يمضي الإنسان معظم يومه في التواصل مع الآخرين، لكنه غالبًا ما يجد الوقت للتحدث إلى نفسه.
قد يبدو هذا السلوك غريبًا للبعض، وربما يوصف بالجنون، لكنه في الحقيقة مآذارة عميقة وذات أثر كبير. فهو ليس مجرد ثرثرة عابرة، بل حوار يمتلك القدرة على تشكيل الأفكار وتوجيه المشاعر.
وبحسب موقع “ميديكال نيوز توداي“، يؤكد الباحثون أن التحدث مع النفس سلوك شائع وطبيعي في مختلف الأعمار. وقد يساعد على العثور على الأشياء المفقودة وفهم التعليمات، إضافةً إلى فوائد أخرى يشير إليها أخصائيو الصحة.
وقد دأب العلماء منذ القرن التاسع عشر على دراسة هذه الظاهرة، إذ اهتم الباحثون آنذاك بما يقوله الناس لأنفسهم وأغراض الحديث مع النفس.
وتُعرّف الأبحاث هذا الحديث بأنه تعبير لفظي عن موقف أو اعتقاد داخلي؛ أي أنّه يعكس مشاعر داخلية وأفكارًا غير منطوقة وحدسًا تجاه موقف ما، من خلال الكلام الموجّه إلى الذات فقط.
التحدث مع النفس عند الأطفال
غالبًا ما يتحدث الأطفال مع أنفسهم، وهو أمر لا ينبغي أن يُثير قلق الوالدين أو مقدّمي الرعاية، إذ يُعد وسيلة لتطوير اللغة، والحفاظ على التحفيز أثناء أداء مهمة، وتحسين الإنجاز. وقد تستمر هذه العادة حتى مرحلة البلوغ من دون أن تُشكّل مشكلة في العموم.
ووفق إحدى الدراسات، قال 96% من البالغين إنهم يُجرون حوارًا داخليًا. أما التحدث بصوت مرتفع فكان أقل شيوعًا، إذ أفاد 25% من المشاركين بأنهم يفعلون ذلك، بحسب موقع “ويب ميد“.
هل التحدث مع النفس صحي؟
غالبًا ما يكون للتحدث مع النفس فوائد عديدة، ولا يُسبب أي مخاطر صحية إلا إذا ترافق مع أعراض نفسية أخرى مثل الهلوسة.
تحسين أداء المهمات
خلال أداء المهام التي تتطلب اتباع تعليمات محددة، يساعد التحدث مع النفس على تعزيز التركيز والتحكم وتحسين الأداء.
ففي دراسة أُجريت عام 2012 حول تأثير الحديث مع النفس في مهام البحث البصري، تبيّن أن التحدث أثناء محاولة العثور على شيء مفقود، مثل قطعة ملابس أو مفاتيح، يُسرّع عملية إيجاده.
كما تشير الأبحاث إلى فوائد إضافية خلال مآذارة الرياضة، حيث يمكن للحديث التحفيزي أو الإرشادي أن يحسّن الأداء. أما التحدث السلبي فقد يزيد الدافعية أحيانًا لكنه لا ينعكس بالضرورة على الأداء الرياضي.
التأمل
قد يُساعد التحدث مع النفس على خلق مسافة عن التجارب الشخصية، ما يسمح برؤية الأمور بموضوعية أكبر، وفق موقع “فيري ويل ميند“.
ويمكن أن تقلّل هذه المسافة من الانفعالات الفورية التي قد تنتاب الفرد في تلك اللحظة، مما يُتيح له رؤية الأمور بطريقة أوضح وأكثر عقلانية.
يتيح التحدث مع النفس رؤية الأمور بموضوعية أكبر- غيتي
التحفيز
يُعتبر التحدث مع النفس محفزًا أيضًا. فعندما تقول لنفسك: “أستطيع فعل هذا” أو “أنا قادر على ذلك”، يتحول التعبير اللفظي إلى دافع أقوى من مجرد التفكير الصامت.
وقد وجدت دراسة أجريت على الرياضيين أن الحديث مع النفس لم يحسّن أداءهم فحسب، بل زاد من استمتاعهم بالمنافسة.
تحسين الذاكرة
أظهرت الأبحاث أن ترديد الأسماء أو العناصر بصوت مسموع يعزز الذاكرة، لأنه يخلق رابطًا قويًا بين الكلمات والأهداف البصرية التي تبحث عنها، مثل قائمة المشتريات.
حل المشكلات
التحدث مع النفس قد يكون وسيلة فعّالة لحل المشكلات، ويُعرف هذا الأسلوب باسم “الشرح الذاتي”. فهو يُساعد على متابعة التقدّم وتحسين الأداء أثناء محاولة الوصول إلى الحل.
لماذا يتحدث الناس مع أنفسهم؟
تتنوع الأسباب التي تدفع الناس للتحدث مع أنفسهم: التفكير في أفكار جديدة، مناقشة القرارات، الحاجة إلى تحفيز، أو حتى لمجرد خلق شعور بالوجود يخفف الوحدة.
تشير إحدى النظريات إلى أن الأشخاص الذين يقضون وقتًا أطول بمفردهم قد يكونون أكثر ميلًا لهذه العادة. فهي تُعتبر شكلًا بديلًا من التواصل الاجتماعي، وفق موقع “فيري ويل ميند“.
وقد أظهرت الدراسات أن البالغين الذين نشأوا كأبناء وحيدين أو الذين يعانون من الوحدة وغياب الانتماء، أكثر ميلًا للحديث مع أنفسهم. وفي هذه الحالة، يُساعد الحديث مع النفس على تلبية حاجة لا تُلبى من خلال علاقات اجتماعية محدودة أو غير مُرضية.
تنظيم المشاعر
يساعد التحدث مع النفس على تنظيم المشاعر ومعالجتها. فإذا عبّر الفرد عن شعوره بالتوتر أو الغضب بالكلام، فقد يساعده ذلك على:
كما تشير دراسة أُجريت عام 2014 إلى أن الأشخاص الذين يعانون من القلق، بما في ذلك القلق الاجتماعي، قد يستفيدون من هذه المآذارة، خصوصًا عند التحدث بصيغة الغائب التي تُبعد الفرد عن مشاعره المؤلمة وتُسهل تحليلها.
يساعد التحدث مع النفس على حل المشكلات- غيتي
الاضطراب الإدراكي
وفق “نظرية الاضطراب الإدراكي”، قد يتحدث الناس إلى أنفسهم بصوت عالٍ عند مواجهة أحداث ضاغطة أو مقلقة. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تُسبب مشاعر القلق أو الميول الوسواسية القهرية اضطرابات إدراكية مرتبطة بزيادة الحديث مع النفس.
كذلك، وجدت إحدى الدراسات أن الناس يميلون إلى التحدث مع أنفسهم أكثر عند الاستعداد لإلقاء خطاب إذا كانوا قلقين بشأن التحدث أمام الجمهور.
أنواع الحديث الذاتي
ووفق موقع “ميديكال نيوز توداي“، يُقسم الحديث الذاتي إلى ثلاث فئات رئيسية، باختلاف نبرة الصوت:
-
إيجابي: يعزز المعتقدات الإيجابية ويخفف القلق ويحسّن التركيز.
-
سلبي: يتضمن نقدًا محبطًا للنفس.
-
محايد: يقتصر على التعليمات الذاتية من دون بُعد عاطفي.
كما ينقسم الحديث الذاتي إلى علني يسمعه الآخرون، وخفي يبقى داخليًا لا يسمعه أحد.
متى يؤثر التحدث مع النفس على الصحة النفسية؟
رغم فوائده، قد يؤثر الحديث السلبي المتكرر مع النفس سلبًا على الصحة النفسية. في هذه الحالة يُنصح بالاستعانة باختصاصي نفسي لتصحيح أنماط التفكير.
أما إذا ارتبط الحديث مع النفس بالهلوسة، فقد يكون مؤشرًا على اضطرابات مثل الفصام، حيث يعاني المريض من أوهام وأصوات داخلية يتعامل معها الدماغ كما لو كانت واقعية، ما يؤدي إلى العزلة وصعوبة التعبير عن المشاعر.
وقد ينعزل المصابون بالفصام أيضًا عن العالم، ويفقدون الاهتمام بالتفاعلات اليومية مع الأصدقاء والعائلة، ويجدون صعوبةً في التعبير عن مشاعرهم.