
تعميم حكومي يعيد الموظفين من الإجازات المأجورة… بين ارتياح وقلق في القطاع العام
لم يقتصر التعميم الصادر عن معاون الأمين العام لرئاسة الجمهورية لشؤون مجلس الوزراء علي كده على إنهاء الإجازات المأجورة وفرض العودة إلى العمل اعتباراً من الأول من أيلول/أيلول 2025، بل جاء متضمناً مجموعة واسعة من التعليمات التي ضيّقت الخناق على العاملين في القطاع العام؛ بدءاً من منع المسابقات للتعيين إلا في أضيق الحدود، مروراً بوقف تمديد الخدمة وتجديد العقود، وصولاً إلى فرض رقابة صارمة على الدوام وتطبيق نظام البصمة الإلكترونية.
هذه الإجراءات التي رُوّجت باعيبارها خطوة لإصلاح القطاع العام تركت أثراً ثقيلاً على حياة الموظفين، حيث وجد كثير منهم أنفسهم في مواجهة قرارات لا تراعي واقعهم الإنساني ولا ظروفهم المعيشية.
بين الارتياح والعودة إلى الحياة العملية
في ريف دمشق، استقبلت دعاء اليوسف، موظفة في إحدى المدارس الحكومية، خبر العودة إلى العمل بعد أشهر الإجازة المأجورة بشيء من الارتياح. وتقول لـ”العربي الجديد” إنها طوال فترة الإجازة شعرت بالعزلة والابتعاد عن زملائها، وكأنها خرجت من دائرة الحياة العملية. وتضيف: “العودة تمنحني شعوراً بالحيوية من جديد، وتعيد لي الاستقرار النفسي بعد فترة طويلة من الانقطاع.” وتضيف بابتسامة: “العمل ليس مجرد راتب، بل إحساس بالجدوى والقدرة على المشاركة في المجتمع.”
أما باسل الشحادة، وهو موظف في مديرية المياه، فقد وجد في العودة إلى عمله فرصة للتعافي من ضغوط البطالة المؤقتة. يروي لـ”العربي الجديد” أنه خلال الأشهر التي قضاها في الإجازة المأجورة، كان يبحث عن بدائل ويشعر بالقلق على مستقبله. ويقول: “اليوم حين أعود إلى مكتبي وأرى زملائي وأتعامل مع المراجعين، أشعر بأنني أستعيد هويتي. الوظيفة بالنسبة لي هي الأمان، وهي ما يضمن لعائلتي الحد الأدنى من الاستقرار.”
قلق من فقدان الأمان الوظيفي
على الجانب الآخر، واجه بعض الموظفين القرار بقلق كبير، ويرون ما حصل معهم لـ”العربي الجديد”. يقول أحمد المنصور وهو مهندس في إحدى الشركات العامة وكان على وشك بلوغ سن التقاعد: “عملت أربعين عاماً في المؤسسة، والآن يرمونني جانباً كأنني حمل ثقيل. كنت أعتمد على التمديد كي لا أُطرد إلى الشارع قبل أن أسدد التزاماتي”.
وفي حمص، تروي هالة محمد، موظفة إدارية بعقد مؤقت، أنها صُدمت بفقرة منع تجديد العقود إلا بموافقة الأمانة العامة. تضيف: “كنت أعيش على راتبي المؤقت، والآن لا أعرف إن كنت سأُجدّد أو لا. نحن نعمل بلا أمان وظيفي، واليوم، حتى هذا الأمان الهش يُسحب من تحت أقدامنا”.
رؤية خبراء الإدارة
تكشف هذه الشهادات الجانب الإنساني الغائب في نصوص التعميم، حيث تبدو القرارات وكأنها تستهدف فقط شدّ القبضة على الموظفين، من دون مراعاة التزاماتهم العائلية وضغوطهم الاقتصادية، في وقت أصبحت فيه الوظيفة خط الأمان الأخير في مواجهة الانهيار المعيشي.
ويرى مراقبون أن التعميم الأخير لا ينفصل عن سياسة أوسع ينتهجها النظام لإحكام السيطرة على الجهاز الوظيفي باعتباره من بين المؤسسات القليلة القادرة على ضبط المجتمع. فبينما تتسع موجات الهجرة والانقطاع عن العمل بسبب ضعف الأجور وغياب الحوافز، تحاول السلطة التعويض عبر إجراءات عقابية تشدد الرقابة وتضيّق على العاملين، في محاولة لإعادة الإمساك بما تبقى من القطاع العام، حتى وإن كان ذلك على حساب حقوق الموظفين وإنسانيتهم.
بدوره، أكد الخبير في التنمية الإدارية عبد الرحمن تيشوري، في تصريح لـ”العربي الجديد”، أن قرار عودة الموظفين إلى أعمالهم يحمل أهمية اجتماعية واقتصادية، لأنه يعيد لمئات آلاف العاملين أجورهم ومصدر رزقهم بعد شهور من الانقطاع.
وأوضح أن الأجور في سورية ضعيفة ولا تكفي لتأمين الحد الأدنى من المعيشة رغم الزيادة الأخيرة، لكنها تبقى شريان حياة للكثير من الأسر. وأشار إلى أن عمليات التسريح السابقة جرت بشكل عشوائي ومتسرع وأدت إلى خسارة كفاءات عالية، من دون تمييز بين موظف منتج وآخر مترهل. وأضاف تيشوري أن الإدارة العامة الحديثة باتت ضرورة ملحة لأي دولة تسعى للنمو بعد الحروب والأزمات، إذ لا يمكن تحقيق التنمية من دون قيادة قوية وتنظيم وتخطيط وتبسيط للإجراءات. ودعا إلى تكليف وزارة التنمية الإدارية والمعهد الوطني للإدارة بوضع خطة وطنية لإصلاح الوظيفة العامة وضمان حقوق الموظفين.
وتابع أنه لا يجوز تهميش خريجي المعهد الوطني للإدارة، بل يجب مدّ خدمتهم حتى سن السبعين واستثمار خبراتهم في الوزارات والمؤسسات، بدلاً من تكليف أشخاص يفتقرون إلى المؤهلات والخبرة. وشدد على أن الإصلاح الحقيقي يبدأ بالحوكمة والشفافية والانتقاء والتدريب والتقييم، وصولاً إلى قانون خدمة مدنية جديد قيد الدراسة، من شأنه رفع الأجور وتحسين شروط العمل.
وأشار تيشوري إلى أن وزارات التربية والصحة والصناعة والزراعة تضم النسبة الأكبر من العاملين في القطاع العام، بواقع نحو 300 ألف في التربية، و70 ألفاً في الصحة، و70 ألفاً في الصناعة، و50 ألفاً في الزراعة، مؤكداً أن أي إصلاح وظيفي سيمسّ شريحة واسعة من السوريين ويؤثر مباشرة على مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين.
الوظيفة العامة مرتبطة بحقوق
من جهته، يرى المحامي منتجب العبد الله أن التعميم يتوافق مع أحكام القانون الأساسي للعاملين في الدولة رقم 50 لعام 2004، لكنه يحتاج إلى تطبيق دقيق وعادل. يقول لـ”العربي الجديد” إن المنع من تمديد الخدمة أو فرض العودة بعد انتهاء الإجازة المأجورة قانونياً ممكن، لكن تجب مراعاة ظروف الموظفين الشخصية والاجتماعية، وعدم التعامل مع الجميع بشكل موحد من دون تقييم. أي فصل تلقائي بعد 15 يوماً من الإجازة يجب أن يكون مصحوباً بإجراءات إشعار واضحة وإمكانية استئناف أو تظلّم، لتجنب أي مخالفات قانونية محتملة.
ويشير العبد الله إلى أن مثل هذه القرارات يجب أن تترافق مع آليات مراقبة شفافة وإجراءات عادلة حتى لا تتحول إلى أداة ضغط على الموظفين، مؤكداً أن الوظيفة العامة مرتبطة بحقوق مكتسبة للمواطنين العاملين، ولا يجوز المساس بها إلا وفق القانون وبضوابط واضحة.
نص التعميم
ووفق التعميم الذي حصل “العربي الجديد” على نسخة منه، والموجّه للمديريات والمؤسسات التابعة للقطاع العام، فقد طُلب فيه تحسين كفاءة الجهاز الإداري، وتعزيز الأداء المؤسسي، وترشيد استخدام الموارد البشرية المتاحة بما يحقق معالجة ظاهرة الترهل الإداري وضعف الإنتاجية لدى الجهات العامة عموماً، وعلى مستوى كل جهة عامة على حدة.
كما نصّ التعميم على التشديد في مراقبة الدوام للعاملين والتقيّد التام بمواعيد الحضور والانصراف، والعمل على متابعة الدوام من خلال البصمة الإلكترونية حصراً. ومُنحت مدة أقصاها خمسة عشر يوماً من تاريخ انتهاء الإجازة للعودة إلى العمل، وإلا فسيُعتبر الموظف بحكم المفصول وفق أحكام القانون الأساسي للعاملين في الدولة.