يواصل القائمون على مهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي تحضيراته لانطلاق الدورة الـ41، المقرر إقامتها بين 2 و6 تشرين الأول/ تشرين الأول المقبل، التي تحمل اسم الفنانة المصرية ليلى علوي، تحت شعار “السينما في عصر الذكاء الاصطناعي”، بمشاركة أكثر من 30 دولة من حوض البحر المتوسط والوطن العربي وأوروبا، في خطوة تؤكد الطابع الدولي المتجدد للمهرجان.
تكريم فيروز وحكيم بلعباس
أعلن المهرجان عن تكريم الفنانة المصرية الراحلة فيروز (1943 ــ 2026)، الملقبة بـ”الطفلة المعجزة”، تقديراً لمسيرتها الفنية الحافلة وأفلامها التي ما زالت حاضرة في وجدان الجمهور، ومنها “فيروز هانم” و”دهب” وغيرهما من الأعمال التي شكّلت علامة فارقة في تاريخ السينما المصرية.
كما يشهد المهرجان تكريم المخرج المغربي حكيم بلعباس، تزامناً مع اختيار المغرب ضيف شرف الدورة الحالية، تقديراً لدوره البارز في دعم السينما المتوسطية. ويمتد مشوار بلعباس الفني منذ منتصف التسعينيات، إذ قدّم أعمالاً وثائقية وروائية قصيرة لافتة، منها: “عش في القيظ”، و”دائماً على استعداد”، و”راعٍ وبندقية”، و”همسات”.
نال بلعباس إشادة نقدية واسعة عن أفلامه الأبرز “ثلاثة ملائكة بأجنحة مهشّمة” و”خيط الروح”، اللذين جمعا بين الحس التأملي والتجريب البصري، ليؤكد حضوره أحد أبرز المخرجين المغاربة المعاصرين، وصاحب لغة فنية متفردة تركت بصمة واضحة في السينما المغاربية والمتوسطية.
لبلبة: فيروز فنانة شاملة لن تتكرر
وفي تصريح خاص لـ”العربي الجديد”، أعربت الفنانة لبلبة، ابنة خالة فيروز، عن سعادتها البالغة بتكريمها، مؤكدة أنها ستحضر الحفل تقديراً لقيمة المناسبة وخصوصيتها. وقالت لبلبة: “فيروز تستحق التكريم عن جدارة، فقد كانت في طفولتها فنانة شاملة وموهوبة، وأفلامها ما زالت حاضرة في وجدان الجمهور رغم ابتعادها عن الفن. كانت رائدة من رائدات الفن المصري، وفنانة لن تتكرر”.
وأضافت: “كانت فيروز قريبة مني جداً، خاصة بعد وفاة والدتي، واعتبرتها أختي الكبرى. لم أشعر يوماً بأنها كبرت، فقد ظلّت دائماً في عينيّ تلك الطفلة الصغيرة الشغوفة المحبة للحياة، محبة للأسرة والبيت، وربما لهذا ابتعدت عن الأضواء”.
وتتضمن الدورة الجديدة من المهرجان سبع مسابقات رئيسية، أبرزها:
مسابقة الفيلم المتوسطي الطويل
مسابقة الفيلم المتوسطي القصير
مسابقة ممدوح الليثي للسيناريو
مسابقة أفلام شباب مصر (الطلبة والمحترفين)
المسابقة الدولية لأفلام الأطفال
مسابقة نور الشريف للفيلم العربي الطويل
مسابقة الفيلم المصري الطويل
كما يعرض المهرجان أكثر من 120 فيلماً من أحدث الإنتاجات السينمائية العالمية، من بينها عروض أولى لأفلام من فرنسا، إيطاليا، اليونان، البرتغال، ألبانيا، إسبانيا، إضافة إلى مشاركات عربية واسعة من مصر، السعودية، الإمارات، لبنان، سوريا، الجزائر، تونس، المغرب.
في كل مرة يستعيد محمود حديد ــ الملقب بشيخ كار السينمائيين السوريين ــ فيلم “سينما باراديزو” (1988) لجوزيبيه تورنتاتوري، يبتسم قائلاً: “هذا الفيلم عني… عني وعن نزيه الشهبندر وكل عارضي الأفلام”. يرى حديد نفسه في شخصية ألفريدو، ذاك الذي انتهى به المطاف فاقداً بصره بين أنقاض صالة محترقة، بينما شاهَدَ الصالات التي عمل فيها تُغلق واحدة تلو الأخرى، من سينما بلودان إلى سينما الدنيا. وها هو اليوم متقاعد عن العمل بعد أن أغلقت سينما الدنيا منذ عام ونصف العام مرّا عليه “كأنهما خمسون عاماً” على حد تعبيره، لكن ذاكرته ما زالت تدور مع بكرات 35 مم التي يحتفظ بها، مع آلات عرض وتصوير قديمة، وأرشيف نادر من الأغاني والأفلام العربية.
حين استحضرنا أمامه “سينما باراديزو”، شردت عيناه كمن ينقّب في ذاكرة بعيدة، أو يستعيد مشهداً غابراً من حلم. يسأل: “أرأيتِ كيف كان ألفريدو يقتطع مشاهد القُبل؟”، ثمّ يجيب: “هذا هو محمود حديد”. حياة الرجل، وقد قارب التسعين، بدت هي الأخرى شريطاً سينمائياً متواصلاً من طفولته في قضاء صفد في فلسطين، حتى لقائه بمعلمه المخرج نزيه الشهبندر، وصولاً إلى سنواته الطويلة خلف ماكينة العرض.
ولد في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، وحفظ القرآن في حلقات الكتّاب قبل أن تطبع النكبة أول مشاهدها في ذاكرته. كلما نظر اليوم إلى ابن حفيده نائماً، عادت به الذاكرة إلى تلك اللحظة حين كان في العمر نفسه، واستيقظ على جدته توضب الأغراض استعداداً للرحيل. يقول: “خرجنا من صفد ونمنا في وادي الطواحين في الجليل الأعلى. سمحوا لنا أن نبيت ليلاً هناك، ثم كانت عمتي وأمي تصعدان إلينا لتأتيا بما تستطعيان حمله على رأسيهما”. كانت تلك أيام ما قبل 1948. يروي أنه “جاء جيش الإنقاذ يأخذ العائلات إلى بلد قريب، أخذونا أولاً إلى لبنان، إلى منطقة عينطورة، ثم انتقلنا لاحقاً إلى دمشق”. هناك، كان الاستقرار الأول في حي المزة الذي تنحدر منه جدته. يقول: “الشعب السوري شعب عظيم. فتحوا لنا بيوتهم. من لم يجد بيتاً أقام في الجامع، لم يتركوا أحداً بلا مأوى… جئنا ومعنا بعض المال، فالليرة الفلسطينية كانت من أقوى العملات آنذاك، لكن سرعان ما تبدلت الأحوال. كانت فلسطين بلداً صغيراً وغنياً”.
تمرد الابن على قرار الأسرة في أن يصبح خياطاً، ووجد ضالته الأولى في الخط العربي، فتتلمذ على يد المعلم الكبير بدوي الديراني، إلا أن القدر واحتراف الخط العربي أخذاه إلى محطة أخرى وهي الغرفة المظلمة التي ينبثق منها الضوء في السينما. هناك، سيلتقي أستاذه الثاني والأكبر أثراً في حياته، المخرج نزيه الشهبندر، رائد السينما الناطقة في سورية، وصاحب فيلم “نور وظلام” (1948)، أول فيلم سوري-لبناني ناطق. كان محمود في الخامسة عشرة حين استدعاه الشهبندر ليكتب العبارات على أفيشات الأفلام، ومن ثم راح يعلمه أسرار العرض وآلاته. كان الشهبندر يعمل على تجارب مبكرة للسينما ثلاثية الأبعاد من دون نظارات، وأطلع حديد على ما يعمل عليه ويحلم بإنجازه، فهو “كان سابقاً عصره وزمانه”، كما يقول حديد.
أشعل الشهبندر الشرارة التي سترافق محمود حديد طوال عمره، وحين يتحدث عن أستاذه وعن السينما والطفولة، ينقلب لسانه إلى لهجته الفلسطينية الواضحة: “الشهبندر هو شيخ الكار الأول. هو الذي أدخل لمبات الأكزينون إلى الصالات، منهياً زمن قضبان الفحم”. كان زمناً يتطلب من العارض أن يضرب قضيبين من الفحم بعضه في بعض، فيتولد قوس كهربائي يضيء الشاشة. طريقة مرهقة للعارض والجمهور معاً؛ لحظة غفلة واحدة من العارض تكفي لينطفئ الضوء وتغرق الصالة في عتمة مفاجئة، وتنطلق حينها صرخات الجمهور وتصفيراتهم “راحت الصورة!”، ثم “جاء الشهبندر بضوء الأكزينون، بقدرة 1600 واط، فاستقر المشهد على الشاشة وأصبح العرض أنقى”.
في الخمسينيات، بدأ عمله في صيفيات سينما بلودان، قبل أن يوصيه الشهبندر بالنزول إلى دمشق ليتابع العمل معه عن قرب. حينها ركب معدات سينما الدنيا، وشيئاً فشيئاً تجاوزت العلاقة ثنائية الأستاذ والتلميذ، وأمست أباً روحياً وابناً، حتى إن المخرج كان يناديه “محمود الشهبندر حديد” على حد تعبيره. حديد رأى في نفسه امتداداً لمعلمه، ووفياً لإرثه، ولا سيما حين ساهم بإنشاء سينما الهواء الطلق في منطقة الجديدة في ريف دمشق عام 2008، فهو حامل الإرث واللقب وتقاليد المهنة: “الشهبندر أخذ بيدي إذ كان العارض يبدأ من الصفر، أولاً يمسح آلة العرض، ثم يتدرج خطوة بخطوة، إلى أن يقف أمام شيخ الكار الذي يمتحنه، فيمنحه بطاقة عارض رسمي، كانت المهنة أشبه بتراتبية، لا يبلغها إلا من صبر وتمرّس، وأدرك المكنات وسحرها عن قرب”.
في سيرة محمود حديد تتشابك الحكايات مع وجوه النجوم على الشاشة الكبيرة، تلك الوجوه التي كانت العدسة تقترب منها حتى تكشف أدق الملامح، فيضحك معها الجمهور ويبكي معها كأن الأرواح كلها قد اندمجت في روح واحدة. من بين تلك الذكريات، يلمع فيلم “ودعت حبك” (1956) ليوسف شاهين، من بطولة فريد الأطرش وشادية وأحمد رمزي. في صيف بلودان، في العام نفسه، كان حديد يراقب من كوة العرض دموع النساء وهي تنهمر مع صوت الأطرش يغني “مكتوب عليّا أودعك واحنا سوا…”. لحظة الذروة جاءت حين قالت شادية “للأسف غنالكم لآخر مرة”، عندها تصاعد البكاء في الصالة، وتناهت الآهات إلى غرفة العرض الضيقة. لم يمض سوى القليل من زمن العرض السينمائي حتى تموت الشخصية التي يلعب دورها فريد الأطرش. يضحك وهو يروي كيف خرج الأطرش نفسه بعد العرض ليحيّي الجمهور الذي ظنه قد مات.
“كانت الناس تعيش بالفيلم… اليوم لم يعد هناك من يعيش بالأفلام. المشاعر تغيّرت.. السينما كانت مدرسة للحياة، فيها صراع الخير والشر، وفيها تجربة وجدانية كاملة”. هكذا يقول، قبل أن تقفز ذاكرته فجأة إلى أول فيلم شاهده في طفولته: “فيلم ويسترن، يومها ارتعبت واختبأت تحت الكرسي”.
السينما في الخمسينيات والستينيات لم تكن مجرد تسلية، بل نزهة ومناسبة عائلية كبرى. كانت العائلات ترتدي أجمل الثياب كما لو أنها ذاهبة إلى حفل. يبدأ العرض بالنشيد الوطني، يليه شريط إخباري قصير، وإعلانات منها للعطور وأخرى لآخر صيحات الموضة، ثم الفيلم الروائي الطويل: “كانت السينما مكاناً لمعرفة العالم، للتثقيف وتبسيط المعاني الكبرى”، يقول. لكن الصورة النمطية كانت تلاحق العاملين في السينما، فقد وُصموا بأنهم “عاطلون”، ما انعكس حتى على حياتهم الشخصية. يروي محمود حديد أنه حين تقدّم لخطبة زوجته اضطر إلى دفع مهر أعلى: “كنا نعتقد أننا خرجنا من فلسطين مؤقتاً، وظل هذا الاعتقاد إلى أن تزوجت من امرأة دمشقية. يومها كان شرط عائلتها ألا أعيدها معي إلى صفد حين نعود”.
يلتفت إلى مهنته التي يصفها بأنها حياته كلها: “عشت مع المكنة (الآلة)، أسمع صوتها، وأراقب دورانها، وأتأكد من الصورة والصوت كل يوم”، ويرى أن في تطور السينما تحولاً على مستوى إنساني. يتحدث عن تطور السينما كما لو كان يروي سيرة حياة أخرى موازية لسيرته: “في زمن البدايات الصامتة، كان المعلّق أو الخطاط يصعد السلم إلى جوار الشاشة، يمسك بالطبشور ليكتب جملة تختصر ما يجري في المشهد، ثم جاءت الفرق الموسيقية الحيّة، تصاحب العروض بأنغام الكمان والبيانو، قبل أن يظهر جهاز تشغيل الأسطوانات في محاولة أولى لربط الصوت بالصورة”. ومع نهاية العشرينيات، أدخلت شركات مثل ويسترن إلكتريك وRCA أنظمة الصوت المتزامن، فبدأ عصر السينما الناطقة. تطورت الأحجام من 9.5 ملم للهواة، إلى 16 ملم للأغراض التعليمية، وصولاً إلى 35 ملم الذي صار معيار العروض التجارية. حتى ثقوب الشريط الجانبية استقر شكلها ليمنح حركة الفيلم سلاسة أكبر وصورة أوضح. وفي الخمسينيات، تعاقبت الابتكارات: VistaVision باتساع صورته، وStereophonic sound بالصوت المجسم، وتقنيات السينما ثلاثية الأبعاد، وصولاً إلى Cinerama، الشاشة المقوّسة التي تطلّبت ثلاث ماكينات عرض تعمل في وقت واحد لصناعة صورة بانورامية واحدة. ومع تثبيت سرعة 24 كادراً في الثانية، اكتسبت الصورة نقاءً أكبر، وامتلك المونتاج أفقاً أوسع.
مع كل هذا التطور، يأسف محمود حديد لانحسار دور السينما التقليدية، بعدما ابتلعتها المولات التجارية، وتلاشى سحرها أمام الرقمنة إلا أنه يعتقد أن صالات السينما زمان ولّى. ومع مرور السنوات، لم يعد شغفه بالعرض مجرد مهنة، بل تحوّل إلى مشروع جمع وحفظ، اقتنى آلات عرض وتصوير، وغرامافونات وأفلاماً قديمة، حتى صار يملك أرشيفاً بصرياً نادراً، خُصّصت له قاعة تحمل اسمه في دار الأوبرا السورية. ما زال يحتفظ بجهاز عرض 9.5 ملم تذكاراً من زمن البدايات، وبمايكروفون غنّى فيه عبد الحليم حافظ، إلى جانب آلات تصوير وعرض فريدة. يقول محمود حديد بفرح لا يخلو من دهشة طفل: “أسعدني أن أقتني أول آلة عرض ناطقة دخلت سورية، من نوع كومونت الفرنسية تعود إلى عام 1933. وأكثر ما أدهشني أنني عثرت على جهاز بصري من القرن التاسع عشر، يشبه تلك الألعاب التي كانت تحرّك الصورة قبل اختراع السينما”.
لنتخيّل أنّنا في صيف عام 1972، نستعدّ للذهاب إلى السينما لمشاهدة فيلم “خلي بالك من زوزو” من بطولة سعاد حسني، وإخراج حسن الإمام.
في القاهرة، شبّان بقمصان ملوّنة وسراويل واسعة، وشابات بفساتين زاهية قصيرة، يقفون في طوابير أمام شبابيك التذاكر. البلاد لم تتعافَ من هزيمة 1967، ولم تختبر بعد صدمة حرب 1973. الدولة في عهد أنور السادات، تدعم الفنون والسينما لتصدير سرديّة عن مجتمع منفتح في مواجهة التيارات الفكرية المتشدّدة.
أما في بيروت، فمقاهٍ تعجّ بالمثقفين والفنانين، وصالات سينما ومسارح في أوج نشاطها، فيما جمر الحرب الأهلية المقبلة يتّقد تحت الرماد. وسط هذا المناخ، حطّت زوزو في الصالات وبقيت لأكثر من عام كامل.
في بيروت 2025، أتفقُ مع صديقتي على مشاهدة الفيلم بمناسبة عرضه على شاشة كبيرة في الهواء الطلق، تحت سماء المدينة، ضمن برنامج “في الصيف يغنين ويرقصن” نظّمته صالة “ميتروبوليس” خلال شهر آب/آب.
البلاد خارجة من حرب مدمّرة مع إسرائيل، وجراح العاصمة لم تلتئم بعد من تفجير المرفأ، ولا من وطأة الانهيار المالي، فيما الجوّ العام مثقل بمآسي الحرب المستمرة في غزة.
تقول هانية مروة، مؤسسة ومديرة “ميتروبوليس”: “أحببنا أن نقدّم هذا البرنامج في الصيف، خلال فترة قاسية وأزمة متواصلة. جمهورنا (في متروبوليس) اعتاد على أفلام جادة وملتزمة بقضايا اجتماعية وسياسية، لكننا جميعاً كنّا بحاجة إلى متنفّس، إلى مساحة لنأخذ نفساً”.
سعاد حسني: “السندريلا” في ذكرى وفاتها
كتاب جديد “يكشف أسرار ملاحقة المخابرات المصرية” لعبد الحليم حافظ وسعاد حسني
خلال العرض
أفلام قديمة بنسخ مُرمّمة: “انتصار الشباب” (1941/ أحمد بدرخان) بطولة أسمهان، “العيش والملح” (1949/ حسين فوزي) بطولة نعيمة عاكف، “عفريت مراتي” (1968/ فطين عبدالوهاب) بطولة شادية، وصولاً إلى “خلي بالك من زوزو” (1972/ حسن الإمام) بطولة سعاد حسني الذي عرض في 26 الشهر الحالي.
من يتابع البرمجة كاملة، يستطيع أن يرسم خطاً زمنياً يوضح كيف تغيّرت صورة البطلة الأولى في السينما الموسيقية: من مطربة إلى راقصة إلى ممثلة أو نجمة استعراضية، وكيف اختلفت وجوهها وأدوارها باختلاف الحقبة والمدرسة الفنية والظرف الاجتماعي والسياسي.
يبقى لفيلم “خلي بالك من زوزو” مكانة خاصة، إذ شاهده كثيرون مراراً على التلفزيون، ويتمتع بتأثير ثقافي وجماهيري لا يخبو رغم مرور أكثر من نصف قرن على إنتاجه. فمن منّا لا يحفظ أغنيات “يا واد يا تقيل” (كلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل) و”خلي بالك من زوزو” (كلمات جاهين وألحان سيد مكاوي)؟
تقول المخرجة اللبنانية جوانا حاجي توما، وهي من أعضاء جمعية “ميتروبوليس”: “صحيح أننا نستطيع مشاهدة هذه الأفلام في منازلنا أو على شاشات الكمبيوتر، لكن وجودنا في فضاء عام نتشارك فيه التجربة هو ما يمنح الأمر قيمة إضافية. التجربة مختلفة تماماً حين نجتمع لمشاهدة هذه الأفلام والاستمتاع بها معاً، وهذا في جوهره هو الدور الحقيقي للسينما: مكان يجمع الناس”.
وبالفعل، فإنّ مشاهدة “خلي بالك من زوزو” للمرّة الأولى على شاشة كبيرة، وسط جمهور متنوع الأعمار والخلفيات، تحوّلت إلى تجربة من نوع آخر.
قرّرنا، صديقتي وأنا، أن نعيش الدور بإتقان: ارتدينا فستانين أبيضين يشبهان ما كانت ترتديه أمهاتنا في صور السبعينيات. بدونا كأننا عدنا بالزمن خمسين عاماً إلى الوراء، ولم يكن ينقصنا إلا شبيه لحسين فهمي بجانب كل واحدة منّا!
حسين فهمي وسعاد حسني في مشهد من الفيلم
نقص حادّ في الفرح
لم نكن قد تجاوزنا الخامسة عشرة حين رحلت سعاد حسني (1943 – 2001) في نهاية مأساوية غامضة، إثر سقوطها من شرفة منزل في لندن.
نحن جيل الألفية، عرفنا سعاد حسني عبر شاشات الفضائيات، ولم نختبر حضورها في ذروة عطائها على الشاشة الكبيرة، لذلك جاء هذا العرض كموعد مع حنين إلى زمن لم نعشه.
يبدأ الفيلم الذي نحفظ تفاصيله كافة تقريباً، بلقطة فوز زوزو في سباق الجري الجامعي، ثم الاستعراض الأول لسعاد على سلالم الكليّة بفستانها الجلدي الأحمر، مروراً بوصلات الرقص البلدي، وصولاً إلى مشاهد شجارها مع تحية كاريوكا في دور الأم العالمة “نعيمة ألماظية”، ومشاغباتها، ولقاءاتها مع سعيد (حسين فهمي).
مع كل مشهد، كنت أتبادل مع صديقتي نظرات الدهشة ممّا جئنا نعرفه وننتظره مسبقاً: أيعقل أن تكون سعاد بهذا الجمال؟ أي خفّة ظلّ هذه؟ ما هذه الفساتين الرائعة؟ وأي كاريزما وموهبة يصعب تكرارهما؟
منذ مدة طويلة، لم أختبر بهجة الفرجة هذه: سعاد حسني ترقص وتغني وتقفز بفساتينها المبهرة. بقينا مبتسمتين لساعتين تقريباً حتى تعبت عضلات خدودنا.
ولكن، بموازاة تلك البهجة، يترسّخ شعور موازٍ بالنقص. ربما لأننا نفتقد الفرحة البسيطة بمشاهدة عمل فني يلمسنا ويسلينا ويضحكنا، في زمن بات الترفيه بمعظمه استعراضات للثراء والمكانة الاجتماعية على مواقع التواصل.
كانت الكاتبة اللبنانية كلوديا مارشليان من بين الحضور، وتحدّثت في تقديمها لعرض الفيلم، عن ريادته في طرح قضايا اجتماعية بجرأة نفتقدها اليوم. سألتُها عمّا ينقصنا لنصنع سينما شبيهة في وقتنا الراهن، فقالت إننا قد نكون أكثر تقدماً تقنياً، لكن ما نفتقده “هو الفرح. نحن نفتقد الفرح الذي كان يملأ تلك الأفلام، فرح الناس وفرح الحياة نفسها. وما نحتاجه لنخلق فناً مماثلاً هو أن نستعيد هذا الفرح”.
شارك العشرات بعروض في الهواء الطلق استضافتها سينما “متروبوليس” في بيروت طوال شهر آب/آب
رائدة الاستعراض
في تقديمه للعرض، أشار أنطوان خليفة، منظّم البرمجة وعضو جمعية “متروبوليس”، إلى الدور المحوري لسعاد حسني في تمهيد الطريق أمام نجمات الاستعراض لاحقاً مثل نيللي وشيريهان.
شريهان: أنشودة احتفاء بالحياة
في تجربة سعاد حسني تلاقت عناصر عدّة جعلت منها حلقة وصل محورية في تاريخ السينما المصرية: موهبتها التمثيلية الفريدة، حضورها الكاريزمي، ووعيها بزمنها. غير أنّها لم تقف وحدها، بل بنت نجاحها على تراكم تجارب فنانات استعراضيات رائدات مثل نعيمة عاكف وهند رستم وشويكار، وأكملته بتعاونها مع أعمدة المسرح الغنائي والموسيقي كصلاح جاهين وسيد مكاوي، وفتحت الباب لمن جئن بعدها.
عند عرض “خلّي بالك من زوزو”، كانت سعاد في ذروة نجوميتها؛ إذ حقّق الفيلم نجاحاً غير مسبوق بطرحه قضايا شائكة: الصدام بين التيارات الليبرالية والمحافظة في الشارع المصري والصراع الطبقي وصعود النساء على سُلّم التعليم والعمل.
وعلى مستوى الصنعة، كرّس العمل سعاد حسني كفنانة طوّرت من إرث السينما الغنائية الراقصة، بمآذارة فنية متعدّدة الإمكانات والخبرات، اغتنمت كل فرصة لتبني على إرث راسخ وتعيد قولبته على طريقتها الخاصة.
من خلال شخصية زوزو، حطّمت سعاد حسني القوالب النمطية للبطلة السينمائية: تلك الفتاة الرقيقة المسكينة التي تهيم بحبّ بطل وسيم وحزين. ظهرت بدلاً من ذلك كفتاة عصرية، رياضية، تواظب على دراستها، تخرج مع أصدقائها، تواجه واقعها بشجاعة، تساعد والدتها في كسب رزقها، ولا تخجل من أصولها.
وربما نشعر اليوم بالنقص لأن الشاشة نادراً ما تقدّم شخصيات نسائية تشبه “ابنة البلد” أو “واحدة من الناس”. سعاد لم تكتفِ بأن تكون “نجمة ملصق جميلة”، بل تجاوزت تلك الصورة لتخلق حضوراً كثيفاً وغنيّاً، وظلّت قادرة على حفظ تلك المعادلة النادرة: فن جماهيري شعبي يلامس كل الناس، من دون أن يسقط في الابتذال.
تتحدث هانية مروة عن أهمية حفظ التراث السينمائي وترميمه بوصفه جزءاً من الذاكرة الجماعية، لكنها في الوقت نفسه تنظر بعين نقدية إلى الميل النوستالجي لمنح حقبات مضت محاسن قد تكون أكبر مما كانت عليه بالفعل.
برأيها، فإن قيمة أفلام مثل “خلي بالك من زوزو” تكمن في صمودها أمام امتحان الزمن: “السينما الجماهيرية اليوم تحوّلت إلى سينما تجارية هدفها الأول الربح، أما في تلك الفترة فكانت السينما شعبية تصل إلى الجميع، ومع ذلك تحافظ على مستواها الفني وتحقق أرباحاً، وهذا ما نفتقده”.
حين غادرنا العرض كنت أفكّر بأدوار سعاد حسني الأخيرة، من ظهورها التلفزيوني في “هو وهي” (1985) إلى فيلم “الراعي والنساء” (1991)، وكيف تغيّرت شروط الصناعة السينمائية آنذاك بحيث لم تعد “فتاة الشاشة الأولى”، وربما لم تكتب لها أدوار تليق بموهبتها وتاريخها.
مع ابتعادها التدريجي عن الأضواء، خلّفت سعاد حسني لدى الجمهور عطشاً لرائدات من طراز خاص، كنّ قادرات على صناعة الفرح، حتى عبر تجسيد شخصيات تراجيدية من رحم واقعنا المحاصر بالهزائم.
تخيّلتها معنا في صالة “متروبوليس”، جالسة بيننا، تشاركنا الاحتفال بزمن صنعته هي، ولا يزال يُلهمنا حتى اليوم.
أتاحت خدمة أمازون برايم في نهاية شهر تموز/تموز الماضي فيلم The War of Worlds (حرب العوالم) للمشتركين قاطبة، حتى ممن هم ضمن الفترة التجريبية المجّانية، جاء ذلك بعد إعلان خجول عن الفيلم ظهر من العدم قبل ذلك بأسبوع. وخلال الأسبوع الأول من إصداره اعتلى الفيلم قوائم المشاهدة، لكن العثرة البسيطة كانت حصوله على تقييمات نقدية وجماهيرية منخفضة كالآتي: 2% على Rotten Tomatoes و2.5/10 على IMDb و1/5 على Letterboxd.
الفيلم الذي أنتجته “يونيفرسال” إبّان الحجر المنزلي خلال وباء كورونا لم يكن يحظى بعنوان، بل اعتُمد مشروعاً للمخرج تيمور بيكمامبيتوف الذي تولّى إنتاجه، وأسند الإخراج إلى ريتش لي الآتي من عالم الفيديو كليب. غابت الأخبار بعد ذلك عن المشروع، قبل أن يظهر باسمه المستمدّ من رواية بنفس الاسم لإتش جي ويلس.
لعلّ بيكمامبيتوف أحد عرّابي نوع Screenlife في السينما، وعمل خلال السنوات الماضية منتجاً لعدّة أفلام تنتهج الروي عبر شاشات الأجهزة الإلكترونيّة، لم يشكّل النموذج التجريبي علامةً فارقة، ودارت هذه الأفلام في فلك العلاقات التي تصوغها عوالم شبكات التواصل الاجتماعي، ومنها Searching وUnfriended كما أخرج بيكمامبيتوف فيلم Profile الذي يتعقّب تجنيد صحافية بريطانية ضمن صفوف “داعش”.
بدأ المشروع واعداً في ظلّ القيود المفروضة على التجمّع والاحترازات المرتبطة بتفشّي فيروس كورونا، وكان بمثابة فيلم إثارةٍ ضخم بميزانية حلقة تلفزيونية. يستعرض “حرب العوالم” غزو الفضائيين عبر شاشة الشخصية الرئيسية، بينما يحادث مرؤوسيه في العمل وأفراد عائلته. قدّم مغنّي الراب آيس كيوب شخصيّة محلّل في الأمن الوطني وشاركته البطولة إيفا لونغوريا وإيمان بينسون، وسط فيض من برامج التواصل والمكالمات الفائتة والواردة، ليأتي الفيلم هزيلاً لا يصل حتّى إلى حدّ المتعة المضحكة نظراً إلى سوئه.
تنقسم الشاشة مربّعات صغيرة، ولا تفيد التعابير المحدودة للكادر التمثيلي وصراخهم في إدماج المُشاهد، عدا عن تفكّك السرد وكثرة المواضيع التي يحاول الفيلم ادّعاءها؛ من الخصوصية إلى الرقابة الحكومية والعدو الغازي، من دون أهداف واضحة. ويخلو الفيلم من مقولةٍ يتبنّاها أو ينقدها تجاه هذه المواضيع.
لا يوجد رابط بين الفيلم والرواية المنشورة عام 1898 باستثناء مجيء كائنات فضائيّة ومحاولة مواجهتها من الجيوش الأرضيّة. اللافت أن الرواية خرجت من حقل حقوق الملكية منذ عام 2017 بعد مرور 70 عاماً على رحيل مؤلفها، وبذلك أُنجزت مواصفات الفيلم بما يناسب قالب المحتوى التدفقي؛ عنوانٌ مألوف ووجهٌ له متابعون كثيرون، إضافة إلى ميزانية ضئيلة.
الرواية واحدة من الأعمال كثيرة الاقتباس، وفي طليعتها المسلسل الإذاعي الذي صنعه أورسون ويلز في ثلاثينيات القرن الماضي. حينها، سبب الأمر ذعراً لبعض المستمعين ممن اقتنعوا لوهلة بغزو الفضائيين. ويحتلّ فيلم الخمسينيات لبايرون هاسكين مكانة محبّبة لمريدي الأفلام الكلاسيكيّة رغم نهايته التبشيريّة، وعانى فيلم “سبيلبرغ” عام 2005 من بطولة توم كروز من انقسام الآراء بشأنه، كذلك بين الحين والآخر تظهر مسلسلات متوسطة المستوى مستوحاةٌ من ذات الأصل الأدبي.
في الاقتباسات العديدة، يفنى المريخيّون لعدم قدرتهم على التكيّف مع الميكروبات الأرضيّة، أمّا الاقتباس الجديد فلا يوضح أصل الفضائيّين، وقدّم للغزو هدفاً يتعلق بسرقة المعلومات من كبرى قواعد البيانات على الكوكب، قبل أن يقضي عليهم فيروس حيويّ رقميّ بمساعدةٍ جليلة من خدمات آمازون للتوصيل.
تشي الدقائق الأولى من الفيلم بماهيّته وإيقاعه الذي لن يتبدّل. لدينا محلّل البيانات الذي يتجسس على أولاده بدافع الاهتمام، ويؤدي مهامه التي لا تحتاج سوى قائمة منسدلة تظهر بنقرة أو نقرتين على حاسوبه، وتمكّنه من صلاحياتٍ لا حصر لها من التجسّس والمراقبة والتحكّم.
لاقى الفيلم استياءً كبيراً نتيجة إغراقه بالمنتجات الحاضرة جزءاً من الحبكة، فتتكرّر الواجهات؛ فيس تايم وواتساب ومايكروسوفت تيمز وغيرها، من دون نجاح أيّ من محاولات صناعة الإثارة والترقّب، أشدّها كان عندما انقلبت درون توصيل الطلبات واحتاجت عاملاً بشريّاً ليعدّل وضعيتها، بعد إقناع أحد المختبئين بالمهمّة مقابل كوبونٍ مجاني من أمازون.
يزيد الأمر سوءاً تقنيات الـCGI المستخدمة في إظهار مركبات الفضائيين بجودة سيئة، وزوايا التصوير الهلعة التي تتقاسم مشاهد الفيلم مع مشاهد إخباريّة متنوعة لحركة الجيوش، يقترب الفيلم بدقائق معيّنة من كونه محض تقليب خاطف للفيديوهات القصيرة على شاشة موبايل.
توضح هذه الجزئية فداحة البناء المنطقي للفيلم؛ ففي حين يمضي الوقت مع الشخصيات ضمن الفضاء الزمني الحقيقي، لا يمكن اعتبار الأحداث التي تنقلها النشرات الإخبارية قابلة للحصول في حيّز زمنيّ لا يجتاز 90 دقيقة.
شهدت الأشهر الفائتة تغيّراً واضحاً في نهج أمازون برايم الإنتاجي، لتقليل النفقات بعد عقد من الإنفاق السخيّ، فهوت بمقصلة الإلغاء على بعض مسلسلاتها المُكلفة مثل اشتقاقات مسلسل Citadel، ومسلسلها الملحمي The Wheel of Time بعد ثلاثة مواسم لم تصنع تأثيراً في الثقافة الشعبية. وأعلنت الشبكة في شهر آذار/آذار آخر حلولها لتغطية النفقات الكبرى باللجوء إلى توزيع بعض الأعمال المكلفة عبر البث التلفزيوني التقليدي، وهذا ما سيشهده الموسم القادم من The Rings of Power إصدار أمازون عن سلسلة ملك الخواتم، وهو العمل الأكثر كلفة في التاريخ.
أتاحت خدمة أمازون برايم في نهاية شهر تموز/تموز الماضي فيلم The War of Worlds (حرب العوالم) للمشتركين قاطبة، حتى ممن هم ضمن الفترة التجريبية المجّانية، جاء ذلك بعد إعلان خجول عن الفيلم ظهر من العدم قبل ذلك بأسبوع. وخلال الأسبوع الأول من إصداره اعتلى الفيلم قوائم المشاهدة، لكن العثرة البسيطة كانت حصوله على تقييمات نقدية وجماهيرية منخفضة كالآتي: 2% على Rotten Tomatoes و2.5/10 على IMDb و1/5 على Letterboxd.
الفيلم الذي أنتجته “يونيفرسال” إبّان الحجر المنزلي خلال وباء كورونا لم يكن يحظى بعنوان، بل اعتُمد مشروعاً للمخرج تيمور بيكمامبيتوف الذي تولّى إنتاجه، وأسند الإخراج إلى ريتش لي الآتي من عالم الفيديو كليب. غابت الأخبار بعد ذلك عن المشروع، قبل أن يظهر باسمه المستمدّ من رواية بنفس الاسم لإتش جي ويلس.
لعلّ بيكمامبيتوف أحد عرّابي نوع Screenlife في السينما، وعمل خلال السنوات الماضية منتجاً لعدّة أفلام تنتهج الروي عبر شاشات الأجهزة الإلكترونيّة، لم يشكّل النموذج التجريبي علامةً فارقة، ودارت هذه الأفلام في فلك العلاقات التي تصوغها عوالم شبكات التواصل الاجتماعي، ومنها Searching وUnfriended كما أخرج بيكمامبيتوف فيلم Profile الذي يتعقّب تجنيد صحافية بريطانية ضمن صفوف “داعش”.
بدأ المشروع واعداً في ظلّ القيود المفروضة على التجمّع والاحترازات المرتبطة بتفشّي فيروس كورونا، وكان بمثابة فيلم إثارةٍ ضخم بميزانية حلقة تلفزيونية. يستعرض “حرب العوالم” غزو الفضائيين عبر شاشة الشخصية الرئيسية، بينما يحادث مرؤوسيه في العمل وأفراد عائلته. قدّم مغنّي الراب آيس كيوب شخصيّة محلّل في الأمن الوطني وشاركته البطولة إيفا لونغوريا وإيمان بينسون، وسط فيض من برامج التواصل والمكالمات الفائتة والواردة، ليأتي الفيلم هزيلاً لا يصل حتّى إلى حدّ المتعة المضحكة نظراً إلى سوئه.
تنقسم الشاشة مربّعات صغيرة، ولا تفيد التعابير المحدودة للكادر التمثيلي وصراخهم في إدماج المُشاهد، عدا عن تفكّك السرد وكثرة المواضيع التي يحاول الفيلم ادّعاءها؛ من الخصوصية إلى الرقابة الحكومية والعدو الغازي، من دون أهداف واضحة. ويخلو الفيلم من مقولةٍ يتبنّاها أو ينقدها تجاه هذه المواضيع.
لا يوجد رابط بين الفيلم والرواية المنشورة عام 1898 باستثناء مجيء كائنات فضائيّة ومحاولة مواجهتها من الجيوش الأرضيّة. اللافت أن الرواية خرجت من حقل حقوق الملكية منذ عام 2017 بعد مرور 70 عاماً على رحيل مؤلفها، وبذلك أُنجزت مواصفات الفيلم بما يناسب قالب المحتوى التدفقي؛ عنوانٌ مألوف ووجهٌ له متابعون كثيرون، إضافة إلى ميزانية ضئيلة.
الرواية واحدة من الأعمال كثيرة الاقتباس، وفي طليعتها المسلسل الإذاعي الذي صنعه أورسون ويلز في ثلاثينيات القرن الماضي. حينها، سبب الأمر ذعراً لبعض المستمعين ممن اقتنعوا لوهلة بغزو الفضائيين. ويحتلّ فيلم الخمسينيات لبايرون هاسكين مكانة محبّبة لمريدي الأفلام الكلاسيكيّة رغم نهايته التبشيريّة، وعانى فيلم “سبيلبرغ” عام 2005 من بطولة توم كروز من انقسام الآراء بشأنه، كذلك بين الحين والآخر تظهر مسلسلات متوسطة المستوى مستوحاةٌ من ذات الأصل الأدبي.
في الاقتباسات العديدة، يفنى المريخيّون لعدم قدرتهم على التكيّف مع الميكروبات الأرضيّة، أمّا الاقتباس الجديد فلا يوضح أصل الفضائيّين، وقدّم للغزو هدفاً يتعلق بسرقة المعلومات من كبرى قواعد البيانات على الكوكب، قبل أن يقضي عليهم فيروس حيويّ رقميّ بمساعدةٍ جليلة من خدمات آمازون للتوصيل.
تشي الدقائق الأولى من الفيلم بماهيّته وإيقاعه الذي لن يتبدّل. لدينا محلّل البيانات الذي يتجسس على أولاده بدافع الاهتمام، ويؤدي مهامه التي لا تحتاج سوى قائمة منسدلة تظهر بنقرة أو نقرتين على حاسوبه، وتمكّنه من صلاحياتٍ لا حصر لها من التجسّس والمراقبة والتحكّم.
لاقى الفيلم استياءً كبيراً نتيجة إغراقه بالمنتجات الحاضرة جزءاً من الحبكة، فتتكرّر الواجهات؛ فيس تايم وواتساب ومايكروسوفت تيمز وغيرها، من دون نجاح أيّ من محاولات صناعة الإثارة والترقّب، أشدّها كان عندما انقلبت درون توصيل الطلبات واحتاجت عاملاً بشريّاً ليعدّل وضعيتها، بعد إقناع أحد المختبئين بالمهمّة مقابل كوبونٍ مجاني من أمازون.
يزيد الأمر سوءاً تقنيات الـCGI المستخدمة في إظهار مركبات الفضائيين بجودة سيئة، وزوايا التصوير الهلعة التي تتقاسم مشاهد الفيلم مع مشاهد إخباريّة متنوعة لحركة الجيوش، يقترب الفيلم بدقائق معيّنة من كونه محض تقليب خاطف للفيديوهات القصيرة على شاشة موبايل.
توضح هذه الجزئية فداحة البناء المنطقي للفيلم؛ ففي حين يمضي الوقت مع الشخصيات ضمن الفضاء الزمني الحقيقي، لا يمكن اعتبار الأحداث التي تنقلها النشرات الإخبارية قابلة للحصول في حيّز زمنيّ لا يجتاز 90 دقيقة.
شهدت الأشهر الفائتة تغيّراً واضحاً في نهج أمازون برايم الإنتاجي، لتقليل النفقات بعد عقد من الإنفاق السخيّ، فهوت بمقصلة الإلغاء على بعض مسلسلاتها المُكلفة مثل اشتقاقات مسلسل Citadel، ومسلسلها الملحمي The Wheel of Time بعد ثلاثة مواسم لم تصنع تأثيراً في الثقافة الشعبية. وأعلنت الشبكة في شهر آذار/آذار آخر حلولها لتغطية النفقات الكبرى باللجوء إلى توزيع بعض الأعمال المكلفة عبر البث التلفزيوني التقليدي، وهذا ما سيشهده الموسم القادم من The Rings of Power إصدار أمازون عن سلسلة ملك الخواتم، وهو العمل الأكثر كلفة في التاريخ.