عصابات تآذار جريمة الإخفاء القسري “بتواطؤ رسمي” في المكسيك

عصابات تآذار جريمة الإخفاء القسري “بتواطؤ رسمي” في المكسيك

لا تزال قضية المفقودين قسراً بالمكسيك جرحاً يؤرق قلوب العائلات اللاهثة خلف مصيرٍ مجهول، وسط مزاعم بتواطؤ الدولة والجيش مع العصابات الإجرامية، ودورهما في عرقلة الجهود الحقوقية.

تعاني المكسيك من ظاهرة الأشخاص المخفيّين، وفي غضون شهرين، ارتفع عدد المفقودين من 124 ألفاً في بداية آذار/آذار الماضي، إلى 127 ألفاً في بداية أيار/أيار الماضي، وفق أرقام الفرع المحلي لمنظمة العفو الدولية. وبحسب التقارير، فإنّ الاختفاء القسري

ممنهج” في البلاد، وشمل خلال العام الماضي 13 ألفاً و588 شخصاً من دون أي أثر. واختفى ما لا يقل عن 5 آلاف شخص منذ مطلع العام الحالي.
ومع أن الجريمة شهدت تراجعاً، واعتُقل آلاف من أفراد العصابات، وسط إجراءات صارمة تتّخذها رئيسة المكسيك الجديدة كلوديا شينباوم باردو، غير أن ارتفاع عدد المفقودين لا يزال يمثّل جرحاً كبيراً لدى العائلات. كما أن الظاهرة لم تعد مرتبطة فقط بالمكسيكيّين الذين يشكلون العدد الأكبر من المفقودين، بل تشمل اختفاء أشخاص من دول أميركا الوسطى والجنوبية.
والتعامل مع الاختفاء ليس سهلاً في بلد مقسّم بين كارتيلات عنيفة، وسط اتهامات للجيش والشرطة بالتغطية والتعتيم، بحسب تقارير الأمم المتحدة. حتى أن الصحافة لا تسلم من الاستهداف عندما تحاول تتبّع أسباب الاختفاء. وخلال العقدين الماضيين، فُقد عشرات الصحافيين وتعرّض عدد كبير منهم للعنف. 
وتفاقمت حالات الاختفاء في المكسيك بعد ارتباطها بما يُسمّى “الحرب القذرة”، حيث استخدمتها الدولة أداة ضد المعارضين السياسيين، بين ستينيات القرن الماضي وثمانينياته، لكن خلال العقود الأخيرة، أصبح مصطلح (المختفون) جزءاً من الوعي الجماعي المكسيكي، حيث تُنظّم أمهات المفقودين وعائلاتهم تظاهراتٍ واحتجاجاتٍ، آملين الحصول على أجوبة.
وانضمّت المئات من أمهات المختفين وأقاربهم إلى منظمة “أمهات بوسكادورا” التي تأسّست في سبعينيات القرن الماضي، لمآذارة الضغوط ومحاسبة الدولة، طارحين سؤالاً واحداً: “أين هم أولادنا؟”. مع العلم، أن رئيسة المكسيك، شينباوم، كانت متطوعة في المنظمة المذكورة التي أسّستها أول سيدة ترشحت لرئاسة المكسيك، روزاريو إيبارا دي لا جارزا، والتي اختفى ابنها، وتحوّلت إلى رمز في التظاهرات السنوية بمناسبة عيد الأم.
ومنذ عام 2006 تزايدت عمليات الاختفاء بشكل كبير في المكسيك، بعد أن شنّ الرئيس السابق، فيليبي كالديرون، حربه على المخدرات، وحينها ردّت العصابات بعنف واسع النطاق. وتشير التقارير إلى وجود أنماط محددة للاختفاء، حيث كثيراً ما يتم اختطاف الشبّان على وجه الخصوص، بقصد التجنيد القسري في الجماعات الإجرامية أو كارتيلات المخدرات، بينما يرتبط اختفاء النساء والفتيات بالاتجار بالجنس. كما يُستهدف متعاطو المخدرات وتجّارها الصغار، إما لفقدانهم رضا أصحاب المراكز العليا في عالم الجريمة أو بسبب “حملات تطهير”. وصار المهاجرون من أميركا الوسطى يتعرّضون للخطف والترهيب والابتزاز والاغتصاب، وينتهي الأمر ببعضهم في خانة المختفين.

الصورة

حرقة أم في المكسيك، 30 آب 2024  (أوليسيس رويز/فرانس برس)

حرقة أم في المكسيك، 30 آب 2024 (أوليسيس رويز/فرانس برس)

وبين 2010 و2020، تضاعف عدد الجماعات المسلحة في المكسيك إلى نحو 200 جماعة، وفق تقديرات “مجموعة الأزمات الدولية”. وتنتهج تلك الجماعات العنف للسيطرة على مناطق النفوذ، ومحاربة الجماعات الأصغر والهيمنة على المدنيّين والشركات ضمن مناطق عملها. وبحسب تقارير محلية وأممية، فإنّ الفساد وتداخل المصالح مع الإفلات من العقاب والتحديات الاقتصادية في المناطق المتأثرة بالجريمة، كلها عوامل تعزّز انتشار مجموعات الأعمال غير القانونية، والتي كلّفت المجتمع المكسيكي منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، هذا العدد الهائل من المختفين، ونحو 36 ألف قتيل سنويّاً، وأكثر من 386 ألفاً من النازحين.
ومنذ عام 2011، اختفى على الأقل 26 من أهالي المفقودين أثناء محاولتهم البحث عن أجوبة، مثلما اختفى صحافيّون ونشطاء خلال تقصّي مسار الاختفاء. وقتلت المجموعات الإجرامية بين 2018 و2024 نحو 22 شخصاً من أهالي المفقودين أثناء بحثهم عن ذويهم، وفق تقرير لجنة أهالي المفقودين.
وتعتبر العصابات عمليات الخطف نوعاً من العقاب للعائلات التي يعارضها أفرادها، أو يرفضون الانخراط بها أو الرضوخ لها. واعتبرت “مجموعة الأزمات الدولية” أن حالة “التسامح المتبادل بين السلطات والجماعات الإجرامية في بعض المناطق، تجعل مسألة إخفاء جثث المفقودين جزءاً من تحويل قضيتهم إلى مجرّد قضية غياب”.
وترتفع بصورة ملحوظة عمليات الاختفاء والعنف المرتبط بالعصابات في الجزء الغربي من المكسيك، مثل ولايات غيريرو وميتشواكان وكوليما وخاليسكو وغواناخواتو وزاكاتيكاس، وكذلك قرب الحدود مع الولايات المتحدة، في باجا كاليفورنيا وسونورا وتاماوليباس. وفي تلك المناطق، يجري التنافس العنيف على الاتجار بالمخدرات. والتنافس الأكبر يتعلق بأكبر عصابتين؛ وهما كارتيل “الجيل الجديد” في خاليسكو، و”كارتيل سينالوا”، وشهدت ولايات أخرى تنافساً بينهما للسيطرة على طرق الاتجار، مثل ولايتَي زاكاتيكاس وسونورا (شمال).

وردٌ ورجاءٌ بعودةٍ قريبة، 4 أيلول 2022  (جيراردو فييرا/Getty)

وردٌ ورجاءٌ بعودةٍ قريبة، 4 أيلول 2022 (جيراردو فييرا/Getty)

وظهرت مؤخراً مجالات جديدة للتنافس، فولاية تشياباس، أفقر ولايات المكسيك، الواقعة على الحدود مع غواتيمالا، تحولت إلى منطقة حيوية لتدفق المخدرات والأسلحة، ناهيك عن المهاجرين، الذين يشكلون مصدر دخل متزايد للعصابات. وأصبح فرض الإتاوات على القادمين عبر أميركا الوسطى مقابل المرور، وأحياناً احتجازهم مقابل فدية، تجارةً تدرّ مليارات الدولارات.
أما العصابات الأخرى المسلّحة بطبيعتها، فقد باتت تلعب دوراً متزايداً في عالم الجريمة واستغلال الفقر واستعمال القوة لفرض نفسها، والنفاذ إلى قطاع الزراعة والموارد الطبيعية وسرقة البضائع وابتزاز الشركات لتأمين المزيد من المداخيل الإجرامية.
وعلى الرغم من تأكيد الحكومة الفيدرالية والجيش، أن “القوات المسلحة نجحت في إرساء النظام والأمن” في المناطق التي تعاني من نزاعات، إلا أن الواقع يثير المزيد من الشكوك حول تداخل عالم الجريمة بعالم القوات المسلحة والأمن. ويستشهد بعض الخبراء والمنظمات بمآذارة شائعة بشأن الإحصاءات وتسجيل جرائم القتل، وهي مآذارة باتت تتم بتوجيه رسمي وعسكري، حيث يُطلب من عمّال المشرحة وموظفي الدولة، تحت ضغط سياسي، خفض معدلات العنف المميت المسجل، وتسجيله كونه “جثث أشخاص قُتلوا رمياً بالرصاص أو بغيره، باعتبارها وفيات عرضية”. ما يعني أن إخفاء ضحايا الخطف والقتل أصبح وسيلة شائعة لدى جماعات الجريمة المنظمة وبشكل متبادل مع السلطات، لتجنّب زيادة الأعداد المسجّلة، بحيث لا تضطر الدولة إلى رد فعل عنيف، كما جاء في شهادات قُدّمت لـ”مجموعة الأزمات الدولية”.
وتتواصل الاتهامات بحق الجيش المكسيكي، خصوصاً بحق كبار قادته، بشأن الجرائم والتجاوزات وانتهاكات حقوق الإنسان، ما وضع الحكومات المتعاقبة في مأزق المزاعم بشأن تغطيتها تداخل المصالح بين العسكر وعالم الجريمة. وتتّهم بعض التحقيقات المنشورة، مؤسسة الجيش ببيعها أسلحة لعالم الجريمة.
ويتّخذ مطلقو الاتهامات من قضية اعتقال السلطات الأميركية لوزير الدفاع المكسيكي الأسبق، سلفادور سيينفويغوس، في لوس أنجليس، مثالاً على ذلك التداخل. وكان الأميركيّون اعتقلوه عام 2020 بتُهم الجريمة المنظمة والاتجار بالمخدرات، ليطلقوا سراحه لاحقاً بعد معلومات تحدثت عن رضوخ واشنطن لتهديد المكسيك بوقف التعاون الأمني الثنائي. وفور عودته وُضع سيينفويغوس قيد الإقامة الجبرية لفترة وجيزة، ثم أُعلنت براءته.

وغير بعيد عن مزاعم التداخل الأمني-الإجرامي والروابط الوثيقة بين الدولة والعصابات الإجرامية، يجدر التذكير بالقضية الأكثر جدلاً المرتبطة باغتيال ثلاثة باحثين من الذين عثروا في آذار/آذار الماضي، على بقايا هياكل عظمية و400 زوج من الأحذية في مزرعة بولاية خاليسكو، حيث يعتقد أن المزرعة كانت بمثابة مركز تجنيد لعصابة إجرامية. وتعود الذاكرة إلى قضية الطلاب والمعلمين الـ43 الذين اختفوا عام 2014، وشكلوا بذلك صدمة كبرى في البلاد. وكان المعلمون والطلاب في طريقهم إلى العاصمة لإحياء ذكرى ضحايا مذبحة الدولة بحق الطلاب في منطقة تلاتيلولكو عام 1968. قبل وصولهم هاجمتهم الشرطة، قُتل طالبان على الفور، وأصيب ثالث برصاصة في الرأس، واعتقلت الشرطة 43 شخصاً. عُثر لاحقاً على عظمة من أحدهم في نهرٍ، وعُثر على رفات اثنين آخرين في وادٍ. ولم يظهر مصير الأربعين الآخرين. وأفادت “مجموعة الخبراء المستقلين متعددة التخصصات” التابعة للجنة البلدان الأميركية لحقوق الإنسان، أنها أوقفت عام 2023 تحقيقاتها في قضية اختفاء الطلاب والمعلمين الـ43، بعد أن عرقلت القوات المسلحة جهودها، ما يعني أن الدولة المكسيكية لا ترغب بحل هذه القضايا، بل بإغلاق التحقيق فيها بأسرع وقت ممكن.
كذلك، وجّه أعضاء “لجنة الحقيقة والمصالحة”، المكلفة بالتحقيق في “الحرب القذرة” التي شهدتها البلاد، اتهامات للأمن والجيش بالتدخل لمنع حل قضية اختفاء الطلاب ومعلميهم، إلى جانب مزاعم بالتقصير في نحو 127 ألف قضية أخرى، وما رافق ذلك من اغتيالات وإعدام شبه ميداني لبعض أفراد الأسر والناشطين والصحافيين الذين تعمقوا في دائرة تداخل المصالح الرسمية مع عالم الجريمة المنظمة، بحسب ما نقلت صحيفة “إل باييس” الإسبانية عام 2023.

جرح لبنان المفتوح في اليوم العالمي للمخفيين قسراً

جرح لبنان المفتوح في اليوم العالمي للمخفيين قسراً

في مثل هذا اليوم من كلّ عام، تُنكأ جراح كثيرين، إذ يستذكرون أحبّاء يُطلق عليهم “مفقودون” أو “مخفيون قسراً“. ويعاني لبنان خصوصاً في هذا المجال.

في عام 2010، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة 30 آب/ آب من كلّ عام يوماً عالمياً لضحايا الإخفاء القسري من أجل تذكير العالم بالمصير المجهول لآلاف الأشخاص المغيَّبين قسراً، وبما تعانيه عائلاتهم العالقة في الانتظار. وفي لبنان، يحلّ هذا اليوم في هذا العام مع رمزية خاصة؛ في الذكرى الخمسين للحرب اللبنانية (1975) وما تلاها لم تجفّ دموع الأمهات اللواتي ما زلنَ يرفعنَ صور أبنائهنّ بحثاً عن حقيقة غائبة.

وكان قانون المفقودين والمخفيين قسراً قد أُقرّ في عام 2018 في لبنان قبل أن تُشكَّل في عام 2020 هيئة وطنية مستقلة لتولّي هذا الملف. لكنّ الأهالي، حتى اليوم، لم يتلقّوا خبراً واحداً عن أحبّتهم المفقودين، في حين لا قبور يزورونها، ولا شهادات وفاة، ولا أدلّة علمية لإثبات أيّ شيء… فراغ فقط يبتلع الأمل ويُطيل زمن الانتظار. وعلى مدى عقود، تنقّل هؤلاء بين المسؤولين، وطرقوا أبواب الوزارات والمحاكم، ونظّموا مسيرات، ورفعوا صور أبنائهم، ووقّعوا عرائض وطنية، متشبّثين بحقّهم في معرفة الحقيقة.

تقدّر المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي في لبنان عدد المفقودين بالبلاد بنحو 17 ألف شخص، لكن لا إحصاءات رسمية تحدّد العدد بدقّة. أمّا سجلات الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً فتضمّ أسماء أكثر من ألفَي مفقود، 94% منهم من الرجال و6% من النساء، علماً أنّ 79% من بينهم لبنانيون و15% فلسطينيون و2% سوريون و4% من جنسيات أخرى. وكان عام 1976، العام الثاني من الحرب اللبنانية، قد سجّل 468 مفقوداً، تلاه عام 1982 مع 452 مفقوداً.

تقول رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين، وداد حلواني، لـ”العربي الجديد” إنّ “اللجنة لم تتواصل مع 17 ألف عائلة مفقود، فهذه مهمّة الدولة”. تضيف: “نحن بادرنا، منذ تشكيل اللجنة في عام 1982، والحرب كانت لا تزال مشتعلة، إلى دعوة كلّ من فقد فرداً من أسرته إلى إدراجه في سجلاتنا. وتضمّ لوائح اللجنة ما بين 2500 و2600 مفقود”.
وتشدّد حلواني على أنّ “القضية لم تعد تحتمل الانتظار. هذه ليست قضية تحتاج إلى تدخّل أميركي أو إيراني، إنّها قضية داخلية ويجب أن تُحلّ. لا أحد يريد محاسبة المرتكبين على الماضي، لكنّ من يحرم الأهالي اليوم من حقّهم في معرفة مصير أحبّتهم هو المسؤول أمامنا وأمام التاريخ”.

وأدرج رئيس الحكومة اللبناني نواف سلام قضية المفقودين والمخفيين قسراً في البيان الوزاري الأخير، متعهّداً بأنّ حكومته سوف تعمل لتطبيق القانون ودعم الهيئة الوطنية. أمّا على الأرض، فلم يلمس الأهالي أي تقدّم في هذا الشأن. وتؤكد حلواني: “لم نلمس سوى اهتمام شفهي. تأمّلنا بالعهد الجديد، لكنّ شيئاً لم يتحقّق”، مضيفة أنّ الأمر يقتصر على “الكلام فقط”.
ووافق مجلس الوزراء، في حزيران/ حزيران الماضي، على مشروع مرسوم لتعيين عشرة أعضاء جدد للهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً بعد انتهاء ولاية الأعضاء الأوائل في تموز/ تموز الماضي الذي تبعه، لكنّ أيّ مرسوم لم يُصدر حتى الآن، ولم يقسم الأعضاء الجدد اليمين.

معرض صور مفقودين في لبنان - 13 إبريل 2010 (أنور عمرو/ فرانس برس)

من معرض صور مفقودين في خلال الحرب اللبنانية، بيروت، 13 إبريل 2010 (أنور عمرو/ فرانس برس)

ويوضح المحامي زياد عاشور، رئيس الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً بالإنابة، أنّ “تأخّر المرسوم يعود إلى اعتذار أحد القضاة عن قبول المهمّة، الأمر الذي أوقف صدوره إلى حين تسمية بديل”. ويكمل: “لكنّ هذا غير مبرّر. ففي عام 2020، اعتذر أحد القضاة كذلك، ولم يؤخّر ذلك صدور المرسوم وأدّينا اليمين أمام رئيس الجمهورية”. ويلفت إلى أنّ “التأخير يبيّن أنّ القضية ليست من ضمن الأولويات”.

وإلى جانب العقبات الإدارية، يواجه ملف المفقودين في لبنان صعوبات تقنية كبيرة. في عام 2012، أطلقت اللجنة الدولية للصليب الأحمر مشروع جمع “معلومات ما قبل الإخفاء”، بما يشمل بيانات المفقودين وأخذ عيّنات حمض نووي من ذويهم، خصوصاً كبار السنّ منهم، استعداداً لأيّ كشف مستقبلي عن مقابر جماعية على سبيل المثال. وقد جُمعت نحو ألفَي عيّنة، لكنّها لم تُسلَّم بعد إلى الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً.

ويعيد عاشور السبب إلى أنّ “الهيئة تفتقر إلى البنية التحتية المؤهّلة لحفظ البيانات والعينات بطريقة آمنة، لذا بقيت لدى اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وقد نُقلت إلى خارج لبنان أخيراً بسبب الحرب (الإسرائيلية الأخيرة)، من أجل الحفاظ عليها”.

وفي عام 2023، ظهرت في مدوخا بقضاء البقاع الغربي (شرق) مقبرة جماعية يُرجَّح أنّها تضم رفات مقاتلين فلسطينيين تعود إلى زمن الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982. قبل ذلك، في عام 2005، كُشف عن مقبرة بالقرب من وزارة الدفاع الوطني في اليرزة بقضاء بعبدا (وسط). وفي مواقع أخرى، عُثر على رفات بلا هوية، كأنّما الماضي ينبش نفسه من تحت التراب ولا يجد من يجيبه. ويبدو أنّ التكنولوجيا وحدها لا تكفي، فالإمكانيات شحيحة، والبحث عن الحقيقة يصطدم دائماً بجدار الدولة العاجزة أو المتواطئة.

وفي كلّ مرّة يُكشَف عن رفات، تُنبش كذلك ذاكرة الأهالي الذين لم يهدؤوا يوماً. بعد 50 عاماً من اندلاع الحرب اللبنانية (1975 – 1990)، ما زالوا يرفعون صور أبنائهم في الساحات ويروون الحكايات في المعارض والندوات، فيحوّلون الغياب إلى حضور عنيد والوجع الفردي إلى قضية وطنية.

وداد حلواني ورفاقها لم يتعبوا، ولم يساوموا، ولم يهادنوا. هم يعرفون أنّ معركتهم ليست لتحديد مصير المفقودين فقط، بل هي من أجل الحقّ والاعتراف والذاكرة، للإثبات أنّ هؤلاء لم يتعرّضوا للإخفاء عبثاً، وأنّ وجودهم ليس قابلاً للمحو، حتى لو كان الاعتراف الأخير ورقة رسمية بعنوان “شهادة وفاة”.

“أين هم؟” سؤال ما زال يُطرَح منذ نصف قرن. كثيرات هنّ الأمهات اللواتي لم يتوقّفنَ عن التشبّث بصور أبنائهنّ، لم يتوقّفنَ عن انتظار المستحيل. بالنسبة إليهنّ، كلّ يوم يمرّ يعني تلاشي احتمال اللقاء. لكن ثمّة أمهات سلّمنَ الشعلة إلى أفراد آخرين من العائلة. وتقول وفاء حوحو، شقيقة المفقود اللبناني جمال، الذي خُطف في عام 1978 وهو في الثامنة عشرة من عمره، لـ”العربي الجديد إنّ “في البداية، كنّا نتلقّى أخباراً عنه. لكن بعد الحرب في سورية، انقطعت كلّ الأخبار. ما زلنا نعيش على الأمل. لا أستطيع أن أقطع الأمل لأنّني لم أرَ بعيني أيّ شيء”. بدورها، تقول فاطمة كبارة، شقيقة المفقود اللبناني محمد لـ”العربي الجديد”: “لو كانوا ميتين نعرف أنّهم ميتون، لكن هكذا لا نعرف عنهم أيّ شيء”، مؤكدةً أنّ “الأمر صعب جداً”.