ليس بحذف الأصفار وحده تقوى العملة يا سورية

ليس بحذف الأصفار وحده تقوى العملة يا سورية

قلما نالت عملة بالعالم ما طاول الليرة السورية من تضخم أفقدها أكثر من 90% من قيمتها مذ قام السوريون بثورتهم عام 2011، وقت لم يزد سعر تصريف الدولار عن 50 ليرة، لتتأرجح اليوم عند 11 ألف ليرة للدولار الواحد، رغم تحسن ما بعد التحرير وهروب الرئيس السابق في كانون الأول/ كانون الأول الماضي، بالإضافة إلى النفور والإساءة للعملة السورية التي ترمز، بشكل أو بآخر، لسيادة البلد، بعدما وضع المخلوع بشار الأسد صورته على الأوراق النقدية الكبيرة عام 2017 وباتت العملة موضوع تهكم وإثارة للنكات “كيلو البطاطا ببشارين”.

ليأتي تبديل العملة ومعها الصورة الذهنية المكونة عنها ضمن ضرورات مرحلة التغيير التي تشهدها سورية الجديدة، من خلال طرح أوراق بنكنوت جديدة تحمل صوراً ورموزاً وطنية جامعة لا صوراً وملامح جدلية وإشكالية، أوراق نقدية من فئات صغيرة ومتوسطة عصية على التزوير الذي شهدته الأوراق الكبيرة خلال حكم الأسد، أوراق ذات قيمة شرائية معقولة تبعد عن السوريين والمتعاملين بعملتهم أعباء حمل كتل نقدية كبيرة خلال التعاملات النقدية والتجارية اليومية، ما ينعكس نفسياً وربما عودة الثقة بالنقد السوري، اللهم إن ترافق حذف الصفرين، أو سبقه، مع إصلاح نقدي ومالي واقتصادي، يجعل من الليرة موضع ثقة وليس مصدر اضطراب ومخاوف للحائز والمكتنز والمدخرين.

وفعلاً، جاء الإعلان رسمياً عن تبديل العملة وحذف صفرين وصور آل الأسد (الأب والابن) والكشف عن توقيع عقود طباعة الليرة الجديدة خلال زيارة الوفد السوري روسيا في نهاية تموز/ تموز الماضي، مع شركة غوزناك الروسية، لتدخل العملة الجديدة التداول في توقيت تحرير دمشق نفسه، الثامن من كانون الأول/ كانون الأول المقبل.

وتكون الأسواق السورية على موعد مع ورق نقدي جديد محمول باليد والمحفظة وليس بأكياس كبيرة خلال شراء أبسط الحاجات اليومية، والمسؤول السوري أمام فرصة لجمع وتبديل نحو 40 تريليون ليرة خارج النظام المالي الرسمي، بعد استعادة القدرة على ضبط، أو معرفة على الأقل، حجم التدفقات المالية والقدرة على منع التزوير. وليس أكثر من ذلك، كي لا يغرق السوريون بالأحلام ويغالي المسؤولون بالتصريحات والوعود، فالأمر حتى الآن عملية ضرورية فرضتها المرحلة، تحمل معاني رمزية سياسية وأبعاداً نفسية، لأن استعادة القيمة الشرائية لليرة السورية، أو أي عملة بالعالم، لا تتعلق البتة بحجمها أو ما عليها من عبارات وصور، بل ثمة محددات وشروط، وحزمة إصلاحات، اقتصادية أولاً ومن ثم إدارية وقانونية وسياسية، هي التي تحدد سعر صرف العملة ومدى الثقة بها والإقبال على اكتنازها.

قصارى القول: لنتفق أولاً على أن حذف صفرين أو أكثر وتبديل الصور والرموز عن أي عملة لم ولن يغيّر قيمتها الشرائية الحقيقية أو سعر صرفها المقيّم بسلة عملات أو بعملة رئيسية محددة، من دون أن نتنكّر طبعاً للدور النفسي للمتعاملين والرقابي والإداري للمسؤولين، جراء إمكانية ضبط المعروض النقدي وتقليل أخطاء المحاسبة والفوترة وحتى التسعير السلعي.

ولنا بذلك تجارب دولة عدة، منها ناجحة، كالتجربة التركية التي ألغت ستة أصفار عام 2005، وأخرى فاشلة كالتجربة الزيمبابوية التي لم يبعدها إلغاء الأصفار عن التضخم، وسرعان ما عادت الأصفار للعملة جراء استمرار الأزمة الاقتصادية، لتتلاشى الثقة بدولارها أكثر من ذي قبل. بمعنى آخر وبسيط، مشكلة تدهور سعر الليرة السورية نتجت عن مشاكل اقتصادية، من دون التقليل طبعاً من دور الحرب التي نتجت عنها أزمات سياسية ونفسية.

وتلك المشاكل أو محددات سعر وقوة الليرة تكمن أولاً بتبديد الاحتياطي النقدي الذي زاد عن 18 مليار دولار عام 2011، لتغدو الليرة بلا غطاء ولا حام يتدخل خلال اهتزازها والثقة بها. وتكمن ثانياً بتراجع الإنتاج والصادرات السورية التي تكفي السوق الداخلية فتقلل من استنزاف العملات الصعبة بالاستيراد، وتأتي بالدولار جراء التصدير، فيوازن المعروض النقدي بالسوق، ويستقر سعر الصرف إن لم نقل يقوى، أي ضبط الميزان التجاري. وتكمن ثالثاً بتراجع السياحة التي ترفد السوق بالعملات الأجنبية وتروّج، إلى جانب الجمال والمتعة، لإنتاج البلد وحتى لخططه وأنماط وسلوك مواطنيه…

وتكمن أخيراً بتلاشي الثقة ببلد شهد حرباً امتدت لأربع عشرة سنة، أتت في ما أتت على البنى والهياكل الاقتصادية، ونالت من الثقة بالعملة، بعد تراجع الثقة والتشكيك بالقطاع المالي والمصرفي برمته، الذي عجز عن جذب الإيداعات والتدخل بالسوق، أو ضبط السيولة لصونه من المضاربات ومزالق السوق الموازي. ما يعني، وكي لا يكون تبديل العملة السورية خطوة تقنية وردة فعل ذات دلالات سياسية على ما تحوي الأوراق النقدية من صور وتأريخ لمراحل سابقة، لا بد من بدء علاج استعادة قيمة وهيبة الليرة، من الأسباب الاقتصادية (إنتاج وتصدير واحتياطي)، إلى جانب تعزيز الثقة بسورية، اقتصادياً واستثمارياً وسياسياً، وأسباب أخرى، ستظهر خلال عملية استبدال العملة، من طرق وآلية سحب القديمة وضبط السيولة، من خلال إصلاح اقتصادي ومالي ومدة زمنية محددة.

أي بلغة مباشرة، إيجاد معادل نقدي وإنتاجي وخدمي يضمن ثبات سعر صرف العملة الجديدة كي لا يعود التضخم وتتصدر أصفار الليرة الجديدة من جديد. نهاية القول: ليس من قبيل الإحباط أو وضع عصيّ بعجلة تطلع سورية وآمالها جراء تبديل العملة وإلغاء الأصفار، بيد أن البداية ليست من هنا، وتحسين الواقع الاقتصادي والمعيشي والاستثماري ليس من هنا. بل البداية من دعم الإنتاج الزراعي والصناعي والصادرات، البداية من الإصلاح الاقتصادي والنظام المالي والمصرفي، البداية من ضبط الجغرافيا السورية واستعادتها، وضمان عدم استمرار استخدام العملة القديمة أو اعتماد الدولرة…

والبداية من ضبط السوق وقوننة الصيرفة عبر شركات محددة، تكون عوناً بتنفيذ خطط المصرف المركزي، لا عامل استنزاف ومضاربة وتهريب عملة. طبعاً وأولاً وأخيراً، مع الاعتراف بضرورة الخطوة زمنياً ونفسياً ومرحلياً، لأن بقاء صور الرئيس البائد ووارثه له مدلولات عجز واستكانة، ولكن من دون التمادي بالوعود والآمال، فحذف الأصفار وإزالة صور المستبدين هي عملية تجميل للاقتصاد، في حين التغيير والقوة التي ستنعكس على العملة، سعراً وثقة، تكمن في جوهر الاقتصاد نفسه وتحسين مؤشراته، من نمو وبطالة وإنتاج وتصدير، وسيطرة على التضخم.

كما لن يحسب حذف الأصفار إنجازاً لسورية الجديدة، إن لم تعرف كيف تثبت وتحسن سعر الصرف وتضبط التضخم، فتاريخ العملات الحديث يقول إن 70 حالة حذف أصفار شهدتها العملات، منذ عام 1960، منها ما نجح وانطلق بعد العملة الجديدة، كتركيا، ومنها ما لا يزال يعاني ويعيد تجربة حذف الأصفار، كما الأرجنتين التي أزالت الأصفار عن عملتها أربع مرات، ويوغسلافيا خمس مرات، والبرازيل، قبل أن تقوى ويستقر ريالها، ست مرات.