ما بعد أدب المهجر السوري في ألمانيا

ما بعد أدب المهجر السوري في ألمانيا

في كلّ موجة لجوء وهجرة كانت دور النشر الألمانية تهتم بإصدار الروايات والمجموعات القصصية والشعرية واليوميات للكتاب الذين وصلوا إليها مع تلك الموجات، مثلما حصل مع الكتاب الذين قدِموا من العراق وفلسطين وأفغانستان وإيران والسودان وسورية وأوكرانيا. تبحث دور النشر عن تلك النصوص المتعلّقة بما وقع لـ كتّابها من ملاحقات أو سجن أو تعذيب قبل الهروب من مسقط رأسهم، وتلك التي تسرد حالة التخفّي والهروب والتهريب خلال الطريق نحو “الفردوس الأوروبي”.

النمطية الجاهزة

مقالات وكتب كثيرة تحدّثت عن النظرة النمطية التي جعلت العقلية الألمانية، والأوروبيّة عموماً، عالقةً في أجواء “ألف ليلة وليلة”، حول الحريم والسحر والجن والجنس والمحرّمات في العالمين العربي والإسلامي، وأن المهاجر قادم من دولة تحكمها الدكتاتورية، والفساد والتعذيب والتغييب والقتل والعنف ضد المرأة، وسلطات ذكورية، وأفكار دينية متناقضة ومتضاربة، أما الناشرون فيتقصّون هذه الحالات والقصص التي تُقارب تلك النمطيّة. 

هذه النمطية قادت كتّاباً من المنطقة العربية، وما حولها، استقروا في البلدان الأوروبية، إلى الاستمرار في دغدغة تلك العقلية النمطية، وإيقاظها لو نامت، فمن خلال فهمهم لسوق النشر صاروا نجوم الحكايات والفلكلور المحليّ للقارئ الغربي، في تأليف روايات وقصص مسلّية للعجائز ومسافري العطلات.

كانت الفترة بعد 2019 هي ذروة الترجمة لكتاب سوريين للألمانية

مع موجة الهروب الأولى إلى أوروبا، 2011 – 2015، اتصل عدد من الناشرين الألمان بمترجمين من اللغة العربية وسألوهم عن “الرواية الأولى” للثورة السورية. ووقتها أصيبوا بخيبة أمل؛ لعدم صدورها بعد من الكتّاب الذين وصلوا إلى أراضيها، مما جعلهم يترجمون لكتّاب سوريين عن اللغات الأخرى. ولكن سرعان ما كُتبت روايات وقصص وقصائد مُلبية لذلك الطلب.

من المعروف أن عقلية الناشر الغربي صارت تنشر ما يتعلّق بالآني والحدث الساخن. ففي بداية حرب روسيا على أوكرانيا، مثلاً، صدرت عشرات الكتب الجديدة، واستعادة ما كُتب عن الحروب في تلك المنطقة. وانتشار وباء كوفيد 19، كذلك، فتَح الباب أمام طباعة كتب طبية وصحية ومذكرات وروايات كلاسيكية تتعلق بالأوبئة والأمراض!

لا أحد ينتقص من الجهود التي قام بها الألمان في ترجمة الأدب السوري، لكاتبات وكتاب سوريين راسخين وجدد، ومنهم من لم يصدر له كتاب خلال وجوده في سورية، ولم يكن معروفاً فيها.

في عام 2016 صدرت أنطولوجيا ضخمة لـ 17 كاتبة وكاتب من سورية وكاتب من اليمن وكاتبة من إيران، بعنوان “أن تكون هنا، أن تكون بعيداً”. وفي عام 2018 صدرت أنطولوجيا شعرية بعنوان “مخاوفكَ، فردوسُكَ”، ثم توالت الأنطولوجيات المختلفة.

أمزجة مختلفة

كان من الكتّاب السوريين، في تلك الأنطولوجيات، مَن صدر له ترجمات بالألمانية قبل هروبه إليها، مثل نهاد سيريس وروزا ياسين حسن ورشا عباس وغيرهم، وآخرين لم يُنشر لهم سابقاً، مثل نور كنج وكنان خداج ولينة عطفة ورائد وحش ويامن حسين ومحمد العطار وخولة دنيا ووداد نبي وضاهر عيطة ورامي العاشق ومحمد المطرود ولينا الطيبي وغيرهم. وهؤلاء اختلفوا في الأعمار والتجربة وكذلك في نوع الكتابة، ومنهم من استمرّ في النشر، وتُرجم إلى لغات أخرى، ومنهم من حاز منحاً للكتابة، ومنهم من حصل على جوائز. ومنهم من عاد إلى طبيعته في الانزواء والكتابة بمزاج لا يتفق، عادة، مع مزاج سوق النشر أو مزاج الناشر، ومنهم من لم ينشر بعدها.

عقلية الناشر الغربي صارت تنشر ما يتعلّق بالآني والحدث الساخن

هذه الأنطولوجيات خدمت دور النشر، التي كانت تريد ترجمة الإبداع السوري الجديد، وساهمت في العديد من الأمسيات واللقاءات ومنح الكتابة وورش العمل وفهم آلية النشر في سوق ضخمة مثل سوق الكتب في الدول الناطقة بالألمانية، وحتى إيجاد فرص عمل لبعضهم في المراكز الثقافية الألمانية.

كانت الفترة بعد عام 2019 هي ذروة الترجمة للكتاب السوريين في ألمانيا، خاصة أن العديد منهم صار يتقن الألمانية ويستطيع التحاور مع الناشرين وجمهور الأمسيات والصحافيين، فصدرت ترجمات لكتاب سوريين عديدين، وأنطولوجيات متعددة، ومنها ما خُصّص للكاتبات فقط، بل تُرجمت إبداعات كتاب آخرين غير موجودين في ألمانيا، مثل سمر يزبك وخالد خليفة ومصطفى خليفة وديمة ونوس وفادي عزام وغياث المدهون ورشا عمران وآخرين.

عانى كثير من الكتاب السوريين في النظر إليهم بوصفهم لاجئين، وليسوا كتّاباً فقط. ومنهم من ذهَب إلى أن العلاقات العامة، وحتى طائفة الكاتب وجنسه، أدى إلى نشر ما كتبه وليس بسبب قيمة ما كتبه! وفي الوقت الذي ضمّت ألمانيا عشرات الكتّاب والفنانين والصحافيين السوريين، وكان من المتوقع إنشاء مركز أو تجمع أو حتى دار نشر، سرعان ما كان الأمر يفشل في الاستمرار، وتحوّل المشهد إلى شللية طاردة، أو إلى جهود فردية لا تتلقى الدعم المناسب.

اليوم، خفت الاهتمام لدى الناشر الألماني نفسه، فاكتفى بما تمت ترجمته، وذلك يغطي أيضاً أكثر من المساحة التي خُصصت للأدب السوري.

وفي الوقت الذي صدرت فيه مؤخراً ترجمات لسليم بركات وحليم يوسف ونجاة عبد الصمد وحسين بن حمزة وعبود سعيد وهنادي زرقا وإبراهيم الجبين وآخرين، تحدث البعض عن تراجع الاهتمام لدى القارئ الألماني نفسه، وأنه اكتفى من الأدب السوري بما صدر منه. ومنهم من عزا الأمر إلى عدم وجود وكالة أدبية خاصة بترويج الأدب السوري، وإلى قلّة عدد المترجمين من العربية إلى الألمانية، مقارنة بباقي اللغات. ومنهم من رأى أن تلك الترجمات لم تكن “حركة ترجمة” مخططاً لها بشكل مناسب، بحيث يتم تقديم أسماء رائدة أو راسخة في الأدب السوري، في الرواية والمسرح والقصة والشعر، بالموازاة مع ترجمة إبداعات الكتّاب الواصلين إلى أراضيها، بل كانت عبارة عن موجة لا بدّ أن تصل إلى شاطئ النهاية، كما حدث مع موجات الهجرة السابقة.

العجز عن تفسير اللامتوقع

العجز عن تفسير اللامتوقع

ربما كان أحد أفضل الدروس، التي يمكن للإنسان أن يتعلمها خلال مسيرة حياته، وأن من المستحسن تعلّمها في وقت مبكر، التخلي عن وهم السيطرة المطلقة على مسار الأحداث، أو الإيمان الراسخ بديمومة الحاضر إلى حدّ إلغاء الماضي والمستقبل.

الحياة، كما تشير التجارب، ليست خطاً مستقيماً، تنطلق من مكان لتنتهي إلى مكان وفق مخطط دقيق، بل هي سلسلة من الأحداث، تتخللها مفاجآت غير متوقعة، أو ما يبدو لنا مفاجآت، تغير مجرى الأمور كما ألفناها، تعيد رغماً عنا تشكيل واقعنا الشخصي، وقد تتمدّد إلى دائرتنا الاجتماعية والسياسية والإنسانية. ويتضخم تأثيرها المعاكس، في حال اعتقادنا بدوام وهم الاستقرار.

هناك من يتوهم أن الحاضر، بما يحمله من استقرار نسبي، ولو شابه أحياناً اضطراب بسيط بين فترة وأخرى، سيبقى على حاله، ويمكن التنبؤ بالمستقبل استناداً إلى معطيات الحاضر. هذا الإيمان بدوام اللحظة الراهنة يجعل الإنسان يخطط، يحلم، وربما يطمئن. غير أن هذا النوع من الطمأنينة هش للغاية، لأنه يتجاهل الحقيقة الأساسية التي أثبتها التاريخ، وتجارب الأفراد على حد سواء: أن المفاجآت جزء أصيل من نسيج الحياة.

فجأة وجد السوريون أنفسهم في وضع لا يقلّ عن انقلاب

فكمْ من شخص استيقظ صباحاً وهو يظنّ أن يومه سيكون اعتيادياً، فإذا بخبر أو حادثة تغيّر مجرى حياته بأكملها. ماذا لو فكرنا فيه على مستوى الشعوب، فالسوريون استيقظوا يوم 8 كانون الأول/كانون الأول على سقوط النظام، بينما كانوا يسيرون في انحدار رتيب سياسياً واقتصادياً، في أفق مسدود تماماً، وانعدام للإرادة، بعدما أوقع النظام في يقين الشعب أنه مستمر إلى الأبد، والمتغيرات تأتي من فوق، بشكل محسوب لا علاقة لهم به على الإطلاق، حتى بات الاعتقاد أن لا شيء سيحدث، ولا انفراج في الأفق المنظور، فالخراب شامل، وعليهم التعايش معه.

فجأة وجد السوريون أنفسهم في وضع لا يقلّ عن انقلاب، لقد سقط نظام الأبد بسهولة، وعلى غير توقع. وكأنه لم يسبقه 14 عاماً من ثورة وحرب داميتين، كلّفت آلاف التضحيات، لا تقل عن مليون شهيد. الانتصار لم يكن سهلاً أبداً، وأحدث انفراجاً كبيراً، لكنه وضع البعض في خضم أزمة تحول جذري غامض، لم يستطيعوا التكيف مع انبثاقة مباغتة، قلبت الاستقرار المخادع والطمأنينة القلقة إلى أزمة، وكأنه كان لديهم ما يعملون عليه، ثم أصبحوا بلا عمل، وفقدوا خططهم الافتراضية للمستقبل، ما الذي يفعلونه؟ مع أن الحدث لم يمنع عنهم الحرية كي يتحركوا، لكن إلى أين؟ هذا ما طاول طبقة النخبة الكسيحة.

أمام هذا الواقع المتغير، تسابقت الجماعات التي تطمح إلى الانفصال، وبتعبير آخر محبب إلى الاستقلال، بينما كان دور المثقفين، الفشل في الانفتاح على الممكن، ومن دون مرونة، ولا نعني الاستسلام، لم يتقبلوا التغيير، مع إحساس بالقلق، وبلا خطط عملية بديلة، سوى الرفض لما فوجئوا به. 

ما غاب عنهم، أو ما رفضوا الانخراط فيه، هو أن اللامتوقع لا يتجه دوماً نحو الأسوأ. في الكثير من الأحيان، يفتح أبواباً كانت مغلقة، وفرصاً كانت مستحيلة. هذا هو اللامتوقع السوري، فاجأ رهطاً من المثقفين، وهبَط محملاً بإمكانيات هائلة في التغيير، وكشف عجزهم عن التعامل معه، رغم قناعتهم أن النظام الساقط كان كارثة على البلاد، ارتدوا إلى أجنداتهم الأيديولوجية بعد تحديثها، بينما في الجوهر، أسفرت عن الفوضى الذي تحمله، وتبشر به.

منذ اليوم الأول، صرخوا هذه مؤامرة، كي يفسروا هذا الذي لم يتوقعوه. لم يفهموا أن البلد غير محصن من التحولات، ولن ينتظر. لهذا سيمضي مخلفاً وراءه، هؤلاء الذين قصروا عنه.

* روائي من سورية