
تقرير “إبادتنا”… الترافع بطعم دولي
أصدرت المنظمة الحقوقية الإسرائيلية “بتسليم” (مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في المناطق المحتلة) تقريراً في تموز/ تموز الماضي بعنوان لافت: “إبادتنا”. وقد تأسّست هذه المؤسّسة، المستقلّة كما تعرّف نفسها، في العام 1989، وهي تُعنى بتوثيق الانتهاكات ضد الفلسطينيين تحت نظام الفصل العنصري والاحتلال الإسرائيلي. ويضم هذا التقرير عديداً من معلومات وشهادات ميدانية وإحصائيات خاصة بهم أو مستفادة من تقارير دولية عن الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان. ويعدّ مرافعة حقوقية بالغة الوضوح والأهمية، ترفع كل اللبس عن أي تشكيكٍ في أننا نعيش أكبر إبادة وإجرام يشهدهما العصر الحديث.
يبدأ التقرير بوصف البوادر القبلية لحالة الإبادة التي كان يعيشها الشعب الفلسطيني، وهي ما سماها مرحلة القمع والسيطرة والاحتلال، وهي سياسة إسرائيلية منهجية، تقوم على أسس ثلاثة، نظام فصل عنصري ينبني على الفصل والهندسة الديمغرافية والتطهير العرقي. استخدام العنف المنهجي المنظّم الذي يتمتع مرتكبوه بالحصانة. وثالثاً، مأسسة خطاب تجريد الفلسطينيين من صفاتهم الإنسانية واعتبارهم “تهديداً وجودياً”.
وضعية الكمون هذه، والتي كانت تسير نحو الإبادة لا محالة، بقيت متعطّشة للمحفّز الذي لطالما انتظرته القوى اليمينية والحكومة الإسرائيلية حتى تباشر حربها المقدّسة العلنية التي تصبو إلى “النصر الشامل”، حسب الرؤية اليمينية النازية. ولذا فإن لحظة 7 تشرين الأول (2023)، كانت بمثابة الحدّ الفاصل الذي ستنتقل بعده السياسة الإسرائيلية نحو مرحلة الإبادة والتدمير المباشرين والشاملين منهجياً وعشوائياً تجاه الشعب الفلسطيني.
أصيب %2.5 من العاملين في القطاع الطبي لحظة توثيق التقرير، وهو الأمر الذي أدّى إلى وفاة أغلبية المصابين
ولتكتمل سردية مرافعة التقرير، كان من المنطقي الرجوع إلى تعريف الإبادة حسب ما هو متعارف عليه في القوانين الدولية، معتمدين التعريف الرسمي لها أنها “تدمير عنيف ومتعمّد لجماعة إثنية أو قومية أو دينية أو عرقية”، مضيفاً أنه لا يمكن تبرير الإبادة الجماعية، سواء من الناحية الأخلاقية أو القانونية وتحت أي ظرف، وإن كانت دفاعاً عن النفس، بل ويستدلّ بالقانون الذي سنته دولة الاحتلال الإسرائيلية نفسها سنة 1950 الذي يمنع جريمة الإبادة الجماعية ويعاقب عليها.
ولم يغفل التقرير أيضاً تناول مسألة في غاية الأهمية، “القصدية”، والتي كثيراً ما تثير نقاشاً مستفيضاً عند الحقوقيين والقانونيين، ذلك أن توافرها بوضوح، في حالة من الحالات، يجعل من الإبادة حقيقة قائمة ويرفع عنها لبس التأويلات الممكنة والمغرضة كذلك، وحسب التقرير، فإن “القصدية” كانت ظاهرة بشكل قاطع عبر العناصر الآتية، أولاً من خلال تصريحات وأوامر القيادات الإسرائيلية، والتي كانت تلقى عياناً أمام أنظار جميع سكان العالم، وثانياً عبر النتائج المتوقعة لسياسة التدمير المنهجي للبنى التحتية، وثالثاً الاستمرارية في الهجوم والتدمير رغم كل التحذيرات الدولية المختلفة.
تعدّ كل المعطيات السابقة وصفاً قانونياً وحقوقياً، جعلت من الإبادة التي يشهدها الشعب الفلسطيني ولا يزال جُرماً تاريخياً فظيعاً، لا يمكن التنكر له من جميع الوجوه القانونية والحقوقية الدولية المتعارف عليها. أما عن الحقيقة الفعلية للإبادة على أرض الواقع، فقد جردها التقرير في محاور تفصيلية، رصدت نسب القتل والأضرار الجسدية والنفسية، الغارات وإخلاء السكان وتهجيرهم القسري، سياسة تعليمات إطلاق النار، غياب العلاج الطبي للجرحى والوفيات غير المباشرة، تدمير ظروف الحياة في غزّة، وانتشار المليشيات اليهودية في الضفة الغربية، القتل في مراكز المساعدات، تدمير الخلية الأسرية، التدمير الاجتماعي والثقافي والتعليمي، التشويش على التغطية الإعلامية. وهذه كلها عناصر جرى توثيق تفاصيلها بعناية، حتى تكون الخلاصة، بعد تجميعها، التوثيق الشفاف والقانوني الذي يشهد عياناً على هذه الإبادة البشعة في حقّ الإنسانية.
بالنسبة لإحصائيات القتل وتدمير الفلسطينيين جماعة، فقد أحصى التقرير منذ بدء الهجوم الاسرائيلي وإلى حدود منتصف تموز/ تموز 2025 مقتل 58.026 إنساناً، أغلبهم من المدنيين الذين لا صلة لهم بالقتال، وأما الجرحى فيقدرون بـ138.520 شخصاً. وهي كلها أفعال تصنف في خانة القتل وإلحاق الضرر الجسدي والنفسي الخطير، وزّعت على %15 من النساء، %29 من الأطفال، %7 من كبار السن. وبناءً عليه، نسبة متوسّط العمر للرجال في غزّة 40 عاماً، أي بخسارة 34 عاماً، وأما النساء فبلغن 47 عاماً، بخسارة 29.9 عاماً.
وإذا أخذنا في الاعتبار غياب الأدوية الحيوية التي منعت إسرائيل وصولها إلى غزّة، بالإضافة إلى السياسة الممنهجة لتدمير البنية التحتية الصحية من مستشفيات وتعمّد إصابة الكوادر الصحية، حيث أصيب %2.5 من العاملين في القطاع الطبي لحظة توثيق التقرير، وهو الأمر الذي أدّى إلى وفاة أغلبية المصابين. ومن عاش منهم يحتاج لتأهيل فوري وطويل الأمد، إلى جانب حالات بتر أطرافهم، أو إصاباتهم في العمود الفقري، أو الإصابات الدماغية. وقد استُقيت تقديرات المصابين من إحصاءات وزارة الصحة في غزّة، ممن جرى إحصاؤهم، بمعنى أن الأعداد تفوق ذلك، نظراً إلى ظروف القطاع التي تجعل من المتعذّر بلوغ العلاج، وأمام بنية مستشفياتٍ تهدم أغلبها، فصار نظام الرعاية الطبية، حسب تقرير منظمة أطباء بلا حدود، في حالة طوارئ دائمة.
كان واضحاً تقصد تدمير “الخلية الأسرية” في غزّة، حيث يرصد التقرير أن حوالي 14 ألف امرأة ترمّلت، وفقد 40 ألف طفل أحد والديهم أو كليهما
ولتتأكّد دولة الاحتلال من نجاح سياساتها في الإبادة والتدمير، فإن سلسلة القتل لا تتوقف عند هذا الحد، بل تزداد استفحالاً، ليصبح الموت مستوطناً كل الأمكنة، وقادماً من كل الاتجاهات، بسبب تطوّر حالات المصابين وتفشّي الأمراض المعدية وسوء التغذية ووفيات الأمهات والمواليد ومضاعفات الأمراض المزمنة التي لا تعالج. بالإضافة إلى سياسة التجويع، الذي حولته إسرائيل سلاحاً يجعل العيش مستحيلاً في غزّة. وحسب التقرير، يعاني %64 من سكان غزّة انعدام الأمن الغذائي، و%80 منهم كانوا في حاجة لمساعدات إنسانية. وقد أدّى الحصار الكامل واللاإنساني المفروض على غزّة إلى نقص متزايد عما كان عليه في المنتجات الغذائية، كما منعت إسرائيل %83 من المساعدات الغذائية، وتعمّدت الهجوم على قوافل المساعدات الإنسانية، بل ومهاجمة أفراد الشرطة الفلسطينية المكلفين بتأمين وصول هذه المساعدات، إلى جانب تدمير بنية الإنتاج المحلي للغذاء، حيث نفقت %95 من الأبقار، ولم يتبقّ إلا 15 مخبزاً من أصل 113، وجرى تدمير مطحنة القمح الوحيدة العاملة في غزّة، ونفق أكثر من نصف قطيع الأغنام والماعز، ثم تدمير قطاع صيد الأسماك الذي كان مصدراً هاماً للأمن الغذائي في غزّة، إلى جانب تدمير %80 من الآبار المستخدمة للزراعة، والتي ستخلف آثاراً بعيدة على مستقبل إنتاج الغذاء. بالإضافة لقطع إمدادات المياه عبر تدمير الجيش الإسرائيلي %84 من منشآت المياه، ومنع محاولات إصلاحها، وبشكل منهجي مقصود منع كل المساعدات التي لها صلة بالمياه وأنظمة تزويدها. ولهذا، لم يكن من الصعب على عديدين من خبراء الأمم المتحدة الحسم بأنه لم تكن هنالك سابقة في تجويع سريع وواسع النطاق لسكان مدنيين بهذا الشكل الذي شوهد في غزّة، حيث بلغ الأمر أن حوالي 1.95 مليون شخص (%93 من السكّان) يعانون نقصاً حادّاً في الأمن الغذائي، من بينهم 244 ألفاً يعيشون أكثر درجات الجوع خطورة، وهو “الجوع الكارثي”.
يوثق التقرير أيضاً تحول مراكز المساعدات إلى “مصائد للقتل”، وسيلة إسرائيلية إضافية تستخدم التجويع وسيلة للتطهير العرقي، عبر سياسات الإجبار على الازدحام الشديد، والتعرّض لإطلاق النار المقصود. ويرصد أيضاً الأوامر التي أعطيت للجنود بإطلاق النار على الحشود قصد تفريقهم وتنظيمهم، بعد جعلهم مضطرّين للاحتشاد والصراع على الفتات، بل أصبح من المعتاد إطلاق القذائف المدفعية على من يحاول الفرار منهم، وكذلك سياسة وضع هذه المراكز في نقاط حدودية في جنوب القطاع، قصد خدمة خطة النقل القسري للمواطنين الفلسطينيين. ولهذا رفضت الأمم المتحدة ومنظّمات الإغاثة الأخرى المشاركة فيها، لأنها لم تكن تخدم، حسب التقرير، إلا خطّة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الإخلاء والتهجير القسريين.
أصبح الموت في قطاع غزّة مستوطناً كل الأمكنة، وقادماً من كل الاتجاهات
وكما سبق القول، جعلت سياسة الموت المنتشرة بمنهجية في كل مكان الحرب على غزّة بيولوجيةً كذلك، فقد حرصت دولة الاحتلال على تدمير بنية الصرف الصحي هي الأخرى، لتكون النتيجة استخدام المياه الملوثة وانتشار الأمراض، والتي تسبّبت، حسب الخبراء، في آلاف الوفيات. لذا قال خبراء عديدون، حسب التقرير، إن غزّة صارت بؤرة حرب بيولوجية “شفافة”، نظراً إلى انتشار الكائنات البكتيرية المقاومة للمضادّات الحيوية، والتي لا تعرّض السكان المحليين فقط للخطر، بل أيضاً تشكل خطراً على الصحة العالمية قاطبة. ولنا أن نتصوّر بعد ذلك حجم البشاعة في الإجرام التي بلغها الكيان الاستيطاني النازي، الذي يتفنن في نشر الموت على مرأى القوى العالمية الكبرى وبمساعدتها.
في إطار السياسة الإسرائيلية الممنهجة لإبادة الشعب الفلسطيني، كان واضحاً تقصد تدمير “الخلية الأسرية” في غزّة، حيث يرصد التقرير أن حوالي 14 ألف امرأة ترمّلت، وفقد 40 ألف طفل أحد والديهم أو كليهما، وحسب العبارة الدقيقة للتقرير، إننا أمام أكبر أزمة أيتام في التاريخ الحديث.
ولعل تتبع كل إحصائيات الإبادة الإسرائيلية في حق الشعب الفلسطيني في غزّة يتعذّر جرده في هذه المقالة. ولكن نختم بملاحظة ما سمّاه التقرير في عنوان بارز “الإجرام”، ويقصد به وصف كيفية عمل الحكومة الإسرائيلية في تحريض الإسرائيليين على الإبادة، عبر سياسة تجريد الفلسطينيين من الصفات الإنسانية، وجعلهم في مكانة دنيئة لا تمنحهم حق العيش، بل وتجعل تصفيتهم مسألة أخلاقية مشروعة ومسألة قومية ودينية وأمنية عالية الحساسية. ولن نجد عبارة أدقّ في وصف سيرورة الإبادة هذه، وجناية الحداثة الغربية على الإنسانية، من قول الفيلسوف البولندي زيجمونت باومان عندما وصف الإبادة النازية بأنها قد كتبت في “مشروع الحداثة” منذ البداية، بحبر كان غير مرئي لكنه يزداد وضوحاً مع تزايد حرارة المشاعر التحديثية.