
صدمة جمركية تضرب الهند هي الأخطر منذ عقدين… كيف تمتصها؟
دخل اقتصاد الهند منعطفاً حاداً مع بدء تنفيذ قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب زيادة الرسوم الجمركية على السلع القادمة من الهند إلى ما يصل إلى 50% اعتباراً من أمس الأربعاء، في خطوة وصفتها تقارير مالية بأنها الأخطر منذ عقدين على العلاقات التجارية بين البلدين. وسوف تضاف رسوم جمركية تبلغ 25% على الهند، بسبب مشترياتها من النفط الروسي إلى الرسوم السابقة البالغة 25% على عدد من المنتجات الهندية. ونقلت “رويترز” عن مصدر في الحكومة قوله إن نيودلهي تأمل أن تراجع الولايات المتحدة الرسوم الجمركية الإضافية بنسبة 25%، مضيفاً أن الحكومة تعتزم اتخاذ خطوات لتخفيف أثر هذه الرسوم.
وتحت وطأة الصدمة الجمركية الجديدة، افتتحت بورصة بومباي تداولات اليوم الخميس على تراجعات حادة، إذ خسر مؤشر نفتي 50 نصف نقطة مئوية، بينما تراجع مؤشر سينسيكس بنحو 0.6% في الدقائق الأولى للتداول. أما الروبية، فقد تراجعت إلى حدود 88 روبية مقابل الدولار، ما اضطر بنك الاحتياطي الهندي إلى التدخل بشكل محدود للحد من الانخفاض. وتزامن هذا الارتباك المالي مع موجة خروج لرؤوس الأموال الأجنبية تجاوزت 2.6 مليار دولار في آب/آب وحده، وهو الأعلى منذ شباط/شباط الماضي، ما يعكس عمق الصدمة التي أحدثها القرار في السوق المحلي والدولي.
وقالت الولايات المتحدة إن شراء الهند النفط الروسي يساعد موسكو على تمويل حربها في أوكرانيا، وإن نيودلهي تتربح من ذلك أيضاً. ورفضت الهند هذه الاتهامات ووصفتها بأنها كيل بمكيالين، وأشارت إلى أن هناك روابط تجارية أميركية وأوروبية مع روسيا. وتعليقاً على الرسوم العقابية، قال وزير الدولة للشؤون الخارجية الهندي كيرتي فاردان سينغ لصحافيين، أمس الأربعاء: “نتخذ الخطوات المناسبة لضمان عدم الإضرار باقتصادنا، ودعوني أطمئنكم بأن قوة اقتصادنا ستمكننا من تجاوز هذه الأوقات العصيبة”. وأضاف “ما يهمنا هو أمن طاقتنا، وسنواصل شراء موارد طاقة من أي دولة تعود علينا بالنفع”.
صادرات الهند تحت التهديد
وأظهرت تقديرات صادرة عن بنك باركليز، نقلتها صحيفة تايمز أوف إنديا، أن الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة تمثل تهديداً مباشراً لما يقارب 70% من صادرات الهند إلى الولايات المتحدة. ويعني ذلك أن ما يقرب من 55 مليار دولار من إجمالي 80 مليار دولار من صادرات الهند المتجهة إلى السوق الأميركية باتت مهددة بشكل مباشر، وهو ما يعادل نحو 13% من إجمالي الصادرات السلعية للهند في عام 2024. ووفقاً للبيانات المجمعة من مركز المعلومات الاقتصادية الصيني (CEIC)، فإن الولايات المتحدة تعد أكبر شريك تجاري للهند بفارق واسع، حيث تستوعب وحدها 18% من إجمالي الصادرات الهندية، أي ما يزيد عن 80 مليار دولار من البضائع سنوياً.
وقال بنك باركليز إن الرسوم الجديدة ستضع الهند في وضعية غير متكافئة مقارنة بالاقتصادات الناشئة المنافسة في آسيا، مثل بنغلادش وسريلانكا، حيث لا تتجاوز الرسوم على صادراتهما من المنسوجات إلى الولايات المتحدة 20%، بينما سترتفع في حالة الهند إلى أكثر من 60% عند إضافة التعرفات الجديدة فوق الرسوم السابقة، وهي من بين أعلى الرسوم التي تفرضها الولايات المتحدة. وذكر المصدر لرويترز أن الحكومة الهندية تجري محادثات مع المصدرين لزيادة شحنات المنسوجات والجلود والأحجار الكريمة والمجوهرات إلى دول أخرى، وأنها ستقدم على الأرجح مساعدات مالية للشركات المتضررة.
القطاعات المتأثرة والمستثناة
وعلى الرغم من شمول الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة قطاعات واسعة من الصادرات الهندية، فإن تأثيرها يتفاوت بشكل ملحوظ بين الصناعات. فبحسب بيانات باركليز ريسيرش ومركز (CEIC)، تأتي الآلات الكهربائية والمجوهرات والأحجار الكريمة والمنسوجات في صدارة القطاعات الأكثر عرضة للخطر. وتشير الأرقام إلى أن صادرات الهند من الآلات الكهربائية بلغت نحو 39.3 مليار دولار في عام 2024، وقد استحوذت الولايات المتحدة وحدها على 31% منها. وفي قطاع المجوهرات، الذي وصلت صادراته إلى 28.9 مليار دولار، فإن السوق الأميركية تمثل أكبر منفذ لهذه المنتجات بنسبة تتجاوز 31%، ما يجعلها في قلب المواجهة التجارية. أما صناعة المنسوجات، التي بلغت صادراتها أكثر من 21 مليار دولار، فتعتمد على الولايات المتحدة بحصة تقارب 37%، وهو ما يضعها في وضع تنافسي هش مقابل صادرات بنغلادش وسريلانكا التي تواجه تعرفات أدنى بكثير، بحسب تايمز أوف إنديا.
وفي المقابل، هناك بعض الصناعات التي حظيت باستثناءات مهمة خففت من حدة الصدمة. فالهواتف الذكية، التي أصبحت خلال السنوات الأخيرة أحد أبرز بنود الصادرات الهندية، بفضل برنامج الحوافز المرتبطة بالإنتاج، أعفيت من الرسوم الجديدة، ما يمثل دعماً كبيراً لهذا القطاع الذي عزز مكانة الهند قاعدة بديلة للتصنيع في مواجهة الصين. كذلك جاء قطاع الأدوية، الذي بلغ حجم صادراته إلى الولايات المتحدة نحو 8.7 مليارات دولار في 2024، في دائرة الاستثناء مؤقتاً، وهو أمر بالغ الأهمية باعتبار أن الولايات المتحدة تستحوذ على نحو 38% من صادرات الأدوية الهندية. غير أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب كان قد لوّح بفرض رسوم تصل إلى 200% على جميع واردات الأدوية خلال فترة سماح تتراوح بين 12 و18 شهراً، وهو ما يعني أن هذا القطاع الاستراتيجي يظل مهدداً على المدى المتوسط، بحسب “باركليز”.
النفط الروسي
ولا يمكن فصل الرسوم الجمركية الأميركية على الصادرات الهندية عن البعد الجيوسياسي المرتبط بعلاقات نيودلهي مع موسكو. فبحسب بيانات مركز (CEIC)، ارتفعت حصة روسيا من واردات الهند النفطية بشكل غير مسبوق، إذ قفزت من 2.7% فقط في عام 2021 إلى نحو 26% في 2025، لتتفوق على العراق والسعودية وتصبح المورد الأول للهند. وتكشف بيانات باركليز أن هذه الطفرة وفرت للهند وفورات مالية تراوحت بين 7 و10 مليارات دولار خلال 2024 وحده، بفضل الخصومات السعرية التي منحتها موسكو، والتي تراوحت بين 3 و8 دولارات للبرميل، مقارنة بالنفط القادم من الشرق الأوسط.
وأثار هذا الاعتماد العميق على الخام الروسي حفيظة واشنطن، التي فرضت بدورها رسوماً ثانوية بنسبة 25% على الواردات النفطية من موسكو في محاولة لتقويض جدوى هذه المعادلة. ورغم ذلك، واصلت نيودلهي شراء النفط الروسي بكميات كبيرة، مبررة موقفها باعتبارات اقتصادية بحتة، خصوصاً أن وارداتها النفطية الإجمالية بلغت 186 مليار دولار في 2024، وأن أي ارتفاع إضافي في الأسعار العالمية كان سيضاعف من فاتورة الطاقة ويهدد الاستقرار الداخلي، بحسب “تايمز أوف إنديا”.
ذاكرة الصدمات
وتظهر تجارب الهند خلال العقدين الماضيين أن الصدمات الخارجية، رغم قسوتها على المدى القصير، كانت في كثير من الأحيان محفزاً لإصلاحات هيكلية عميقة. ففي عام 2013، شهدت الروبية واحدة من أسوأ أزماتها عندما أعلن الاحتياط الفيدرالي الأميركي عزمه تقليص برنامج التيسير الكمي. هذا الإعلان أدى إلى انهيار سريع للعملة الهندية وارتفاع حاد في عوائد السندات، ما أجبر البنك الاحتياطي الهندي على التدخل الطارئ برفع أسعار الفائدة وتشديد السيولة. ورغم حالة الذعر في الأسواق، فإن الأزمة دفعت الحكومة آنذاك إلى تسريع تحرير قطاعات رئيسية أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة، خاصة في مجال التجزئة والطيران المدني، وهو ما ساعد على استعادة الثقة تدريجياً.
وبالمثل، في عام 2022 واجهت الهند صدمة حادة بسبب الحرب الروسية – الأوكرانية التي أشعلت أسعار الطاقة والمواد الغذائية عالمياً. وارتفعت فاتورة واردات النفط والغاز، وقفز معدل التضخم إلى أعلى مستوياته منذ سنوات. لكن نيودلهي لجأت حينها إلى إبرام عقود طويلة الأجل مع روسيا ودول الخليج بأسعار تفضيلية، كما وسّعت برامج دعم الوقود والسلع الأساسية لحماية الطبقات الوسطى والفقيرة. وساعدت هذه الخطوات، إلى جانب تعزيز الاستثمارات في الطاقات المتجددة، على تقليص أثر الأزمة ودعمت مرونة الاقتصاد المحلي.
واليوم، ومع الرسوم الأميركية الجديدة التي تهدد ما يقارب 70% من الصادرات الهندية إلى الولايات المتحدة، يجد صناع القرار أنفسهم أمام تكرار النمط ذاته (أزمة خارجية تضرب الأسواق وترفع الضغوط التضخمية، لكنها تفتح في الوقت ذاته الباب أمام إصلاحات أكثر جرأة). ويرى خبراء اقتصاديون أن الأزمة الحالية قد تدفع الحكومة إلى توسيع برامج التصنيع المحلي، وتعميق اتفاقيات التجارة الحرة مع شركاء بديلين مثل الاتحاد الأوروبي والإمارات والمملكة المتحدة.