أكد رئيس الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية السورية عبد الباسط عبد اللطيف، الثلاثاء، أن أهداف الهيئة “تشمل العمل على تحقيق المصالحة الوطنية والسلم الأهلي في البلاد، إلى جانب الإصلاح المؤسسي”.
جاء ذلك في تصريحات لعبد اللطيف نقلتها وكالة الأنباء السورية الرسمية “سانا”، بعد 5 أيام من تشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية السورية.
المساءلة والمحاسبة
وشرح عبد اللطيف أن أهداف العدالة الانتقالية في سوريا تشمل أيضًا “كشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة، والمساءلة والمحاسبة، وجبر ضرر الضحايا وتعويضهم”.
وذكر أن “الهيئة تعمل بجدية لأداء هذه المهمة”، مشيرًا إلى أن “الضحايا وأسرهم سيكون لهم دور مركزي في عملية العدالة الانتقالية“.
وأشار عبد اللطيف إلى أن الضحايا وأسرهم سيكون لهم دور مركزي في عملية العدالة الانتقالية، مؤكدًا أن الهيئة ستكون “الجند الأوفياء لهذا المسار لتحقيق جميع أهدافهم”.
الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية
والخميس، أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع، مرسومًا بتشكيل “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية” من رئيس و12 عضوًا أحدهم نائب للرئيس أيضًا، وفق نص المرسوم الذي أوردته “سانا”، حينها.
وكان الشرع قد أصدر مرسومًا في 18 أيار/ أيار الماضي بتشكيل هيئة للعدالة الانتقالية تتولى كشف الحقائق بشأن انتهاكات النظام السابق، ومحاسبة المسؤولين عنها، وجبر الضرر الواقع على الضحايا.
وجاء القرار حينها بعد أن تصاعدت مطالبات محلية ودولية بالمحاسبة وتحقيق العدالة في الانتهاكات التي ارتكبها نظام بشار الأسد أثناء محاولاته قمع احتجاجات شعبية مناهضة له اندلعت في آذار/ آذار 2011، وطالبت بتداول سلمي للسلطة.
وشملت تلك الانتهاكات عشرات الهجمات بالأسلحة الكيميائية، وقصفًا جويًا واسعًا ببراميل متفجرة على مناطق مأهولة، إلى جانب اعتقالات تعسفية، وإخفاء قسري، وتعذيب ممنهج في مراكز الاحتجاز، ما أدى إلى مقتل وفقدان مئات الآلاف من المدنيين، وفق تقارير صادرة عن الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية.
وفي 6 آذار الماضي أكد وزير الخارجية أسعد الشيباني أن بلاده تمضي قدمًا لـ”محاسبة المجرمين وتحقيق العدالة للشعب السوري”.
تتردّد في سورية عبارة تدعو إلى “مسك العصا من المنتصف”. يزعم الداعون إليها أنّهم بذلك يبنون البلاد والسلام، غير آبهين بالدماء والانتهاكات. ومعروفٌ أنّ مسك العصا من المنتصف شأن يخصّ ساسة الدول، فالدولة المهيمنة تمسك بالعصا، بها تشير وتنبّه، تغمز وتهمز، تصعّد وتهادن، تقرّع وتهدّد، وبها أيضاً تهشّ، وتضرب الرؤوس الكبيرة والصغيرة.
قد تكون العبارة مطروحة مجازاً. فمثلاً، طوال الحرب السابقة كان مصطلح “الحرب الأهليّة” لتوصيف الكارثة السوريّة يشعرني بالإهانة. ولتخفيف قهري، أحلْتُ العبارة إلى الفضاء المجازيّ. وما كان يعزّز إنكاري المصطلح أمران أساسيّان، أوّلهما: أن كثيرين من الساسة العرب والأجانب، والفضائيّات العربيّة التابعة لمُلّاك العصا، كانوا وقت إمساكهم بمنتصف العصا، يتخلّون عن ذلك المصطلح لصالح مصطلح “الأزمة السوريّة”. ولا شكّ كنّا ندرك أهداف مُلّاك العصا المغرضة وإعلاميّوهم. وثانيهما: أنّنا شهدنا وعايشنا خلال حركة النزوح الداخليّة الكبيرة إلى المحافظات السوريّة الآمنة، واستقبال أهلها إخوتهم المنكوبين، وإغاثة معارضين وموالين للنظام لهم، وإسكانهم بينهم، ولم يشغلهم اختلافهم الدينيّ والطائفيّ والإثنيّ. ويجدر ذكر أنّ نازحين عديدين، بعد هروب الأسد، آثروا البقاء في أمكنتهم.
تفاقمت قباحة العهد البائد، ونظامه متعدّد الطوائف، بجرائمهم وانتهاكاتهم وفسادهم خلال الحرب، أنكروا الجرائم، برّروا بعضها. تنصّلوا منها وألصقوها بالطرف الآخر (ارتكب جرائم وانتهاكات). فما أشبه يومنا بالأمس.
انتشرت فيديوهات كثيرة تصوّر مجازر الساحل والسويداء، صرخات الأهالي الموجعة لقتل أبنائهم، واعتقالهم التعسّفيّ، وقتل العجائز، خطف شبانهم وبناتهم. سرقة المحلّات التجاريّة والبيوت وحرقها، شتمهم وتهديدهم بخطابات طائفيّة مشينة، وما زال الأمر قائماً ولو بدرجات أقلّ. كما نُشرت مقالات هائلة مدجّجة بالبراهين والأدلّة، شهد بعض أصحابها تلك المجازر والانتهاكات وعاشوها. وكانت السويداء المدمّاة والمطعونة في كرامتها نقطة التحوّل المريعة. في حين كان الحلّ الوطنيّ سهلاً لا يتطلّب سوى فكّ السلطة الانتقاليّة حصارها للمحافظة، وفتح المعبر المؤدّي إلى دمشق، كانت كلفتها لا تذكر إزاء الكلفة الباهظة للسماح بفتح معبر إلى الكيان المحتلّ، ولكان الجلوس مجدّداً إلى طاولة حوار وطنيّ جامع يستعيد الثقة بينها وبين الجميع، وتفعيل مسار العدالة الانتقاليّة. بذلك، لن تُسأل الدولة الوليدة المفترضة حول كيفيّة تحليقها في سماء المجد وقد فقدت أحد أطرافها. ومن وما الذي دفع بأهالي السويداء، العروبيّين الأشدّاء، إلى اتخاذ ذلك القرار الكارثيّ؟ وقد طالبت أغلبيّتهم العظمى وما زالت بحكم ذاتيّ وحسب. أحزنهم تهجير جيرانهم وأهلهم من البدو. عقود مديدة مضت على اختلاط حيواتهم اليوميّة بعضها ببعض، يحلّ مشاجراتهم حكماء الطرفين، و”ببوسة شوارب” وبفنجان قهوة أصيل، انتُهكا اليوم. لكم أعجزوا نظام الأسدين البائد عن تحقيق الفتنة بينهم. فلماذا تحقّقت اليوم؟ ثمّ، ما مصير شرق الفرات والساحل، هل ستفقدهما البلاد (الموحّدة) أيضاً؟
اليوم، سوريّة دامية ومهدّدة بالتقسيم والزوال فعلاً، وهي، عبر التاريخ، ملكٌ لأبنائها جميعاً، فللجميع الحق الشرعيّ في المساهمة بإنقاذها، في أن ينطلقوا معاً إلى الساحات والشوارع، ويصرخوا رفضاً للتقسيم ودعاته الطائفيّين من خارج البلاد وداخلها، وتنديداً بالكيان الصهيونيّ المحتلّ. بلادنا المريضة قاب قوسين أو أدنى من موت محتّم، فلتلقوا بالعصا ومنتصفها المغلّف بالجهل والرياء، بالجشع والانتهازيّة، وباللّاإنسانيّة، وإلّا تحوّلت إلى سيف بتّار يساهم في تقطيع جسد البلاد وأرواحنا جميعاً. ولا من منتصر أبداً.
تأجلت قراءة اتجاهات الرأي العام في سورية سنوات عديدة بسبب ظروف الحرب والنظام الديكتاتوري السابق. وبين 25 تموز/ تموز و17 آب/ آب الماضيين، جرى استجواب 3690 شخصاً، ومن مختلف المحافظات السورية، والأديان والقوميات والطبقات الاجتماعية. أُخذت الآراء في شرطٍ سوريٍّ معقّد، وهو المرحلة الانتقالية. وبالتالي، يجب عدم تجاهل الأمر في قراءة أية نسبٍ عدديةٍ، وستحاول هذه المقالة التطرّق لبعضها في مناقشة المؤشّر العربي عن سورية 2025، والذي أنجزه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالتعاون مع المركز العربي لدراسات سورية المعاصرة، الكلام عن المرحلة الانتقالية، لأنّ الآراء قابلة للتغيّر، حيث الواقع يتبدّل بسرعة وفيه احتمالات شتى، ولاسيما مع وجود تحدّياتٍ تتعلق بكل أوجه المجتمع، والدولة، والسلطة، والعلاقة مع الخارج، ولاسيما مع الدولة الصهيونية، التي احتلت أراضي سورية كثيرة بعد 8 كانون الأول (2024)، وتحتل الجولان منذ 1967.
رأت نسبة كبيرة أن الخطر الأكبر على سورية التقسيم، وفي الدرجة الثانية الطائفية والإثنية والقبلية،
رأت نسبة معتبرة أن الأمور وبشكل عام تسير بالاتجاه الصحيح، وهي 56%، وبشكل خاطئ 25%، ونسبة 17% لم تحدّد رأياً. بدت نسبة الذين يشعرون بالأمل والأمان والفرج كبيرة بعض الشيء، وهي 71%، بينما من يشعرون بالتوتر والخوف واليأس والحزن والغضب 29%، وهي ليست نسبة صغيرة. أشارت نسبة معتبرة إلى سوء الأوضاع الاقتصادية 64%، بينما رأت نسبة أنها جيدة 28%، الجيدة جداً هي 6% فقط. وعن الوضع السياسي المباشر، رأت نسبة 44% أنه جيد، و13% أنه جيد جداً، بينما 24% رأت أنه سيئ، و13% أنه سيئ للغاية. نلاحظ هنا أن النسب لا تعبّر بدقّة عن الاتجاهات العامة، وربما يعود الأمر إلى صياغات الأسئلة، وهناك انخفاض مستوى الوعي بعامة، وهناك طبيعة المرحلة المميزة التي تمر بها سورية.
رأت نسبة كبيرة أن الخطر الأكبر على سورية التقسيم، وفي الدرجة الثانية الطائفية والإثنية والقبلية، والمشكلة الثالثة الفقر وتدني مستويات المعيشة، بينما الرابعة وجود الفصائل المسلحة، الخامسة بالترتيب هي سوء الأوضاع الاقتصادية، ولاحقاً غياب الأمن، وبدرجة أقلّ التوغل الصهيوني. لم يلحظ الرأي هذا خطر التوغّل الصهيوني مباشرة بعد التقسيم، وجاء في الدرجة السابعة، وكان يُفترض الربط بين التقسيم وهذا الخطر الصهيوني هذا. وقد أكدت النسب العددية أن الطائفية والإثنية والقبلية السبب الثاني الذي يؤدّي إلى التقسيم، وهذا رأي مهم، حيث هناك خطورة حقيقية على مستقبل سورية (التقسيم) في حال استمر تسييس هذه البنى، وسواء من السلطة أو قوات سوريا الديمقراطية (قسد) أو السويداء، أو لدى قطاعات من الشعب.
عدد الراغبين بالهجرة لأسباب اقتصادية هو 40%، بينما عدم الاستقرار الأمني بنسبة 35%، ولأسباب سياسية 3%. وربما تفضيل الهجرة، لأن دخل 43% لا يفي بالاحتياجات الأساسية، بينما 42% منهم بحالة حرجة، و11% فقط يغطون احتياجاتهم ويوفرون من دخلهم. وإن 36% منهم يتلقون تحويلات من الخارج وبشكل شهري، بينما 59% لا يتلقون أية مساعدات. إذاً هناك وضع اقتصادي كارثي، ويتفق مع أرقام الأمم المتحدة لحالة الفقر80%، بينما الذين يوفرون المال نسبة صغيرة للغاية، وهذا يعني أن هناك انقساماً طبقياً حادّاً في سورية.
النسبة الأساسية من السوريين، سيما السنة، تفضل دولة مدنية بنظامٍ ديمقراطي وبحقوقٍ متساوية
النسب التي تثق بتطبيق الدولة للقانون هي 47%، بينما ترى نسبة معتبرة أن تطبيق القانون ولصالح فئة من المجتمع، 31%. وفي هذا الإطار بدا أن نسبة كبيرة تثق بالأمن العام 56% بينما تثق بالحكومة 55% وبوزارة الدفاع 54% وبالمحافظين 53%، وبالتالي، النسبة الأخرى لا تثق بهذه المؤسّسات، أي قرابة نصف السكان. يلفت الانتباه أن نسبة 15% تتحدث أن الفساد المالي والإداري منتشر جداً، بينما نسبة 42% تراه منتشراً إلى حد ما، و7% تراه غير منتشر، 32% تراه منتشراً إلى حد قليل. وتفيد هذه النسب بأن الفساد الذي كان يسم نظام الأسد لم ينته، وموجود بكثافة.
هناك نقاش سوري كبير بشأن كيف يمكن تطبيق العدالة الانتقالية، هل على نظام الأسد فقط أم على كل الأطراف. ترى نسبة 65% أن المحاسبة يجب أن تشمل الجميع، بينما يشير 25% إلى محاسبة ضباط النظام وشبّيحته فقط، وهذا يشير إلى وعي سوري متقدم بشأن كيفية تجاوز الماضي، فالأمر غير ممكن بمحاسبة جهة واحدة، وترك الجهة الأخرى، وضرورة أن تكون العملية نزيهة.
هناك تيار واسع يبدو متشائماً من رغبة الناس بالديمقراطية، بينما أوضح “المؤشّر” أن النسبة الأكبر من السوريين تفضلها، 60%، بينما يعارضها 15% وبشدّة 6% فقط. وفي السؤال عن أفضل أشكال الحكم، كانت النسبة 61%، لصالح الديمقراطية والتعددية السياسية بينما فضلت نسبة صغيرة نظاماً محكوماً بالشريعة، 8%، ومن دون انتخابات أو أحزاب سياسية، وباعتبار الأغلبية مسلمة في سورية، فهو يشير إلى أن خيارها هو الديمقراطية، وبالاتجاه ذاته فضلت نسبة 42% الدولة المدنية بينما 28% فضلت الدينية، ونسبة معتبرة 22% لا يعنيها الأمر! وبالسؤال عن أهمية المساواة بين السوريين وبغض النظر عن الدين والريف أو المدينة أو الجنس أو القومية والنفوذ السياسي فقط كانت النسبة 77%. إذاً النسبة الأساسية من السوريين، ولاسيما السنة، تفضل دولة مدنية بنظامٍ ديمقراطي وبحقوقٍ متساوية. وضمن السياق نفسه، أكد 53% أنهم سيسمحون لأي حزب بالحكم شريطة إجراء انتخابات نزيهة وحرّة بينما عارض الأمر 31%، وأنهم لن يوافقوا على انتخاباتٍ لا يفوز فيها الحزب الذي يؤيدونه.
وافقت نسبة هامة على فصل الدين عن الدولة 57%، بينما عارض الفصل 22% وعارض بشدّة فقط 8%
وفي الموقف من الدولة الصهيونية، أكدت نسبة 60% أن هذه الدولة تهدد المنطقة واستقرارها، وسورية ضمناً، وتأتي إيران بعدها 50%. وبالسؤال عن أهمية القضية الفلسطينية، فقد أجاب 69% من السوريين بأنها قضية العرب جميعاً وليست قضية الفلسطينيين وحدهم، بينما ذكر 15% أنها قضية تخص الفلسطينيين وحدهم. بدا الشعور بالضعف تجاه دولة العدو مع سؤال عن إمكانية الاعتراف بهذه الدولة، فقد كانت النسبة بين السوريين المستجوبين 17% وفي مصر 12%، بينما في لبنان 9%. مع ذلك، رفضت نسبة 70% أي اتفاق مع الدولة الصهيونية من دون عودة الجولان، بينما وافق على ذلك 19%. من الواضح أن هناك تشوشاً كبيراً في وعي السوريين تجاه هذه القضية، وربما يتعلق الأمر بأوضاعهم الكارثية والراغبة في الاستقرار، لكن هناك نسباً ممتازة بما يخصّ الموقف من القضية الفلسطينية أو سوريّة الجولان، ويدعم هذه النسب أن أغلبية سورية 88% ترى الدولة الصهيونية تهدّد الاستقرار في سورية.
وافقت نسبة هامة على فصل الدين عن الدولة 57%، بينما عارض الفصل 22% وعارض بشدّة فقط 8%. في إطار الحقل الديني، عارضت نسبة 75% اعتبار شخص غير متدين سيئاً، بينما وافق 12% على ذلك. وبخصوص التعامل مع الأشخاص، فعلى الأساس الديني فقط 21% بينما أكّدت نسبة 58% أن لا مشكلة في التعامل، وفضلت نسبة 15% التعامل مع غير متدينين.
الشرط السوري المعقد، كتأجيل الانتخابات في ثلاث محافظات، الرّقة والحسكة والسويداء، وأضيفت القنيطرة، نظراً إلى التوغل الصهيوني الخطير فيها، والكثير من السيولة والتغير، يجعل النسب المعالجة أعلاه شديدة التغير. وبالتالي، وعلى أهميتها، وهي تعطي مؤشّرات عامة، فإنه يصعب الركون إلى ثباتها، وثبات الاستنتاجات العامة لاتجاهات الرأي.
هل تعتبر الإدارة السورية الجديدة نفسها سلطة انقلابية، تمكّنت من السيطرة بجهودها الذاتية على مقاليد الحكم ومفاصله في غالبية المناطق السورية؟ أم أنها تعتبر ذاتها حصيلة تراكم جهود المعارضين السوريين لحكم حزب البعث، وتجسيداً لانتصار ثورة الشعب السوري العارمة على سلطة آل الأسد المستبدة الفاسدة المفسدة، الثورة التي انطلقت في آذار/ آذار 2011، وعمّت مختلف الجهات السورية، وشارك فيها السوريون من سائر المكونات المجتمعية؟
هذا السؤال المزدوج هو المحوري الذي يطرحه اليوم بقوة السوريون الذين غمرتهم فرحة الانتصار، ولكنهم ما زالوا يتخوّفون مما يمكن أن يحدُث إذا ما تكرّرت الأخطاء التي كانت. وماهية الجواب، من هذا الفريق أو ذاك، هي التي يمكن أن تساعد في تفسير ما حصل، وإلقاء الضوء على ما يحصل راهناً، واستشراف ما يمكن أن يحصل مستقبلاً على المستوى السوري الوطني الداخلي، وعلى الصعيد الإقليمي المجاور؛ وتفاعل ذلك كله مع المصالح والحسابات والمواقف الدولية والإقليمية، وانعكاساتها على الواقع السوري.
في حال الإقرار بالطابع الانقلابي، تكون السلطة منسجمة مع ذاتها حينما تتخذ القرارات الكبرى التي لا يمكن أن تقدم عليها حتى الأنظمة المستقرة التي تستمد مشروعيتها من الشعب، أن تقدم عليها في غياب وجود مرجعية وطنية بأي شكل، فما بالك بسلطة انتقالية مرحلية؟
والمرجعية المطلوبة هي التي تمثل التنوع المجتمعي بمختلف انتماءاته المجتمعية وتوجهاته السياسية؛ مرجعية تضفي حدّاً أدنى على الأقل من الشرعنة على قرارات تتصل بنظام الحكم والصلاحيات التي يتمتّع بها رئيس الدولة وشكل الدولة ونظامها، والقرارات الخاصة بالعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية والمفاوضات مع إسرائيل، وصيغة العلاقة بين الدولة وشعبها على مستوى الجماعات والأفراد. هذا ناهيك عن المناهج التعليمية والسياسات الإعلامية والخطط الاستثمارية؛ فكل هذه القرارات الكبرى المفصلية ستكون لها تأثيرات بنيوية في شكل الدولة السورية، ونظام الحكم فيها، ومستقبلها، كما ستؤثر في موقعها ودورها إقليمياً وعربياً وإسلامياً، ومكانتها الدولية؛ فكل هذه القرارات في حاجة إلى مرجعية وطنية تقطع الطريق أمام التفرّد أو التحكّم من فريقٍ بعينه في شؤون دولة لا تُدار بصورة ناجحة إلا من خلال توافق وطني.
اعتماد شعار “من يحرّر يقرّر” المستلهم من العقلية الانقلابية الاستبدادية التي عانى منها شعبنا في ظل السلطات الانقلابية، خصوصاً سلطة البعث وآل الأسد التي حكمت البلد بالحديد والنار أكثر من ستة عقود؛ أمر لا يطمئن السوريين، بل يثير مخاوف كثيرة لديهم.
ذاكرة الناس في سورية والمنطقة مثقلة بمآسي تجارب الانقلابات العسكرية والدساتير المؤقتة
وفي المقابل، أن نقرّ صراحة بأن التحوّل النوعي الكبير الذي حصل في البلد كان، كما اعترف بعض المسؤولين في الإدارة الجديدة وفي مقدمتهم الرئيس أحمد الشرع نفسه، جاء بفضل تضحيات السوريين والسوريات عقوداً، وبلغت ذروتها في سنوات الثورة الـ14. كما كان هذا التحول نتيجة إرادة السوريين وإصرارهم على القطع النهائي مع سلطة آل الأسد الباغية الفاسدة؛ فهذا فحواه احترام وتقدير تضحيات السوريين والسوريات، وهذا لا يكون بالأقوال والمجاملات العاطفية فحسب، لأن الدول في نهاية المطاف لا تُبنى على أساس الوعود غير الملزمة، وإنما تستوجب وجود مؤسّسات راسخة ينظم عملها دستور حظي على موافقة الشعب بآليات واضحة تمنع القيل والقال. دستور مستمدّ من عقد اجتماعي وطني عام يمثل رؤية السوريين بكل انتماءاتهم وتوجهاتهم. دستور يضع حداً للهواجس بعقود مكتوبة، ويعزّز الثقة المتبادلة بخطوات عملية في ميدان احترام حرية الرأي والنقد، والإقرار بحق التشارك، والقطع مع نزعة الهيمنة والإقصاء.
ذاكرة الناس في سورية والمنطقة مثقلة بمآسي تجارب الانقلابات العسكرية والدساتير المؤقتة، كما أن التجربة الخمينية في إيران ما زالت في الأذهان. فقد تمكّن الخميني من الوصول إلى الحكم بمساعدة قوى سياسية وشخصيات مؤثرة إيرانية من مختلف الاتجاهات والانتماءات؛ وبعد التمكّن من التحكّم بمفاصل الحكم كان الفتك السريع بالخصوم الواقعيين والمحتملين. ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل امتدت التصفيات والإقصاءات لتشمل أقرب المقرّبين من الإسلاميين، حتى الوصول إلى تركيز السلطات جميعها في يد المرشد ولي الفقيه.
وبناء على هذه التوجّسات، تأتي المطالبات بالشفافية والحق المشروع في المشاركة في المناقشات والقرارات المصيرية التي ستكون لها انعكاسات على المستقبل السوري، فعمليات بناء الجيش والمؤسّسات الأمنية وأجهزة الوزارات والهيئات والمؤسّسات العامة لا يمكن أن تسير في الطريق الصحيح إذا كانت عقلية الاستئثار والإقصاء هي المهيمنة.
الدولة في الأساس جهاز إداري، وظيفتها إدارة شؤون المجتمع ضمن المساحة الجغرافية التي تمثل مجال سيادتها باعتراف المجتمع الدولي. والدولة لا يمكن أن تكون للجميع ما لم تكن بالجميع، وعلى مسافة واحدة من جميع مكوّناتها ومواطنيها، لا تعتمد في تعاملها معهم أي مآذارات أو إجراءات تمييزية بالمعنيين السلبي والإيجابي؛ ولكن مع اهتمام خاص بالمناطق التي أُهملت وهُمشت بصورة شبه دائمة.
سورية في مفترق الطرق، فإما التصادم وإما التوافق. سيكون التصادم في حال استمرار التطرف الراهن في الطروحات والشعارات والمطالبات من مختلف الأطراف
سورية هي مفتاح توازن إقليمها واستقراره. وأي اضطراب فيها يؤثر بصورة مباشرة وغير مباشرة في الجوار الإقليمي، ويعكر صفو العلاقات بين القوى الإقليمية، ويخلخل المعادلات، ويفتح المجال أمام التدخلات الدولية التي لا تراعي في معظم الأحيان مصالح شعوب المنطقة. ومفتاح الاستقرار السوري هو التوازن المجتمعي؛ وهذا لن يتحقق من دون وجود إدارة رشيدة حريصة على شعبها ووطنها، إدارة قادرة على التعامل مع التنوّع السوري بعقلية متفاعلة مع الوضع المشخص المُعاش، لا عقلية بروكرست الذي كان يحرص على أن يكون طول كل الأشخاص مطابقاً لمقاس سريره.
لا تكون الإدارة الناجحة للتنوع المجتمعي مجدية بالكلام الجميل وحده، بل بالخطوات العملية، وبالقطع الأكيد مع المنظومة المفهومية والسلوكية التي رسختها سلطة الاستبداد والفساد التي كانت تتستّر على آثامها بالشعارات الكبرى، مثل “الوحدة والحرية والاشتراكية، ومقارعة الإمبريالية والصهيونية والرجعية”.
السوريون بغض النظر عن الدعوات المتطرفة، والمآذارات المستهجنة هنا وهناك، هم في توْق حقيقي إلى الاستقرار والأمان، على أمل النهوض والازدهار. ولكنهم، في الوقت نفسه، يخشون من استنساخ التجارب المريرة مع السلطات السابقة التي أتحفتهم بالوعود المعسولة، لتصبح بعد تمكّنها كابوساً أنهك البلاد والعباد، ويحسبون ألف حساب لعودة الديكتاتورية، وهذا ما يستوجب تفهّم الهواجس؛ وطمأنة أصحابها بعهود مكتوبة، ومآذارات فعلية تعزّز الثقة على أرض الواقع. ويحتاج ذلك كله حواراً حقيقياً بين السوريين بعقلية مفتوحة تحترم الاختلاف، وتركّز على المشتركات.
يخشى السوريون من استنساخ التجارب المريرة مع السلطات السابقة التي أتحفتهم بالوعود المعسولة، لتصبح بعد تمكّنها كابوساً أنهك البلاد والعباد
وسيكون من المفيد المنتج الذي يمكن البناء عليه أن يقود الرئيس الشرع بنفسه هذا الحوار بسلسلة لقاءات مع السياسيين والمفكرين والمثقفين ورجال الأعمال والنخب المجتمعية والنشطاء الشباب من مختلف المناطق والاتجاهات والانتماءات؛ لقاءات يجري فيها تداول كل الموضوعات بذهنية تتجاوز التطرف السائد في الأحكام راهناً لدى الموالين والمعارضين. ذهنية تبحث عن المخارج عبر التوافق على الخطوط العامة، لتكون مشاريع حلول تقدّم إلى المؤتمر الوطني الذي ينبغي أن يقتنع به السوريون أولاً، ويعترفوا بأهليته من جهة التمثيل والكفاءة والصلاحية؛ للخروج بتوافقاتٍ على حلول واقعية ممكنة تأخذ الأولويات السورية الحيوية (وفي مقدمتها وطن الوطن والشعب) بالاعتبار، وتتجاوز المنطلقات الأيديولوجية المتكلّسة التي لم تجلب للسوريين سوى الخيبات المتلاحقة.
التحدّيات التي تواجهها سورية كبيرة وحقيقية، ولا يمكن التعامل معها بحنكة سياسية بعيدة النظر نسغها الصبر والاعتدال من دون وجود توافق سوري سوري، توافق يكون الأساس المرجعي لأي تفاهماتٍ أو اتفاقياتس مع القوى الإقليمية والدولية المؤثرة.
سورية في مفترق الطرق، فإما التصادم وإما التوافق. سيكون التصادم في حال استمرار التطرف الراهن في الطروحات والشعارات والمطالبات من مختلف الأطراف. ولكن التوافق ممكن، بل حظوظه قوية، وقوية جداً، إذا ما كانت هناك إرادة ورغبة في تجاوز النزعات ما قبل الوطنية، وجرى التوجه نحو الفضاء السوري العام الرحب الذي يستوعب الجميع.
بعد أكثر من ثمانية أشهر على إسقاط النظام السوري السابق، وفتح سجونه وتفريغها، لا يزال مصير آلاف المعتقلين السوريين مجهولاً، خصوصاً من تعرضوا للاختفاء القسري على مدار سنوات.
اختفى آلاف السوريين خلال سنوات الحرب السورية منذ عام 2011، عقب اعتقالهم على الطرقات أو في الحواجز الأمنية أو من أماكن عملهم وسكنهم، من دون مذكرات اعتقال، ومن دون أن يكشف عن أماكن وجودهم، أو يسمح لعائلاتهم بالتواصل معهم، أو معرفة مصيرهم، وتنتظر آلاف العائلات إجابات واضحة عن مصير أبنائها، وتقديم المسؤولين عن اختفائهم القسري إلى العدالة.
ويعرّف القانون الدولي الاختفاء القسري
بأنه توقيف أو احتجاز فرد على يد دولة أو جهة ما، يتبعه اختفاء مصير الشخص أو مكان وجوده، بما يضعه خارج حماية القانون. وتعتبر الشبكة السورية لحقوق الإنسان أنّ المختفي قسرياً هو مُعتقل مضى على احتجازه أكثر من 20 يوماً من دون إقرار الجهة التي اعتقلته بوجوده لديها مع إنكارها معرفة مصيره.
وتقدر الشبكة السورية لحقوق الإنسان عدد المختفين قسرياً بأكثر من 177 ألف شخص حتى 20 آذار/ آذار الماضي، والغالبية العظمى منهم اختفوا على يد أجهزة النظام السابق، مع مسؤولية فصائل وجماعات أخرى عن الاختفاء القسري بدرجات أقل.
فقدت السورية سارة البرهوم زوجها بينما كان متوجهاً إلى عمله سائقَ أجرة في مدينة حلب، في أواخر عام 2013، ولاحقاً فقدت الأمل في معرفة مصيره. تقول النازحة والأم لخمسة أبناء من ريف حلب الغربي لـ”العربي الجديد”: “أين هو؟ أستيقظ كل يوم على السؤال ذاته من أبنائي وأقربائي، لكنه سؤال لا جواب له، ولم يعد الأمل يخفف الألم. صار العذاب الأكبر أن لا تعرف شيئاً عن شخص كان كل شيء في حياتك. إنها قسوة لا توصف”.
تضيف البرهوم: “انقطع الأمل من كل جهة بعدما سألنا كل من يمكن أن يعرف، وقدمنا بلاغات، وسمعنا وعوداً كاذبة كثيرة. النهاية دائماً هي نفسها، صمت مطبق، كأنه اختفى في بطن الأرض. لم نعد نعرف من نسأل، ولم نعد نثق بأحد. الموت له طقوسه المعروفة، وتشمل التشييع، وقبور نزورها ونبكي عليها، أما الاختفاء القسري فهو موت بلا نهاية، وألم بلا عزاء. أشعر بأنني أسير في دائرة لا مخرج منها، واليأس يأكل قلبي وقلوب أبنائي الذين يكبرون وهم يكررون سؤالاً بلا إجابة. منذ التحرير وإفراغ السجون ينتابني يقين بأنه ميت، وإلّا أين هو طوال تلك المدة؟ هل يمكن أن يكون قد فقد الذاكرة؟ أم في سجون قسد؟ أم في إحدى المقابر الجماعية؟ لا شيء مؤكداً، هذه هي حياتنا. جحيم لا ينتهي”.
قبل نحو عشر سنوات، فقدت النازحة المسنة رابعة الشبيب ابنها الذي كان متجهاً إلى جامعته في حمص، وتقول لـ”العربي الجديد”: “هُجّرنا من إدلب حاملين ذكريات البيت الذي هُدم، والممتلكات التي سلبت، لكن أقسى ما حملناه كان عدم معرفة مصير ابني المختفي، ولم تخفف السنوات الألم، بل زادته مرارة، واليأس من أن نعرف الحقيقة صار رفيقاً لنا منذ إفراغ السجون. يأس من أن نجد من يستمع، ويأس من أن يتحقق العدل. العالم يتحدث عن حقوق الإنسان، ونحن لا نملك حتى حق معرفة مصير أبنائنا، وقد سئمنا الانتظار، وسئمنا البحث، وسئمنا الصمت، واستنفدنا كل دموعنا وصبرنا”.
تحمل صورة ابنها المفقود، دمشق، 3 كانون الثاني 2025 (عز الدين قاسم/الأناضول)
وترجح مصادر حقوقية مقتل نحو 112 ألف مختفٍ داخل سجون النظام السابق. يقول الحقوقي السوري أمجد الغريب لـ”العربي الجديد”: “ما حدث بعد سقوط النظام شكل صدمة كبيرة لأهالي المعتقلين والمفقودين الذين كان لديهم بعض الأمل بأن يكون أولادهم في تلك السجون. لكنها كانت أشبه بمسالخ بشرية تُآذار فيها مختلف أنماط التعذيب، وتنتشر بداخلها أخطر أشكال الأمراض والأوبئة، ومن الواضح أن معظم المختفين قسرياً قضوا في السجون عبر سياسة ممنهجة اتبعها نظام الأسد”. يتابع الغريب: “رغم تفشي اليأس من معرفة مصير المختفين قسرياً، لكن قانونياً لا يمكن إغلاق ملف المختفي سوى بإحدى طريقتين، إما إثبات أنه على قيد الحياة عبر العثور عليه، أو إثبات أنه متوفى عبر العثور على جثمانه، وهناك مساران رئيسيان، أولهما العثور على سجون سرية إضافية، وثانيهما اكتشاف مقابر جماعية”.
وسط انتقادات حقوقية تطاول القوى العسكرية المختلفة في شمال وشرق سورية، وأبرزها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والجيش الوطني السوري، لا تزال حالات الاختفاء القسري هاجساً يقلق السكان. وشارك عشرات من أهالي المختفين قسرياً، يوم الخميس الماضي، في وقفة احتجاجية بمدينة القامشلي في ريف الحسكة، للمطالبة بالكشف عن مصير أبنائهم الذين لا يزال مصيرهم مجهولاً.
يعتقد السوري عبد الكريم رشيد عثمان بأنّ ابنه المفقود منذ عام 2019 لا يزال محتجزاً بشكل غير قانوني لدى فصيل “أحرار الشرقية”، ويشير إلى أنّ العائلة لجأت في وقت سابق إلى منظمات حقوقية، من بينها الصليب الأحمر الدولي، لكن تلك الجهات لم تتدخل بحجة أن الملف خارج صلاحياتها، وأن هذه الفصائل كانت تصنف سابقاً إرهابية، لكنها اليوم باتت ممثلة في بعض المناطق، إذ جرى تعيين المسؤول في “أحرار الشرقية” حاتم أبو شقرا ممثلاً عن محافظات الرقة والحسكة ودير الزور من قبل الرئيس السوري أحمد الشرع.
والد مفقود خلال وقفة في دمشق، 3 كانون الثاني 2025 (عز الدين قاسم/الأناضول)
ويضيف عثمان: “نطالب بتدخل عاجل للكشف عن مصير المفقودين، فقضيتنا ليست فردية، بل قضية آلاف العائلات التي فقدت أبناءها وما زال مصيرهم مجهولاً. كان الهدف من وقفتنا الأخيرة هو إيصال الصوت إلى الجهات المعنية ومنظمات حقوق الإنسان باعتبارها قادرة على الضغط من أجل معرفة مصير المفقودين والمخطوفين، سواء الذين اختطفهم تنظيم داعش، أو الذين اعتقلهم النظام السابق. هذه المعاناة هي جرح مشترك يجب أن يتقاسمه الجميع، ونطالب بإنشاء محكمة دولية أو إقليمية في سورية، تكون معنية بكشف مصير المفقودين، وتوضيح الحقائق بعد سقوط النظام ورحيل داعش، وعلى الحكومة الحالية التحرك الجاد، لأنّ استمرار الغموض يزيد حجم الألم الذي يعيشه ذوو المفقودين”.
من جانبه، يقول المحامي معاذ يوسف، وهو عضو المكتب القانوني للمجلس الوطني الكردي في شمال شرقي سورية، لـ”العربي الجديد”، إنّ “القانون الدولي ومختلف الاتفاقيات والمعاهدات تجرّم الاختفاء القسري باعتباره فعلاً منافياً للإنسانية، ومن بينها الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري الصادرة في عام 2006، والتي دخلت حيز التنفيذ عام 2010. ربما يكون ضحايا الاعتقال التعسفي أحسن حالاً من ضحايا الاختفاء القسري، فهؤلاء اعتقلوا لأسباب غير قانونية، لكن السلطة مرتكبة الانتهاك اعترفت بوجودهم في المعتقل، ما يجعل الجريمة أقل وطأة على الضحايا وذويهم، بينما ضحايا الاختفاء القسري يجرى حجز حريتهم من دون أن تعترف السلطة المرتكبة للانتهاك بقيامها بهذا الفعل، ما يحرمهم من أي حماية قانونية أو متابعة من ذويهم”.
يضيف يوسف: “جميع سلطات الأمر الواقع والفصائل المسلحة في كامل الجغرافية السورية ارتكبوا هذا الفعل الإجرامي، وجرى الإفراج عن بعض المختفين، لكن بقي مصير الكثيرين مجهولاً. المطلوب تطبيق قواعد العدالة الانتقالية وفق المعايير الدولية، فتطبيقها هو الكفيل بتضميد جراح السوريين، ومن ثم إصدار قرار على المستوى الوطني ببيان مصير المختفين ومحاسبة جميع مرتكبي هذه الفظائع من أجهزة القمع في النظام البائد وجميع الفصائل وسلطات الأمر الواقع أمام محاكم وطنية نزيهة، وتعويض الضحايا وذويهم”.
وتظهر تقارير حقوقية استمرار جرائم الاعتقال والاختفاء القسري في سورية بعد سقوط النظام السابق، وسجلت الشَّبكة السورية ما لا يقل عن 109 اعتقالات تعسفية في تموز/ تموز الماضي، من بين المعتقلين خمسة أطفال، وكانت 12 حالة منها على يد قوات الحكومة السورية، و36 احتجازاً تعسفياً على يد قوات سوريا الديمقراطية، من بين المعتقلين خمسة أطفال.
وتُظهر البيانات أنَّ العديد من عمليات الاحتجاز تتم من دون مذكرات قضائية أو ضمانات قانونية، ما يشكّل انتهاكاً واضحاً للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي يحظر الاعتقال التعسفي، ويؤكد على حقِّ المحتجزين في معرفة أسباب احتجازهم، والمثول أمام القضاء في أسرع وقت ممكن.