية الشريفة”.

Egyptian President Anwar Sadat (L) meets with Lebanese leftist political leader Kamal Jumblatt (R), 29 أيلول 1976, during a ceremony to mark the 6th anniversary of the death of former Egyptian President Gamal Abdel Nasser. (Photo by AFP)
كمال جنبلاط (يمين) أثناء لقائه الرئيس المصري أنور السادات عام 1976 (الفرنسية)

لكن انطلاقة الحزب واجهت منذ بداياتها تحديات صعبة فرضها الواقع اللبناني القائم على التنوع الطائفي وضعف الانتماء الوطني والقومي، ولمواجهة ذلك بادر جنبلاط عام 1951 إلى تأسيس الجبهة الاشتراكية التي جمعت قوى اليسار والقوميين والتقدميين في إطار واحد.

إعلان

ومع وصول الرئيس كميل شمعون إلى الحكم اتخذ جنبلاط موقع المعارضة، معتبرا سياساته رجعية ومعادية للعروبة، خصوصا مع سعي شمعون إلى ربط لبنان بالولايات المتحدة والغرب وحتى إسرائيل، في مواجهة مشروع القومية العربية بقيادة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.

وتصاعد الخلاف إلى ذروته في “أزمة 1958” حين اندلعت مواجهة مسلحة محدودة بين أنصار شمعون ومعارضيه، وقف جنبلاط في صف التيار القومي، وكان له دور أساسي في تقويض سياسات شمعون والمساهمة في سقوطه، ليُنتخب فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية في العام نفسه.

الدور الإصلاحي

تولى كمال جنبلاط وزارة التربية الوطنية في عهد الرئيس فؤاد شهاب، وعمل في تلك الفترة على إنشاء مدارس ثانوية في المناطق المهمشة، من ضمنها منطقة البقاع والجنوب والشمال اللبناني.

ولاحقا، تولى وزارة الداخلية في عهد الرئيس شارل الحلو، وسعى إلى تعزيز علاقة لبنان بمنظمة التحرير الفلسطينية، وحماية اللاجئين الفلسطينيين من أي اعتداء.

وبرز موقفه الإنساني والسياسي اللافت بعد نكبة 1948، إذ وزع مساحات واسعة من أراضيه الخاصة -بما فيها منطقة تل الزعتر- على اللاجئين الفلسطينيين، كما حدد أهدافه الإصلاحية أثناء توليه الحقائب الوزارية في ما يلي:

  • فصل القوى العسكرية عن الأجهزة الأمنية.
  • ضمان حرية التظاهر وتشكيل الأحزاب.
  • دعم المقاومة الفلسطينية بمختلف فصائلها.
  • إطلاق سراح المعتقلين السياسيين.
  • رفع الرقابة الأمنية ومنح حرية السفر.

ومع انتخاب سليمان فرنجية رئيسا للجمهورية عام 1971 أبدى جنبلاط في البداية دعمه للعهد الجديد، خصوصا فيما يتعلق بالحريات العامة والإصلاحات الاجتماعية، مثل تحسين الضمان الصحي وتخفيف الرقابة الأمنية.

لكنه اعترض بشدة على محاولات فرنجية إلغاء أو تفكيك المؤسسات التي أُنشئت في عهد فؤاد شهاب، والتي كان هدفها تحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد.

تفاقمت الخلافات بينهما بعد صدامات عام 1973 بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية إثر عملية اغتيال إسرائيلية على الشواطئ اللبنانية استهدفت قيادات بارزة، منها كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار.

رفض كمال جنبلاط حينها استخدام الجيش ضد المقاومة الفلسطينية، مؤكدا حقها في الوجود والعمل داخل لبنان.

Kamal Jumblatt (C), one of the main leaders of the anti-government forces, belongs to the Druze religious community. (Photo by Philippe Buffon/Sygma via Getty Images)
كمال جنبلاط (وسط) دعم فصائل المقاومة الفلسطينية ودافع عن حقها في العمل من لبنان (غيتي)

ومع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 عقب حادثة عين الرمانة برز جنبلاط زعيما للحركة الوطنية اللبنانية، وطرح برنامجا سياسيا إصلاحيا، داعيا إلى وقف إطلاق النار.

المؤلفات

أصدر جنبلاط عددا من الكتب التي تناولت قضايا سياسية واجتماعية وإنسانية عدة، أبرزها:

  • حقيقة الثورة اللبنانية.
  • في مجرى السياسة اللبنانية عام 1958.
  • لبنان وحرب التسوية.
  • ثورة في عالم الإنسانية.
  • أدب الحياة.
  • هذه وصيتي.
  • حقيقة الفكرة القومية السورية.
  • ربع قرن من النضال.
  • التوحيد في ضوء البحث والتنقيب.
  • الإنسان والحضارة.
  • رسالتي العدالة الإنسانية.
Portrait de Kamal Joumblatt, leader socialiste musulman, le 22 septembre 1975 à Beyrouth, Liban. (Photo by Michel GINFRAY/Gamma-Rapho via Getty Images)
كمال جنبلاط اغتيل يوم 16 آذار/آذار 1977 بعد تعرضه لكمين مسلح في منطقة دير دوريت بجبل لبنان (غيتي)

الاغتيال

صباح يوم 16 آذار/آذار 1977 تعرّض كمال جنبلاط لكمين مسلح في منطقة دير دوريت بجبل لبنان أثناء توجهه من بلدة بعقلين إلى كفرحيم.

حينها أُطلق عليه وابل من الرصاص أرداه قتيلا فورا عن عمر ناهز 59 عاما، كما قُتل سائقه وأحد مرافقيه، وشكّل اغتياله صدمة كبيرة على المستويات المحلية والعربية والدولية.

واعتُبرت عملية الاغتيال محطة مفصلية في مسار الحرب الأهلية اللبنانية وفي توازن القوى في البلاد، وفورا أعلنت القوات السورية والعربية العاملة ضمن قوات الردع العربي حالة استنفار تحسبا لأي تطورات أمنية.

وفي العاصمة المصرية القاهرة وصف رئيس منظمة التحرير الفلسطينية يومها ياسر عرفات اغتيال جنبلاط بـ”المأساة”، مشيدا بدوره السياسي والعسكري الكبير، قائلا إنه كان بمثابة “جيش يقاتل إلى جانب المقاومة”.

إعلان
عبد الوهاب الشواف ضابط عراقي واجه عبد الكريم قاسم

عبد الوهاب الشواف ضابط عراقي واجه عبد الكريم قاسم

عبد الوهاب الشواف قائد وضابط عسكري عراقي بارز، ولد عام 1916 في العاصمة بغداد. انضم إلى تنظيم الضباط الأحرار في 1953. قاد انقلاب الموصل عام 1959 ضد حكومة عبد الكريم قاسم، واغتيل في 9 آذار/آذار من العام نفسه.

المولد والنشأة

ولد عبد الوهاب بن عبد الملك بن طه بن عبد الرزاق الشواف عام 1916 في العاصمة العراقية بغداد. ونشأ وسط عائلة تنحدر من جزيرة ابن عمر وتنتمي إلى قبيلة قيس الكبيسية، إحدى أعرق العشائر العربية العراقية.

استقرت عائلته في قرية كبيسة في محافظة الأنبار غربي العراق، ثم انتقلت إلى بغداد. كان والده فقيها وعمل قاضيا.

تزخر عائلته بكوكبة من علماء الدين والسياسيين والأدباء والناظمين، ومن بينهم طه الشواف وخالد الشواف وعبد الفتاح الشواف وأحمد الشواف.

الدراسة والتكوين العلمي

تلقى عبد الوهاب تعليمه الابتدائي والإعدادي في مدارس بغداد، ثم التحق بعد ذلك بالكلية العسكرية وتخرج فيها برتبة ملازم.

واصل دراسته العسكرية في كلية الأركان العراقية وحصل على شهادة ركن العليا، مُنحت له لتميزه في العلوم العسكرية والتكتيك والقيادة.

أُرسل عام 1952 في بعثة عسكرية إلى المملكة المتحدة وانتسب إلى كلية الضباط الأقدمين، حيث أحرز تفوقا أكاديميا وانضباطا ملحوظا.

التجربة العسكرية

بعد عودته إلى العراق انضم الشواف إلى تنظيم الضباط الأحرار عام 1953، وأصبح من أبرز أعضائه الفاعلين. ومع تزايد نفوذه داخل التنظيم، بدأ الضابطان عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف التنسيق مع عدد من القيادات والإعداد لثورة تهدف إلى إسقاط النظام الملكي بقيادة الملك فيصل الثاني وإقامة نظام جمهوري.

بيد أن الشواف لم يكن على وفاق مع توجهات قاسم وعارف، خاصة فيما يتعلق بمستقبل الحكم، ونوع الإصلاحات المنشودة، والموقف من الوحدة والقومية العربية، التي عارضها بشدة.

شهدت الاجتماعات التي سبقت ثورة 14 تموز/تموز 1958 نقاشات محتدمة، عبّر فيها الشواف عن رفضه القاطع للثورة، خصوصا بعد علمه أن قرار تنفيذها اتُّخذ دون مشاورته.

عبد الوهاب الشواف
عبد الوهاب الشواف تولى قيادة اللواء الخامس في مدينة الموصل عام 1958 (الجزيرة)

في 10 تموز/تموز 1958 توجه الشواف إلى النادي العسكري وأعلن اعتراضه، كما أجرى اتصالات مع عدد من القادة، من بينهم العقيد عبد اللطيف الدراجي، محاولا إيقاف تنفيذ العملية، لكن جهوده لم تلقَ استجابة.

إعلان

وفي الليلة التالية التقى بالعقيد رفعت الحاج سري في محاولة أخيرة لإقناع عبد السلام عارف بالعدول عن “تفجير الثورة”، غير أن رفعت أبلغه أن الوقت قد فات، وأن الترتيبات مع الركن محي الدين عبد الحميد اكتملت، وأن واجب قادة التنظيم هو دعم العملية لا وقفها.

وبعد نجاح الانقلاب في 14 تموز/تموز، وسقوط النظام الملكي، وحدوث ما عرفت بـ”مجزرة قصر الرحاب” التي قتل فيها أفراد العائلة المالكة، تصاعد التوتر والصراع بين التيارين القومي والشيوعي على السلطة.

وفي إطار توزيع المناصب، طُرح اسم عبد الوهاب الشواف لتولي قيادة اللواء الخامس عشر لحماية البصرة، إلا أن عبد السلام عارف رفض ذلك، وأصبح الشواف قائدا للواء الخامس في الموصل بدلا من البصرة.

أثار هذا التغيير غضب الشواف، ودفعه إلى المطالبة بتشكيل مجلس قيادة الثورة، غير أن عبد السلام عارف رفض الفكرة قبيل تنفيذ الانقلاب.

من مواقع التواصل الاجتماعي - الى اليمين عبد الكريم قاسم وإلى اليسار عبد السلام عارف
عبد الكريم قاسم (يمين) وعبد السلام عارف (مواقع التواصل)

توترات داخلية

كان لتنظيم الضباط الأحرار في البداية رؤية إستراتيجية وهدف موحد، وما إن استلم الشواف السلطة حتى انقسم التنظيم إلى شطرين، أحدهما مناصر للوحدة العربية والاتحاد مع الجمهورية العربية المتحدة، التي كانت تضم سوريا ومصر بقيادة جمال عبد الناصر، والآخر مناهض لها.

كان عبد السلام عارف رمزا من رموز القومية ومدافعا شرسا عنها إلى جانب عدد من الضباط، بدعم من حزبي البعث والاستقلال. أما عبد الكريم قاسم ومؤيدوه من الشيوعيين فكانوا مناصرين لفكرة الهوية الوطنية العراقية على حساب القومية.

مهرجان أنصار السلام

بعد تسلم الشواف قيادة الموصل واللواء الخامس، وضعت السلطات في أواخر عام 1958 خطة حددت فيها واجبات كل وحدة من وحدات الأمن لتحصين المدينة في حال حدوث مظاهرات أو حدث يهدد أمنها.

مع تصاعد التوتر السياسي في العراق، بادر أنصار التيار الشيوعي إلى تنظيم سلسلة مؤتمرات شعبية وفعاليات جماهيرية امتدت إلى عدد من المدن، تحت مسمى “منظمة أنصار السلام”.

واستضافت مدينة الموصل أول مؤتمر لها في 19 تشرين الثاني/تشرين الثاني 1958، تخللته مظاهرات وخطابات وقصائد رفع المشاركون فيها شعارات حادة النبرة.

وفي المقابل، تحرك قادة حزب البعث العربي الاشتراكي بالتنسيق مع القوى القومية في الموصل للرد على هذه الأنشطة عبر فعالية موازية أطلقوا عليها اسم “مهرجان السلام”.

عقب اطلاعه على خبر الفعالية، أبدى الشواف قلقا شديدا من انعكاساتها واعتبرها استفزازا مباشرا، لا سيما أن مدينة الموصل كانت تعيش وضعا حساسا على المستويين السياسي والطائفي، مما جعل احتمال اندلاع مواجهات بين الشيوعيين من جهة، والقوميين والإسلاميين من جهة أخرى أمرا واردا.

ولتفادي التصعيد، رفع الشواف طلبا رسميا إلى الحكومة في بغداد وإلى كبار الضباط في أربيل يدعو فيه إلى إلغاء الفعالية أو تأجيلها، غير أن عبد الكريم قاسم -القائد الفعلي للدولة آنذاك- رفض ذلك، بل أصر على المضي فيها ودعمها بشكل أوسع.

افتُتح المهرجان في 6 آذار/آذار 1959، لكنه توقّف مبكرا بسبب سوء الأحوال الجوية، ورغم قصر مدته فقد كان كافيا لتأجيج التوتر وزيادة تعقيد المشهد السياسي والأمني في الموصل.

إعلان

وفي اليوم التالي اندلعت اشتباكات في شوارع المدينة بين الشيوعيين والقوميين، الأمر الذي استدعى تدخل الجيش لفرض السيطرة وإعلان حالة الطوارئ وحظر التجوال، وانطلقت بذلك الشرارة الأولى لمحاولة انقلاب جديدة.

محاولة انقلاب الشواف

اعتبر الشواف أن عبد السلام عارف وعبد الكريم قاسم قد “انحرفا عن مبادئ ثورة 1958 ونقضا وعودهما”، فاقترح على طاهر يحيى وعبد اللطيف الدراجـي ورفعت الحاج سري تنفيذ “حركة تصحيحية تعيد الثورة إلى مسارها الصحيح” عبر إقصاء عارف وقاسم.

وفي 8 آذار/آذار 1959، بثت إذاعة الموصل المحلية بيان انقلاب الشواف، والذي طالب فيه عبد الكريم قاسم بالتنحي عن الحكم، معلنا رسميا انطلاق عملية إسقاط النظام.

ولإضفاء شرعية وطنية على تحركه، عمل الشواف على تعبئة الرأي العام ضد ما وصفه بـ”الشيوعية والديكتاتورية”، فطبع آلاف النسخ من بيانه ووزعها في شوارع الموصل ومحيطها، سعيا لحشد التأييد الشعبي وتحويل الانقلاب إلى حركة جماهيرية واسعة.

الاغتيال

جاء رد حكومة بغداد على انقلاب الشواف سريعا وحاسما، إذ أدرك رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم أن الأمر يتجاوز حدود تمرد محلي ليشكل “مؤامرة قومية ذات امتدادات إقليمية”، خصوصا بعد تلقي الشواف دعما من البعثيين في القاهرة ودمشق.

وفي 9 آذار/آذار 1959، أصدر قاسم أوامر بإرسال سرب من الطائرات الحربية لقصف معسكر الغزلاني ومواقع الشواف ووحداته العسكرية، ما أسفر عن مقتل الشواف على الفور.

عقب ذلك، شنت السلطات حملة اعتقالات واسعة استهدفت الناشطين القوميين في مختلف المدن والمحافظات لمنع انتشار التمرد، تلتها عمليات قمع دامية في الموصل ضد أنصار الشواف، انتهت بمجزرة أودت بحياة الآلاف.