
المؤشّر العربي: مستقبل سورية أفضل مما نتوقّع
إجراء استطلاع لمعرفة اتجاهات الرأي العام في سورية حدثٌ غير مسبوق في تاريخ الجمهورية السورية، أو على الأقل منذ أكثر من خمسة عقود، إذ لطالما كانت مثل هذه المسائل محرّمة، وتدخل في إطار قضايا الأمن القومي، ذلك أن توفر مؤشّرات ومعطيات حقيقية عن اتجاهات الرأي العام، وقراءة الجمهور الواقع، والتعبير عن رؤيته إلى المستقبل، يعدّ نوعاً من البيانات التي يجب أن لا تخرُج من ضمن أدرج المخابرات، خوفاً من أن تستغلها أطراف داخلية وخارجية ضد نظام الحكم الاستبدادي.
من هنا، يمكن قراءة الاستطلاع الذي أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بالتعاون مع المركز العربي لدراسات سورية المعاصرة، باعتباره تجربة تستحقّ القراءة والتدقيق في النتائج التي خلَص إليها، ولا سيما أن للمركز خبرة سنوات طويلة في هذا النوع من الاستطلاعات، في إصداره “المؤشّر العربي” سنوياً، باستخدام منهجيات وتقنيات متطوّرة، بشهادة أكاديميين وأصحاب اختصاصٍ عديدين.
وتأتي أهمية الإستطلاع، من أنه يضع مادة علمية بين يدي الباحثين وصنّاع القرار يمكن الاستفادة منها في قراءة الراهن السوري والمستقبل من زوايا عديدة، بعضها جرى التعتيم عليه، أو تناوله بناء على معلومات مضلّلة إلى حد بعيد، إذ طالما انبنت التصوّرات عن الأوضاع السورية بناء على حوادث معينة أو توقّعات واستشرافات، لم تكن كافية لقراءة التوجّهات، أو عبر التركيز على زاوية معينة، وتعميم تلك القراءة قسراً على مجمل الواقع السوري الذي يتصف بالتشابك والتعقيد الشديد بين قضاياه ومشكلاته وأزماته.
النسبة الغالبة لا تؤيد قيام دولة على أساس ديني، وتفضّل بدلاً من ذلك دولة مدنية
لافتٌ في الاستطلاع حجم الأمل الكبير لدى السوريين، رغم قساوة الأوضاع الاقتصادية والخدمية والمعيشية، وهذا يعني أن لدى السوريين توقّعات مرتفعة السقف في هذا الشأن، ستشكل ضغطاً على الحكومة لترشيد سياساتها والعمل الجادّ في هذا الحقل، والراهن أن في سورية ارتباطاً كبيراً بين التوجهات السياسية والتحسّن على المستوى الاقتصادي، ولا سيما أن أغلب ما جرى إعلانه من مشاريع استثمارية مستقبلية جاء لأسبابٍ سياسيةٍ بدرجةٍ كبيرة، ومن ثم، ستبقى عرضة للتطوّر في هذا المجال، وهذا ما يجب أن تدركه الحكومة.
لا يكشف الاستطلاع فقط ثقافة لدى السوري تطلب الديمقراطية والدولة المدنية وتنبذ التطرّف، بقدر ما يكشف عن وجود وعي لدى السوريين أن هذه القضايا هي تأشيرة للدخول في العالم الجديد، أو يمكن اعتباره نوعاً من التكيّف مع مسار عالمي يحبذ هذه التوجّهات، ما يعني أيضاً أن الشريحة الكبرى من السوريين، بحكم سنوات الثورة والاغتراب والاطّلاع على تجارب الشعوب، قد تشكَّل لديها وعي سياسي واجتماعي ناضج إلى حد كبير يتطلّب من صنّاع السياسات صياغة آليات مناسبة للتلاقي مع هذا التطور الملحوظ في الوعي الجمعي.
يؤشّر الاستطلاع على المستقبل أكثر من تركيزه على الراهن، كونه ينطوي على حمولاتٍ واسعةٍ من آمال السوريين وتصوّرهم المستقبل الذي يريدونه في المجالات السياسية والاقتصادية، وعلى صعيد الوحدة الوطنية، يمكن وصفه بخريطة طريق مستقبلية يحاول السوريون صياغتها، والتمنّي على صنّاع القرار أخذها في الاعتبار، وتلك الآمال والتطلّعات روافع مهمة لسورية الجديدة تمنح صانع القرار هامشاً من المشروعية، لكن تنبهه، في الوقت نفسه، إلى أن تلك المشروعية متولّدة بدرجة كبيرة من قيادته التغيير، ومن قناعة شرائح سورية كثيرة إلى أنهم شركاء في هذا التغيير، بل صنّاعه، ومن ثم، لا بد أن تكون هناك ترجمات حقيقية لهذا الأمر من خلال مخرجات ملموسة، ولا سيما على الصعد السياسية والاقتصادية، بالنظر إلى قابليّتها للقياس والمعايرة.
وضعت آراء السوريين محدّدات تجاه تحرّكات السلطة، ولا سيما في مسألة العلاقة مع إسرائيل
من المسائل التي كشفها الاستطلاع أن سورية لم تذهب إلى حد بعيد في التطرّف الديني، إذ رغم التهويل الإعلامي، ولا سيما بعد أحداث الساحل والسويداء، والزعم أن نسبة كبيرة من السوريين تتعاطى السياسة من منطلقاتٍ دينية، فقد ثبت أن النسبة الغالبة لا تؤيد قيام دولة على أساس ديني، وتفضّل بدلاً من ذلك دولة مدنية، ورغم أن من يتصدّر المشهد في المرحلة الراهنة هم شخصيات ذات خلفية دينية، على مستوى أغلب مكوّنات المجتمع السوري، وصعود الخطاب الطائفي بدرجةٍ غير مسبوقة، يفضّل الاتجاه السوري العام الدولة المدنية، وقد يعكس ذلك إدراك السوريين أهمية هذا الأمر عاملاً للخروج من الأزمة الراهنة.
آراء السوريين، وإن بدت أنها ترغب في منح فرصة للنظام السياسي للإقلاع بالبلاد إلى أفقٍ أفضل، يتوقّعونه ويفضلونه، لا يعني ذلك تفويضاً عاماً للتصرّف بقضايا السوريين، ولا سيما المصيرية، فقد وضعت آراء السوريين محدّدات تجاه تحرّكات السلطة الحالية، ولا سيما في مسألة العلاقة مع إسرائيل والموقف من استرجاع الأراضي المحتلة، ما يُضعف هامش المناورة أمام هذه السلطة، في تفاوضها مع إسرائيل، كما أنه يكشف حقيقة مهمّة حاول الإعلام الصهيوني تزويرها من أن الجزء الأكبر من السوريين يرحب بالسلام مع إسرائيل، حتى لو كان ذلك على حساب التنازل عن الأرض المحتلة.
بقدر ما يقدّم الاستطلاع بيانات مهمة يمكن للباحثين وصُنّاع السياسات الاستفادة منها، فإنه يفرض عليهم تعديل اتجاهاتهم وزوايا قراءاتهم الواقع السوري، والتدقيق ملياً بطموحات السوريين المتطوّرة، وإلا فستتضارب أبحاثهم وسياساتهم حتماً مع المضمون الحقيقي لإرادة السوريين وتطلّعاتهم المستقبلية.