
مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي.. يخلق جمهوراً أم يعيد إنتاج العزلة؟
مع كل دورة لمهرجان المسرح التجريبي في القاهرة ثمّة عودة لسؤال قديم يتجدّد باستمرار، حول ما يعنيه التجريب في المسرح اليوم، وهل يبقى التجريب حبيس قاعات النخبة، أم يستطيع أن يشقّ طريقه إلى جمهور أوسع، ويعيد للمسرح بعضاً من مكانته المفقودة في زمن مزدحم بالشاشات والوسائط؟
تلك الأسئلة تحضر مجدداً مع افتتاح الدورة الثانية والثلاثين في دار الأوبرا المصرية، حيث ارتفعت ستارة المسرح الكبير مساء الاثنين الماضي لتعلن انطلاق المهرجان، الذي تتواصل أنشطته حتى الثامن من الشهر الجاري. وتشمل عروضه 13 عرضاً عربياً، من بينها أربعة عروض مصرية، وكذلك سبعة عروض أجنبية.
في الافتتاح، استعاد المخرج وليد عوني أجواء الأساطير الفرعونية في عرضه “انتصار حورس”. العرض مأخوذ عن واحد من أقدم النصوص المسرحية في التاريخ، دُوِّن في العصر البطلمي (237 – 57 ق.م) على جدران معبد إدفو بالقرب من مدينة أسوان المصرية؛ هذا النص الذي يعتبره الباحثون وثيقة مسرحية استثنائية، يصوّر الصراع الأسطوري بين الإله حورس، إله السماء، وعمّه سِت إله الفوضى على عرش مصر بعد مقتل أوزوريس. وقد نُقل إلى اللغة الإنكليزية في أوائل القرن العشرين على يد عالم المصريات البريطاني إتش دبليو فيرمان، ثم ترجمه إلى العربية الباحث عادل سلامة.
دعم رسمي ولكن
لكن خلف ذلك، تبقى الأزمات حاضرة. التمويل مثلاً يظلّ عقبة أساسية، إذ يعتمد المهرجان على الدعم الرسمي من وزارة الثقافة في ظل غياب شبه تام لرعاية القطاع الخاص، وهو ما ينعكس على حجم المشاركة الدولية، ويُضعف قدرة المهرجان على التوسّع، خلافاً لمهرجانات عربية أخرى استطاعت أن تخلق شبكات تمويل وشراكات مؤسسية أكبر.
كما لا يزال الحضور مقتصراً على نقّاد وطلاب ومسرحيين، فيما يبقى الجمهور العام بعيداً، كما أن التسويق الإعلامي المحدود لا يساهم في استقطابه، إذ تمرّ معظم العروض دون أن تصل إلى جمهور واسع. وهنا يبرز السؤال، حول دور الورش والندوات في توسيع قاعدة المتابعين، هل تُحقق ذلك بالفعل، أم تبقى محصورة كالعادة في دوائر ضيقة؟
في تعريف التجريب
إلى جانب ذلك، تعاني العروض من أزمة الاستمرارية، فغالباً ما تُقدَّم مرة أو مرتين خلال أيام المهرجان، ثم تختفي من المشهد، وبهذا تتحول الأعمال إلى لحظات عابرة بدلاً من أن تصبح جزءاً من حركة مسرحية مستمرة. يضاف إلى ذلك النقد المتكرر بأن المهرجان بات مسرحاً للمسرحيين، أي نخبوياً يقدّم أعمالاً يصعب على الجمهور العادي تلقيها، والمسألة لا تتعلق بالمهرجان وحده، بل بالمسرح التجريبي عموماً. تعريف التجريب مثلاً ظل موضع نقاش طويل؛ وهو نقاش مستمر إلى اليوم، هل هو مختبر يفتح المجال لتجارب جديدة، أم مجرد تنويع بصري وشكلي؟ خاصة أن الكثير من العروض التجريبية تُتهم بأنها تركز على الشكل والتقنية على حساب الفكرة والمضمون.
عرض الافتتاح مأخوذ من أقدم النصوص المسرحية في التاريخ
كذلك تبدو العلاقة بين التجريب والمشهد المسرحي المصري والعربي متوترة، فبينما يرى بعض النقاد أنه يمدّ المسرح بطاقات متجددة، يراه آخرون معزولاً عن هموم الجمهور، ومع غياب بنية تحتية مجهزة وقنوات إنتاج منتظمة، يصبح التجريب أقرب إلى حدث موسمي منه إلى مسار مستقر. هذه الإشكالية ليست مصرية فحسب، بل تواجه المسرح التجريبي عربياً وعالمياً، إذ تتكرر الشكوى من عروض تُبهر بصرياً لكنها تفشل في بناء خطاب مسرحي متماسك.
مفترق طرق
يبقى المهرجان مساحة أساسية للتلاقي بين التجارب المسرحية، فهو يفتح نافذة على أحدث التيارات العالمية، ويمنح الفرصة لعرض تجارب عربية متنوعة، لكنه في الوقت نفسه يواجه تحديات تكشف أن المهرجان ليس مجرد حدث فني، بل مرآة تعكس حالة المسرح العربي. من هنا، تبدو الدورة الثانية والثلاثون وكأنها تضع المهرجان أمام مفترق طرق، إمّا أن يظل احتفالاً موسمياً يضيء لبضعة أيام، أو أن يتحول إلى منصة أكثر رسوخاً تتبنى خططاً طويلة الأمد للعرض والتدريب ودعم الإنتاج. وإذا كان التجريب في جوهره سؤالاً دائماً، فإن المهرجان مدعو إلى إعادة طرح هذا السؤال في مواجهة جمهوره، لا في دوائر ضيقة فقط.
ولعل الدرس الأهم في الدورة الحالية هو أن الطريق إلى جمهور أوسع يمر عبر مزيج من السياسات، أهمها تطوير لغة مسرحية تجمع بين الطليعية والواقع الاجتماعي. فالمسرح، في النهاية، ليس مختبراً مغلقاً، بل فضاءً للحوار والتأثير.
استعادات وتكريمات
على مستوى التكريم، ضمت القائمة 11 اسماً من مصر والعالم، من بينهم صبري فواز وحنان يوسف من مصر، والكاتب والمنتج المسرحي حمد الرميحي من قطر، ورفيق علي أحمد من لبنان، ومحمد المنصور من الكويت، والراحلة إقبال نعيم من العراق، إلى جانب الناقد الفرنسي باتريك بافيز.
أما الإصدارات الجديدة المواكبة للمهرجان، فبلغت 11 كتاباً مترجماً أو مؤلفاً، منها، الدراماتورجيا الركحية، والمسرح الرقمي وصناعة المعنى، وسيناريوهات الطاقة وجماليات اللامادي، التي تكشف عن دور المهرجان باعتباره بوابةً معرفية لا تقل أهمية عن عروضه.
عروض تُبهر بصرياً لكنها تفشل في بناء خطاب مسرحي متماسك
وبدأ برنامج الورش أول أمس الثلاثاء بثلاث ورش متخصّصة، وهي ورشة “الأداء التوافقي” بإشراف إرك مكاريان من الولايات المتحدة، و”الأداء الحركي” مع شويمدي من اليابان، و”الإلقاء علم وفن” مع خالد عبد السلام من مصر. هذه الورش، الممتدة بين القاهرة والإسماعيلية، تمثل محاولة لإشراك جيل جديد في لغة التجريب. وهي ليست مجرد نشاط جانبي، بل هي جزء من سياسة يتبناها المهرجان منذ سنوات لربط الفعل المسرحي بالتكوين المستمر، بحيث لا يقتصر الأثر على أيام العروض فحسب، بل يمتد إلى صقل مهارات شباب المسرحيين.
أما في المجلس الأعلى للثقافة، فتحتضن قاعاته ثلاث ندوات فكرية متتالية؛ الأولى بعنوان “المسرح ما بعد الموجة: البصريات، السينما والذكاء الاصطناعي”، بمشاركة باحثين من مصر ولبنان والكويت والعراق، أما الثانية فبعنوان “المسرح والذاكرة الشعبية”، وتناقش العلاقة بين النص المسرحي والجذور الشعبية. أما الجلسة الثالثة فتُخصّص للسيناريوهات المستقبلية لتوظيف الذكاء الاصطناعي في المسرح، على يد الباحث والمخرج عزت إسماعيل، مقدمةً تصوّراً لاندماج التكنولوجيا مع الأداء الحي.