
غياب المداخيل يدفع أهالي غزة لمقايضة المساعدات
تتكشف صور مأساوية لمعاناة الغزيين الذين وجدوا أنفسهم بلا مصدر دخل وبلا عمل أو قدرة على تأمين الاحتياجات الأساسية لأسرهم، في ظل حرب ممتدة وحصار خانق يلتهم مقومات الحياة، تتزامن مع ارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة وغلاء الأسعار نتيجة شح البضائع.
ولجأ آلاف الغزيين إلى بيع جزء من المساعدات الإنسانية القليلة التي تصلهم أو مقايضتها بسلع أخرى أكثر إلحاحاً لحياة أطفالهم ضمن مظاهر “اقتصاد البقاء”، في وقت باتت فيه هذه الظاهرة تتسع لتشكل مشهداً اقتصادياً واجتماعياً يعكس عمق الأزمة الإنسانية التي يعيشها القطاع.
ويجسّد الفلسطيني رائد إسماعيل، وهو أب لستة أطفال من مخيم البريج وسط قطاع غزة، بواقعه أحد أبرز صور الأزمة، إذ يضطر بشكل شبه يومي إلى التوجه لمركز توزيع المساعدات في “منطقة نتساريم”، رغم المخاطر الأمنية الكبيرة المحيطة بها.
وقال إسماعيل لـ”العربي الجديد”: “أذهب في مخاطرة كبيرة كل يوم لمركز التوزيع الأميركي لجلب حاجيات لأسرتي، وما يزيد عن حاجتنا أبيعه للحصول على المال”، مشيراً إلى أن المساعدات التي يحصل عليها وإن كانت ضرورية، إلا أنها لا تغطي جميع احتياجات أسرته اليومية. وأضاف: “بيع جزء من المساعدات يتيح لي شراء مستلزمات أخرى مثل المياه وشحن الهاتف وثمن الخبز وشراء الحطب اللازم للطهو، فهذه النفقات الصغيرة في ظاهرها تصبح ثقيلة في واقع نعيشه بلا دخل”.
في حين، يعيش الفلسطيني منار دحلان، وهو نازح من مخيم جباليا إلى منطقة الشيخ رضوان شمال مدينة غزة، معاناة مضاعفة بعد فقدان مصدر رزقه الأساسي في مهنة الحلاقة، قائلاً: “كنت أعمل في الحلاقة منذ أكثر من ثماني سنوات، ومع نزوحنا المتكرر فقدت زبائني وأصبحت بلا عمل ولا دخل”.
وأوضح دحلان في حديث لـ”العربي الجديد” أنه يعتمد على المساعدات التي يحصل عليها من منطقة زيكيم حيث تصطف الشاحنات هناك، إلا أن حاجات أسرته لا تقتصر على نوع واحد من السلع وهو ما يدفعه للجوء إلى نظام المقايضة مع آخرين. وأضاف: “آخذ ما تحتاجه أسرتي وإن حصلت على الأرز أستبدل جزءاً منه بالطحين أو العدس أو غيرهما، في جهد كبير أبذله يومياً لتأمين لقمة العيش لأطفالي”، مشيراً إلى أن الأزمة تتفاقم يوماً بعد يوم، خصوصاً أن الاعتماد الكامل على المساعدات الشحيحة وغير المنتظمة بات يشكل عبئاً نفسياً واقتصادياً على العائلات التي كانت قبل الحرب تعمل وتكسب رزقها.
تقطير المساعدات
بدوره، أكد المختص بالشأن الاقتصادي، نسيم أبو جامع، أن الوضع في غزة بلغ مستويات خطيرة على صعيد سوق العمل، إذ ارتفعت معدلات البطالة من 43% قبل الحرب إلى أكثر من 83% حالياً، ما يعني أن عدد العاطلين عن العمل تضاعف ووصل إلى أرقام غير مسبوقة.
وقال أبو جامع في حديث لـ”العربي الجديد” إن هذه النسبة المرتفعة تتزامن مع سياسة التقطير التي تعتمدها إسرائيل في إدخال البضائع إلى القطاع، ما أدى إلى بقاء الأسعار مرتفعة رغم محدودية الطلب، وهو ما يخلق حالة من التضخم المتواصل الذي ينهك جيوب المواطنين.
وأضاف: “القدرة الشرائية لدى الغزيين تكاد تكون معدومة، إذ استنزفت الحرب مدخراتهم وما تبقى من مواردهم المالية، فنحن أمام اقتصاد منزوع القوة، بلا دخل وبلا فرص عمل وأسعار مرتفعة تفوق قدرة المواطن على التحمل”. حذّر الاقتصادي أبو جامع من أن استمرار هذا الوضع سيؤدي إلى تآكل الطبقة المتوسطة بالكامل، ودخول غالبية السكان في دائرة الفقر المدقع، مما يهدد البنية الاقتصادية والاجتماعية برمتها.
من جهته، ذكر المختص بالشأن الاقتصادي، محمد بربخ، أن نحو 95% من سكان غزة باتوا يعتمدون كلياً على المساعدات الإنسانية مصدراً وحيداً للعيش، “ومع ذلك فإن هذه المساعدات لا تدخل بالكميات الكافية بسبب القيود الإسرائيلية المشددة ما يجعلها شحيحة جداً مقارنة بحجم الاحتياجات”.
وقال بربخ في حديث لـ”العربي الجديد” إن هذا النقص يدفع المواطنين إلى البحث عن بدائل عبر بيع جزء من المساعدات أو استبدالها بالمقايضة، لافتاً إلى أن هذا السلوك لم يعد خياراً، بل تحول إلى آلية اقتصادية اضطرارية تعكس غياب الدخل وانعدام الفرص أمام المواطنين. وأوضح أن هذه الأزمة ليست إنسانية فقط، بل هي أيضاً أزمة اقتصادية عميقة تعطل دورة الإنتاج والاستهلاك داخل المجتمع الغزي، وتبقيه رهينة المساعدات المحدودة.
وختم بربخ حديثه بالتأكيد أن استمرار الوضع على ما هو عليه يعني أن المساعدات لن تكون حلاً كافياً، “بل يجب أن يصاحبها تدخل اقتصادي يفتح المجال أمام استعادة الإنتاج والعمل، وإلا فإن الاعتماد الكلي على المساعدات سيكرس حالة الفقر لعقود طويلة”.
وقال المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، في بيان أمس الاثنين، إن الاحتلال الإسرائيلي يواصل تشديد حصاره ومنع إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، في إطار سياسة “هندسة التجويع والفوضى”، إذ إن ما أُدخِل خلال الأيام الخمسة الماضية (من الثلاثاء حتى السبت) بلغ 534 شاحنة فقط من أصل ثلاثة آلاف شاحنة كان من المفترض دخولها، مشيراً إلى أن جزءاً كبيراً من هذه الشحنات تعرّض للنهب والسرقة في ظل فوضى أمنية متعمدة يرعاها الاحتلال.
وأشار البيان إلى أن إجمالي الشاحنات التي دخلت القطاع خلال 35 يوماً، منذ إعلان الاحتلال السماح بإدخال المساعدات في 27 تموز/تموز الماضي، لم يتجاوز 3,188 شاحنة من أصل 21 ألفاً متوقعة، أي ما نسبته 15% فقط من الاحتياجات الفعلية للسكان.