سورية التي تخلّى عنها الجميع

سورية التي تخلّى عنها الجميع

ليست المأساة السورية الممتدّة نتيجة خراب العمران وقتل الملايين وتغييبهم وتشريدهم وحسب، بل في خراب الفكرة ذاتها: سورية وطناً جامعاً، حين يتعامل معها الجميع غنيمةً تقبل القسمة لا مشروعاً للبناء. ولعلّ الدَور السوري تمثّل دائماً في أن تصنع السلطة معارضة على شاكلتها، فترث الأخيرة الثقافة السلطوية ذاتها، غير قادرة على التحرّر من القوالب القديمة للاستبداد. ولأنّ الاستبداد قد يحتاج معارضة أكثر ممّا تحتاجها الديمقراطية، ولأن النظام المستبدّ لا يريد نقيضاً، بل مرآةً مشوّهةً تؤكّد وجودَه، لم يكتفِ نظام الأسد منذ السبعينيّات بقمع خصومه، بل حشرهم في معارضة معلّبة (الجبهة الوطنية التقدمية)، فاحتكر البدائل السياسية، ولم يجد السوريون سوى شبيهَين: الاستبداد ونسخةً باهتة منه. أمّا خيار “الطليعة المقاتلة” المبكّر، فكان فرصةً لأعمق شرخ في جسد الوطن وروحه في مسيرة طويلة من احتكار السلطة والدولة والمجتمع. وفي العام 2011، بدا التاريخ يمنح السوريين فرصتهم لكسر تلك الحلقة المفرغة، لكن المعارضة لم تصمُد أمام إغراءات السلطة ومنطق الغنيمة، وفقدت مصداقيّتها حين أصبح “سلاح الحماية” أداةً للسيطرة، والموت أيديولوجيا، والحرب غايةً في ذاتها لدى أمراء الحرب، فاختزلت السياسة في ثنائية صديق/ عدو ليصبح كل اختلاف حرباً أهلية. أعادت تلك المعارضة إنتاج أساليب النظام، تخويناً وتقسيماً وارتهاناً للخارج، وفساداً وتسلّطاً. تحوّلت سلطات أمر واقع تصارعت على المناطق والنفوذ، والشرّ ليس في العنف وحده، بل في تفاهة التقليد والقوالب المكرّرة.

وحين فرّ الأسد، ترك وراءه ذهنيته في إدارة الدولة: طغيان القوة وفراغ البدائل. رفعت السلطة الجديدة راية “التوحيد” بالقوة على سارية التمييز في المواطنة، تقدّم نفسها سلطة “الأكثرية” بعدما استكملت تطييفها، فغابت من جنبات “الأكثرية” معارضة منظّمة، وغصّت الاعتراضات الفردية بضجيج الولاء الأعمى. احتكرت السلطة القرار بقبضةٍ أمنيةٍ في بحبوحة من “المرحلة الانتقالية” ذات الشرعية المثقوبة، تحتمي بتحالفاتٍ إقليمية ودولية. ورفع المعارضون الجدد من غير “الأكثرية” شعارات “اللامركزية” و”الفيدرالية”، لكن تلك الأقاليم “العلمانية” المشتهاة تقوم على أسسٍ طائفية، وتتعلّق بالوصايات الخارجية أكثر من تعلقّها بوعي وطني، وبتحوّل تلك المعارضات في غير مكان سلطات أمر واقع تستثمر قلق الناس الوجودي وتحوّله وسيلةً للهيمنة. معارضة تشبه النظام: ثقافة سياسية مشوّهة ومنطق إقصائي وارتهان للزعامة الفردية، وليست بديلاً من النظام في المستوى الوطني. “اللامركزية” أو “الفيدرالية” ليستا في أصلهما أفكاراً خطيرة في ذاتهما، بل شكلان لإدارة السلطة يمكن أن يكونا وسيلةً للعدالة وتقريب الدولة من الناس. التجارب الحديثة تُظهر أن اللامركزية في سياقات معينة ضمانة جزئية للديمقراطية، لكن إن تأسّست على التوافق الوطني والاعتراف المتبادل بين المكوّنات. لكنها حالياً، بدل أن تكون مطالبةً محقّةً لتوزيع عادل للسلطة، تحوّلت في طور الشعار أداةً لتقسيم البلاد وإدامة خطوط الحرب. المشكلة ليست في المبدأ، بل في غياب الحوار الوطني الجامع الذي يمكن له أن يحوّل هذه الفكرة فرصةً. تبنى اللامركزية الحقيقية (إدارية أو سياسية) عبر التوافق وإعادة تعريف المواطنة، فيشعر كلّ سوريٍ بأنه شريك كامل في الوطن، لكن السلطة ومعارضوها الجدد يتعاملون مع سورية مساحة نفوذ لا خريطة وطن، ويغيب الفارق الأخلاقي والسياسي الذي يصنع المعنى… وهكذا، أضحى التخلّي عن سورية همّاً مشتركاً، يدمّر النظام المعنى الوطني، ويتخلّى المعارضون عن الوطن، وتتعامل القوى الدولية والإقليمية مع سورية (وهي عادتها) ورقةَ تفاوض ونفوذ، لا قضية شعب.

العنف والقتل يولّدان المقاومة، لكن تفاهة التقليد تزرع اليأس، وحين يكون خصوم المستبدّ صورته المكرّرة تغدو السياسة غياباً مطبقاً لا فعلاً مُحرِّراً، هنا تكتمل المأساة: صراع بين نسختَين من الشيء نفسه، والضحية هي المعنى الوطني الذي يذوب بين الأصل وصورته. لم تعد مشكلة سورية في تقسيم المقسّم جغرافياً وديموغرافياً فقط، بل في غياب الفكرة، فكرة المواطنة في دولة جامعة، مركزية أم لامركزية، لا فرق. وحين تفقد الأمم وعيها بذاتها، فإنها تموت فكرةً وكينونة. سورية اليوم ليست أمام أزمة سياسية وحسب، بل أمام لحظة تخلٍّ عن ذاتها.

فوج جبل العرب

فوج جبل العرب

أمضى المؤرخ الراحل قيس ماضي فرو سنوات طويلة يجمع مادة كتابه، أو رسالته، إلى أبناء جيله، وأبناء الأجيال القادمة من بعده، وأبناء من يتحدثون العربية، وأطلق عليه عنواناً إشكالياً للغاية هو: “دروز في زمن الغفلة: من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية”.

والكتاب خلاصة مكثفة ودقيقة تتبع الوثيقة والرسالة والبحث والورقة الضائعة في الأرشيف، كي تسجّل التاريخ الحقيقي لهذه المجموعة من البشر، في نضالاتها، في قوتها، وفي ضعفها، في اختيارات الطريق الصحيح، أو في التيه، أو في الحيرة والضياع بين الخيارات المتاحة أمام أبنائها جميعاً.

كتاب قيس ماضي فرو ليس مجرد مادة تاريخية يمكن الاستشهاد بنصوصه، أو العودة إليه بوصفه مرجعاً يوضع في أحد رفوف المكتبة ويُقرأ لاستكمال بحث، بل هو في المقام الأول سيرة بشر من لحم ودم، عاشوا في الزمن القريب الذي مضى، وأنجبوا أبناءً وأحفاداً لا يزالون يعيشون بيننا.

لا يمكن إعادة شرح التاريخ للذين جاؤوا بقصد الغزو أو السبي

القسم الذي يمكنني أن أدّعي أنني أحد شهوده من الأبناء، هما الفصلان: “التحضيرات للحرب” و”معارك فوج جبل العرب”. وفيه يقدم المؤرخ سرداً لما كنّا نحن أبناء الزمن الذي تلا النكبة شهوداً عليه؛ نسمع وننصت لحكاية من ذلك الرجل الذي مضى شاباً إلى معارك الإنقاذ في العام 1948 يقود إحدى الفرق التي تشكّلت على يد واحد من أهم القادة الوطنيين السوريين في منتصف القرن الماضي، وهو فوزي القاوقجي.

يأتي القاوقجي إلى جبل الدروز في تشرين الأول/ تشرين الأول من عام 1947 ليقول: “أنا أطلب نجدة الإخوان… فكلما كانت الأمة العربية مصابة في قطر من أقطارها، تتلفت نحو هذا الجبل الذي هو… أكبر قلعة من قلاع العرب”. وبالتعاون مع سلطان الأطرش، جُنّد 500 مقاتل، في زمن شحّ الموارد المالية ونقص السلاح، لا بسبب قلة المتطوعين.

أعرف من هذه الواقعة التاريخية أنَّ عمي، والد زوجتي، كان هو الشاب نايف حمد عزام، الذي قاد فرقة المسيفرة، وهي إحدى الفرق الثلاث التي تشكّلت من الفوج الذي سُمّي: “فوج جبل العرب”، وقاده الضابط اللبناني الدرزي شكيب وهاب. أما الفرقتان الأخريان فهما: فرقة الكفر، وفرقة المزرعة، حيث مضى أولئك المتطوعون الشبان يقاتلون دفاعاً عن الوجود الفلسطيني. ذلك الضابط الشجاع، الذي أراد مع رفاقه من المتطوعين السوريين أن يصنعوا تاريخاً آخر لنا، عاد مصاباً في فخذه أثناء المعارك، ومات منذ أكثر من عشرين عاماً، ولن يرى أن بيته صار رماداً على يد جنود سوريين جاؤوا من خلف التاريخ.

لا يمكن إعادة شرح التاريخ أو تلقينه لهؤلاء الذين جاؤوا بقصد الغزو أو السبي، فنحن في القرن الحادي والعشرين. لكن الخطر في قصتنا الحزينة هو وجود المتعلمين الذين قرروا ألّا يقرأوا التاريخ، والأخطر هو حضور المثقفين الذين يقرأون التاريخ، ثم يخدعون الآخرين بأنه مزوّر، أو يسعون إلى محوه، أو تجاهل وقائعه القريبة، جرياً وراء سلطة كانت أولى رسائلها إلى العالم هي تدبير مذبحة لأحفاد أولئك المقاتلين الخمسمئة الذين مضوا للقتال ذات يوم، للمشاركة في الدفاع عن أمة كما قال الفارس فوزي القاوقجي.

* روائي من سورية

من جيبين إلى دمشق.. حسين الشرع يروي مسيرته وكيف أطاح ابنه بالأسد

من جيبين إلى دمشق.. حسين الشرع يروي مسيرته وكيف أطاح ابنه بالأسد

سرد حسين الشرع، والد الرئيس السوري الحالي أحمد الشرع، أبرز محطات العائلة ورحلة حياتها منذ ما قبل الهجرة من قريتهم “جيبين” في ريف القنيطرة جنوب سوريا، وذلك خلال إطلالته في برنامج “للحديث صلة” على منصة “العربي بلس“.

وُلد حسين الشرع عام 1943 في إحدى قرى ريف القنيطرة، وشارك في الحياة الاجتماعية والسياسية في سوريا عقب الاستقلال.

رحلة حسين الشرع

وقد اعتُقل الشرع بعد حركة الثامن من آذار/ آذار عام 1963 على خلفية حركة 18 تموز التي قادها جاسم علوان، إذ اعتُبر محسوبًا على التيار الناصري.

وفرّ بداية إلى الأردن حيث اعتقل هناك، قبل أن يتمكن لاحقًا من اللجوء إلى العراق، حيث أكمل دراسته الثانوية، ثم التحق بكلية الاقتصاد في جامعة بغداد.

وبعد ذلك عاد إلى سوريا وتسلّم منصب مدير إدارة التخطيط والدراسات في وزارة النفط، ثم غادر عام 1979 إلى السعودية حيث عمل مستشارًا وخبيرًا في وزارة النفط هناك لمدة عشر سنوات.

وفي عام 1989 عاد مجددًا إلى سوريا ليشغل منصب مستشار لتسويق النفط في رئاسة الوزراء، لكنه رفض الانخراط في صفقات فساد مرتبطة بتسويق النفط، ما أدى في النهاية إلى إقالته.

التوجه السياسي المبكر

في اللقاء الذي أجراه الزميل أنس أزرق ضمن برنامج “للحديث صلة” عبر “العربي +”، كشف الدكتور حسين الشرع أنه ألّف نحو 20 كتابًا، مُنع أربعة منها من النشر في سوريا، موضحًا أنه غادر سوريا عام 2013 متوجهًا إلى لبنان، ثم إلى مصر، قبل أن يستقر في تركيا.

واستعاد الشرع ذكرياته حينما كان ناصري التوجه، عازيًا ذلك إلى افتتاح وزير الحربية المصري عبد الحكيم عامر مدرسة في محافظة درعا، حيث هتف الطلاب ـ وكان من بينهم ـ باسم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

كما تطرق إلى لقائه بحافظ الأسد، مشيرًا إلى أن اللقاء كان بهدف مساعدته في الحصول على وظيفة في وزارة النفط آنذاك.

اللقاء مع حسين الشرع أجراه الزميل أنس أزرق

اللقاء مع حسين الشرع أجراه الزميل أنس أزرق عبر برنامج “للحديث صلة” على “العربي+”

الموقف من الثورة السورية

وبشأن الثورة السورية، أكد الشرع أنه كان يرى أن نظام بشار الأسد لا بد أن يُقتلع من جذوره، لكنه في المقابل أبدى يأسه من إمكانية نجاح الثورة بسبب حالة الانقسام بين فصائل المعارضة.

تجهيز جيش مدرّب ذي مهام محددة، واستخدام الطائرات المسيّرة، إلى جانب فرق العصائب الحمراء، كان العامل الحاسم في تحرير سوريا

وبيّن أنه كان يرى أنّه من دون وجود قيادة عسكرية وسياسية موحَّدة، فلن تنجح الثورة، بل إن نظام الأسد سيستعيد السيطرة على المناطق المحررة في الشمال السوري.

وأشار الشرع إلى أن التجربة الألمانية يمكن أن تكون نموذجًا يُحتذى لتطبيقه في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد.

“ضربة معلم”

وكشف الشرع عن بعض التفاصيل الخاصة بكيفية نجاح ابنه أحمد الشرع، الرئيس السوري الحالي، في الإطاحة بنظام بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ كانون الأول 2024.

وقال إن تجهيز جيش مدرّب ذي مهام محددة، واستخدام الطائرات المسيّرة، إلى جانب فرق العصائب الحمراء، كان العامل الحاسم في تحرير سوريا. ووصف المعركة بأنها كانت “ضربة معلم”، جرى التحضير لها بسرية تامة، ولم يطّلع على تفاصيلها سوى القيادات الكبرى.

وأضاف أن ابنه أحمد الشرع امتلك “قوة دفع” لم توقفها أي عقبة حتى إنجاز التحرير، مشيرًا إلى أن معركة تحرير سوريا كانت غامضة إلى حد أن حتى تركيا لم تعلم بها.

تجدون في الرابط المرفق من برنامج “للحديث صلة” عبر العربي+ تفاصيل ومحطات حياة حسين الشرع حيث يسرد محطات حياته، ويكشف كيف أطاح ابنه أحمد الشرع بنظام بشار الأسد.