حين رحل الروائي اللبناني إلياس خوري في الخامس عشر من أيلول/ أيلول الماضي، بدا كأنه يرسم خطّاً فاصلاً بين زمنَين. فما هي إلا أيام حتى اندلعت الحرب الإسرائيلية، وتحول الموت في شوارع المدن والقرى اللبنانية إلى مشهد يومي استمر لأكثر من شهرين. ومنذ تلك الفترة، ظلّ طيف صاحب رواية “باب الشمس” حاضراً في النقاش الثقافي والسياسي، كأنّ غيابه الشخصي لم يقطع حضوره الرمزي.
وفي الذكرى الأولى لرحيله، يطالعُنا اسم خوري في بيروت مجدّداً، لا من خلال افتتاحياته لمجلة الدراسات الفلسطينية التي كان يرأس تحريرها، ولا في أعماله الأدبية، بل عبر تجهيز فني أُطلِق أخيراً في فضاء “زيكو هاوس”، أحد بيوت بيروت التراثية الذي شُيّد في ثلاثينيات القرن الماضي، ضمن عودة “مهرجان أيلول” بعد غياب دام 25 عاماً، تحيةً لإرث الكاتب الذي شارك في إدارة المهرجان بين عامَي 1998 و2001، في محاولة لإعادة وصل القرّاء بشخصياته التي شكّلت على مدى عقود بعضاً من ملامح الرواية العربية المعاصرة.
تجهيز جماعي مستمدّ من روايات “كأنّها نائمة” و”يالو” و”اسمي آدم”
يحمل التجهيز الفني عنوان “كأنّه نائم”، في إشارة إلى رواية “كأنّها نائمة” (دار الآداب، 2007) ويقدّم للزوّار حتى نهاية أيلول/ أيلول الجاري؛ تجربة سمعية وبصرية تستحضر شخصياته الروائية وتعيد إخراجها من الكتب إلى فضاء حيّ. على مدار تسعة أشهر، عمل فريق المهرجان على بناء هذه التجربة انطلاقاً من ثلاث روايات أساسية: “كأنّها نائمة”، و”يالو”، و”اسمي آدم”، بهدف أن يكتشف الذين لم يقرأوا خوري جانباً من عالمه الأدبي، وأن يجد القراء القدامى وسيلة جديدة للتواصل مع نصوصه.
جانب من التجهيز (تصوير: نبيل إسماعيل)
داخل المبنى المؤلف من ثلاث طبقات، ننتقل في مسار يبدأ من باب المدخل حيث تُطالعنا نصوص قصيرة وجمل مأخوذة من أعمال خوري، قبل أن ننتقل عبر الغرف والدرج إلى الطبقة الثانية، حيث تتوزّع تجهيزات متعدّدة في فضاءات منفصلة، ويقود المسار في النهاية إلى الحديقة الخلفية، هناك وُضعت كتب خوري على رفوف خشبية أشبه بمكتبة مفتوحة، بينما تُعرض أوراق أُخرى مكتوبة بخط يده.
استُوحيت فكرة تجهيز “كأنّه نائم” من “متحف البراءة”، رواية التركي أورهان باموق التي تحوّلت بالفعل إلى متحف قائم في إسطنبول، وبالمثل بدا “زيكو هاوس” المكان الأنسب لاستعادة شخصيات خوري. فالمبنى يطلّ بنوافذه الخشبية الخضراء على قلب العاصمة في شارع الحمراء، وسبق أن استضاف في أواخر التسعينيات أنشطة “مهرجان أيلول”، ما يجعل عودته اليوم تحمل أيضاً بُعداً رمزياً. ولتهيئة الجمهور لهذا اللقاء، كان المنظمون قد وزّعوا قبل أسابيع منشوراتٍ تحمل 30 جملة مختارة من روايات خوري في الأماكن التي اعتاد أن يرتادها مثل المكتبات، والمقاهي، ودور النشر والجرائد.
“كأنّه نائم” مشروع جماعي ساهم في تنفيذه الفنانون: باسكال فغالي، وغابرييل فرنيني، وروي فيليبس، ورشا رومية، ومحمد سويد، وكرمة ورجوة نعمة، وشريف علام، وماغالي داندولو.
الموت والهوية يعدّان السؤالان الأكبران اللذان لا يتوقفان عن التسلل إلى الأدب والفن عبر وعي الكاتب. ينشغل بهما، يفكر فيهما، يحاول حلّ إشكاليتهما. وربما يكون سؤال الموت هو الأهم لارتباطه بالمجهول، فلم يعد أحد من الموت ليحكي لنا عما رآه هناك في الضفة الأخرى. صادفت الموت وسؤاله في ثلاث من أحدث الروايات المصرية الصادرة جميعها العام الماضي، ما أدهشني وأوقفني للتأمل أنها لثلاثة من الكتّاب الشباب، أصدر كل منهم روايتين فحسب، حيث سيطر هاجس الموت على رواياتهم الأولى، وهم: شكري سلامة في روايته “الموت عادة يومية” (بيت الحكمة)، ومريم عبد العزيز في روايتها “هناك حيث ينتهي النهر” (الكتب خان)، ومحمد عبد الرازق وروايته “بياض على مد البصر” (دار العين).
خطوط السرد
حاول كل كاتب من الكتّاب الثلاثة تفكيك سؤال الموت ودراسة فلسفته وأثره عن قرب عبر اتباع ثلاثة خطوط سردية لا تشتبك بقدر ما تتساءل وتراقب، وتبحث وتحلل أثر الموت والفقد على حياة ومحيط تلك الشخصيات الروائية التي تتحطم قلوبها إثر ما تلاقيه.
فرواية “الموت عادة يومية” لشكري سلامة التي يستهلها باقتباس من وديع سعادة يقول: “هل كان عليك أن تتعلم كل الكلمات لتقول فقط وداعاً أيها الأصدقاء؟!”. ويفكك عبرها غموض الموت وهيبته في مونولوغ طويل يبحر في النفس ليقدم لنا رحلة بطله في نهر الموت وأراضيه المصرية، مستنداً إلى حديث عيسى بن هشام وعلاقته بالسكندري رابطاً بينهما وبين أبطال روايته الذين يعيشون الواقع الحالي.
بدأت الرحلة بفقدٍ يصل إلى الاطمئنان أو الحقيقة أو الانتماء
بينما تبدأ رواية “بياض على مد البصر” لمحمد عبد الرازق بموت فتاة صغيرة تغادر للتو طفولتها نحو المراهقة، وعند إعدادها للدفن نكتشف أنها قُتلت ولم تنتحر كما أدعى والدها. تأخذنا الأحداث في رحلة بين أفراد عائلة الطفلة لنعرف من قتلها، وهل ماتت بشكلت طبيعي بالفعل أم قتلت دفاعاً عن شرف العائلة؟ بتأمل الأحداث نرى كيف يمكن لموت فتاة صغيرة أن يشير لهشاشة المنظومة القيمية والأخلاقية لمجتمعٍ كامل.
تطرح الرواية تساؤلات عن معنى الشرف في مجتمع لا يرى الشرف سوى في ما بين ساقيْ فتاة لم تكد تفارق طفولتها، وها هي جسدٌ ميت وكيف كان موتها نفياً وتأكيداً لقيم مجتمعية راسخة.
ثلاث روايات تبحث عن العزاء (تصميم: العربي الجديد)
وتحكي رواية “هناك حيث ينتهي النهر” لمريم عبد العزيز عن سلمى، الفتاة التي مات والدها، وفجأة يقتحم حياتها مجموعة من الرجال الأشداء الذين يعرّفون أنفسهم لسلمى بأنهم أعمامها، ثم يحملون جثة أبيها ويرحلون، إلى أين يرحلون ولِمَ لَم يأخذوها معهم لدفنه؟ لا تعرف سلمى. كل ما تعرفه أنهم أخذوا أباها ليدفنوه في مسقط رأسه رشيد؛ المدينة البعيدة التي تقع على مصبّ نهر النيل عند البحر المتوسط.
في مغامرة غير محسوبة، تقرر سلمى السفر إلى رشيد للبحث عن قبر والدها، فينكشف لفتاة القاهرة عالماً مخيفاً في تلك المدينة الوادعة، وعوضاً عن قبر أبيها، تعثر على مئات القبور لآلاف الشباب الذين يختارون الهجرة عبر البحر إلى أوروبا بدلاً من وطن لا يجدون فيه موطئ قدم لهم ولأحلامهم. لم تصل سلمى إلى قبر أبيها ولم تعرف عائلتها، والموت الذي ظنته نهاية طريق كان بداية طريق آخر، لانتماء جديد، وعائلات جديدة ضمّت سلمى وأحبّتها.
بحث في مسارات مختلفة
كل من الروائيين الثلاثة خاض رحلته، التي بدأت بموتٍ وفقْد ليصل إلى الاطمئنان أو الحقيقة أو الانتماء. يبحث شكري عن مدينته التي تقبع هناك في عالم الموتى، بينما يؤرق عبد الرازق سؤال الحقيقة، في حين تبحث مريم عن العائلة والانتماء.
لماذا اختاروا الموت مدخلاً ومحركاً للأحداث؟ فيجيبني شكري سلامة بأن الفكرة لا تكمن في الموت بقدر ما تكمن في العزاء، أو الحكاية بوصفها وسيلة للتضامن، كل الشخصيات تقريباً تبرم اتفاقاً ضمنياً بينها في ثنائيات، ويكون العزاء في الحكاية (نفسها) هو بؤرة هذا التضامن. كان الموت بالنسبة له الوجه الأكثر غموضاً للحياة، حيث فقد الكثيرين في غمضة عين، ولم يعرف أيكتب المرء نفسه ويفتتها، أم يكتب عزاء لها!
أحداث في ظلال مدنٍ هامشية حيث يغدو أثر الموث أكثر تكثيفاً
من جهته، يقول محمد عبد الرازق إن فكرة الرواية بدأت معه من تساؤل عن قيمة حياة الفرد، وإمكانية امتهان كل شيء وتحقيره في سبيل سيطرة العادات والتقاليد أو السلطة بشكل ينمحي معه وجود الفرد، أو يبقى مجرد هامش تكميلي لتلك السلطة فقط.
فمحمد لديه هاجس بالموت، لا يخاف الموت، ولكن يخاف من طريقة الموت، لسهولته ومجانيته في كثير من الأحيان، فأي شخص قد يموت بشكل عبثي كأن لا قيمة له إطلاقاً. ثم يعقب أنه يخاف الموت في حادثة، أو إهمال طبي، أو مشاجرة، أو في حجز قسم الشرطة، دون اعتبار وكأنه مجرد شبح، أو رقم في إحصائيات عابرة، مجرداً من قيمته كإنسان.
خارج المتن
ما يلفت الانتباه في الروايات الثلاث أيضاً أن أحداثها تدور خارج القاهرة؛ في مدن وقرى الشمال المصري، وكأن كتابها يبحثون عن معنى الموت، بعيداً عن المتن المتعارف عليه في القاهرة باتساعها ولامحدوديتها، هناك في ظلال مدنٍ هامشية حيث يغدو أثر الموث أكثر تكثيفاً، ولصوته دوياً أعلى، حيث البلدات الصغيرة التي تتأرجح في المسافة التي تقبع بين هدوء وألفة القرى وصخب وعنف المدن.
فشكري سلامة اختار قطار شبين الكوم ومدينة أشمون مسرحاً لأحداثه، بينما لم يُسمّ محمد مدينته التي اختار أن تكون وسط أحراج دلتا النيل، فيما سافرت مريم إلى شمال الدلتا، حيث مدينة رشيد التي ينتهي عندها نهر النيل مرتمياً في أحضان البحر المتوسط.
في النهاية حصل كلّ بطل منهم على ما أراد، فيوسف بطل رواية “الموت عادة يومية” حصل على العزاء لقلبه عبر الحكاية الطويلة، حتى نزل من القطار مستعداً لاستكمال حياته، بينما هالة، الأم المكلومة بطلة رواية “بياض على مدّ البصر”، عرفت أنها قتلت ولم تنتحر، وعرفت القاتل وسبب قتل ابنتها.
وزارت سلمى، بطلة رواية “هناك حيث ينتهي النهر”، رشيد للبحث عن قبر أبيها واكتشفت أن المدينة صارت قبراً كبيراً، وشاهدت الآلاف يقذفون بأنفسهم في قبر مفتوح على الغرق علهم يظفرون بفرصة للحياة.
“ضخامة نيويورك الهائلة جعلتني ذرة تافهة” اعترف مرة إدوارد سعيد. أما بطلة رواية “إعصار عذب” للروائية السورية شادية الأتاسي فتشكو من أن “إيقاع المدينة البطيء يقتلني”. وتستغرب بكاء الناس في لوزان وسط الأمان والرفاهية، وهي القادمة من دمشق تحت النار. فيصبح الموت والدفن في المنفى معضلة.
ويتجلى الاغتراب في الرواية عبر لجوء بعض السوريين إلى رفض المجتمع الجديد ونعته بالفاجر، وتحذير الآخرين من الاندماج فيه. وفي تفسير عميق، للاغتراب يرى ميخائيل نعيمة أنه تيه الإنسان عن ذاته وعن عالمه الروحي، إذ يقول: “لا غربة إلا غربة الإنسان عن ربه ونفسه”. أما ماركس فقد رآه ظاهرة تاريخية ذات أصول اجتماعية واقتصادية تنتجها الرأسمالية ومجتمعها الاستهلاكي حيث يتم تشييء الإنسان.
في المقابل، عاش الإنسان المعاصر الاغتراب وهو في مكانه، مع اتجاه الحضارة إلى العولمة وتفتيت الهويات المحلية. بينما تتضاعف مشكلة إنسان العالم الثالث، مع اضطراره أحياناً للهجرة هرباً من الموت في بلدان تأكلها الحروب الأهلية والنزاعات الإقليمية، حاملاً ذاكرة الألم ومخاطر طريق اللجوء. ومع تغيير المكان والجغرافيا، ينشأ إحساس فقدان الجذور والاغتراب الثقافي وغربة اللغة التي تقف عائقاً أمام التواصل والاندماج.
في رواية “صيف سويسري” للروائية العراقية إنعام كجه جي، فيأخذ حاتم الحاتمي، أحد شخصيات العمل، وضعية الجنين قائلاً: “ما عادت آدميتي تستقيم إلا في الرقاد”. إنها رغبة لاشعورية في العودة إلى الرحم الأولى حيث الأمان هرباً من حالة الصراع إلى القوقعة الذاتية. وتطرح الرواية تجربة أجرتها شركة أدوية في بازل لتفكيك ما تسميه “الإدمان العقائدي” عبر أدوية تُعطى لعراقيين، فتحوّلهم إلى فئران تجارب في مدينة بازل، التي تُعد عاصمة الدواء عالمياً.
قد يمنح الاغتراب الإنسان قدرة على بناء هوية مركبة جديدة
والعينة التي اختارتها متناقضة الانتماءات والعقائد: فهناك الجلاد حاتم، ضابط المخابرات في نظام صدام البعثي، مع الضحية بشيرة، الشيوعية التي عُذبت واغتُصبت على يد المخابرات. وعلى المقلب الآخر هناك غزوان المتدين الشيعي المتمسك بأعراف الطائفة وتقاليدها، ودلاله الآشورية الداعية المبشّرة لشهود يهوه. أما الدكتور بلاسم، الذي اختير لإدارة الجلسات لِيُبلسم النفوس ويخرجها من كهوفها إلى النور، فيرى أنهم ليسوا إرهابيين، لكنهم “مدمنو أوهام” تدفعهم إلى عدم الاندماج.
يتمنى غزوان البابلي أن ينجح العلماء في تغيير شريط الذاكرة لينسى الخوف الذي في داخله. فهذا الخوف والتمزق، مع تفاقم الحالة الشعورية في التذكر وإعادة إنتاج الألم، قد يسبّب للشخص انهياراً تاماً. ولعل هذا ما جعل غزوان البابلي يتأثر سريعاً بالدواء، وحينها ينتبه الآخرون ويرمون “البونبونات” العلاجية بحيلهم الخاصة.
تابعت إنعام كجه جي في روايتها، وخلال تلك الجلسات، نقلنا إلى العوالم الداخلية للشخصيات لإبراز معاناتها في بلدها الأم واضطرارها للجوء، ثم في بلادها الجديدة حيث تغرق في اغترابها وتصبح ضحية شركات الأدوية. وبعد سقوط نظام صدام على يد الأميركيين، يغرق حاتم وزوجته في دائرة الاكتئاب من جديد بعد فشل الحلم. وها هو حاتم، في نهاية الرواية، يعود إلى الانكفاء لأنه مصاب بالتوحّد كأنه قدره، أما البقية فيعودون إلى العراق.
وقد يمنح الاغتراب، كما قال إدوارد سعيد، الإنسان قدرة على بناء هوية مركبة جديدة والنظر من الخارج بموضوعية. وهذا ما نلمسه مع سندس ابنة بشيرة، التي تتزوج دانماركياً وتنجح في عملها، ثم حين تعود إلى العراق ترى أن غسل الأدمغة لم يعد بحاجة إلى أدوية؛ فالهواتف الذكية تؤدي الدور يومياً، بينما تواصل دول الشرق إعادة إنتاج أزماتها وصناعة مستهلكين جدد للأدوية. فيما يبقى تحت سطوة العنصرية، فيدفعهم القلق الوجودي إلى الانكفاء على الذات حفاظاً على كينونتهم. وهكذا تصبح الغربة تجربة وجودية عميقة تتنازعهم بين الحنين والصدمة والتهميش.