معاييرنا ومعاييرهم

معاييرنا ومعاييرهم

منذ 7 تشرين الأول (2023)، والعالم لا يتوقّف عن عدّ الضحايا في غزّة، كما لو أن الأرقام تكفي لتفسير ما يجري. شاشات التلفزة والبيانات السياسية والتقارير الحقوقية، جميعها تصرّ على اختزال المأساة في لغة الأعداد: كم استشهد، وكم جُرح، وكم فقد بيته. لكن هذه اللغة، مهما بدت إنسانية أو موضوعية، تظلّ قاصرة عن الإمساك بجوهر التجربة الفلسطينية، فالمسألة ليست حساباً رياضيّاً بارداً بين ربح وخسارة، بل معادلة أعمق بكثير، معادلة يتقنها أي مسلم حقيقي منذ وعى أن الحياة ليست الغاية في ذاتها، وأن الكرامة لا تُقايض بالنجاة، وأن النصر في ميزان الإيمان يساوي الشهادة بالضبط.

حين يتحدّث بعضهم عن “الخسائر البشرية”، فإنهم يكشفون، من حيث لا يشعرون، عن انتمائهم إلى معايير قياس مستوردة، تنظر إلى الجسد باعتباره نهاية كل شيء. بالنسبة إلى هؤلاء، الموت يعني الخسارة المطلقة، والبقاء يعني المكسب الأكيد. غير أن هذا المنطق الذي تأسّس في العقل الغربي الحديث ليس هو المنطق الذي يحكم الوعي الإسلامي في لحظة الصراع، فالمسلم الذي يختار طريق المقاومة لا يضع نفسَه أمام خيار النجاة بأي ثمن، بل أمام خيارين متكافئين في القيمة: النصر أو الشهادة. كلاهما في نظره انتصار، لأن كليْهما يحفظ المعنى الأكبر، معنى الحرّية والكرامة، ويمنع الهزيمة من التسلّل إلى الروح، حتى وإن فرضت على الجسد.

ليست هذه الرؤية رومانسية كما يظن كثيرون، بل هي جوهرية لفهم ما يجري على الأرض، فالمجتمعات التي تتعرّض للإبادة، لكنها تواصل المقاومة، لا تفعل ذلك انطلاقاً من حساباتٍ سياسيةٍ باردة، بل لأنها تؤمن أن الموت في سبيل الدفاع عن الحق ليس خسارة، بل تحرّراً من الذل. من هنا نفهم كيف يخرج الغزّيون كل يوم إلى الحياة وهم يعرفون أنهم محاصرون بالموت، ومع ذلك يواصلون العيش، يواصلون الدفاع، يواصلون الحلم. لا يمكن تفسير ذلك بالبراغماتية، بل بالمعنى الذي استقرّ في وجدانهم: إمّا أن يعيش المرء حرّاً مرفوع الرأس أو أن يموت شهيداً محتفظاً بكرامته.

محاولة فهم غزّة بمفردات “الخسائر” وحدها أشبه بالنظر إلى لوحةٍ من زاويةٍ ضيقةٍ لا تُظهر ألوانها ولا عمقها. من يريد أن يقرأ غزّة حقاً، عليه أن يفهم أن “الخسارة” عندها لا تعني ما تعنيه في القاموس الغربي. الخسارة الحقيقية عندهم هي الاستسلام، هي قبول الحياة تحت ظلال الذل. أما الموت في سبيل الحق فهو الوجه الآخر للنصر، لا نقيضه. وهذا ما يجعل العالم في حيرة؛ كيف يمكن لشعبٍ يدفن أبناءه يوميّاً أن يظلّ متمسكاً بإرادته؟ كيف لا ينهار تحت هذا الركام؟ الجواب بسيط بقدر ما هو عميق؛ لأنه يقرأ المعادلة بمعيارٍ آخر لا يعرفه الغرب، ولا يريد أن يفهمه.

ربما تبدو هذه الفكرة صادمةً للذهنية التي اعتادت قياس كل شيء بمقياس المصلحة المادية. لكن التاريخ نفسه يقدّم أمثلةً لا تحصى على شعوب قاومت الاحتلال والإبادة بإيمانها بقيمة الشهادة. بل إن قيماً كثيرة يفاخر بها الغرب اليوم عن الحرّية والعدالة وحق تقرير المصير، وُلدت من رحم تضحياتٍ كهذه. ما يختلف في التجربة الفلسطينية أنها تستند إلى عقيدةٍ ترى أن الموت في سبيل الدفاع عن الحقّ لا يساوي الفناء، بل يساوي الحياة الأبدية. ومن هنا نفهم كيف يتحوّل القبر إلى منبر، وكيف يصبح الدم لغةً تستعصي على المحو.

المشكلة الكبرى أن كثيرين منا باتوا يقيسون الأمور بمقاييس الآخر. صاروا يتحدّثون عن غزّة كما لو كانت مجرّد ملف إنساني يحتاج تضامناً، لا كقضية تحرّر تتجاوز حدود المكان. صاروا يتبنّون مفردات الإعلام الغربي من دون وعي، يردّدونها ببراءة أو بسطحية؛ “الخسائر البشرية”، “تكلفة الحرب”، “الضحايا المدنيون”، بينما ينسون أن وراء كل كلمة ذاكرة كاملة من المعاني المغايرة. ينسون أن هذه المفردات صُممت لتُدخلنا في لعبة أرقامٍ بلا روح، لعبة تنزع عن الدم دلالته، وتحوّل المقاومة إلى مأساة محضة. ولكن الوعي الجمعي الفلسطيني ما زال يرفض هذه اللعبة. يرفض أن تُختزل قصته في أرقام، أو أن يُقاس نضالُه بمسطرة غريبة عنه. إنه يقول، بوضوح؛ إننا لسنا مجبرين على تبنّي معاييركم، ولسنا مرغمين على رؤية الموت كما تروْنه. لنا معاييرنا التي صيغت بدماء شهدائنا، لنا منطقنا الذي يرفض أن يجعل الحياة غايةً بحد ذاتها. حياتنا كرامة، فإن سُلبت الكرامة، لم تعد للحياة معنى.

هكذا يُدرك المرء أن غزّة لا تُهزم. لأن الهزيمة تفترض أن يقبل المرء الذلّ خياراً، بينما يرفض الغزّيون هذا الخيار حتى وهم تحت الركام. يخرُجون من بين الأنقاض ليقولوا؛ نحن على قيد الحياة لأننا لم نستسلم. وحتى حين يستشهد أبناؤهم، يردّدون أنهم لم يخسروا، بل ربحوا المعنى الأكبر. هذه المعادلة التي لا يفهمها الغرب الأبيض، ولا يريد كثيرون أن يروها؛ أن النصر ليس مجرّد بقاء، بل أن تظلّ واقفاً أمام الطغيان، حتى وإن خرّ جسدك أرضاً.

“فاطمة الهواري” وأسئلة القاتل والضحية

“فاطمة الهواري” وأسئلة القاتل والضحية

تواجه فاطمة الهواري الجمهور، وهي تروي تفاصيل يوم الثامن والعشرين من تشرين الأول/ تشرين الأول 1948، حين قصف طيران العدو بلدتها ترشيحا في الجليل الفلسطيني، وتسقط بعد مقاومةٍ شرسة استمرت لأكثر من عشرة أشهر، بينما يقف في الخلف الطيار الإسرائيلي آبي ناتان الذي شارك في المعركة، يروي التفاصيل ذاتها من موقع العدو حتّى لحظة احتلال ترشيحا.

مشهدٌ أساسي في مسرحية “فاطمة الهواري.. لا تصالح” للمخرج غنام غنام، التي عُرضت أول أمس في ساحة مسرح أسامة المشيني في عمّان، في ختام الدورة الرابعة من مهرجان الرحالة الدولي للفضاءات المغايرة، التي استمرت لخمسة أيام.

الممثلان التونسية أماني بلعج والأردني أحمد العمري يؤديان وقائع قصة حقيقية جرى تقديمها سابقاً في فيلم “عروس الجليل” (2006) لباسل طنوس، لكن الأحداث تُختصر على الخشبة لتبدأ من نهايتها، في اللقاء الذي جمَع الجلّاد بالضحية؛ الأول أتى ليعتذر عن جرائمه بحضور إعلام غربي وينتهي شعوره بالذنب بوصفه داعية سلام، بينما تستدعي الثانية حكايتها منذ أن أصيبت بشلل في رجليها بينما كانت تستعد لحفل زفافها، وفقدت أغلب أفراد عائلتها، وبقيت على كرسي العجلات أربعة وخمسين عاماً، إلى أن جرى هذا اللقاء.

شخصيتان مركّبتان

يلجأ المخرج إلى البعد الرمزي المتمثل في رفض فاطمة اعتذار آبي ناتان، فلم تعد المسألة بالنسبة إليها شخصيةً رغم أن سلطات الاحتلال لم تمنحها حق العلاج، وكانت بحاجة إلى اعتذار عدوها الذي يعني الاعتراف بفعلته وتنال تعويضاتها وعلاجها، إذ كانت الرواية الإسرائيلية الرسمية تصرّ على أن ترشيحا قُصفت بطيران عربي. لكن فاطمة لم تؤمن بأن الجزاء عادل بعد أن ضاع وطن بأكمله، وهجّر معظم أبنائه قسراً، ولا يزال الكيان يقتل وينتهك ويتوسّع.

يلجأ المخرج إلى بعد رمزي متمثل في رفض فاطمة اعتذارعدوّها

في الجهة المقابلة، لا تبدو شخصية آبي ناتان مركبة على هذا النحو، وهو الذي حطّ بطائرته في مدينة بورسعيد المصرية عام 1966، داعياً عبد الناصر الذي لم يلتقه يوماً إلى السلام، ليعتقل بعد رجوعه إلى إسرائيل، ثم أسس إذاعة أسماها صوت السلام كانت تبثّ من البحر الأبيض المتوسط بدعم من جون لينون، التي تسخر منه فاطمة في العرض على طريقتها، فهي تحب سماع أغانيه إلّا أنها تمقت شراكته مع عدوها. ربما لم يهتمّ العمل بفهم تحولات آبي ناتان التي تعكس في جانب منها خوف القاتل وعجزه عن استيعاب ذاته التي نجت من محرقةٍ لتبيد شعباً وتحلّ مكانه وتطمس ذاكرته.

الشكل والمعالجة

لم يوظّف المخرج الإضاءة والديكور وشاشة العرض وغيرها من العناصر السينوغرافية  لصالح العرض الذي اعتمد أساساً على الحوار عبر سرد الحكاية للحاضرين الذين كلما اتضحت ملامحها أكثر لديهم زاد ثقلها في التلقي، وغدا التفاعل معها محصوراً في تتبع وقائعها وتسلسلها، بينما يمكن لأدوات أخرى أن تنوب عن الممثل، في تقديم دلالات موازية للحدث وتأثيره.

وينسحب الأمر على كمّ المعلومات والشخصيات والأحداث التي ترد على لسان الشخصيتين، سواء أسماء القادة العرب الذين قاتلوا في ترشيحا وعلى رأسهم اليمني مهدي صالح والسوري أديب الشيشكلي، وكذلك استحضار فصول القتال بين المقاومين وبين العصابات الصهيونية، وغيرها من المعطيات التاريخية التي يتطلّب تقديمها معالجة تكثّف الحوار/ الحدث لصالح عناصر مسرحية أخرى.

نهاية وسؤال

التزم العمل بمسار القصة كما جرت على أرض الواقع، والتي تبدو نهايتها الحقيقية بحصول فاطمة على حقها حين تقابل آبي ناتان مشلولاً عقب إصابته بجلطة دماغية، بما يظهر انحيازاً لقناعة غيبية تعفي القاتل من تحمّل كامل جرائمه، طالما نال الجزاء الفردي ذاته، وأصيب بما أصيبت به الضحية!

سؤال يُطرح في نهاية عرضٍ قدّم خارج المسابقة الرسمية للمهرجان الذي اشتمل برنامجه على عروض عربية عدّة منها “كل عار وأنت بخير” من تأليف وإخراج وتمثيل الأخوين ملص (سورية-فرنسا)، و”نبات” إخراج نجاة نجم وتأليف دلشاد مصطفى (العراق-فرنسا)، و”اغتراب” من إخراج انتصار عيساوي وتأليف وليد الدغسني (تونس).