حرب العوالم: الأكثر مشاهدة والأسوأ تقييماً

حرب العوالم: الأكثر مشاهدة والأسوأ تقييماً

أتاحت خدمة أمازون برايم في نهاية شهر تموز/تموز الماضي فيلم The War of Worlds (حرب العوالم) للمشتركين قاطبة، حتى ممن هم ضمن الفترة التجريبية المجّانية، جاء ذلك بعد إعلان خجول عن الفيلم ظهر من العدم قبل ذلك بأسبوع. وخلال الأسبوع الأول من إصداره اعتلى الفيلم قوائم المشاهدة، لكن العثرة البسيطة كانت حصوله على تقييمات نقدية وجماهيرية منخفضة كالآتي: 2% على Rotten Tomatoes و2.5/10 على IMDb و1/5 على Letterboxd.
الفيلم الذي أنتجته “يونيفرسال” إبّان الحجر المنزلي خلال وباء كورونا لم يكن يحظى بعنوان، بل اعتُمد مشروعاً للمخرج تيمور بيكمامبيتوف الذي تولّى إنتاجه، وأسند الإخراج إلى ريتش لي الآتي من عالم الفيديو كليب. غابت الأخبار بعد ذلك عن المشروع، قبل أن يظهر باسمه المستمدّ من رواية بنفس الاسم لإتش جي ويلس.
لعلّ بيكمامبيتوف أحد عرّابي نوع Screenlife في السينما، وعمل خلال السنوات الماضية منتجاً لعدّة أفلام تنتهج الروي عبر شاشات الأجهزة الإلكترونيّة، لم يشكّل النموذج التجريبي علامةً فارقة، ودارت هذه الأفلام في فلك العلاقات التي تصوغها عوالم شبكات التواصل الاجتماعي، ومنها Searching وUnfriended كما أخرج بيكمامبيتوف فيلم Profile الذي يتعقّب تجنيد صحافية بريطانية ضمن صفوف “داعش”.
بدأ المشروع واعداً في ظلّ القيود المفروضة على التجمّع والاحترازات المرتبطة بتفشّي فيروس كورونا، وكان بمثابة فيلم إثارةٍ ضخم بميزانية حلقة تلفزيونية. يستعرض “حرب العوالم” غزو الفضائيين عبر شاشة الشخصية الرئيسية، بينما يحادث مرؤوسيه في العمل وأفراد عائلته. قدّم مغنّي الراب آيس كيوب شخصيّة محلّل في الأمن الوطني وشاركته البطولة إيفا لونغوريا وإيمان بينسون، وسط فيض من برامج التواصل والمكالمات الفائتة والواردة، ليأتي الفيلم هزيلاً لا يصل حتّى إلى حدّ المتعة المضحكة نظراً إلى سوئه.
تنقسم الشاشة مربّعات صغيرة، ولا تفيد التعابير المحدودة للكادر التمثيلي وصراخهم في إدماج المُشاهد، عدا عن تفكّك السرد وكثرة المواضيع التي يحاول الفيلم ادّعاءها؛ من الخصوصية إلى الرقابة الحكومية والعدو الغازي، من دون أهداف واضحة. ويخلو الفيلم من مقولةٍ يتبنّاها أو ينقدها تجاه هذه المواضيع.
لا يوجد رابط بين الفيلم والرواية المنشورة عام 1898 باستثناء مجيء كائنات فضائيّة ومحاولة مواجهتها من الجيوش الأرضيّة. اللافت أن الرواية خرجت من حقل حقوق الملكية منذ عام 2017 بعد مرور 70 عاماً على رحيل مؤلفها، وبذلك أُنجزت مواصفات الفيلم بما يناسب قالب المحتوى التدفقي؛ عنوانٌ مألوف ووجهٌ له متابعون كثيرون، إضافة إلى ميزانية ضئيلة.
الرواية واحدة من الأعمال كثيرة الاقتباس، وفي طليعتها المسلسل الإذاعي الذي صنعه أورسون ويلز في ثلاثينيات القرن الماضي. حينها، سبب الأمر ذعراً لبعض المستمعين ممن اقتنعوا لوهلة بغزو الفضائيين. ويحتلّ فيلم الخمسينيات لبايرون هاسكين مكانة محبّبة لمريدي الأفلام الكلاسيكيّة رغم نهايته التبشيريّة، وعانى فيلم “سبيلبرغ” عام 2005 من بطولة توم كروز من انقسام الآراء بشأنه، كذلك بين الحين والآخر تظهر مسلسلات متوسطة المستوى مستوحاةٌ من ذات الأصل الأدبي.
في الاقتباسات العديدة، يفنى المريخيّون لعدم قدرتهم على التكيّف مع الميكروبات الأرضيّة، أمّا الاقتباس الجديد فلا يوضح أصل الفضائيّين، وقدّم للغزو هدفاً يتعلق بسرقة المعلومات من كبرى قواعد البيانات على الكوكب، قبل أن يقضي عليهم فيروس حيويّ رقميّ بمساعدةٍ جليلة من خدمات آمازون للتوصيل.
تشي الدقائق الأولى من الفيلم بماهيّته وإيقاعه الذي لن يتبدّل. لدينا محلّل البيانات الذي يتجسس على أولاده بدافع الاهتمام، ويؤدي مهامه التي لا تحتاج سوى قائمة منسدلة تظهر بنقرة أو نقرتين على حاسوبه، وتمكّنه من صلاحياتٍ لا حصر لها من التجسّس والمراقبة والتحكّم.
لاقى الفيلم استياءً كبيراً نتيجة إغراقه بالمنتجات الحاضرة جزءاً من الحبكة، فتتكرّر الواجهات؛ فيس تايم وواتساب ومايكروسوفت تيمز وغيرها، من دون نجاح أيّ من محاولات صناعة الإثارة والترقّب، أشدّها كان عندما انقلبت درون توصيل الطلبات واحتاجت عاملاً بشريّاً ليعدّل وضعيتها، بعد إقناع أحد المختبئين بالمهمّة مقابل كوبونٍ مجاني من أمازون.
يزيد الأمر سوءاً تقنيات الـCGI المستخدمة في إظهار مركبات الفضائيين بجودة سيئة، وزوايا التصوير الهلعة التي تتقاسم مشاهد الفيلم مع مشاهد إخباريّة متنوعة لحركة الجيوش، يقترب الفيلم بدقائق معيّنة من كونه محض تقليب خاطف للفيديوهات القصيرة على شاشة موبايل.
توضح هذه الجزئية فداحة البناء المنطقي للفيلم؛ ففي حين يمضي الوقت مع الشخصيات ضمن الفضاء الزمني الحقيقي، لا يمكن اعتبار الأحداث التي تنقلها النشرات الإخبارية قابلة للحصول في حيّز زمنيّ لا يجتاز 90 دقيقة.

شهدت الأشهر الفائتة تغيّراً واضحاً في نهج أمازون برايم الإنتاجي، لتقليل النفقات بعد عقد من الإنفاق السخيّ، فهوت بمقصلة الإلغاء على بعض مسلسلاتها المُكلفة مثل اشتقاقات مسلسل Citadel، ومسلسلها الملحمي The Wheel of Time بعد ثلاثة مواسم لم تصنع تأثيراً في الثقافة الشعبية. وأعلنت الشبكة في شهر آذار/آذار آخر حلولها لتغطية النفقات الكبرى باللجوء إلى توزيع بعض الأعمال المكلفة عبر البث التلفزيوني التقليدي، وهذا ما سيشهده الموسم القادم من The Rings of Power إصدار أمازون عن سلسلة ملك الخواتم، وهو العمل الأكثر كلفة في التاريخ.

افتتاح مهرجان فينيسيا الـ82: دعوة إلى الرحمة والتسامح وحبّ الحياة

افتتاح مهرجان فينيسيا الـ82: دعوة إلى الرحمة والتسامح وحبّ الحياة

هل هناك رسالة مقصودة، تعمّد ألبرتو باربيرا، المدير الفني لـ”مهرجان فينيسيا”، إرسالها مع انطلاق الدورة الـ82 (27 آب/آب ـ 6 أيلول/أيلول 2025)؟ لا لبس في هذا، خاصة أن فيلمي افتتاح المسابقة الرئيسية (والمشارك فيها) وبرنامج آفاق، “الرحمة” للإيطالي باولو سورينتينو و”الأم” للمقدونية تيونا ستروغر ميتيفسكا، ورغم الاختلاف الجغرافي والزمني والأحداث، يتطابق الموضوع والأفكار الرئيسية والرسالة الضمنية فيهما إلى حدّ كبير.

هناك رغبة جلية في تأكيد القيم الإنسانية المطروحة فيهما، ومدى أهمية حياة البشر، وقيمة الحياة، قبل أي شيء. في قلب هذا، سيادة الرحمة والمغفرة والتسامح، في ظلّ قسوة الحياة المعاصرة. وضرورة عدم التسرّع في اتّخاذ أي قرارات متعجّلة، أو منطلقة من دوافع معيّنة، بخصوص حياة البشر ومستقبلهم. تدور أحداث الفيلم العاشر لسورينتينو، المهمّ والمُثير لأسئلة وقضايا كثيرة حسّاسة، بطريقة إنسانية عميقة للغاية، عن الأيام الأخيرة لرئيس إيطالي متخيّل، يُدعى ماريانو دي سانتيس، بأداء كارزيمي مذهل لتوني سيرفيلو، بطل معظم أفلامه.

رغم انطلاقه من صلب السياسة، وما يدور في كواليس القصر الرئاسي، قبل أشهر قليلة على تقاعد الرئيس، يبتعد “الرحمة” عن السياسة كثيراً، طارحاً أسئلة إنسانية ووجودية عامة، ومُثيراً معضلات إنسانية مُربكة، تتعلّق بحسم مصائر أشخاص، والتوقيع أو عدم التوقيع على قانون القتل الرحيم وتبعاته، في بلد كاثوليكي كإيطاليا. ورغم أنّ معظم المشاهد لم تكن خارج أروقة القصر الفاخر، والحجرات الشاسعة، والإضاءة الداخلية، والرسميات، والحُلل الأنيقة، والتعامل البروتوكولي، في أجواء تعيد إلى السينما الكلاسيكية البسيطة، لكنها هنا مُعبّرة في الوقت نفسه عن روح الحاضر، وتخاطب المستقبل بطريقة بارعة. والتجربة السينمائية هذه تمزج بين العناصر المعتادة في سينما سورينتينو: النظرة الشاعرية التأمّلية العميقة للحياة والعلاقات، تتخلّلها لمحات عن العبث والفَقَد والحنين.

طبعاً، يحضر أسلوبه الساخر، قليلاً. إذْ يسبق كلّ شيء الاشتغال البصري المتقن والساحر، الذي مَيّز أعماله، واللقطات الطويلة الهادئة، والألوان المشبعة، حتى وإنْ دارت الأحداث والمشاهد في الحجرات المغلقة. كما تحضر الموسيقى الكلاسيكية، وإنْ كانت الغلبة لموسيقى الراب المعاصرة، التي تحاور الصورة، وتتفاعل معها الشخصيات، أكثر من كونها تعليقاً على الأحداث.

في النهاية، يعطي سورينتينو درساً بمعنى الكلمة للكيفية التي ينبغي أنْ تُتّخذ بها القرارات الحاسمة، سياسياً أو إنسانياً، بعيداً عن الاندفاع وإظهار القوة والأفكار الملتوية، وكيف يجب أنْ تكون عقلية مُتّخد القرار وتصرّفاته. هذا مع الابتعاد كثيراً عن الصورة التي أظهر بها سورّينتينو شخصية الرئيس الراحل جوليو أندريوتي، ورئيس الوزراء الراحل سيلفيو برلسكوني. فالانطلاقة هنا ليست ذات خلفية سياسية واجتماعية واقتصادية، بل إنسانية بحتة.

أمّا المقدونية تيونا ستروغر ميتيفسكا، فتقدّم في حبكة فيلمها العاشر أفكاراً وإحالات وتأمّلات، تشترك مع طرح باولو سورينتينو، والمُعالجة الكلاسيكية للأحداث، والاعتماد القوي على أداء الممثلين للشخصيات. “الأم” سيرة درامية مؤثرّة عن الأيام السبعة الأخيرة في حياة الأم تيريزا، ستكون مفصلية في تلك الحياة، قبل أنْ تصلها رسالة من الفاتيكان تسمح لها بمغادرة دير “لوريتو” (كُلكاتا)، منتصف القرن الماضي، والابتعاد عن حياة الدير، وتدريس التلاميذ، والإشراف على الراهبات، وغيرها من المهام، لتأسيس جمعية تبشيرية خاصة بها.

لا خلفيات فيه عن حياتها، تُحيل إلى واقعها باعتبارها إحدى أبرز الشخصيات الإنسانية في القرن الـ20، لأعمالها الخيرية في الهند، باستثناء وجودها في دير “لوريتو”، وتدريسها، ورعاية الراهبات. بينما المعروف أنّها لم تكن هندية أصلاً، رغم منحها الجنسية الهندية لاحقاً، بل مقدونية، واسمها الحقيقي أنْيِزا كونجي بوياجيو. تنقل مشاهد الافتتاح جانباً من الدور الخيري للأم تيريزا (نومي ريْباس، بأداء جيّد جداً): إطعام الفقراء، وعلاج المُصابين بالجزام، رعاية الأيتام، ومهام أخرى، شاقّة وعسيرة. إضافة إلى الصورة العامة للروتين اليومي لحياة الدير، والتعريف ببعض الراهبات. أغلبية هذه المشاهد مُصوّرة باحترافية وفنية، وتوظيف جيّد للإضاءة، ما أسهم في نقل ما هي عليه حياة الدير من قسوة وتقشّف، وانعكاسها على الشخصيات.

تتعقّد الأحداث الفيلم وتتصاعد، وصولاً إلى الذروة، بمعالجة كلاسيكية، في السيناريو والإخراج، بعد اكتشاف الأم تيريزا أنّ الراهبة أجنيشكا (سيلفيا هويكس)، المُقرّبة لها وكانت تُعدّها لتكون خليفتها، حبلى، ما يضعها في مواجهة حاسمة مع الراهبة، بل مع إيمانها ومعتقداتها وآرائها. ولاسيما أنّ الأمور تتعقّد مع رغبة أجنيشكا في التخلّص من الجنين، والتطهّر من الدنس، ومحاولة الانتحار. ثم محاولة إبقاء الطفل، وترك الدير نهائياً.

هناك أيضاً مفاهيم الرحمة والمغفرة والتسامح، وأخرى متعلّقة بأخطاء البشر ونواقصهم. حضورها بالفيلم قوي، لكنْ في إطار ربطها أكثر ليس بشخصية الأم تيريزا بذاتها، بل بما تمثّله كرمز ديني وخيري وإنساني. فرأي الدين والدولة، المُحَرِّمَين للإجهاض، وقتل الروح، في مقابل مفهوم الخطيئة والزنى، وقضايا وطروحات، تؤكّد ضرورة عدم التسرّع في الحكم على الآخر، أو إدانته، أو اتّخاذ قرارات متعجّلة، مهما كانت المنطلقات والدوافع والمرجعيات. ثم التأكيد البالغ لأهمية حياة البشر، وقيمة الحياة، والتمسّك بالإنسانية.

افتتاح مهرجان فينيسيا الـ82: دعوة إلى الرحمة والتسامح وحبّ الحياة

افتتاح مهرجان فينيسيا الـ82: دعوة إلى الرحمة والتسامح وحبّ الحياة

هل هناك رسالة مقصودة، تعمّد ألبرتو باربيرا، المدير الفني لـ”مهرجان فينيسيا”، إرسالها مع انطلاق الدورة الـ82 (27 آب/آب ـ 6 أيلول/أيلول 2025)؟ لا لبس في هذا، خاصة أن فيلمي افتتاح المسابقة الرئيسية (والمشارك فيها) وبرنامج آفاق، “الرحمة” للإيطالي باولو سورينتينو و”الأم” للمقدونية تيونا ستروغر ميتيفسكا، ورغم الاختلاف الجغرافي والزمني والأحداث، يتطابق الموضوع والأفكار الرئيسية والرسالة الضمنية فيهما إلى حدّ كبير.

هناك رغبة جلية في تأكيد القيم الإنسانية المطروحة فيهما، ومدى أهمية حياة البشر، وقيمة الحياة، قبل أي شيء. في قلب هذا، سيادة الرحمة والمغفرة والتسامح، في ظلّ قسوة الحياة المعاصرة. وضرورة عدم التسرّع في اتّخاذ أي قرارات متعجّلة، أو منطلقة من دوافع معيّنة، بخصوص حياة البشر ومستقبلهم. تدور أحداث الفيلم العاشر لسورينتينو، المهمّ والمُثير لأسئلة وقضايا كثيرة حسّاسة، بطريقة إنسانية عميقة للغاية، عن الأيام الأخيرة لرئيس إيطالي متخيّل، يُدعى ماريانو دي سانتيس، بأداء كارزيمي مذهل لتوني سيرفيلو، بطل معظم أفلامه.

رغم انطلاقه من صلب السياسة، وما يدور في كواليس القصر الرئاسي، قبل أشهر قليلة على تقاعد الرئيس، يبتعد “الرحمة” عن السياسة كثيراً، طارحاً أسئلة إنسانية ووجودية عامة، ومُثيراً معضلات إنسانية مُربكة، تتعلّق بحسم مصائر أشخاص، والتوقيع أو عدم التوقيع على قانون القتل الرحيم وتبعاته، في بلد كاثوليكي كإيطاليا. ورغم أنّ معظم المشاهد لم تكن خارج أروقة القصر الفاخر، والحجرات الشاسعة، والإضاءة الداخلية، والرسميات، والحُلل الأنيقة، والتعامل البروتوكولي، في أجواء تعيد إلى السينما الكلاسيكية البسيطة، لكنها هنا مُعبّرة في الوقت نفسه عن روح الحاضر، وتخاطب المستقبل بطريقة بارعة. والتجربة السينمائية هذه تمزج بين العناصر المعتادة في سينما سورينتينو: النظرة الشاعرية التأمّلية العميقة للحياة والعلاقات، تتخلّلها لمحات عن العبث والفَقَد والحنين.

طبعاً، يحضر أسلوبه الساخر، قليلاً. إذْ يسبق كلّ شيء الاشتغال البصري المتقن والساحر، الذي مَيّز أعماله، واللقطات الطويلة الهادئة، والألوان المشبعة، حتى وإنْ دارت الأحداث والمشاهد في الحجرات المغلقة. كما تحضر الموسيقى الكلاسيكية، وإنْ كانت الغلبة لموسيقى الراب المعاصرة، التي تحاور الصورة، وتتفاعل معها الشخصيات، أكثر من كونها تعليقاً على الأحداث.

في النهاية، يعطي سورينتينو درساً بمعنى الكلمة للكيفية التي ينبغي أنْ تُتّخذ بها القرارات الحاسمة، سياسياً أو إنسانياً، بعيداً عن الاندفاع وإظهار القوة والأفكار الملتوية، وكيف يجب أنْ تكون عقلية مُتّخد القرار وتصرّفاته. هذا مع الابتعاد كثيراً عن الصورة التي أظهر بها سورّينتينو شخصية الرئيس الراحل جوليو أندريوتي، ورئيس الوزراء الراحل سيلفيو برلسكوني. فالانطلاقة هنا ليست ذات خلفية سياسية واجتماعية واقتصادية، بل إنسانية بحتة.

أمّا المقدونية تيونا ستروغر ميتيفسكا، فتقدّم في حبكة فيلمها العاشر أفكاراً وإحالات وتأمّلات، تشترك مع طرح باولو سورينتينو، والمُعالجة الكلاسيكية للأحداث، والاعتماد القوي على أداء الممثلين للشخصيات. “الأم” سيرة درامية مؤثرّة عن الأيام السبعة الأخيرة في حياة الأم تيريزا، ستكون مفصلية في تلك الحياة، قبل أنْ تصلها رسالة من الفاتيكان تسمح لها بمغادرة دير “لوريتو” (كُلكاتا)، منتصف القرن الماضي، والابتعاد عن حياة الدير، وتدريس التلاميذ، والإشراف على الراهبات، وغيرها من المهام، لتأسيس جمعية تبشيرية خاصة بها.

لا خلفيات فيه عن حياتها، تُحيل إلى واقعها باعتبارها إحدى أبرز الشخصيات الإنسانية في القرن الـ20، لأعمالها الخيرية في الهند، باستثناء وجودها في دير “لوريتو”، وتدريسها، ورعاية الراهبات. بينما المعروف أنّها لم تكن هندية أصلاً، رغم منحها الجنسية الهندية لاحقاً، بل مقدونية، واسمها الحقيقي أنْيِزا كونجي بوياجيو. تنقل مشاهد الافتتاح جانباً من الدور الخيري للأم تيريزا (نومي ريْباس، بأداء جيّد جداً): إطعام الفقراء، وعلاج المُصابين بالجزام، رعاية الأيتام، ومهام أخرى، شاقّة وعسيرة. إضافة إلى الصورة العامة للروتين اليومي لحياة الدير، والتعريف ببعض الراهبات. أغلبية هذه المشاهد مُصوّرة باحترافية وفنية، وتوظيف جيّد للإضاءة، ما أسهم في نقل ما هي عليه حياة الدير من قسوة وتقشّف، وانعكاسها على الشخصيات.

تتعقّد الأحداث الفيلم وتتصاعد، وصولاً إلى الذروة، بمعالجة كلاسيكية، في السيناريو والإخراج، بعد اكتشاف الأم تيريزا أنّ الراهبة أجنيشكا (سيلفيا هويكس)، المُقرّبة لها وكانت تُعدّها لتكون خليفتها، حبلى، ما يضعها في مواجهة حاسمة مع الراهبة، بل مع إيمانها ومعتقداتها وآرائها. ولاسيما أنّ الأمور تتعقّد مع رغبة أجنيشكا في التخلّص من الجنين، والتطهّر من الدنس، ومحاولة الانتحار. ثم محاولة إبقاء الطفل، وترك الدير نهائياً.

هناك أيضاً مفاهيم الرحمة والمغفرة والتسامح، وأخرى متعلّقة بأخطاء البشر ونواقصهم. حضورها بالفيلم قوي، لكنْ في إطار ربطها أكثر ليس بشخصية الأم تيريزا بذاتها، بل بما تمثّله كرمز ديني وخيري وإنساني. فرأي الدين والدولة، المُحَرِّمَين للإجهاض، وقتل الروح، في مقابل مفهوم الخطيئة والزنى، وقضايا وطروحات، تؤكّد ضرورة عدم التسرّع في الحكم على الآخر، أو إدانته، أو اتّخاذ قرارات متعجّلة، مهما كانت المنطلقات والدوافع والمرجعيات. ثم التأكيد البالغ لأهمية حياة البشر، وقيمة الحياة، والتمسّك بالإنسانية.