خطة ترامب لليوم التالي للحرب في غزة: سيطرة أميركية وإغراءات مالية للتهجير

خطة ترامب لليوم التالي للحرب في غزة: سيطرة أميركية وإغراءات مالية للتهجير

تدور في أروقة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب حالياً خطة لإعادة بناء قطاع غزة بعد انتهاء الحرب وفق الاقتراح الذي كان تقدم به ترامب لبناء ما سماها “ريفييرا الشرق الأوسط” على أنقاض القطاع المدمر. وبحسب صحيفة واشنطن بوست الأميركية، تقوم الخطة على وضع القطاع تحت السيطرة الأميركية مدة عشر سنوات على الأقل أثناء عمليات البناء، وتحويله في نهاية المطاف إلى منتجع سياحي ومركز صناعي وتكنولوجي عالي التقنية.

وتقوم الخطة، المكونة من 38 صفحة، والتي تقول واشنطن بوست إنها اطلعت عليها، على نقل “مؤقت” لجميع سكان غزة، أكثر من مليوني نسمة، إما من خلال ما يُسمى “مغادرات طوعية” إلى بلد آخر أو إلى مناطق محظورة وآمنة داخل القطاع خلال فترة إعادة الإعمار. وسيُمنح أصحاب الأراضي من الغزيين خيارين: إما استبدالها بشقة في المباني الجديدة، حيث ستُبنى من ست إلى ثماني مدن ذكية جديدة مدعومة بالذكاء الاصطناعي، أو بيعها والانتقال إلى مكان آخر. كما ستُقدّم وفق الخطة دفعة نقدية قيمتها 5 آلاف دولار أميركي، بالإضافة إلى إعانات لتغطية إيجار أربع سنوات في مكان آخر وكلفة الطعام لمدة عام، لكل فلسطيني يختار المغادرة. وبحسب الصحيفة، فإن كل فلسطيني يختار المغادرة سيوفر 23 ألف دولار مقارنةً بتكلفة السكن المؤقت، وما يُسمى بـ”خدمات دعم الحياة”، في المناطق الآمنة لمن يختارون البقاء.

وبحسب واشنطن بوست، اقتُرح أيضاً إنشاء صندوق خاص أُطلق عليه اسم “صندوق إعادة بناء غزة والتسريع الاقتصادي والتحول” أو “GREAT Trust” (الثقة العظمى). وكشفت الصحيفة أن أصحاب هذا الاقتراح هم الإسرائيليين الذين أنشأوا وأطلقوا “مؤسسة غزة الإنسانية” المدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل. وتعود الصحيفة إلى اجتماع الأربعاء الماضي الذي عقده ترامب في البيت الأبيض لمناقشة الأفكار حول كيفية إنهاء الحرب وما يليها، وكان من بين المشاركين وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو والمبعوث الرئاسي الخاص ستيف ويتكوف ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير الذي استطلعت الإدارة آراءه بشأن مستقبل غزة؛ وصهر ترامب جاريد كوشنر الذي أشرف على معظم مبادرات الرئيس خلال ولايته الأولى بشأن الشرق الأوسط، وله مصالح خاصة واسعة في المنطقة. لم يُعلن عن أي تفاصيل عن الاجتماع أو قرارات سياسية، على الرغم من أن ويتكوف صرّح في الليلة التي سبقت الاجتماع بأن الإدارة لديها “خطة شاملة للغاية”.

وليس من الواضح ما إذا كان مقترح “الثقة العظمى” هو ما يدور في ذهن ترامب، لكن عناصر رئيسية منه، وفقاً لشخصين مطلعين على الخطط، صُممت بحسب واشنطن بوست خصيصاً لتحقيق رؤية الرئيس لـ”ريفييرا الشرق الأوسط”. ولعل أكثر ما يجذب الانتباه هو أنه لا يتطلب أي تمويل من الحكومة الأميركية ويُقدم في الوقت نفسه ربحاً كبيراً للمستثمرين، إذ إن الصندوق “لا يعتمد على التبرعات”، وفقاً للخطة، بل سيُموَّل من خلال استثمارات القطاعين العام والخاص في ما يُطلق عليه اسم “مشاريع ضخمة” تتوزع بين مصانع سيارات كهربائية ومراكز بيانات ومنتجعات شاطئية، بالإضافة لبنايات سكنية شاهقة.

وتتوقع الحسابات المدرجة في الخطة تحقيق عائد يقارب أربعة أضعاف قيمة الاستثمار المقدرة بـ100 مليار دولار بعد عشر سنوات، بالإضافة لاستمرار تدفق الإيرادات “ذاتية التوليد”. وقال شخص مطلع على مداولات الإدارة الداخلية للصحيفة الأميركية: “أعتقد أن ترامب سيتخذ قراراً جريئاً” عند انتهاء القتال، مضيفاً: “هناك العديد من الخيارات المختلفة التي يمكن للحكومة الأميركية اتباعها اعتماداً على ما سيحدث”.

خطط متعددة بشأن غزة

وتلفت الصحيفة إلى كثرة المقترحات التي تتناول اليوم التالي لانتهاء الحرب في غزة، والتي بدأت  تقريباً منذ اليوم الأول للحرب الإسرائيلية المستمرة منذ نحو عامين على قطاع غزة. ففي بداية الحرب، طُرحت مقترحات في إسرائيل لإنشاء مناطق خالية من حماس تحت الحماية العسكرية الإسرائيلية في غزة. وفي كانون الثاني/كانون الثاني 2023، قبل أقل من أسبوع على تولي ترامب منصبه، قدّم وزير الخارجية آنذاك، أنتوني بلينكن، خطة إدارة جو بايدن لما بعد الحرب، ودعت الخطة إلى “إدارة مؤقتة” لغزة تشرف عليها الأمم المتحدة، مع توفير الأمن من قِبل فلسطينيين مُعتمدين و”دول شريكة” غير مُحددة، على أن تُسلّم السلطة في نهاية المطاف للسلطة الفلسطينية بعد إصلاحها.

كما وضعت السلطة الفلسطينية ومصر والإمارات خططاً. وفي قمة عُقدت في آذار/آذار الماضي، أيّد القادة العرب الاقتراح المصري الذي يُحدد تشكيل حكومة من تكنوقراط غزة ومسؤولين من السلطة الفلسطينية بتمويل من دول الخليج العربي. وبالإضافة إلى إمكانية نشر قوات حفظ سلام عربية على الأرض. ولكن إسرائيل والولايات المتحدة رفضتا الاقتراح العربي.

من جهته، لم يقدم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رؤية واضحة لمستقبل غزة تتجاوز ما اعتاد ترديده عن ضرورة نزع سلاح حماس وإعادة جميع المحتجزين، وقوله إنه على إسرائيل الاحتفاظ بالسيطرة الأمنية على القطاع، ورفضه أي حكم مستقبلي للسلطة الفلسطينية في غزة وكذلك احتمال قيام دولة فلسطينية. فيما دعا أعضاء اليمين المتطرف في حكومة نتنياهو الائتلافية إلى احتلال إسرائيلي دائم. 

البحث عن دول ثالثة للتهجير

لطالما كان تهجير الفلسطينيين من غزة، سواء بـ”الإقناع أو بالتعويض” أو بالقوة، موضوع نقاش في السياسة الإسرائيلية منذ انتزاع غزة من السيطرة المصرية واحتلالها من قبل إسرائيل في حرب عام 1967. وقال نتنياهو إن إسرائيل “تتحدث مع عدة دول” بشأن استقبال سكان غزة المُعاد توطينهم. وذُكرت ليبيا وإثيوبيا وجنوب السودان وإندونيسيا وأرض الصومال خياراتٍ محتملةً، لكن جميع هذه الدول تقع في أفريقيا وتعاني من صراعاتها الداخلية وحرمان المدنيين، باستثناء إندونيسيا (التي أعلنت سابقاً أنها ستسمح مؤقتاً بدخول بضعة آلاف من الفلسطينيين الباحثين عن عمل أو علاج طبي).

وبالرغم من أن ترامب خلال حملته الانتخابية تعهد بإنهاء حرب غزة بسرعة، إلا أنه وبعد دخوله البيت الأبيض، أصبح حديثه في الغالب عن كيفية توظيف مهاراته في تطوير العقارات بعد رحيل سكان غزة. وقال ترامب للصحافيين أثناء توقيعه مجموعة من الأوامر التنفيذية في المكتب البيضاوي بعد يومين من تنصيبه: “نظرتُ إلى صورة غزة، إنها أشبه بموقع هدم هائل. تجب إعادة بنائها بطريقة مختلفة”. وأضاف أن غزة تملك “موقعاً رائعاً على البحر، وتتمتع بأفضل طقس. يمكن صنع بعض الأشياء الجميلة فيها”. وبعد أسبوعين، في مؤتمر صحافي عُقد في البيت الأبيض مع نتنياهو، قال ترامب إن “الولايات المتحدة ستتولى قطاع غزة”، ووصف الوضع بأنه “وضع ملكية طويلة الأمد”، مضيفاً أن كل من تحدث إليه بشأنه “معجب بالفكرة”. وقال ترامب: “درستُ هذا الأمر من كثب على مدار أشهر عديدة، ورأيته من كل زاوية مختلفة. إن ريفييرا الشرق الأوسط ستكون شيئاً رائعاً للغاية”.

في أعقاب الغضب العربي والاتهامات واسعة النطاق بأن أي ترحيل قسري يُعد انتهاكاً للقانون الدولي، أكد كل من ترامب ونتنياهو مؤخراً أن أي ترحيل لسكان غزة بعد الحرب سيكون طوعياً ومؤقتاً، إذا اختار الفلسطينيون ذلك. وتقدر الأمم المتحدة أن 90% من المساكن في القطاع قد دُمرت. ويبقى السؤال حول ما يجب فعله حيال سكان غزة ريثما تصبح صالحة للسكن ومن سيحكمها في المستقبل سؤالاً محورياً، بغض النظر عن الخطة المُعتمدة. وقال يوسف منير، الزميل البارز في المركز العربي بواشنطن، للصحيفة: “إن حجم الدمار هائل، ولا يشبه أي شيء رأيناه من قبل”، وأضاف: “حجم مشروع إعادة الإعمار بالغ الأهمية ومطلوب بسرعة. لكن المسألة السياسية لا تزال غامضة أكثر من أي وقت مضى”.

إعادة تطوير “ريفييرا” جديدة

قدّم تعهد ترامب في شباط/شباط الماضي بامتلاك غزة وإعادة تطويرها ضوءاً أخضر وخريطة طريق لمجموعة من رجال الأعمال الإسرائيليين، بقيادة رائدي الأعمال مايكل آيزنبرغ (أميركي إسرائيلي) وليران تانكمان (ضابط سابق في المخابرات العسكرية الإسرائيلية). وبحثوا في قضية ما بعد الحرب في غزة مع خبراء ماليين وإنسانيين دوليين، ومستثمرين حكوميين وخاصين محتملين، بالإضافة إلى بعض الفلسطينيين، وفقاً لأشخاص مطلعين على التخطيط.

وبحلول الربيع، كان فريق من مجموعة بوسطن الاستشارية، ومقره واشنطن، يعمل على التخطيط التفصيلي والنمذجة المالية، وقارنها المطلعون على المبادرة في كل من واشنطن وإسرائيل بالوصاية الأميركية على جزر المحيط الهادئ بعد الحرب العالمية الثانية، والأدوار الإدارية والاقتصادية التي لعبها الأميركيان: الجنرال دوغلاس ماك آرثر في اليابان، ووزير الخارجية جورج سي. مارشال في ألمانيا، بعد الحرب.

وفي حين أن الولايات المتحدة كانت تدير أقاليم المحيط الهادئ المشمولة بالوصاية، فقد وافقت الأمم المتحدة على هذه الترتيبات، ومن غير المرجح أن يوافق أعضاؤها على شيء مماثل في غزة. لكن أصحاب الخطة يؤكدون أنه بموجب مبدأ القانون الدولي العرفي والقيود المفروضة على الحكم الذاتي الفلسطيني بموجب اتفاقيات أوسلو لعام 1993، تتمتع إسرائيل بالسيطرة الإدارية على الأراضي المحتلة وحق التنازل عنها.

وكما هو موضح في الخطة، ستنقل إسرائيل “السلطات والمسؤوليات الإدارية في غزة إلى الصندوق الإئتماني الكبير” بموجب اتفاقية ثنائية بين الولايات المتحدة وإسرائيل “ستتطور” إلى وصاية رسمية. ويتوقع المخطط استثمارات محتملة من “دول عربية ودول أخرى” من شأنها أن تحول هذا الترتيب إلى “مؤسسة متعددة الأطراف”. ورفض مسؤولو إدارة ترامب إصرار الحكومات العربية، وخاصة في الخليج العربي، على أنها لن تدعم سوى خطة ما بعد الحرب التي تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية، ووصفوه بأنه مجرد خطاب عام.

وستحتفظ إسرائيل بموجب الخطة بـ”الحقوق الشاملة لتلبية احتياجاتها الأمنية” خلال السنة الأولى من الخطة، بينما سيتولى مواطنو دول ثالثة، غير محددة، ومتعاقدون عسكريون غربيون خاصون توفير جميع مهام الأمن الداخلي تقريباً. وسيتقلص دورهم تدريجياً على مدى عقد من الزمن مع تولي “الشرطة المحلية” المدربة المسؤولية. أي أنه سيُدار قطاع غزة من قبل هيئة خارجية لفترة متعددة السنوات، يُقدر أنها ستستغرق عشر سنوات، حتى “يصبح هناك نظام سياسي فلسطيني مناسب ومنزوع التطرف ومستعد لتولي زمام الأمور”.

ولا تُشير الخطة، بطبيعة الحال، إلى قيام دولة فلسطينية في نهاية المطاف، وتكتفي بالقول إن الكيان الفلسطيني الحاكم، غير محدد، “سينضم إلى اتفاقيات أبراهام”. كما تتحدث الخطة عن موقع غزة “على مفترق طرق” لما سيصبح منطقة “موالية لأميركا”، ما يتيح للولايات المتحدة الوصول إلى موارد الطاقة والمعادن الأساسية، وأن غزة ستشكل مركزاً لوجستياً للممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، الذي أُعلن عنه لأول مرة خلال إدارة بايدن، لكنه توقف بسبب حرب إسرائيل على غزة.

وستُموَّل التكاليف الأولية باستخدام 30% من أراضي غزة، التي قال المخططون إنها مملوكة بالفعل “للقطاع العام”، ضماناً، وستؤول ملكيتها فوراً إلى الصندوق الإئتماني. وأشارت إحدى وثائق تخطيط الصندوق، التي اطلعت عليها واشنطن بوست، إلى أن هذا الإجراء “هو الأكبر والأسهل. لا حاجة لسؤال أحد”. ليجيب آيزنبرغ في ملاحظة: “أخشى كتابة ذلك، لأنه قد يبدو وكأنه استيلاء على الأرض”.

وتشمل “المشاريع الضخمة” الممولة من المستثمرين تعبيد طريق دائري وخط ترام حول محيط غزة، يُطلق عليه المخططون بإطراء اسم “طريق محمد بن سلمان السريع”، نسبةً إلى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي ستُسهم موافقته على مثل هذه المبادرة في قبولها إقليمياً بشكل كبير. كما سُمي طريق سريع حديث يربط الشمال بالجنوب عبر مركز غزة باسم رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد آل نهيان. وسيُبنى ميناء ومطار جديدان في أقصى الجنوب، مع ربط بري مباشر بمصر والمملكة العربية السعودية وإسرائيل.

وأعلنت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة التزامهما علناً بالمقترح المصري بشأن غزة وإقامة الدولة الفلسطينية في نهاية المطاف، من دون أي إشارة إلى موافقتهما على أي بند من بنود خطة الصندوق الإئتماني. كما ستُنشأ محطة لتحلية المياه ومجموعة من الألواح الشمسية في شبه جزيرة سيناء المصرية لتزويد غزة بالمياه والكهرباء. وستكون الحدود الشرقية لغزة مع إسرائيل منطقة صناعية “ذكية”، تضم شركات سيارات كهربائية أميركية ومراكز بيانات إقليمية لخدمة إسرائيل ودول الخليج العربي. كما ستُخصص الواجهة البحرية الغربية لغزة لـ”ريفييرا غزة ترامب”، التي ستضم “منتجعات عالمية المستوى” مع إمكانية بناء جزر اصطناعية شبيهة بتلك التي على شكل نخيل والمبنية قبالة سواحل مدينة دبي الإماراتية.

وفي قلب القطاع بين المنتجعات المطلة على الواجهة البحرية والمنطقة الصناعية التي تتوقع الخطة أن توفر مليون فرصة عمل، ستبنى مبانٍ سكنية تصل إلى 20 طابقاً في ست إلى ثماني مدن ذكية ديناميكية وحديثة ومدعومة بالذكاء الاصطناعي. وستشمل المناطق متعددة الاستخدامات “مساكن، ومراكز تجارية، وصناعات خفيفة، ومرافق أخرى، بما في ذلك عيادات ومستشفيات ومدارس وغيرها”، تتخللها “مساحات خضراء، بما في ذلك أراضٍ زراعية وحدائق وملاعب جولف”.

وسيُعرض على العائلات الغزية المالكة للأراضي التي تبقى أن تغادر ثم تعود بعد اكتمال المناطق السكنية لتبادل أراضيها بملكية شقق جديدة بمساحة 1800 قدم مربعة، تبلغ قيمة كل منها 75 ألف دولار أميركي. وصرح عادل حق، الأستاذ والخبير في قانون النزاعات المسلحة بجامعة روتجرز، لواشنطن بوست، بأن أي خطة “تُمنع فيها عودة الفلسطينيين إلى ديارهم، أو يحرمون من الطعام والرعاية الطبية والمأوى بشكل كافٍ، ستكون غير قانونية بغض النظر عن أي حافز نقدي يُقدم للمغادرين”.

هزيمة الصهيونية شرط لبناء نظام عالمي متعدّد القطبية

هزيمة الصهيونية شرط لبناء نظام عالمي متعدّد القطبية

ارتبط الكيان الصهيوني، نشأة وتطوّرا، بالقوى الغربية المهيمنة على النظام الدولي. ولأن بريطانيا كانت تتولى قيادة النظام الدولي، حين ظهرت الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر، كان من الطبيعي أن تلعب الدور الأهم في المرحلة التأسيسية للمشروع الصهيوني، وهو ما اتضح بجلاء حين اصدرت وعد بلفورعام 1917، ثم حين أصرّت على أن تصبح الدولة المنتدبة على فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى التي انتهت بانهيار الإمبراطورية العثمانية. وحين بدأ الدور البريطاني في النظام العالمي يتراجع بعد الحرب العالمية الثانية، انتقلت مهمّة رعاية المشروع الصهيوني إلى الولايات المتحدة، وهو ما ظهر بوضوح إبّان مناقشة المسألة الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947، ثم بصورة أوضح منذ حرب 1967. ومع ذلك، ينبغي الانتباه إلى مسألة هامة، أن جميع القوى الفاعلة في النظام الدولي ثنائي القطبية، بما فيها الاتحاد السوفييتي نفسه، ظلّت، في مجملها، متعاطفةً مع المشروع الصهيوني في مراحل تطوّره الأولى، لأسبابٍ كثيرة، ربما كان أهمها المحرقة التي تعرّض لها اليهود في ظل الحكم النازي.

يرى كثيرون أن الكيان الصهيوني مجرّد أداة في يد القوى التي أوجدته، ما يعني عدم تمتّعه بأي قدر من الاستقلالية التي تتيح له هامشا ولو ضئيلاً للحركة خارج حدود الدور “الوظيفي” المرسوم له، غير أن هذه الرؤية ليست دقيقة تماماً، رغم استنادها إلى شواهد تضفي عليها قدراً كبيراً من المصداقية، فالسياسة الخارجية للكيان ظلت، ومنذ اللحظة الأولى لتأسيسه، محكومةً بعاملين رئيسيين: الأول، إحساس طاغ بأنه يواجه تهديداً وجودياً يدفعه إلى الاعتماد على قواه وقدراته الذاتية، بصرف النظر عن طبيعة (وعمق) تحالفاته مع القوى الدولية التي أوجدته. الثاني: حاجة ملحّة للتوسّع خارج الحدود المعترف بها دوليا، من منطلق إيمانه الراسخ بأنه ما زال مشروعا في طور التكوين لم يصل إلى غاياته النهائية بعد، تحتّم عليه أن يسعى، بشكل دائم، إلى ضبط إيقاع طموحاته الخارجية مع مصالح القوى العالمية الداعمة له. ولأن قصة الكيان الصهيوني مع السلاح النووي تلقي أضواء ساطعة على شكل (وطبيعة) العلاقة التي تربطه بالقوى المهيمنة على النظام الدولي، فربما من المفيد أن يُشار هنا إلى بعض أبعادها المثيرة.

لم يُعرف عن رئيس الوزراء المؤسس، بن غوريون، انشغاله بقضيةٍ تعادل حرصه على امتلاك الكيان السلاح النووي في أسرع وقت ممكن. صحيحٌ أنه خرج منتصراً من حربه الأولى مع الدول العربية المجاورة (1948 – 1949)، بل وتمكّن خلالها من توسيع مساحته الأصلية بأكثر من 50%، إلا أنه خرج منها مقتنعاً بأن الكيان يواجه تهديداً وجودياً لا سبيل للتغلب عليه إلا بامتلاك السلاح النووي، ما يفسّر حرصه على التواصل المبكّر مع علماء الذرة اليهود في مختلف أنحاء العالم، وقراره إنشاء هيئة للطاقة الذرية عام 1952. ولأن الولايات المتحدة بدت، في ذلك الوقت، مشغولةً بالترتيبات التي تتيح لها محاصرة الاتحاد السوفييتي، فقد سعى بن غوريون إلى توثيق العلاقة مع قوى الاستعمار التقليدي، وبالذات مع فرنسا التي كانت في صراع حاد مع نظام جمال عبد الناصر في مصر، بسبب دعمه القوي الثورة الجزائرية، والتي زوّدته بالفعل عام 1957 بأول مفاعل نووي كبير جرى تركيبه في منطقة ديمونة.

حين بدأ الدور البريطاني في النظام العالمي يتراجع بعد الحرب العالمية الثانية، انتقلت مهمّة رعاية المشروع الصهيوني إلى الولايات المتحدة

رغم كل الإجراءات الاحترازية التي اتُّخذت لضمان سرّية البرنامج النووي للكيان، إلا أنه سرعان ما تكشّف أنه برنامج تسليحي وليس سلمياً، ومن ثم بدأ يتعرّض لضغوط أميركية، خصوصا بعد وصول كيندي إلى السلطة، بل وراحت هذه الضغوط تتصاعد إلى درجة دفعت بن غوريون إلى تقديم استقالته في حزيران/ حزيران عام 1963. وجاء اغتيال كينيدي (22 تشرين الثاني/ تشرين الثاني 1963) بعد شهور قليلة من تسلم بن غوريون منه خطاباً شديد اللهجة لإخضاع مفاعل ديمونة للتفتيش وإلا تعرّض الكيان لعقوبات. ثم راح البرنامج النووي الإسرائيلي يتطوّر بمعدّلات متسارعة منذ ذلك الوقت، إلى درجة أن الكيان أصبح قادراً على تجهيز قنبلة بدائية قابلة للاستخدام الفعلي، حين بدأت رياح الحرب تهبّ على المنطقة قبيل منتصف 1967، وبدأ يفكّر في وضع استراتيجية هدم المعبد على من فيه، المعروفة باسم “خيار شمشون” (راجع كتاب سيمور هيرش “خيار شمشون … إسرائيل وأميركا والقنبلة”، 1991). … صحيحٌ أن مسار حرب 1967 أكّد عدم الحاجة لاستخدام السلاح النووي، بعد أن تحقّق بالسلاح التقليدي ما فاق أكثر طموحات الكيان جنوحاً، إلا أن هذه الحرب شكّلت نقطة تحوّل كبرى في طبيعة العلاقة الاستراتيجية التي بدأت تربط الكيان بالولايات المتحدة فحسب، خصوصاً وأن الأخيرة بدأت تتعامل مع الكيان، منذ ذلك الوقت، باعتباره قوة نووية بحكم الأمر الواقع، ومرغوبا فيها. فعلى الصعيد الاستراتيجي، أدّى الانتصار الضخم الذي تحقق على عدة دول عربية إلى تغيير رؤية الولايات المتحدة الكيان أداةً لا غنى عنها في مكافحة تمدّد النفوذ السوفييتي في المنطقة. وبعد أن كانت حريصةَ قبل الحرب على عدم الظهور بمظهر المورّد المباشر للسلاح إلى الكيان، مراعاةً لمشاعر الدول العربية الحليفة، أصبحت تتفاخر علناً بعدها بأنها أكبر مورّد للسلاح إلى الكيان وأكثر الدول حرصاً على ضمان تفوّقه العسكري على كل الدول العربية مجتمعة. وقد التزمت جميع الإدارات الأميركية المتعاقبة، الجمهورية منها والديمقراطية، بهذه الاستراتيجية، حتى بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في بداية تسعينيات القرن الماضي.

وعلى صعيد الانتشار النووي، عقد الرئيس الأميركي، نيكسون، لقاء سرّيا مع رئيسة وزراء إسرائيل في حينه، غولدا مائير، في أيلول/ أيلول 1969، جرى فيه اعتماد استراتيجية “التعتيم النووي” التي تعني موافقة الولايات المتحدة على عدم عرقلة مسيرة البرنامج النووي للكيان، رغم علمه التام ببعده التسليحي وإصراره على مراكمة المعارف النووية التي تسمح له بتصنيع كل ما يستطيع من رؤوس نووية، وعدم مآذارة أي ضغوط لحمله على الانضمام إلى معاهدة حظر الانتشار النووي أو استقبال خبراء أميركيين للتفتيش على المفاعلات النووية التي راحت أعدادُها تتزايد باضطراد، مقابل التزام الكيان بعدم التصريح علنا بامتلاكه السلاح النووي، وأيضاً بعدم إجراء تجارب نووية يمكن رصدها. وفي حين التزمت الإدارات الأميركية المتعاقبة بهذا الاتفاق غير المكتوب التزاماً صارماً، لم يتردّد الكيان الصهيوني في انتهاكه بطرق وأشكال مختلفة، حين اقتضت مصالحه ذلك، بدليل إقدامه على التعاون مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا إلى حد الإقدام على إجراء تفجير نووي مشترك. بل وصلت به الجرأة إلى حد الإقدام على سرقة يورانيوم عالي التخصيب من الولايات المتحدة نفسها (حادث منشأة “أبولو” في بنسلفانيا). وفي ظلّ “ميثاق الصمت” الذي ترسخ بين هذين البلدين المتواطئين، أعطى الكيان لنفسه حرية العمل العسكري في مواجهة أي دولة في المنطقة تسعى إلى تأسيس برنامج نووي لديها، حتى ولو كان سلمي الطابع، بدءا بالعراق مروراً بسورية وليس انتهاء بإيران. بل وصل التواطؤ بين البلدين إلى حد إقدام الولايات المتحدة على المشاركة مع الكيان في هجوم مسلح على المنشآت النووية الإيرانية، رغم أن لإيران الحقّ في تخصيب اليورانيوم على أراضيها لاستخدامه في الأغراض السلمية، باعتبارها طرفاً في معاهدة حظر الانتشار النووي.

رغم كل الإجراءات الاحترازية التي اتُّخذت لضمان سرّية البرنامج النووي للكيان، إلا أنه سرعان ما تكشّف أنه برنامج تسليحي وليس سلمياً

لم تكن العلاقات المتنامية بين الولايات المتحدة والكيان، والتي راحت تزداد التصاقاً قبيل حرب 1967 وإبّانها وعقبها إلى أن وصلت إلى ما هي عليه، مدفوعة فحسب بالرغبة المشتركة في التصدّي للمد السوفييتي في المنطقة، لأن الأمر لو كان كذلك لبدأ التحالف العضوي بين البلدين في التصدّع عقب سقوط الاتحاد السوفييتي، فهناك عوامل أخرى كثيرة ساعدت على تغلغل مقولةٍ راحت تترسخ بسرعة لدى الرأي العام الأميركي، مفادها أن كل ما يفيد الكيان الصهيوني يحقّق مصلحة أميركية بالضرورة، منها: قوة اللوبي الصهيوني المتغلل في كل مراكز صنع القرار الأميركي، انتشار “المسيحية الصهيونية” في الأوساط البروتستانتية، تصاعد نفوذ اليمين بمختلف روافده السياسية والأيديولوجية. وقد أصبح الكيان الصهيوني المستفيد الأول من هذا التطور النوعي في طبيعة العلاقة، استغله نتنياهو أسوأ استغلال، بنجاحه في تخريب اتفاقية أوسلو وإجهاص كل الفرص التي أتيجت لنزع فتيل الصراع الممتدّ في منطقة الشرق الأوسط، إلى أن وصلنا إلى “طوفان الأقصى” الذي استغله لتصفية القضية الفلسطينية نهائياً وإقامة إسرائيل الكبرى، متسلّحا باستراتيجية “خيار شمشون”، المعتمدة من كل من تعاقب على حكم الكيان منذ حرب 1967، ما يضع الولايات المتحدة في مأزقٍ يصعُب الفكاك منه.

كان بمقدور الولايات المتحدة تبرير التحامها العضوي بكيان قابل للتسويق “واحة للديمقراطية في صحراء الاستبداد العربي” و”ضحية للمحرقة النازية”. أما وقد سقط القناع وظهر الوجه الحقيقي لكيانٍ لا يتورّع عن منع الحليب عن الأطفال، وقتل وجرح مئات آلاف من المدنين، والتجويع الممنهج للملايين من البشر المحاصرين، وتدمير المستشفيات والمدارس والمخيمات، واغتيال الصحافيين والإعلاميين، فلم يعد أمام الولايات المتحدة أي مبرّر لحمايته والدفاع عنه والتغاضي عن جرائمه ضد الإنسانية. لذا من الطبيعي أن ينظر الرأي العام العالمي إلى الولايات المتحدة، التي ما تزال تهيمن منفردة على النظام الدولي، باعتبارها الفاعل الأصلي والمجرم الذي يستحق العقاب، خصوصاً في مرحلةٍ يتجه فيها هذا النظام نحو تعدّدية قطبية ترفض الهيمنة المنفردة من حيث المبدأ. ولأن الكيان الصهيوني هو الإفراز الطبيعي للأيديولوجيا الصهيونية، ببعديها التوسعي والعنصري، لن يكون بمقدور النظام الدولي الراهن أن يتحوّل إلى نظام متعدّد الأقطاب إلا بعد هزيمة هذه الأيديولوجيا التي أصبحت مرادفاً للإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير القسري و”الهولوكوست الفلسطيني”. تلك هي الحقيقة التي ينبغي أن تدركها كل القوى الطامحة إلى تأسيس نظام دولي متعدّد القطبية، خصوصاً روسيا والصين والهند والبرازيل.