
العمالة الأجنبية في الدنمارك: ضرورة اقتصادية مهدّدة بالتلاشي
في الوقت الذي تشهد فيه الدنمارك نمواً اقتصادياً ملحوظاً، باتت تعتمد بصورةٍ متزايدة على فئة معينة من العمالة الأجنبية الضرورية، لا سيّما من دول أوروبا الشرقية مثل بولندا ورومانيا. هؤلاء العمال، الذين يزيد عددهم اليوم عن 80 ألفاً، لا يحافظون على استقرار سوق العمل فحسب، بل يضخّون أيضاً مليارات الكرونات في خزينة الدولة. لكن تطوراً ديموغرافياً مقلقاً يُثير التساؤلات: هل تستطيع الدنمارك الاستمرار في جذب هذه العمالة في المستقبل القريب؟
بحسب تصريحات صحافية لألكسندر سوندرغورد، نائب مدير السياسات والتحليل في منظمة SME Denmark، وهي جمعية أنشأتها المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتضم نحو 18 ألف شركة دنماركية على المستويين المحلي والأوروبي، فإن: “الأيدي العاملة الأجنبية أصبحت جزءاً لا يُقدّر بثمن في سوق العمل الدنماركية”، ويلعب العمال من بولندا ورومانيا دوراً محورياً في العديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة. لا يمكن المبالغة في تقدير مساهمتهم؛ فهم يوفّرون يداً عاملة تُمكّن الشركات من تلبية الطلب المتزايد”.
ويُشير تحليل صادر عن غرفة التجارة الدنماركية، اليوم الثلاثاء، إلى أن العمالة الأجنبية ساهمت في الناتج المحلي الإجمالي لعام 2024 بما لا يقل عن 361 مليار كرونة (ما يعادل نحو 12% من إجمالي الاقتصاد الوطني).
العمالة الأجنبية بالأرقام
وبلغ عدد العمال البولنديين والرومانيين في الدنمارك أكثر من 80 ألفاً، وهو رقم يزيد بأكثر من خمسة أضعاف مقارنة بما كان عليه قبل 15 عاماً، ويشكّلون اليوم نحو ربع إجمالي القوى العاملة الأجنبية. ووفق وكالة سوق العمل والتوظيف الدنماركية، فإنّ الحاجة إلى الأيدي العاملة الأجنبية مرشحة للارتفاع في السنوات القادمة. وفي المقابل، تتوقع جمعية أصحاب العمل الدنماركية أن ينخفض عدد العمال المهرة المحليين بمقدار 150 ألفاً بحلول عام 2035، ما يُشكّل “تحدياً مجتمعياً كبيراً” بحسب توصيفها.
ولم يكن قدوم العمال الأجانب إلى الدنمارك مجرد استجابة للنمو، بل أحد أسبابه كذلك. فبحسب غرفة التجارة، ساهم هؤلاء العمال بنحو ربع إجمالي نمو الناتج المحلي الإجمالي بين الربع الأول من 2024 والربع الأول من 2025، إذ بلغ معدل النمو الإجمالي 4% بالأسعار الثابتة، ونُسبت نقطة مئوية كاملة تقريباً إلى مساهمتهم المباشرة.
من يشغل الوظائف بدل الدنماركيين؟
أكثر من واحد من كل ثمانية موظفين في الدنمارك اليوم يحمل جنسية أجنبية. ويتركز هؤلاء كثيراً في الوظائف التي لا تلقى إقبالاً من الدنماركيين، لا سيّما في قطاعات الزراعة، والبناء، والتنظيف، والمطاعم. فعلى سبيل المثال: يُمثّل الأجانب أكثر من 40% من عمال قطاع الزراعة، ونحو الثلث في قطاع الفنادق والمطاعم، وحوالى 20% في قطاع البناء.
وعن ذلك يقول سوندرغورد: “هناك ببساطة بعض الوظائف التي لا يرغب الدنماركيون في شغلها، سواء لأسباب ثقافية، أو بسبب طبيعة العمل أو مستوى الأجور. وهنا يأتي دور العمالة الأجنبية التي تسد هذه الفجوة”.
ويبلغ معدل البطالة “الصافي” وفق بيانات سوق العمل الدنماركية وموقع ترايدينغ إيكونوميكس (Trading Economics) في أيار/أيار 2025، نحو 2.5%، وهو مستقر منذ أربعة أشهر.
هذا المعدل يعكس فقط من جرى تسجيلهم فعلياً بوصفهم عاطلين ومستفيدين من الدعم. في حين تقدّر منظمة العمل الدولية (ILO) البطالة في الدنمارك بنحو 6.7%، وتشمل هذه النسبة الأشخاص القادرين على العمل ويبحثون عنه دون أن يكونوا مسجلين.
ولا تقتصر مساهمة العمال الأجانب على الاقتصاد فحسب، بل تمتد إلى النسيج الاجتماعي في المناطق الريفية. ففي القرى الصغيرة خارج المدن الكبرى، حيث تقع مصانع الإنتاج الزراعي والصناعي، يُساهم المهاجرون من أوروبا الشرقية في إنعاش المجتمعات المحلية من خلال المدارس، والمتاجر، والأنشطة الرياضية كأندية كرة القدم. ويؤكد سوندرغورد: “لا ينبغي التقليل من أهمية انتقال عائلات أوروبية شرقية إلى القرى الدنماركية. هؤلاء يساهمون في الحفاظ على حياة اجتماعية واقتصادية نابضة في المناطق التي تُعاني نزوحاً سكانياً مستمراً”.
لكن رغم هذه الصورة الإيجابية، هناك تحدٍّ حقيقي يلوح في الأفق. فالدنمارك ليست الدولة الوحيدة التي تسعى إلى جذب عمال أجانب، بينما تُعاني دول أوروبا الشرقية من انخفاض سكاني حاد. وتشير التقديرات إلى أن 15 من أصل 20 دولة في العالم ذات أعلى معدلات انخفاض سكاني تقع في أوروبا الشرقية، بما في ذلك بولندا ورومانيا.
خطر تناقص العمالة الأجنبية
رومانيا، على سبيل المثال، قد تخسر ما يقرب من ثلث سكانها بحلول عام 2050، إذ يُتوقع أن ينخفض عدد السكان من نحو 20 مليوناً إلى أقل من 14 مليوناً، بحسب بيانات المفوضية الأوروبية.
تعاني كثير من الدول الأوروبية من تراجع معدلات الخصوبة والولادات، ما قد يؤدي إلى انعكاسات خطيرة على رفاهية وتقدم اقتصاداتها. ويحذر سوندرغورد من أنه “على المدى الطويل، سيكون من الصعب جذب نفس العدد من العمال البولنديين والرومانيين، ببساطة لأن عددهم في تناقص مستمر”.
مستقبل معقّد لسوق العمل
وبينما تستفيد الدنمارك حالياً من حرية تنقل الأفراد داخل الاتحاد الأوروبي، فإنّ الواقع الديموغرافي في بلدان المنشأ يُنذر بأزمة مستقبلية. ويحذر خبراء سوق العمل الدنماركية من أنه بدون تبني سياسات هجرة مدروسة، وتسهيلات لاستقطاب العمال من خارج الاتحاد الأوروبي، قد تجد الدنمارك نفسها في مواجهة أزمة حقيقية في سوق العمل، تهدد ليس النمو الاقتصادي فحسب، بل أيضاً تماسك المجتمعات المحلية خارج المدن الكبرى.