مدنٌ أشباح

مدنٌ أشباح

هل تموت المدنُ حين تُدمَّر، أم أنها تحيا في شكلٍ شبحيّ في ذاكرة من عرفوها؟ ألا تتحوّل مع مرور الزمن مدناً بلا جسد، وآثاراً افتراضيّة خالصة تقيم في الحنين؟ تحمل كلّ مدينة وجهين: جسداً من حجارة وأسفلت، وروحاً من حكايات وذاكرة. قد تأتي الحروب على الجسد، أو قد يُمحى بفعل حداثة متوحّشة، إلا أن الروح تبقى طويلاً حيّةً في ذاكرة من عاشوا في المدينة بحيث يستعيدونها في الحكايات وفي الصور والأفلام والأغاني. لكن الزمن يمضي، ومعه يرحل الشهود، فتُغلق دائرة الحضور الحيّ، لتبقى المدينة الزائلة عالقةً في إطار الصورة وبين سطور النصّ، طيفًا يعاند النسيان. بيروت، حلب، البصرة، غزّة…

بيروت مثال صارخ على هذه الازدواجية. فساحة البرج، قلب المدينة النابض قبل الحرب الأهلية، لم تعد سوى ذكرى ارتفعت مكانها أبراج ومراكز تجارية. بيد أن من عرفها يصرّ على استذكارها كما كانت: خليّة نحل لا تكلّ، مقاهي يلتقي فيها الأدباء، دور سينما تعرض آخر الأفلام، ترامواي يعبر الشارع في المساء. هذه الذاكرة لا تتوارثها الأجيال الجديدة إلا عبر الصور القديمة والقصص المروية. وحين سيختفي الجيل الذي عرفها، ستصير بيروت تلك مجرّد أثر افتراضي، مدينة محفوظة في أرشيف الصور، أكثر مما هي حاضرة في شوارعها. حلب أيضاً، مدينة الأسواق والقلعة والأبواب الخشبية العتيقة، جُرحت في حربٍ أخيرة لم تُبقِ على كثير من معالمها. السوق المسقوف الذي كان يختزن أصوات الباعة وروائح البهارات صار ركاماً. لكن الصور الرقمية اليوم تُحاول حفظه من الزوال، وتنتشر على الشبكة العنكبوتية بديلا عن حلب التي يعرفها من عاشها قبل الحرب. في هذه الفجوة بين “الحلبين”، ينشأ الطيف: صورة لا تُطابق الواقع، لكنها تمنح المدينة حياة ثانية، صحيح، إنما افتراضية! أما البصرة، مدينة الشعراء والأنهار الخيّرة، فقد أصبحت أسطورة أكثر منها مكاناً، يتغنّى بها العراقيون كما لو أنها جنّة غابرة بنخيلها، شطآنها، ومقاهيها القديمة، مع حاضر مُنهَك لا يشبه تلك الصورة. هكذا يظهر كيف يمكن للمدينة أن تنفصل عن ذاتها، ثمّة بصرة حقيقية تتآكل، وبصرة أخرى تعيش في اللغة والقصيدة، خالدة كأثر شعري حتى لو ذوى المكان الماديّ. وغزة! المدينة التي تُكتب وتُمحى كل يوم بفعل البرابرة وهمجيّتهم، لا صور ثابتة لها، إذ تُهدَم وتُعاد صياغتها بالدمار كل يوم. فغزة في ذاكرة الأجيال مدينتان: غزّة “ما قبل”، وغزّة “ما بعد”، وما بينهما يطلّ طيفٌ عصيّ على الموت.

أجل، تُغتال المدنُ كالأحياء وتتحوّل إلى أطياف. تصمد بداية في الذاكرة الحية، ثم في الصورة، ثم في النصّ. حين يرحل من عايشوها، تبقى معلّقة بين الحنين والنسيان، أشبه بخيالٍ يتردّد في لغة من يبحث عنها ولا يجدها، لأن المدينة ليست مجرّد عمران يُهدم ويُبنى. فالخراب نفسه يحمل معنى، كما كتب فالتر بنيامين، الأطلال تشهد على تاريخٍ لم يكتمل، وتمنح الماضي حضوراً جديداً في الحاضر. والذاكرة ليست حفظاً ميكانيكياً بل إعادة تأويل دائمة، كما يخبرنا بول ريكور، وبذلك ليست استعادة المدن المدمَّرة في الحكاية أو الصورة نسْخاً أو نقلاً أميناً، بل خلقٌ جديد، ولادة ثانية على مستوى المخيّلة. ولعل غاستون باشلار حين تحدّث عن “جمالية المكان”، كان يشير إلى هذا البعد: أن البيت أو الزقاق أو الساحة ليست فراغاً مادّياً، بل مكان مُشبَع بالصور، يحيا فينا أكثر مما نحيا فيه. بيد أن المدن لا تتحوّل أطيافاً عندما تُدمَّر حصرياً، بل أيضاً حين يُقتلع أهلُها منها. المنفى والاغتراب يضاعفان حضور الأطياف، إذ يحمل اللاجئ الفلسطيني مثلاً، بلدته ومدينته أينما حلّ: يافا، عكا، حيفا، إلخ. فإذا بالمدن السليبة حيّة في الذاكرة المنفيّة، في الحكاية التي تنتقل من جيلٍ إلى جيل، وفي المخيّلة الجمعية، بوصفها أساطير أكثر منها أماكن. المنفى يجعل الطيف أكثر حضوراً من المدينة الواقعية، لأن الطيف لا يتهدّم ولا يتغيّر.

لكن، هل تُبعث المدن حين يُعاد إعمارها؟ هل يمكن لبيروت المُرمَّمة أن تستعيد بيروت التي عاشت في وجدان أبنائها؟ هل تعود حلب إذا أُعيد بناء أسواقها؟ المدن أشبه بكائنات هشّة، أجسادها قابلة للمحو، ولأن تتحوّل أشباحاً جميلة، حزينة، لا مأوى لها سوى مخيّلة أبنائها.

رحيل الفنان والناقد التشكيلي السوري أسعد عرابي

رحيل الفنان والناقد التشكيلي السوري أسعد عرابي

عن تجربة امتدت ستين عاماً في الفن التشكيلي، رسماً ونقداً، رحل اليوم الجمعة في باريس الفنان والناقد التشكيلي السوري أسعد عرابي (1941–2025)، عن عمر يناهز أربعة وثمانين عاماً. فإلى جانب تجربته فناناً، وثّق الراحل في مؤلفاته النقدية مسارات الحداثة في الفن العربي.

ولد أسعد عرابي في دمشق، وتخرج في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق عام 1965. انتقل إلى باريس في منتصف السبعينيات، حيث نال دبلوماً في التصوير من المعهد العالي للفنون الجميلة، ثم حصل على الدكتوراه في علم الجمال من جامعة السوربون. وفي مسيرته الأكاديمية، عمل عرابي أستاذاً للتصوير في كلية الفنون الجميلة بدمشق، كما درّس في المدرسة العليا للفنون الجميلة في الدار البيضاء.

بدأ أسعد عرابي تجربته الفنية في ستينيات القرن الماضي متأثراً بدروس الإيطالي غويدو لا ريجينا، ما وجّه أعماله نحو التجريد، ثمّ اعتمد أسلوباً ضمّن فيه المنظور المعماري للمدن التي عاش فيها أو ارتبط بها مثل دمشق، وصيدا، وباريس، مع الإيقاعات الموسيقية، التي انعكست في ضربات اللون. 

وكان للموسيقى حضور لافت في لوحاته، ففي سلسلة أعمال خصّصها لأم كلثوم حاول تحويل الانفعال الغنائي إلى خطوط وألوان، مختبراً علاقة السمع والبصر في فضاء اللوحة. أما في أعماله التجريدية، فقد لجأ إلى الكتل اللونية لبناء فضاءات وأبنية تتدرج بين الواقع وتمثله في الفن التشكيلي.

أقام أسعد عرابي معارض فردية وجماعية في سورية والعالم العربي وأوروبا وأميركا. وتوجد أعماله في مجموعات ومتاحف عالمية، من بينها معهد العالم العربي في باريس، متحف برشلونة للفن المعاصر، ومتحف نيودلهي، والمتحف الوطني في كوريا، ومتحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون، ومتحف جامعة ييل، إضافة إلى مؤسسة بارجيل للفنون في الشارقة.

إلى جانب تجربته التشكيلية، لعرابي مؤلفات نقدية أساسية حول الفن الحديث، من بينها: “وجوه الحداثة في اللوحة العربية”، “معنى الحداثة في اللوحة العربية”، “صدمة الحداثة في اللوحة العربية”، و”شهادة اللوحة في نصف قرن”. كما ساهم في كتاب جماعي بعنوان “تحولات النص البصري: المرئي واللامرئي في النصوص البصرية”.