سوريون يحملون نقودهم في أكياس والحكومة تحذف صفرين من الليرة، فما التبعات المتوقعة؟

سوريون يحملون نقودهم في أكياس والحكومة تحذف صفرين من الليرة، فما التبعات المتوقعة؟

خلال الجولة المعتادة في الأسواق لشراء الحاجيات، يحمل سوريون أموالهم في أكياس بلاستيكية، لكن ليس بسبب فرط الثروة وإنما لتفاقم التضخم، ما دعا الإدارة السورية الجديدة للإقدام على خطوة مألوفة في هذه الحالات.

حاكم المصرف المركزي في سوريا عبد القادر الحصرية أعلن عزم دمشق استبدال العملة النقدية المتداولة بأخرى جديدة مع حذف صفرين منها.

وقال الحصرية إن إصدار العملة الجديدة يأتي في سياق “تعزيز الاستقلال المالي بعد التحرر السياسي وسقوط النظام البائد”، وتسهيل العمليات المحاسبية اليومية والتجارية.

وفي ظل معاناة سوريا من أزمة اقتصادية مزمنة، يُعد تحسين سعر صرف الليرة من أبرز التحديات المالية في البلاد بعد الإطاحة بحكم الرئيس بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/كانون الأول الماضي.

  • لماذا تتجه سوريا لحذف صفرين من عملتها؟

“حذف الأصفار لا يغيّر القيمة الحقيقية للعملة”

رجل يحمل كيساً من الليرات السورية بعد استبدال الدولار الأمريكي في مصرف سوريا المركزي في 24 كانون الأول/كانون الأول 2024
رجل يحمل كيساً من الليرات السورية بعد استبدال الدولار الأمريكي في مصرف سوريا المركزي في 24 كانون الأول/كانون الأول 2024

يؤكد الخبير الاقتصادي والمصرفي السوري إبراهيم قوشجي لبي بي سي، أن حذف الأصفار لا يغيّر القيمة الحقيقية للعملة، لكنه يوفر مزايا مثل تبسيط العمليات الحسابية في المعاملات اليومية والمحاسبة الحكومية والخاصة، وتسهيل التسعير والفوترة وتقليل الأخطاء في الأنظمة المالية والمصرفية.

  • ماذا يعني ارتفاع قيمة اللّيرة السورية؟

الباحث والمحلل الأول في شركة كرم شعار للاستشارات بنجامين فيف يرى في حديث مع بي بي سي، أن “إزالة الأصفار من العملة بحد ذاتها لا تُحقق الكثير. وينبغي أن يحدث ذلك في نهاية حزمة إصلاح اقتصادي أوسع نطاقاً تشمل السياسة النقدية والمالية”.

أما أستاذ دراسات الشرق الأوسط في كلية سميث بولاية ماساتشوستس ستيفن هايدمان يرى في حديث مع بي بي سي، أن “إزالة صفرين سيزيد من فعالية العملة السورية بشكل كبير”.

ويوضح هايدمان وهو مختص في الاقتصاد السياسي في الشرق الأوسط، أن اقتصاد سوريا يعتمد كلياً على النقد نتيجة سنوات من العزلة عن الأنظمة المصرفية الدولية، فأصبحت جميع المعاملات نقدية، والمشتريات الصغيرة تتطلب كميات هائلة من أوراق 5 آلاف ليرة (الورقة النقدية الأكبر)، أما المعاملات الكبيرة، فتكاد تكون مستحيلة، بما في ذلك إصدار قروض قد تدعم إعادة الإعمار الاقتصادي.

وفقدت الليرة السورية أكثر من 99 في المئة من قيمتها منذ اندلاع الحرب في 2011.

ووصل سعر الصرف الآن إلى قرابة 10 آلاف ليرة مقابل الدولار الواحد مقارنة مع 50 ليرة قبل الحرب. وكان سعر الصرف يراوح عند مستوى 15 ألفاً في الأشهر التي سبقت إسقاط حكم الأسد.

التضخم واستبدال العملة

موظف يحمل صندوقاً مليئاً بالأوراق النقدية من فئة 5000 ليرة سوريا في المصرف المركزي السوري في 17 حزيران/حزيران 2025
موظف يحمل صندوقاً مليئاً بالأوراق النقدية من فئة 5000 ليرة سوريا في المصرف المركزي السوري في 17 حزيران/حزيران 2025

يقول الحصرية إن استبدال العملة لن يؤدي إلى تضخم إضافي في البلاد، التي تشهد معدلات تضخم مرتفعة بعد سنوات النزاع الطويلة.

ويرى الباحث في شركة كرم شعار للاستشارات وهي شركة استشارية متخصصة في الاقتصاد والسياسة السورية، أن حذف الصفرين يحد ذاته لن يُخفّض التضخم، مضيفاً: “ليس لأن لديك صفرين أقل، فإن أموالك أقوى”.

ويعتقد فيف أن الحذف قد يُسبب بعض التضخم، في حالة عدم قبول باعة وتجار للعملة القديمة للعملة، أو قبولها بسعر مختلف عن سعر البنك المركزي.

ولم يستبعد فيف استغلال بعض التجار للظرف ورفع الأسعار، وعبر قوشجي عن مخاوفه من ذلك أيضاً.

  • التضخم: ما هو؟ ولماذا ترتفع أسعار السلع والخدمات؟

أما قوشجي، فيعتقد أن الحذف يعد أداة مساندة قد تقلل التضخم، إذا جاءت ضمن حزمة إصلاحات أوسع، مشيراً إلى أن أسباب التضخم في سوريا مرتبطة بأسباب منها ضعف الإنتاج، واختلال الميزان التجاري، وعجز الموازنة.

ولأن الإجراء السوري متعارف عليه في دول عدة، أعطى قوشجي مثالاً بنجاح التجربة التركية بحذف الأصفار عام 2005 لأنه جاء مترافقاً مع إصلاحات اقتصادية شاملة وضبط مالي صارم، وفي المقابل، فشلت تجارب مثل زيمبابوي وفنزويلا لأن الإجراء لم يُعالج جذور الأزمة أو ضبط الكتلة النقدية.

يقول هايدمان إن تجربتي زيمبابوي وفنزويلا تأثرتا بالعقوبات الدولية التي رُفعت في الحالة السورية.

  • ترامب يوقع أمراً تنفيذياً لإنهاء العقوبات على سوريا

أموال خارج النظام المالي الرسمي

صراف ليرة سورية في دمشق في 9 شباط/شباط 2025
صراف ليرة سورية في دمشق في 9 شباط/شباط 2025

نقلت رويترز عن ثلاثة من المصرفيين السوريين قولهم إن أحد العوامل وراء خطة إصلاح العملة هو القلق بشأن تداول ما يُقدر بـ40 تريليون ليرة سورية خارج النظام المالي الرسمي، ومن شأن إصدار أوراق نقدية جديدة تحسين رقابة الحكومة على النقد المتداول”.

ووفق تحليل قوشجي لبي بي سي، فإن “عملية الاستبدال قد تدفع الأموال المهرّبة أو المدخرة في الخارج (خصوصاً في لبنان ودبي والعراق) إلى العودة للاستبدال، ما قد يزيد السيولة في السوق وكذلك في الجهاز المصرفي وهذا يؤدي لرفع معدل التضخم والمضاربة على الدولار الأمريكي، ما يسبب تدهوراً جديداً لليرة السورية”.

لكن “الخطر الأكبر يكمن في إعادة تهريب هذه الأموال الجديدة أو المستبدلة إذا لم تُحكم الرقابة المصرفية على الحوالات والحدود”، وفق قوشجي الذي يرى أن المصرف المركزي عليه استغلال الفرصة لإعادة ضبط السيولة.

ويعمل في القطاع العام السوري قرابة 1.25 مليون شخص، ويُضطر الموظفون للوقوف ساعات في طوابير أمام فروع المصارف الحكومية أو أجهزة الصراف الآلي بسبب نقص السيولة.

ويأخذ بعضهم إجازة من عملهم لقضاء يوم كامل في محاولة لسحب جزء بسيط من رواتبهم. وتمتد الصعوبة إلى المودعين الراغبين في سحب بعض مدخراتهم بالليرة السورية.

أما فيف يعتقد أيضاً أن العملة الجديدة تُمكّن المصرف المركزي السوري من استعادة السيطرة على المعروض النقدي، لأنه “لا أحد يعرف اليوم المعروض النقدي الفعلي في سوريا، والكثير من الناس أخرجوا أموالهم إلى الخارج”.

“إذا لم يعرف المصرف مقدار النقود المتداولة، فلن يعرف مقدار ما يجب طباعته”، وفق فيف.

ووفق تحليل فيف، فإن المصرف المركزي أمام فرصة لاكتشاف الأموال المحصلة بشكل غير قانوني، وذلك عند محاولة استبدالها.

ومع ذلك، فإن بعض الأشخاص ادخروا أموالاً بطريقة قانونية لكنهم لا يملكون الوثائق التي تثبت مصدر أموالهم، لأن العمل غير الرسمي شائع جداً في سوريا، بحسب فيف.

ويرجح هايدمان إعادة أموال عبر قنوات غير رسمية، ما يُصعّب تتبع التدفقات النقدية.

ويتعهد حاكم المصرف بأن عملية استبدال العملة لا تعني إصدار أموال إضافية، بل تندرج ضمن إطار ضبط الكتلة النقدية والحفاظ على استقرار السوق، وتقتصر على استبدال الأوراق المتداولة بأخرى حديثة.

وستكون الكميات المطبوعة من العملة الجديدة مدروسة بدقة، وفق الحصرية.

وستطرح العملة عبر مراحل، ففي المرحلة الأولى سيكون التداول تدريجياً إلى جانب الفئات الحالية، بدون أن يؤدي ذلك إلى سحب أو إلغاء أي فئات متداولة حالياً.

وفي المرحلة الثانية يبدأ التبديل، وفي الثالثة يصبح التبديل حصراً عن طريق مصرف سورية المركزي.

ماذا تحتاج العملة الجديدة؟

أكوام من الليرات السورية داخل متجر لصرف العملات في أعزاز في سوريا في 3 شباط/شباط 2020
أكوام من الليرات السورية داخل متجر لصرف العملات في أعزاز في سوريا في 3 شباط/شباط 2020

يتوقع هايدمان أن تكون عملية استبدال الأوراق النقدية القديمة صعبة على البنوك، لكن المطلوب هو ضمان أن تكون فترة الاستبدال طويلة بما يكفي لإتاحة الفرصة لجميع حاملي الأوراق النقدية القديمة للحصول على الجديدة.

لكن قوشجي لا يتفق مع هايدمان، ويقول: “يجب أن تكون فترة استبدال العملة وآليتها محدودة زمنياً، وأن تحدث حصراً عبر الحسابات المصرفية مع إخضاع العملية لرقابة صارمة من هيئة مكافحة غسل الأموال”.

ويتحدث هايدمان عن ضرورة عدم فرض رسوم على الاستبدال.

وبحسب تحليل فيف، فإن الحكومة السورية بحاجة للتعامل مع إمكانية عدم قبول العملة الجديدة في مناطق لا تخضع لسيطرتها، وتساءل: ماذا لو لم تتمكن البنوك من الوصول إلى الشمال أو الشرق أو السويداء؟

ويؤكد فيف على ضرورة توقف المصرف المركزي عن طباعة النقود بعد إصدار العملة الجديدة لتجنب ارتفاع التضخم.

يؤكد قوشجي على ضرورة أن تكون الخطوة جزءاً من برنامج إصلاح نقدي واقتصادي متكامل يشمل ضبط الكتلة النقدية، وتحفيز الإنتاج المحلي الصناعي والزراعي لتقليل الاعتماد على الاستيراد، والإسراع في إصلاح النظام المصرفي وتوسيع خدمات الدفع الإلكتروني.

تاريخ من حذف الأصفار

لا تعد الخطوة السورية سابقة في تاريخ العملات في العالم، فدول عدة أقدمت على إصدار عملات جديدة بعد حذف صفر أو أكثر لمجابهة التضخم المفرط والمشكلات الاقتصادية.

في 1960، أنشأت فرنسا وحدة نقدية جديدة أسمتها “الفرنك الجديد” قيمتها تساوي 100 فرنك، أي أنه حُذف صفران من العملة.

وفي 1994، أطلقت جمهورية يوغسلافيا السابقة عملة جديدة أسمتها الدينار الجديد أو السوبر دينار بعدما وصل التضخم إلى مليون بالمئة.

وفي 2005، حذفت تركيا 6 أصفار من العملة بعد تضخم مفرط أصاب البلاد، ليبدأ عهد “الليرة الجديدة”.

الشهر الحالي، وافقت اللجنة الاقتصادية في مجلس الشورى الإيراني على مشروع قانون لإزالة أربعة أصفار من العملة الوطنية التي شهدت انخفاضاً كبيراً في السنوات الأخيرة، متأثرة بالعقوبات الدولية.

ولتبسيط المعاملات، أطلق الإيرانيون منذ سنوات على عملتهم اسم التومان، وذلك بطرح صفر من قيمة الريال، وهو ما يتسبب بارتباك للزوار الأجانب

أما في فنزويلا طرأت تغييرات عدة على عملتهم في سبيل مكافحة التضخم المفرط، ففي 2008 حُذفت ثلاثة أصفار، وفي 2018 حُذفت خمسة أخرى، وفي 2021 شُطبت ستة أصفار من عملتها.

ليس بحذف الأصفار وحده تقوى العملة يا سورية

ليس بحذف الأصفار وحده تقوى العملة يا سورية

قلما نالت عملة بالعالم ما طاول الليرة السورية من تضخم أفقدها أكثر من 90% من قيمتها مذ قام السوريون بثورتهم عام 2011، وقت لم يزد سعر تصريف الدولار عن 50 ليرة، لتتأرجح اليوم عند 11 ألف ليرة للدولار الواحد، رغم تحسن ما بعد التحرير وهروب الرئيس السابق في كانون الأول/ كانون الأول الماضي، بالإضافة إلى النفور والإساءة للعملة السورية التي ترمز، بشكل أو بآخر، لسيادة البلد، بعدما وضع المخلوع بشار الأسد صورته على الأوراق النقدية الكبيرة عام 2017 وباتت العملة موضوع تهكم وإثارة للنكات “كيلو البطاطا ببشارين”.

ليأتي تبديل العملة ومعها الصورة الذهنية المكونة عنها ضمن ضرورات مرحلة التغيير التي تشهدها سورية الجديدة، من خلال طرح أوراق بنكنوت جديدة تحمل صوراً ورموزاً وطنية جامعة لا صوراً وملامح جدلية وإشكالية، أوراق نقدية من فئات صغيرة ومتوسطة عصية على التزوير الذي شهدته الأوراق الكبيرة خلال حكم الأسد، أوراق ذات قيمة شرائية معقولة تبعد عن السوريين والمتعاملين بعملتهم أعباء حمل كتل نقدية كبيرة خلال التعاملات النقدية والتجارية اليومية، ما ينعكس نفسياً وربما عودة الثقة بالنقد السوري، اللهم إن ترافق حذف الصفرين، أو سبقه، مع إصلاح نقدي ومالي واقتصادي، يجعل من الليرة موضع ثقة وليس مصدر اضطراب ومخاوف للحائز والمكتنز والمدخرين.

وفعلاً، جاء الإعلان رسمياً عن تبديل العملة وحذف صفرين وصور آل الأسد (الأب والابن) والكشف عن توقيع عقود طباعة الليرة الجديدة خلال زيارة الوفد السوري روسيا في نهاية تموز/ تموز الماضي، مع شركة غوزناك الروسية، لتدخل العملة الجديدة التداول في توقيت تحرير دمشق نفسه، الثامن من كانون الأول/ كانون الأول المقبل.

وتكون الأسواق السورية على موعد مع ورق نقدي جديد محمول باليد والمحفظة وليس بأكياس كبيرة خلال شراء أبسط الحاجات اليومية، والمسؤول السوري أمام فرصة لجمع وتبديل نحو 40 تريليون ليرة خارج النظام المالي الرسمي، بعد استعادة القدرة على ضبط، أو معرفة على الأقل، حجم التدفقات المالية والقدرة على منع التزوير. وليس أكثر من ذلك، كي لا يغرق السوريون بالأحلام ويغالي المسؤولون بالتصريحات والوعود، فالأمر حتى الآن عملية ضرورية فرضتها المرحلة، تحمل معاني رمزية سياسية وأبعاداً نفسية، لأن استعادة القيمة الشرائية لليرة السورية، أو أي عملة بالعالم، لا تتعلق البتة بحجمها أو ما عليها من عبارات وصور، بل ثمة محددات وشروط، وحزمة إصلاحات، اقتصادية أولاً ومن ثم إدارية وقانونية وسياسية، هي التي تحدد سعر صرف العملة ومدى الثقة بها والإقبال على اكتنازها.

قصارى القول: لنتفق أولاً على أن حذف صفرين أو أكثر وتبديل الصور والرموز عن أي عملة لم ولن يغيّر قيمتها الشرائية الحقيقية أو سعر صرفها المقيّم بسلة عملات أو بعملة رئيسية محددة، من دون أن نتنكّر طبعاً للدور النفسي للمتعاملين والرقابي والإداري للمسؤولين، جراء إمكانية ضبط المعروض النقدي وتقليل أخطاء المحاسبة والفوترة وحتى التسعير السلعي.

ولنا بذلك تجارب دولة عدة، منها ناجحة، كالتجربة التركية التي ألغت ستة أصفار عام 2005، وأخرى فاشلة كالتجربة الزيمبابوية التي لم يبعدها إلغاء الأصفار عن التضخم، وسرعان ما عادت الأصفار للعملة جراء استمرار الأزمة الاقتصادية، لتتلاشى الثقة بدولارها أكثر من ذي قبل. بمعنى آخر وبسيط، مشكلة تدهور سعر الليرة السورية نتجت عن مشاكل اقتصادية، من دون التقليل طبعاً من دور الحرب التي نتجت عنها أزمات سياسية ونفسية.

وتلك المشاكل أو محددات سعر وقوة الليرة تكمن أولاً بتبديد الاحتياطي النقدي الذي زاد عن 18 مليار دولار عام 2011، لتغدو الليرة بلا غطاء ولا حام يتدخل خلال اهتزازها والثقة بها. وتكمن ثانياً بتراجع الإنتاج والصادرات السورية التي تكفي السوق الداخلية فتقلل من استنزاف العملات الصعبة بالاستيراد، وتأتي بالدولار جراء التصدير، فيوازن المعروض النقدي بالسوق، ويستقر سعر الصرف إن لم نقل يقوى، أي ضبط الميزان التجاري. وتكمن ثالثاً بتراجع السياحة التي ترفد السوق بالعملات الأجنبية وتروّج، إلى جانب الجمال والمتعة، لإنتاج البلد وحتى لخططه وأنماط وسلوك مواطنيه…

وتكمن أخيراً بتلاشي الثقة ببلد شهد حرباً امتدت لأربع عشرة سنة، أتت في ما أتت على البنى والهياكل الاقتصادية، ونالت من الثقة بالعملة، بعد تراجع الثقة والتشكيك بالقطاع المالي والمصرفي برمته، الذي عجز عن جذب الإيداعات والتدخل بالسوق، أو ضبط السيولة لصونه من المضاربات ومزالق السوق الموازي. ما يعني، وكي لا يكون تبديل العملة السورية خطوة تقنية وردة فعل ذات دلالات سياسية على ما تحوي الأوراق النقدية من صور وتأريخ لمراحل سابقة، لا بد من بدء علاج استعادة قيمة وهيبة الليرة، من الأسباب الاقتصادية (إنتاج وتصدير واحتياطي)، إلى جانب تعزيز الثقة بسورية، اقتصادياً واستثمارياً وسياسياً، وأسباب أخرى، ستظهر خلال عملية استبدال العملة، من طرق وآلية سحب القديمة وضبط السيولة، من خلال إصلاح اقتصادي ومالي ومدة زمنية محددة.

أي بلغة مباشرة، إيجاد معادل نقدي وإنتاجي وخدمي يضمن ثبات سعر صرف العملة الجديدة كي لا يعود التضخم وتتصدر أصفار الليرة الجديدة من جديد. نهاية القول: ليس من قبيل الإحباط أو وضع عصيّ بعجلة تطلع سورية وآمالها جراء تبديل العملة وإلغاء الأصفار، بيد أن البداية ليست من هنا، وتحسين الواقع الاقتصادي والمعيشي والاستثماري ليس من هنا. بل البداية من دعم الإنتاج الزراعي والصناعي والصادرات، البداية من الإصلاح الاقتصادي والنظام المالي والمصرفي، البداية من ضبط الجغرافيا السورية واستعادتها، وضمان عدم استمرار استخدام العملة القديمة أو اعتماد الدولرة…

والبداية من ضبط السوق وقوننة الصيرفة عبر شركات محددة، تكون عوناً بتنفيذ خطط المصرف المركزي، لا عامل استنزاف ومضاربة وتهريب عملة. طبعاً وأولاً وأخيراً، مع الاعتراف بضرورة الخطوة زمنياً ونفسياً ومرحلياً، لأن بقاء صور الرئيس البائد ووارثه له مدلولات عجز واستكانة، ولكن من دون التمادي بالوعود والآمال، فحذف الأصفار وإزالة صور المستبدين هي عملية تجميل للاقتصاد، في حين التغيير والقوة التي ستنعكس على العملة، سعراً وثقة، تكمن في جوهر الاقتصاد نفسه وتحسين مؤشراته، من نمو وبطالة وإنتاج وتصدير، وسيطرة على التضخم.

كما لن يحسب حذف الأصفار إنجازاً لسورية الجديدة، إن لم تعرف كيف تثبت وتحسن سعر الصرف وتضبط التضخم، فتاريخ العملات الحديث يقول إن 70 حالة حذف أصفار شهدتها العملات، منذ عام 1960، منها ما نجح وانطلق بعد العملة الجديدة، كتركيا، ومنها ما لا يزال يعاني ويعيد تجربة حذف الأصفار، كما الأرجنتين التي أزالت الأصفار عن عملتها أربع مرات، ويوغسلافيا خمس مرات، والبرازيل، قبل أن تقوى ويستقر ريالها، ست مرات.