مسك العصا من المنتصف

مسك العصا من المنتصف

تتردّد في سورية عبارة تدعو إلى “مسك العصا من المنتصف”. يزعم الداعون إليها أنّهم بذلك يبنون البلاد والسلام، غير آبهين بالدماء والانتهاكات. ومعروفٌ أنّ مسك العصا من المنتصف شأن يخصّ ساسة الدول، فالدولة المهيمنة تمسك بالعصا، بها تشير وتنبّه، تغمز وتهمز، تصعّد وتهادن، تقرّع وتهدّد، وبها أيضاً تهشّ، وتضرب الرؤوس الكبيرة والصغيرة.
قد تكون العبارة مطروحة مجازاً. فمثلاً، طوال الحرب السابقة كان مصطلح “الحرب الأهليّة” لتوصيف الكارثة السوريّة يشعرني بالإهانة. ولتخفيف قهري، أحلْتُ العبارة إلى الفضاء المجازيّ. وما كان يعزّز إنكاري المصطلح أمران أساسيّان، أوّلهما: أن كثيرين من الساسة العرب والأجانب، والفضائيّات العربيّة التابعة لمُلّاك العصا، كانوا وقت إمساكهم بمنتصف العصا، يتخلّون عن ذلك المصطلح لصالح مصطلح “الأزمة السوريّة”. ولا شكّ كنّا ندرك أهداف مُلّاك العصا المغرضة وإعلاميّوهم. وثانيهما: أنّنا شهدنا وعايشنا خلال حركة النزوح الداخليّة الكبيرة إلى المحافظات السوريّة الآمنة، واستقبال أهلها إخوتهم المنكوبين، وإغاثة معارضين وموالين للنظام لهم، وإسكانهم بينهم، ولم يشغلهم اختلافهم الدينيّ والطائفيّ والإثنيّ. ويجدر ذكر أنّ نازحين عديدين، بعد هروب الأسد، آثروا البقاء في أمكنتهم. 
تفاقمت قباحة العهد البائد، ونظامه متعدّد الطوائف، بجرائمهم وانتهاكاتهم وفسادهم خلال الحرب، أنكروا الجرائم، برّروا بعضها. تنصّلوا منها وألصقوها بالطرف الآخر (ارتكب جرائم وانتهاكات). فما أشبه يومنا بالأمس. 
انتشرت فيديوهات كثيرة تصوّر مجازر الساحل والسويداء، صرخات الأهالي الموجعة لقتل أبنائهم، واعتقالهم التعسّفيّ، وقتل العجائز، خطف شبانهم وبناتهم. سرقة المحلّات التجاريّة والبيوت وحرقها، شتمهم وتهديدهم بخطابات طائفيّة مشينة، وما زال الأمر قائماً ولو بدرجات أقلّ. كما نُشرت مقالات هائلة مدجّجة بالبراهين والأدلّة، شهد بعض أصحابها تلك المجازر والانتهاكات وعاشوها. وكانت السويداء المدمّاة والمطعونة في كرامتها نقطة التحوّل المريعة. في حين كان الحلّ الوطنيّ سهلاً لا يتطلّب سوى فكّ السلطة الانتقاليّة حصارها للمحافظة، وفتح المعبر المؤدّي إلى دمشق، كانت كلفتها لا تذكر إزاء الكلفة الباهظة للسماح بفتح معبر إلى الكيان المحتلّ، ولكان الجلوس مجدّداً إلى طاولة حوار وطنيّ جامع يستعيد الثقة بينها وبين الجميع، وتفعيل مسار العدالة الانتقاليّة. بذلك، لن تُسأل الدولة الوليدة المفترضة حول كيفيّة تحليقها في سماء المجد وقد فقدت أحد أطرافها. ومن وما الذي دفع بأهالي السويداء، العروبيّين الأشدّاء، إلى اتخاذ ذلك القرار الكارثيّ؟ وقد طالبت أغلبيّتهم العظمى وما زالت بحكم ذاتيّ وحسب. أحزنهم تهجير جيرانهم وأهلهم من البدو. عقود مديدة مضت على اختلاط حيواتهم اليوميّة بعضها ببعض، يحلّ مشاجراتهم حكماء الطرفين، و”ببوسة شوارب” وبفنجان قهوة أصيل، انتُهكا اليوم. لكم أعجزوا نظام الأسدين البائد عن تحقيق الفتنة بينهم. فلماذا تحقّقت اليوم؟ ثمّ، ما مصير شرق الفرات والساحل، هل ستفقدهما البلاد (الموحّدة) أيضاً؟ 
اليوم، سوريّة دامية ومهدّدة بالتقسيم والزوال فعلاً، وهي، عبر التاريخ، ملكٌ لأبنائها جميعاً، فللجميع الحق الشرعيّ في المساهمة بإنقاذها، في أن ينطلقوا معاً إلى الساحات والشوارع، ويصرخوا رفضاً للتقسيم ودعاته الطائفيّين من خارج البلاد وداخلها، وتنديداً بالكيان الصهيونيّ المحتلّ. بلادنا المريضة قاب قوسين أو أدنى من موت محتّم، فلتلقوا بالعصا ومنتصفها المغلّف بالجهل والرياء، بالجشع والانتهازيّة، وباللّاإنسانيّة، وإلّا تحوّلت إلى سيف بتّار يساهم في تقطيع جسد البلاد وأرواحنا جميعاً. ولا من منتصر أبداً.

مدنٌ أشباح

مدنٌ أشباح

هل تموت المدنُ حين تُدمَّر، أم أنها تحيا في شكلٍ شبحيّ في ذاكرة من عرفوها؟ ألا تتحوّل مع مرور الزمن مدناً بلا جسد، وآثاراً افتراضيّة خالصة تقيم في الحنين؟ تحمل كلّ مدينة وجهين: جسداً من حجارة وأسفلت، وروحاً من حكايات وذاكرة. قد تأتي الحروب على الجسد، أو قد يُمحى بفعل حداثة متوحّشة، إلا أن الروح تبقى طويلاً حيّةً في ذاكرة من عاشوا في المدينة بحيث يستعيدونها في الحكايات وفي الصور والأفلام والأغاني. لكن الزمن يمضي، ومعه يرحل الشهود، فتُغلق دائرة الحضور الحيّ، لتبقى المدينة الزائلة عالقةً في إطار الصورة وبين سطور النصّ، طيفًا يعاند النسيان. بيروت، حلب، البصرة، غزّة…

بيروت مثال صارخ على هذه الازدواجية. فساحة البرج، قلب المدينة النابض قبل الحرب الأهلية، لم تعد سوى ذكرى ارتفعت مكانها أبراج ومراكز تجارية. بيد أن من عرفها يصرّ على استذكارها كما كانت: خليّة نحل لا تكلّ، مقاهي يلتقي فيها الأدباء، دور سينما تعرض آخر الأفلام، ترامواي يعبر الشارع في المساء. هذه الذاكرة لا تتوارثها الأجيال الجديدة إلا عبر الصور القديمة والقصص المروية. وحين سيختفي الجيل الذي عرفها، ستصير بيروت تلك مجرّد أثر افتراضي، مدينة محفوظة في أرشيف الصور، أكثر مما هي حاضرة في شوارعها. حلب أيضاً، مدينة الأسواق والقلعة والأبواب الخشبية العتيقة، جُرحت في حربٍ أخيرة لم تُبقِ على كثير من معالمها. السوق المسقوف الذي كان يختزن أصوات الباعة وروائح البهارات صار ركاماً. لكن الصور الرقمية اليوم تُحاول حفظه من الزوال، وتنتشر على الشبكة العنكبوتية بديلا عن حلب التي يعرفها من عاشها قبل الحرب. في هذه الفجوة بين “الحلبين”، ينشأ الطيف: صورة لا تُطابق الواقع، لكنها تمنح المدينة حياة ثانية، صحيح، إنما افتراضية! أما البصرة، مدينة الشعراء والأنهار الخيّرة، فقد أصبحت أسطورة أكثر منها مكاناً، يتغنّى بها العراقيون كما لو أنها جنّة غابرة بنخيلها، شطآنها، ومقاهيها القديمة، مع حاضر مُنهَك لا يشبه تلك الصورة. هكذا يظهر كيف يمكن للمدينة أن تنفصل عن ذاتها، ثمّة بصرة حقيقية تتآكل، وبصرة أخرى تعيش في اللغة والقصيدة، خالدة كأثر شعري حتى لو ذوى المكان الماديّ. وغزة! المدينة التي تُكتب وتُمحى كل يوم بفعل البرابرة وهمجيّتهم، لا صور ثابتة لها، إذ تُهدَم وتُعاد صياغتها بالدمار كل يوم. فغزة في ذاكرة الأجيال مدينتان: غزّة “ما قبل”، وغزّة “ما بعد”، وما بينهما يطلّ طيفٌ عصيّ على الموت.

أجل، تُغتال المدنُ كالأحياء وتتحوّل إلى أطياف. تصمد بداية في الذاكرة الحية، ثم في الصورة، ثم في النصّ. حين يرحل من عايشوها، تبقى معلّقة بين الحنين والنسيان، أشبه بخيالٍ يتردّد في لغة من يبحث عنها ولا يجدها، لأن المدينة ليست مجرّد عمران يُهدم ويُبنى. فالخراب نفسه يحمل معنى، كما كتب فالتر بنيامين، الأطلال تشهد على تاريخٍ لم يكتمل، وتمنح الماضي حضوراً جديداً في الحاضر. والذاكرة ليست حفظاً ميكانيكياً بل إعادة تأويل دائمة، كما يخبرنا بول ريكور، وبذلك ليست استعادة المدن المدمَّرة في الحكاية أو الصورة نسْخاً أو نقلاً أميناً، بل خلقٌ جديد، ولادة ثانية على مستوى المخيّلة. ولعل غاستون باشلار حين تحدّث عن “جمالية المكان”، كان يشير إلى هذا البعد: أن البيت أو الزقاق أو الساحة ليست فراغاً مادّياً، بل مكان مُشبَع بالصور، يحيا فينا أكثر مما نحيا فيه. بيد أن المدن لا تتحوّل أطيافاً عندما تُدمَّر حصرياً، بل أيضاً حين يُقتلع أهلُها منها. المنفى والاغتراب يضاعفان حضور الأطياف، إذ يحمل اللاجئ الفلسطيني مثلاً، بلدته ومدينته أينما حلّ: يافا، عكا، حيفا، إلخ. فإذا بالمدن السليبة حيّة في الذاكرة المنفيّة، في الحكاية التي تنتقل من جيلٍ إلى جيل، وفي المخيّلة الجمعية، بوصفها أساطير أكثر منها أماكن. المنفى يجعل الطيف أكثر حضوراً من المدينة الواقعية، لأن الطيف لا يتهدّم ولا يتغيّر.

لكن، هل تُبعث المدن حين يُعاد إعمارها؟ هل يمكن لبيروت المُرمَّمة أن تستعيد بيروت التي عاشت في وجدان أبنائها؟ هل تعود حلب إذا أُعيد بناء أسواقها؟ المدن أشبه بكائنات هشّة، أجسادها قابلة للمحو، ولأن تتحوّل أشباحاً جميلة، حزينة، لا مأوى لها سوى مخيّلة أبنائها.

العدالة ضحية أخرى للحرب السودانية

العدالة ضحية أخرى للحرب السودانية

تتواصل الحرب الأهلية السودانية، للعام الثالث، مع تقدّم قوات الجيش وتأمين العاصمة الخرطوم بعد هزيمة قوات الدعم السريع وانسحابها منها. ومع تعيين السلطة العسكرية رئيس وزراء مدني بلا صلاحيات، إذ يتولّى عضو مجلس السيادة الفريق إبراهيم جابر مهمّة تهيئة المدينة لعودة العاصمة النازحة من مدينة بورتسودان في شرق البلاد، ويتولّى أعضاء المجلس العسكري الحاكم مع قادة الحركات المسلحة وقيادات الحركة الإسلامية إدارة العمليات الحربية، ويسيطر المجلس العسكري على إدارة الشؤون الخارجية والأمنية، كما يسيطر على الشؤون المالية للبلاد بالشراكة مع حركة العدل والمساواة، وهي حركة مسلحة موقّعة على اتفاق جوبا لسلام السودان 2020 الذي وقعه عن النظام السوداني قائد مليشيا الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي). وقد عدّل الجيش الوثيقة الدستورية الانتقالية مرّة جديدة ليزيل عنها كل ما يتصل بثورة كانون الأول (2018) والتحوّل المدني الديمقراطي، وتفكيك قبضة الجيش على الاقتصاد، فقد نصّت الوثيقة في تعديلها بليل في 2025 على سيطرة الجيش على المؤسسات الاقتصادية التابعة له. بعد أن سعت الحكومة الانتقالية قبل انقلاب 25 تشرين الأول (2021) الى وضع كل شركات الجيش الاستثمارية تحت ولاية وزارة المالية.

أما “الدعم السريع” فيواصل مع المتحالفين معه في تأسيس حكومته الموازية من مدينة نيالا، التي تشهد تسلّطاً أمنياً لا يختلف عما يرتكب في مناطق سيطرة الجيش. يظهر عبدالرحيم دقلو (شقيق قائد المليشيا وقائدها الثاني) آمراً قواته بتفتيش هواتف المواطنين، وقتل كل من في هاتفه رسالة أو صورة او منشور يؤكد ارتباطه بـ “العدو”.

كما تضج المدينة بالمعتقلات غير الإنسانية، مثل التي أنشأها “الدعم السريع” إبّان احتلاله العاصمة الخرطوم. كما نقلت المليشيا مئات الأسرى من الخرطوم في أثناء انسحابها. حجم الوفيات في المعتقلات المشابهة في الخرطوم ومدني، وتفشّي الأوبئة وسط المختطفين، والتعذيب، كلها تعطي صورة عن شكل المأساة في معتقلات “الدعم السريع” في نيالا والضعين وغيرهما. كما يتحمّس منسوبو “الدعم السريع” لتصوير جرائمهم، وقتل العزّل والأسرى وتعذيبهم. مثلما يتحمّس مقاتلو تحالف الجيش لتصوير مستنفرين يلقون شاباً حياً في النيل (!) أو أحد المسلحين مرتدياً زياً نظامياً ويطلق الرصاص على شخص في وسط الحي مع زغاريد النساء وهتاف المحتفلين. مشهد يليق بفيلم “مالينا”. إذ يطلق منسوبو القوات النظامية الرصاص على المتهمين بالتعاون مع “الدعم السريع” في الشارع. وينشر مستنفرون مقاطع مصوّرة تفاخر أن ذبح العدو من الدين. أغلب من يظهرون في هذه الفيديوهات مدنيون انخرطوا في القتال لسببٍ أو آخر. ومن المفترض أن الذبّاحين وقاتلي الأسرى وقاذفي المتهمين في النهر ودافني الأحياء في قبور جماعية سيعودون، إذا انتهت الحرب، الى حيواتهم المدنية. يأكلون معك الطعام، ويمشون بجوارك في الأسواق.

المنتصرون في الخرطوم وفي نيالا يوجهون نصال عدالتهم إلى الآخر المختلف. في مناطق سيطرة الجيش من السهل أن تقتل أو تعتقل بتهمة التعاون والتخابر. أما أحكام الإعدام فإنها تصدُر بلا توقف. ومن 21 آب/ آب الجاري حتى 28 منه أعلنت النيابة العامة عن صدور 14 حكماً بالإعدام من محاكم متعدّدة ضد متهمين بالتعاون مع قوات الدعم السريع، وتقويض النظام الدستوري وإثارة الحرب ضد الدولة وجرائم ضد الإنسانية.

أما في مناطق سيطرة الدعم السريع فلم تبلغ حكومتهم الموازية بعد مرحلة الأحكام القضائية، لكن الموت هو الموت. وإن أعلن تحالف الدعم السريع هياكل سلطته، وأدّت اليمين خلال هذا الأسبوع كما هو متوقع، فسنشهد الأحكام المتوالية بالإعدام على أفعال مثل امتلاك أوراق نقدية صادرة عن السلطة الأخرى.

طوال سنوات الحكم العسكري للسودان الممتد أكثر من نصف قرن، أضرّت النظم الشمولية بالخدمة المدنية، وبالأجهزة القضائية، ثم جاءت الحرب الأهلية الكبرى في 15 إبريل/ نيسان 2023 لتهدم البنيان الهشّ الذي ظل نصف قرن يتعرّض للتجريف، ولتقتل الحرب السودانيين بالرصاص والجوع والأوبئة وحبل المشنقة بتهمة التعاون.