الجوع يطارد سكان الفاشر السودانية وسط أعنف هجمات منذ بدء الحرب

الجوع يطارد سكان الفاشر السودانية وسط أعنف هجمات منذ بدء الحرب

في مدينة الفاشر المحاصرة بإقليم دارفور غربي السودان، أخذت الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع منحى عنيفاً في الأسابيع الأخيرة في حين لا يجد السكان مفراً من الجوع والموت. منذ أكثر من عام، تحاصر قوات الدعم السريع الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، وهي العاصمة الوحيدة في الإقليم الشاسع التي ما زال تحت سيطرة الجيش السوداني، إلا أنّ شهودَ عيانٍ وطواقم إغاثة يشيرون في الأسابيع الأخيرة إلى هجمات للدعم السريع هي الأعنف منذ بدء الحرب.

ودخلت الحرب بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) عامها الثالث، وأودت بحياة عشرات الآلاف وأجبرت الملايين على النزوح واللجوء، منذ منتصف إبريل/ نيسان 2023، في حين ينتشر الجوع في معظم أنحاء البلاد. وقد أدّت الحرب إلى تقسيم السودان إلى مناطق نفوذ، إذ يسيطر الجيش على شمالي البلاد وشرقيها، في حين تسيطر قوات الدعم السريع على معظم إقليم دارفور في الغرب وأجزاء من الجنوب.

وعلى وقع القصف، يعيش عشرات الآلاف في الفاشر بلا مأوى أو طعام كافٍ، في حين ينتشر مرض الكوليرا في غياب المياه النظيفة والرعاية الصحية. وفي الأشهر الأخيرة، كثّفت قوات الدعم السريع هجماتها على إقليم دارفور وكذلك إقليم كردفان جنوبي البلاد، في محاولة لإيجاد توازن مع الجيش الذي أخرجها من العاصمة الخرطوم ومدن رئيسية أخرى في وسط البلاد. ومنذ ذلك الحين، تشهد الفاشر ومخيمات اللجوء المحيطة بها أعمال عنف متواصلة تستهدف أسواقاً وأحياء مدنية.

وسط ذلك، فقدت حليمة هاشم، أمّ لأربعة أطفال تبلغ من العمر 37 عاماً، زوجها في قصف مدفعي في العام الماضي، “حين كان يحاول شراء مستلزمات منزلية”، بحسب ما تخبر وكالة فرانس برس. تضيف: “بعد مقتل زوجي، انتقلنا إلى مخيّم زمزم (للنازحين في ضواحي الفاشر) لكنّ قوات الدعم السريع هاجمته فعدنا إلى الفاشر”، مشيرةً إلى أنّ “الوضع صعب، لكنّ الخروج (من الفاشر) خطر ومكلف ونحن لا نملك المال”.

في إبريل الماضي، أودى قصف مدفعي عنيف على مخيّم زمزم، أحد أكبر مخيمات النازحين في جوار الفاشر، بالمئات، فيما دفع نحو نصف مليون من سكانه إلى الفرار، فانتهى بهم المطاف في شوارع الفاشر ومدن ولاية شمال دارفور. وتحذّر منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) من أنّ الفاشر تحوّلت إلى “بؤرة لمعاناة الأطفال”.

ويقول محمد خميس دودة، عامل إغاثة نزح من مخيّم زمزم إلى الفاشر في إبريل الماضي، إنّ المدينة تعاني “الجوع… وكوارث أخرى”. ويوضح دودة لوكالة فرانس برس أنّ “الأمراض منتشرة في حين لا تتوفّر مياه نظيفة ولا أدوية، الأمر الذي يؤثّر خصوصاً على الجرحى المصابين بشظايا أو طلقات رصاص”. ويتابع: “نحن نرفع صوتنا ونتوجّه إلى كلّ الجهات… للتدخّل فوراً من أجل احتواء أزمة انتهاك حقوق الإنسان بطريقة صارخة وإجبار المقاتلين من الطرفَين” على وقف الحرب “وإنقاذ من تبقّى”.

بينما تحاصر الحرب مئات الآلاف في داخل الفاشر، يفيد الذين حاولوا الفرار إلى مدن مجاورة بأنّ الطريق تملؤها الجثث. وبفعل الحصار والهجمات العنيفة، لا تدخل المساعدات إلى المدينة التي لم تشهد حركة تجارية منذ أشهر، فيما انقطعت الاتصالات عنها، ما يجعل الحصول على صور عن الحياة اليومية تحدياً كبيراً. ولا يخفي السكان أنّ تصوير أماكن معيّنة قد يعرّضهم لهجمات.

وتوضح لقطات نادرة حصلت عليها وكالة فرانس برس مجموعات من خمسة أشخاص أو ستة يتشاركون طبقاً واحداً في تكية (مطبخ جماعي) يملؤها الدخان، فيما يبدو على هؤلاء الهزال. بالقرب منهم، تستخدم نساء عصياً خشبية لتقليب معجون بني ثقيل يغلي في قدور وُضعت على مواقد من جذوع الشجر، فيما ينخل الرجال مسحوقاً من دقيق الدخن والذرة في حال توفّره، علماً أنّهم يستبدلونه بعلف حيوانات في أيام كثيرة. ويخيّم على المشهد صمت ثقيل، لا تقطعه إلا طلقات الرصاص.

وفي الآونة الأخيرة، صارت التكايا تقدّم وجبة مجانية واحدة في اليوم بدلاً من اثنتَين في ظلّ نقص المواد الغذائية. وفي خلال الأسبوع الجاري، توفيت امرأة وأطفالها الثلاثة وجدّتاهم بعدما تغذّوا لأسابيع على علف حيواني، بحسب ما نقل متطوّعون إغاثيون. ويؤكد آدم عيسى، أحد المتطوّعين المحليين، لوكالة فرانس برس، أنّ معدّل وفيات الأطفال في مخيّم أبو شوك للنازحين، في خلال الشهر الجاري، بلغ وحده خمسة أطفال يومياً. يُذكر أنّ الأمم المتحدة كانت قد أعلنت المجاعة في مخيّمَي زمزم وأبو شوك القريبَين من الفاشر، محذّرةً من أنّ 40% من الأطفال يعانون سوء التغذية الحاد أو سوء التغذية الحاد الوخيم.

في سياق متصل، يخبر إبراهيم عيسى، البالغ من العمر 47 عاماً، أنّه يصطحب مع زوجته أطفالهما الستّة إلى إحدى التكايا “حينما تكون الأوضاع هادئة، لنتناول وجبة، ثمّ تعود زوجتي إلى المنزل مع الأطفال وأذهب أنا لإحضار المياه”. يضيف لوكالة فرانس برس: “أمّا في حالة القصف، فنلازم المنزل وندخل إلى الخندق الذي حفرناه قبل تسعة أشهر”. وكان عيسى قد حاول بالفعل الفرار من الفاشر مع عائلته، في أيار/ أيار الماضي، لكنّ الاشتباكات العنيفة منعته من ذلك.

وفي محاولة للنجاة، يتّجه كثيرون غرباً إلى مدينة طويلة، على بعد نحو 70 كيلومتراً من الفاشر، إلا أنّ ثمّة أشخاصاً من بينهم يلاقون حتفهم نتيجة الجوع والعطش على الطريق، وفقاً لمتطوّعين محليّين. ويفيد مراسل وكالة فرانس برس في طويلة بأنّ النازحين إليها بمعظمهم يعانون الصدمة والإرهاق، بالإضافة إلى إصابة كثيرين منهم بطلقات رصاص.

من جهته، يروي صالح عيسى، البالغ من العمر 42 عاماً، لوكالة فرانس برس كيف مشى مع عائلته على مدى ثلاثة أيام قبل الوصول إلى مدينة طويلة. يضيف: “كنّا نسير في الليل لتفادي نقاط التفتيش، ونقضي النهار في ظلّ الأشجار، وبعد ثلاثة أيام بلغنا طويلة”. ويصف الوضع في مدينة طويلة بأنّه “أمان. لا يوجد قصف”، لكنّ “الحصول على الطعام والمياه صعب”.

وخلال عشرة أيام فقط في خلال شهر آب/ آب الجاري، قتلت الهجمات العنيفة 89 شخصاً على الأقلّ في الفاشر وفي مخيّم أبو شوك، بحسب بيانات الأمم المتحدة. واستهدفت هجمات قوات الدعم السريع كذلك مطار الفاشر وأحياء سكنية ومقرّاً للشرطة المحلية.

(فرانس برس، العربي الجديد)

مذكرات امرأة سودانية حامل فرّت من الحرب: “تمنيت ألّا يُولد الطفل”

مذكرات امرأة سودانية حامل فرّت من الحرب: “تمنيت ألّا يُولد الطفل”

في شهر أيار/أيار الماضي، شرعت أميرة في رحلة محفوفة بالمخاطر عبر إحدى مناطق الحرب الأكثر سخونة في السودان.

وكانت قوات الدعم السريع شبه العسكرية قد سيطرت حديثاً على المدينة التي كانت تعيش فيها، وهي مدينة النهود في ولاية غرب كردفان.

كان الطريق محفوفاً بالمخاطر، لكنها شعرت أنه لا خيار أمامها. فقد كانت حبلى في شهرها السابع.

قالت أميرة: “لم تعد هناك مستشفيات ولا صيدليات، وكنت أخشى ألا أجد أي سيارة مغادرة إذا بقيتُ لفترة أطول. أصبح السفر شبه معدوم، وصعباً للغاية ومكلفاً جداً”.

حصدت الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع أرواح المدنيين لأكثر من عامين. والآن، انتقلت جبهات القتال إلى منطقة كردفان الجنوبية، التي عبرتها أميرة.

ولا تستخدم بي بي سي في هذا التقرير اسمها الحقيقي، وذلك في سبيل حماية هويتها.

أثناء فرارها، سجّلت أميرة مذكرات صوتية عرضتها منظمة “آفاز” الحقوقية على بي بي سي. كما تواصلنا معها هاتفياً في العاصمة الأوغندية كامبالا، حيث تنتظر ولادة طفلها.

وكانت رحلة أميرة منذ بدايتها تعتريها الصعاب.

  • لماذا تعتبر معركة كردفان حاسمة في الحرب السودانية؟

وقالت أميرة إن قوات الدعم السريع وحلفاءها كانوا يسيطرون على جميع وسائل النقل.

وعندما صعدت هي وزوجها على متن شاحنة لنقلها من مدينة النهود، اندلع شجار بين الشاب الذي استأجر المركبة لعائلته، وسائق من قوات الدعم السريع الذي كان يعرض مزيداً من المقاعد على ركاب آخرين.

قالت أميرة: “أخرج السائق سلاحه على الفور وهدد بإطلاق النار على الشاب الذي استأجر الشاحنة. كان الجميع يتوسلون إليه، بمن فيهم رفيقه من قوات الدعم السريع”.

“كانت جدة الصبي ووالدته تبكيان وتمسكان بساقي السائق، وتتوسلان إليه ألا يطلق النار. كنا نحن الركاب متجمدين من الخوف”.

تضيف أميرة: “لسبب وجيه، شعرتُ أنه إذا قرر إطلاق النار، فسيُطلق النار على العديد من الأشخاص، وليس شخصاً واحداً فقط، لأنه كان ثملاً ويدخن الماريغوانا”.

وأخيراً أبعد السائق مسدسه جانباً، لكن الشاب بقي في مدينة النهود.

انطلقت الشاحنة المحملة بالركاب على طريق غير مستوٍ مليء بالحفر وتتخلله الجداول، محملةً بالأمتعة و70 أو 80 شخصاً، بينهم أمهات يتمسكن بأي شيء يمكنهن الإمساك به، ويحاولن الحفاظ على سلامة أطفالهن في الوقت ذاته.

قالت أميرة: “كنت خائفة طوال الوقت. كنت أدعو الله ألّا يُولد الطفل الذي في رحمي، وكنت آمل أن يكون كل شيء على ما يرام”.

  • نقص التغذية في الفاشر يبلغ أسوأ مراحله، والإمارات تتهم الحكومة السودانية بعرقلة جهود السلام
صورة تُظهر رجالاً يدفعون مركبة محملة بالأمتعة على طريق ترابي في السودان.
تعطلت المركبات التي سافرت بها أميرة وزوجها عدة مرات خلال رحلتهما اليائسة

في النهاية، وصل المسافرون إلى مدينة الفولة، عاصمة ولاية غرب كردفان. لكن أميرة لم ترغب في البقاء هناك أكثر مما ينبغي، لأن الجيش كان يقترب من المنطقة.

وقالت أميرة في مذكراتها الصوتية: “لم أكن أعرف ماذا سيحدث إذا وصل الجيش إلى الفولة، خاصة وأن الجنود بدأوا في استهداف أشخاص من مجموعات عرقية معينة يعتقدون أنها مرتبطة بقوات الدعم السريع، مثل البقارة والرزيقات”.

تابعت أميرة: “زوجي ينتمي إلى إحدى هذه المجموعات العرقية، مع أنه لا علاقة له بقوات الدعم السريع. هو موظف في القطاع العام، ودرس القانون، لكن هذا لا يهم الآن؛ فالناس يُستهدفون لمجرد انتمائهم العرقي”.

وقد اتُهمت القوات المسلحة السودانية والميليشيات المتحالفة معها بملاحقة المدنيين المشتبه في تعاونهم مع قوات الدعم السريع في الأراضي التي تسيطر عليها، وهو ما وصفته الأمم المتحدة بـ “تقارير موثوقة عن عمليات قتل خارج القانون”.

وكان الجيش السوداني قد أدان في وقت سابق الانتهاكات “الفردية” التي ارتكبها بعض جنوده، عندما اتُّهم بانتهاك حقوق الإنسان.

وشكّل رئيس أركان الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، لجنة في وقت سابق من هذا العام للتحقيق في الانتهاكات المزعومة خلال اجتياح الجيش لوسط السودان.

  • السودان: كيف يؤثر الإعلان عن حكومة موازية في أزمة البلد ومستقبله؟
  • قصة مدينة الفاشر من الازدهار في عصر سلطنة الفور وحتى اليوم

أصبحت كردفان، المكونة من ثلاث ولايات، ساحة المعركة الرئيسية. وتتمتع هذه المنطقة بأهمية بالغة في حرب السودان، إذ تضم حقول نفط رئيسية، وتُعد محوراً استراتيجياً لطرق النقل المهمة.

وقد أدى تورط ميليشيات أخرى إلى جانب قوات الدعم السريع، وخاصة “الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال”، إلى تصعيد العنف وتفاقم الأزمة الإنسانية، ما يجعل من شبه المستحيل على منظمات الإغاثة إرسال الإمدادات.

بعد مغادرة الفولة، قضت أميرة ثلاثة أيام، وتنقلت خلالها بين عدة مركبات، للوصول إلى الحدود مع جنوب السودان، حيث الأمان. وكانت العقبات لا حصر لها.

وقالت إن “سائقي قوات الدعم السريع كانوا يعملون حسب مزاجهم”.

“كانوا يقررون من يركب، وأين يجلس، ومقدار الأجر. لم تكن هناك تسعيرة محددة، وكان عليك تحمّل ذلك. فهؤلاء الرجال مسلحون، وكان العنف أمراً هيّناً بالنسبة لهم”.

وأضافت أن المسافرين كانوا يتوقفون كل عشرين دقيقة تقريباً عند نقاط تفتيش تابعة لقوات الدعم السريع، ويجبرون على دفع الأموال لعناصر القوات المتمركزين هناك.

وذلك على الرغم من أنهم كانوا برفقة أفراد تابعين لقوات الدعم السريع، وكانوا يدفعون لهم أيضاً.

كان الطعام باهظ الثمن، وكانت المياه شحيحة.

صورة تُظهر سريراً مصنوعاً من الخيوط وأغصان الأشجار موضوعاً فوق طريق موحل.
استأجرت أميرة هذا السرير لقضاء ليلة في قرية الحجيرات حيث تمكنت من الاتصال بالإنترنت عبر ستارلينك

في قرية الحجيرات، تمكن المسافرون من الاتصال بالإنترنت عبر جهاز ستارلينك تابع لقوات الدعم السريع، لكن حتى هذا الأمر انطوى على مخاطر.

قالت أميرة: “بمجرد اتصالك بالإنترنت، عليك توخي الحذر. إذا سمعك أفراد قوات الدعم السريع وأنت تشاهد فيديو للجيش، أو تشغّل نغمة رنين أو أغنية عسكرية، أو تذكر قوات الدعم السريع بشكل عرضي خلال محادثة، فسيعتقلونك”.

كانت حالة الطرق سيئة للغاية، وكانت المركبات تتعطل باستمرار، وتعطّلت مركبة أميرة ثلاث مرات أثناء الرحلة.

أسوأ لحظة لأميرة كانت عندما انفجر إطار المركبة التي تُقلّها أثناء مرورها عبر غابة أكاسيا، تاركةً الركاب عالقين دون ماء. وكان السائقون المارّون بالطريق يقولون إنه لا يملكون مساحة إضافية.

قالت أميرة: “أقسم بالله، شعرت أنني قد لا أصل إلى مكان آخر أبداً، وأنني سأموت هناك”.

“لقد استسلمت. لم يكن لدي سوى بطانية، لذا أخذتها واستلقيت ونمت على الأرض”، “في ذلك اليوم، شعرت حقاً أن نهايتي ستكون هناك”.

لكن لم تكن تلك النهاية، تمكنت أميرة وزوجها أخيراً من ركوب شاحنة صغيرة محملة بشحنة من الخضروات.

  • قتال عنيف في مدينة الفاشر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع
  • اليوم العالمي للاجئين: سودانيات بين الاغتصاب والاستغلال في ليبيا

وفي اليوم التالي، وصلوا إلى أبيي عند الحدود، لكن السفر إلى هناك تباطأ بسبب الأمطار والفيضانات.

في هذه المرحلة كانوا داخل مركبة محملة ببراميل الوقود، وظلت المركبة تتعطل.

قالت أميرة: “كانت السيارة تغرق في الوحل مراراً وتكراراً”.

“كانت ملابسنا مبللة. وكذلك حقائبنا، التي تضررت أصلاً بسبب الغبار والحرارة، والآن أصبحت مبللة”.

“كنا نتجمد من البرد وكنا ندعو الله أن نصل إلى بر الأمان”.

وفي نهاية المطاف، وصل الزوجان إلى جوبا، عاصمة جنوب السودان، التي تبعد نحو 1300 كيلومتر إلى الجنوب من النهود، ومن هناك استقلوا حافلة إلى عاصمة أوغندا.

والآن بعد أن وصلت إلى بر الأمان، أصبح الشعور بالارتياح مريراً وحلواً في آن واحد.

صورة تظُهر كوباً من الحليب إلى جانب كوب من الشاي وعلبة من البسكويت.
تلقّت أميرة وجبة خفيفة ترحيبية في أبيي، إذ كان الطعام باهظ الثمن خلال الرحلة، وكان المسافرون يشربون في كثير من الأحيان من البرك

تشعر أميرة بقلق بالغ إزاء أفراد عائلتها الذين بقوا في السودان، كما تشعر بالحزن والتوتر وهي تستعد للولادة.

“أنا خائفة جداً من شعور الولادة، لأنها المرة الأولى بالنسبة لي، طفلي الأول ولن تكون والدتي معي”، قالت أميرة.

“سيكون هناك معي صديقتي وزوجي فقط. لا أعلم… إنها أمور كثيرة، غير منظمة، ومربكة للغاية”.

أميرة ناشطة في مجال حقوق المرأة والديمقراطية، وقد تولت أعمال الإغاثة أثناء الحرب، من خلال ما يُعرف بغرف الاستجابة للطوارئ.

وقالت إن مجموعتها كانت موضع شك من قبل الجيش، وأُلقي القبض على بعض أعضائها.

أخبرتني أميرة: “كنت خائفة من الجيش والمخابرات العسكرية. كانوا يعتقلون الشباب ويحتجزونهم”.

  • السودان: كيف يواجه السودانيون مأساتي الحرب وانتشار الأوبئة في آن واحد؟

وأضافت: “لكن حين جاءت قوات الدعم السريع، لم يكونوا أفضل. فهم ينهبون ويغتصبون. ولا تقلّ أعمالهم عمّا يفعله الجيش. كلهم سواء”.

ورغم الأدلة الكثيرة على أعمال النهب ومزاعم الاغتصاب، تُصرّ قوات الدعم السريع على أنها لا تستهدف المدنيين. ونفت اتهامات التطهير العرقي، واصفةً العنف بأنه صراعات قبلية.

وينفي طرفا الصراع في السودان الاتهامات الموجهة إليهما بارتكاب جرائم حرب.

التحدي الذي تواجهه أميرة الآن، والفرحة في الوقت ذاته، يتمثل في أن تصبح أماً.

لكن السؤال المطروح دائماً هو: هل ستتمكن من العودة إلى السودان مع طفلها؟

قالت أميرة: “آمل أن يتحسن الوضع في السودان، لن يكون الوضع آمناً كما كان من قبل، ولن يبقى الناس كما هم، ولن تبقى الأماكن كما هي، كل شيء سيتغير”.

“لكن إذا توقفت الحرب، فسيكون هناك على الأقل شكل من أشكال الأمان. ولن يموت الناس عشوائياً كما يحدث الآن”.

لسانان… من فلسطين إلى السودان

لسانان… من فلسطين إلى السودان

حين تقع جريمة في سياق الإبادة الجماعية في غزة، أو في إرهاب المستوطنين بالضفة الغربية، تسارع آلة الدعاية الصهيونية لتلطيف وطأة الجريمة وتلميع صورتها أمام العالم. في استهداف مستشفى ناصر، واصل الاحتلال قصف الصحافيين والمستشفيات والمدنيين، منتهكاً كل المواثيق الدولية. وقد عبّر رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، بلسان غير عبري، عن “أسفه” لمقتل خمسة صحافيين، دون اعتذار، مكتفياً بـ”تحقيق” لا يُعوّل عليه.

أما في الخطاب العبري الداخلي، فكل من يُقتل في غزة، بغض النظر عن وظيفته، يُوصم فوراً بـ”الإرهابي”، بمن فيهم الأطفال والنساء. هذا التناقض بات بديهياً لدى الفلسطينيين، الذين خبروا خبث الاحتلال وكذبه، وسعيه المحموم للتطهير العرقي بحقهم. في مقابل لسان الفاشية والإبادة بالعبرية، هناك ما يشبهه في خنوع السياسات العربية الرسمية. خطاب “الأخوّة” والتضامن بات صدى باهتاً، يتذرع بالعجز أو بحجج الاحتلال لمنع إنقاذ الفلسطينيين من التجويع، لكنه أعجز من تفسير صمته أمام تجويع ملايين السودانيين. حدود السودان لا تُفتح لإنهاء الحصار، بل تُستغل لتغذية الصراع وإدامته. فمن يمنع العرب من تسيير قوافل إنقاذ براً وبحراً وجواً للسودانيين، لإنقاذهم من مجاعة تتسع يوماً بعد يوم؟

إن تردي مكانة الدولة العربية وتأثيرها هنا وهناك لا يضرب تلك الدولة فحسب، بل يعكس حالة عربية مريضة، باتت على موائد تقاسم يرسمها الخارج لمستقبل نحو نصف مليار إنسان. إذا كان نتنياهو ومعسكره الفاشي، المدعوم من واشنطن وآخرين، يلوّح بخرائط “إسرائيل الكبرى”، فلكل عربي حق التساؤل: أين أنظمتنا التي أقسمت على حماية أوطانها؟

وليس الاحتلال وحده من يتحدث بلسانين؛ فالعرب الرسميون يفعلون ذلك أيضاً: شعارات دعم الفلسطيني علناً، وحماسة لإخماد المقاومة سراً، بزعم تهديدها “لأمنهم”، بينما الاحتلال وحده يهددهم علناً بخططه ومشاريعه. هو الفلسطيني ذاته الذي يُوصف بأنه “شقيق”، تماماً كما السوداني، لكنه يُمنع حتى من تلقي تبرعات تسد رمق أطفاله، ويُلاحق من يحاول دعمه بالكلمة أو برفع علمه.

ما يجري اليوم لا يهدد الحاضر فحسب، بل يؤسس لكارثة مقبلة. ومواجهة خرائط الصهيونية لا تكون بالتقليل من شأنها، بل بفعل سياسي عاجل ومسؤول، يواجه الغرب بوضوح ويترك للشارع العربي حق التعبير. والمفارقة أن وزراء في أوروبا يستقيلون احتجاجاً على مواقف حكوماتهم، والمطالب تتصاعد لقطع العلاقات مع الاحتلال، بينما يواصل بعض العرب التصرف كأن لا شأن لهم… لا بما يحدث في السودان، ولا فلسطين، ولا بما يُرسم لهم في الخرائط.

 

الخرطوم تعانق الحياة.. موجة عودة طوعية وسط تحديات صحية وخدمية

الخرطوم تعانق الحياة.. موجة عودة طوعية وسط تحديات صحية وخدمية

الخرطوم- وسط ركام السوق التجاري في العاصمة السودانية الخرطوم يجلس محمد عز الدين تاجر الأقمشة الستيني محاولا إعادة ترتيب بقايا متجره الذي التهمته الحرب، فجدران محله لا تزال تحمل كتابات تمجد قوات الدعم السريع، في حين يخيم الظلام بسبب انقطاع الكهرباء.

ويتحدث عز الدين للجزيرة نت أثناء محاولته تنظيم مكان عمله “أحاول منذ أيام استجماع عزيمتي للعودة إلى العمل، لكن كما ترون عودة السوق ليست قريبة”.

ويقول عز الدين -الذي يسكن جنوب العاصمة الخرطوم- إن الأوضاع السكنية أفضل نسبيا، حيث بدأت أعداد العائدين تتزايد منذ عيد الأضحى الماضي، ويستدرك أن انقطاع المياه والكهرباء وانتشار الحمى -خاصة حمى الضنك- جعلا كثيرا من العائدين يغادرون مجددا أو ينصحون غيرهم بعدم العودة.

على ضفة النيل

وعلى الضفة الغربية للنيل باتجاه أم درمان يقف المزارع بلة إبراهيم يراقب نمو محاصيله، وقد بدا عليه التفاؤل بعد عودته إلى حقله.

ويقول إبراهيم للجزيرة نت وهو يشير إلى بقايا مقذوفات حربية لا تزال شاهدة على قسوة الأيام الماضية “حتى بداية هذا العام لم يكن أحد يستطيع الاقتراب من هذه المنطقة بسبب الرصاص وأعين القناصة، أما اليوم فعدنا نزرع ونعمل، والإنتاج يمتد شمالا وجنوبا بما يكفي العاصمة”.

ويؤكد وزير الزراعة والثروة الحيوانية والري في ولاية الخرطوم فضل المولى عبد اللطيف شهادة المزارع إبراهيم، ويوضح أن أغلب المزارعين استأنفوا أعمالهم على شريط النيل، وأن إنتاج الخضروات والبصل والبطاطس عاد بشكل وفير، خصوصا في الريف الشمالي.

وأضاف الوزير في حديثه للجزيرة نت أن الحكومة وزعت 7 أنواع من البذور المحسّنة لأكثر من ألفي أسرة في الخرطوم وبحري وأم درمان لدعم الزراعة المنزلية.

لكن الوزير أقر بخسائر كبيرة، إذ تعطلت 7 مشروعات زراعية رئيسية، من بينها السليت، وسوبا غرب، والعسيلات، وسندس.

عودة الاجئين السودانيين نحو الخرطوم لجنة العودة الطوعية
يتحدث السودانيون عن تحسن نسبي في الأوضاع الأمنية ليبقى التحدي الأكبر تقديم الخدمات الأساسية (لجنة العودة الطوعية)

أزمات صحية

وفي حيي الامتداد والكلاكلات جنوب ووسط الخرطوم تبدو عودة السكان متسارعة، لكن التحديات الصحية كبيرة، فغياب الناس عن الأحياء لمدة عامين أدى إلى تراكم النفايات ونمو كثيف للأعشاب، مما وفر بيئة مثالية لتكاثر الذباب والبعوض، وهذا الواقع أدى إلى ارتفاع حالات الملاريا وحمى الضنك بشكل مقلق.

إعلان

ويقول أيمن حامد -وهو أحد سكان منطقة أبو آدم- إن “عدد الوفيات جراء هذه الأمراض مرتفع، توفي صديقي أمس بالحمى، وهناك عشرات غيره”.

ويضيف حامد للجزيرة نت أن وزارة الصحة تركز جهودها على المستشفيات الكبرى، في حين تظل المراكز الصحية داخل الأحياء معطلة رغم أهميتها لقربها من المواطنين، موضحا أنه مضطر إلى مغادرة المنطقة لنقل أحد جيرانه -الذي عاد حديثا من مصر– بسبب إصابته بحمى الضنك بعد أيام قليلة من وصوله.

الاستقرار الأمني

ورغم الظروف الصحية والبيئية الصعبة فإن الاستقرار الأمني النسبي بفضل انتشار قوات الشرطة ساعد على تعزيز العودة الطوعية، خصوصا من الخارج، وتتصدر مصر قائمة الدول المستضيفة للسودانيين منذ اندلاع الحرب، لكن مؤشرات العودة منها إلى السودان تتزايد.

وأوضحت رئيسة لجنة العودة الطوعية في منظومة الصناعات الدفاعية المهندسة أميمة عبد الله للجزيرة نت أن لجنتها سيّرت 8 قطارات حتى منتصف آب/آب 2025، ينقل كل منها نحو 1200 مواطن من القاهرة إلى أسوان، قبل أن يتم توزيعهم عبر حافلات إلى مختلف الولايات.

بدورها، تتابع حكومة ولاية الخرطوم هذا الحراك السكاني، حيث أكد وزير الشؤون الاجتماعية في الولاية صديق فريني أن وزارته كانت ترافق عمليات تحرير الأحياء ميدانيا لتأمين الغذاء والإمدادات للسكان عبر التكايا وغيرها.

وأشار فريني في حديثه للجزيرة نت إلى أن الحكومة أعدت خطة طوارئ لـ3 أشهر تستهدف الشرائح الضعيفة والأسر الفقيرة، مع تزايد وتيرة العودة.

ويقر الوزير السوداني بأن مشاكل المياه والكهرباء لا تزال تعكر تفاصيل الحياة اليومية، لكنه يشدد على أن الأوضاع العامة اليوم أفضل مقارنة ببدايات الحرب، وأن ولاية الخرطوم ملتزمة بتوفير الخدمات الأساسية تدريجيا بالتوازي مع عودة المواطنين.

الهجرة الدولية: 2800 نازح جراء السيول والأمطار شرق السودان

الهجرة الدولية: 2800 نازح جراء السيول والأمطار شرق السودان

أعلنت منظمة الهجرة الدولية، اليوم الخميس، نزوح 2800 شخص وانهيار 660 منزلاً كلياً أو جزئياً جراء السيول والأمطار التي ضربت محافظة الرهد بولاية القضارف شرق السودان. وأفادت الفرق الميدانية أن فيضان نهر الرهد أثّر على قرى دار السلام وبازورة وأم الخير بالمحافظة، وقد تدمّر 560 كلياً و100 جزئياً فلجأ النازحون إلى المجتمعات المُضيفة في المنطقة نفسها. وأمس الأربعاء، أعلنت السلطات السودانية مقتل 14 شخصاً جراء السيول والأمطار التي اجتاحت ولايتي نهر النيل (شمال) وسنار (جنوب شرق)، ما أدى إلى انهيار مئات المنازل وتضرر آلاف السكان.

وفي العادة تهطل أمطار غزيرة خلال فصل الخريف في السودان، بين حزيران/ حزيران وتشرين الأول/ تشرين الأول، ويواجه البلد سنوياً فيضانات واسعة. وتتزامن الكوارث الطبيعية في السودان حالياً مع معاناة مواطنيه من الحرب المستمرة بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ منتصف إبريل/ نيسان 2023، والتي خلّفت أكثر من 20 ألف قتيل ونحو 15 مليون نازح ولاجئ، وفق الأمم المتحدة والسلطات المحلية، بينما قدّر بحث أجرته جامعات أميركية سقوط نحو 130 ألف قتيل.

ويُصنّف السودان بين البلدان الأعلى تسجيلاً لدرجات الضعف البيئي، والأكثر انخفاضاً على صعيد الاستعداد، ما يشير إلى أن مستويات التحديات كبيرة جداً، وتحتاج إلى أعمال وتدخلات ومساعدات ملحّة في وقت تمنع عقبات هائلة تحقيق السودان الأمن الغذائي والتنمية المستدامة حتى إذا توقف الصراع الحالي. أيضاً يعرقل تدهور النظم البيئية واستنزاف الموارد الطبيعية قدرة الدولة على معالجة الفقر وعدم المساواة. وعلى مر السنين خلّف التغيّر المناخي تأثيرات عميقة على الإنتاج الزراعي في السودان. 

(الأناضول)