عن ”فسادِ روحي” في المغرب

عن ”فسادِ روحي” في المغرب

تشهد الزاوية القادرية البودْشيشية التي تتخذ من بلدة مَداغ، نواحي بركان (شرقي المغرب)، زلزالاً غير مسبوق، بسبب الصراع الذي تفجر، بعد وفاة شيخها جمال القادري البودشيشي مطلع الشهر الماضي (آب/ آب)، بين نجليْه، منير الذي يُفترض أن ينتقل إليه ”السرّ الرباني” عملاً بوصية والده، ومُعاذ الذي يحظى بتأييد طيف واسع من مريدي الزاوية وأتباعها؛ صراع على ما في حوزة الزاوية من موارد مالية ضخمة، في شكل تبرّعاتٍ وهباتٍ وعطايا تُمنح لها من مريديها وأتباعها داخل المغرب وخارجه. وفي وقتٍ كانت الزاوية تحاول رأب الصدع بين الشقيقين، تكشّفت فضيحة مالية، تتعلق بتحويل مبلغ 700 ألف دولار من حساب معاذ إلى حساب زوجته، ما فاقم أكثر أزمةَ الخلافة، وهزّ صورة الزاوية أمام الرأي العام، بعدما بات واضحاً أن لا علاقة للصراع بالذكر والتربية الروحية، بقدر ما هو صراع على من يتحكّم في هذه الموارد ويستثمرها في شبكة نفوذ ومصالح ومنافع واسعة.

تستدعي أزمة الزاوية البودشيشية دورَ الزوايا والطرق الصوفية في تغذية البنية المحافظة للسياسة المغربية، باعتبارها من موارد شرعنة النظام السياسي الذي يمثل التقليدُ عصبه الرئيسَ، قياساً إلى الدور المحدود الذي تلعبه موارد التحديث. وعلى الرغم من أن دور الزوايا والطرق قد انحسر، نسبياً، بعد استقلال المغرب في ظل صعود مؤسّسات الوساطة الحديثة، إلا أن صعود الإسلام السياسي خلال العقود الأخيرة أعادها إلى الواجهة؛ فداخليا، تجد فيها السلطةُ مخزوناً دينياً وروحياً يساعدها على ضبط الحقل الديني والتحكّم في موارده وتوجيهها، ما حَوّلها إلى أحد مصادر القوة الناعمة التي تُوظَّف، سواء في مواجهة الإسلام السياسي أو التنظيمات اليسارية، في استثمار ثقافي وسياسي مدروس لمخزون المحافظة الكامن في بنية المجتمع المغربي. وفي هذا الصدد، كان دالّاً تعيينُ المؤرّخ والروائي وأحد مريدي الزاوية البودشيشية، أحمد التوفيق، على رأس وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية (2002)، بكل ما لهذا المنصب من أهمية في إدارة الحقل الديني في المغرب. كما كان دالّاً أيضا انحياز الزاوية لخيارات السلطة خلال منعرج الربيع العربي، حيث دعت مريديها وأتباعَها للتصويت لصالح دستور 2011. أما خارجياً، فقد وجدت مواقع القرار والنفوذ في الغرب في الزوايا والطرق الصوفية ”إسلاماً بديلاً” عن الحركات الإسلامية، بمختلف تنويعاتها المعتدلة والمتشدّدة، التي ترى في خطابها تهديداً لمصالحها ولنموذج الحياة في المجتمعات الغربية.

من هنا، تمثل الأزمة التي تعيش على وقعها الزاويةُ البودشيشية مختبراً لإعادة طرح موقع الزوايا والطرق الصوفية في المغرب المعاصر، سيما في ظل وجود أولويات اجتماعية واقتصادية كبرى، يفترض أن تتصدّر انشغالات السلطة والحكومة والنخب. وعليه، لا يمكن أن يقنع المغاربة بعد اليوم تقديمَ البودشيشية نفسها مجرّدَ مؤسسة صوفية وروحية وأهليةً تتوسّل بالذكر والزهد والتربية الروحية من أجل ”البناء الروحي” للإنسان، بعد أن تبيّن، بالملموس، أن الأمر يتعلق بمؤسّسة مالية يتصارع ورثةُ شيخها المتوفى على مدّخراتها التي راكمتها عقوداً.

لم يعد التصوف شأناً روحياً خالصا، بل أداة ناجعة لحيازة موارد المال والنفوذ والوجاهة، والتقرّبِ من السلطة، التي ترى فيه، في المقابل، أداة موازية لضبط دينامية المجتمع، وتوجيهها بما يحافظ على نواته المحافظة الصلبة، وبما يفضي تاليا، في المدى البعيد، إلى إحلال التوازن داخل الحقلين الاجتماعي والسياسي بين موارد التقليد من جهة وموارد التحديث من جهة أخرى.

لا تبدو البودشيشية، وغيرها من الزوايا والطرق الصوفية، معنية بتطلّعات المغاربة نحو التنمية والعدالة الاجتماعية، هذا ناهيك عن صمتها الدالّ إزاء حرب الإبادة والتطهير العرقي والتجويع والتهجير التي يشنها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في غزّة، فلا مواقف إدانة لجرائم دولة الاحتلال، أو تضامنٍ، ولو رمزيا، مع أشقائنا في نكبتهم المشهودة.

مؤكّد أن ما حدث داخل الزاوية البودشيشية على صلة وثيقة بالمتغيرات القيمية التي تعصف بالمجتمع المغربي، بعد أن استشرى الفساد في كثيرٍ من مؤسّساته، بما فيها التي يُفترض أن تبقى في منأى عن ذلك.